back to Ashya Saghira

من كتاب "اشياء صغيرة"

للدكتور فؤاد سلوم

 


صلّـوا يــا إخــوتــي

 

كان الخوري ميخائيل "بتولاً"، كان شابًا وسيمًا. وجه أبيض مدوّر، في العينين إتّساع وحبور، مربوع القامة، خطو واثق في بعض خيلاء. لكنّ أهمّ ما ميّز شخصيّته ثلاث : حبّه الغامر للحياة، يقبل عليها ضاحك الشدق، وحبّه للمال يفتّش عنه في كلّ زاوية، ويقتنصه، ثمّ صوته الجميل الرائع.

كان هذا الخوري لغزًا يحيّر أبناء الرعية ّ! إذا لبس ثياب التقديس، وصعد إلى المذبح ليقيم القدّاس، رأوا فيه ملاكًا يملأ قلوبهم خشوعًا. عندما يصدح صوته الرخيم بالترتيل، ترتفع قلوبهم إلى العُلى، فكأنّها تلامس مجد الله، فتنطلق أصواتهم، لتشاركه التسبيح والتهليل، فيصبحون، معًا، جماعة متآلفة تمامًا. وعندما ينحني بخشوع على الكأس، ليقدّس الخبر والخمر، بكلام ولحن سريانيّين، تنخطف قلوبهم، وتنعصر أرواحهم بالشجا، فتنحني جباههم، ويتمتمون معه متأثّرين. هذه الحال من الخشوع، ما خبروها وهم يسمعون القدّاس مع كاهن آخر.

خارج الكنيسة، لا يعود الخوري ميخائيل ملاكًا. يتذكّرون، عندما سِيمَ كاهنًا، في مطلع شبابه، كم كان خجولاً، يتجنّب مجامع اللهو، لا يقترب من محضر فيه صبايا، يحمرّ خدّاه من خفر، إذا التقى بفتاة، في زقاق من أزقّة الحيّ، فيردّ سلامها مشيحًا بوجهه. سكن مع أمّه، الشيخة، في البيت العائلي القديم، فخدمها بارًا، متفانيًا، لم يكن يخرج من البيت، إلاّ بداعي الخدمة، ومتى حلّ الظلام، يأوي إليه يقرأ ويُصلّي.

في بداية كهنوته، لم يُعيّن له المطران رعيّة يخدمها، بل كان يستعين به، عند الحاجة، هنا وهناك من الرعايا، فكان ينظر إلى نفسه، كواحد من شبّان البلدة الكُثُر، العاطلين عن العمل، يحلمون بالسفر، كمألوف الحال في ريفنا، فاستأذن المطران، مقرّرًا السفر إلى أميركا، وحطّ في نيويورك.

غاب الخوري ميخائيل، سنوات في مهجره، ثمّ عاد. جمع ثروة صغيرة، من خدمته للجالية هناك، فهو ما أن وصل إلى الوطن، حتّى تقاول مع حجّارين، وبنّائين ليبنوا له، بيتًا جميلاً، من الحجر الأبيض المحلّي، على كتف الوادي، قبالة الكنيسة، وأتى بأمّه، من بيت أخيه، لتقطن معه ولتخدمه.


يظهر أن بناء البيت، لم يستنفد كلّ ما حمل معه الخوري من مال، فراح ينمّي هذه الخميرة الباقية، بإقراضها مقابل فائدة، عشرين بالمئة، رآها المستدينون الكُثُر في البلدة، رحمة، لأن سواه من المُرابين، كان يقرض بفائدة، أربع وعشرين بالمئة، فسارعوا إليه يستدينون. وإذ شغرت رعيّة. في بعض القُرى المجاورة، بوفاة خوريها، ولم يكن له بديل من أهلها، لأن أبناءها، لا يحبّذون كثيرًا الإنتماء إلى هذا السِلك، عيّنه المطران راعيًا لها. وكانت هذه رعيّة كبيرة، أهلها أسخياء، يحبّون الضيف، فكانت للخوري، بمثابة نيويورك ثانية. هنا بدأت شخصيّة الخوري الجديدة، تتبدّى على الصورة، التي ربّما حملها معه من نيويورك، والتي بلغ فيها، حبّه للحياة الحلوة، أبعد مداه. وكخوري جديد، ضيف في القرية، تعازموه، وتسابقوا في إقامة المآدب العامرة له. واستغلّ الشبّان، جمال صوته فتحدّوه، بعد كاسات قليلة من العرق البلدي، الذي تجود به كرومهم، بغناء "العتابا"، فاستجاب، وتجاوز تحدّيهم، وكسر على "الميجانا"، وأبدع في "أبو الزلف"، وأهاج نخوة الصبايا، في "المواليّا"، فتلوّت خصورهن، على بديع غنائه، وربّما أصاب من قلوب الجميلات مقاتل، فانصرعت غوان، منهنّ، عاشقات. وإذا كانت تبلغ منه النشوة مبلغًا، لم يكن يأنف أن يرفع "طابيته" عن رأسه، فيضعها في حضن أقرب جميلة منه، ويروح يتغنّى بها، بأجمل ما يطلع على لسانه، من "مواويل" الغزل. هكذا، طارت شهرة للخوري في الضيعة، فأشاع بعض الخبثاء، أن للخوري "البتول"، أبناء فيها، وربما سمّوا بعضهم. أمّا المؤمنون، فلم يكونوا يعبأون بما يُقال، فبقوا على علاقتهم الحسنة به، إذ كانوا يردّون على الشائعة بقول مأثور : "إسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم". أمّا المدينون للخوري، وإن بالفائدة المعروفة، فكانت مصالحهم، تدفعهم لغضّ النظر، عن خطايا الخوري، حتّى لو كانت صحيحة.

وجاء يوم، بلغت فيه الأقاويل الكثيرة، عن سوء سمعة الخوري، مسامع المطران، فاستدعاه لائمًا ونقله، تأديبيًّا، إلى رعيّة أُخرى، مستبدلاً إيّاه بسواه. جاء الرعيّة الجديدة، القريبة من حيّ أهله، وقد فعلت به إجراءات المطران فعلها، إلى جانب ما في البيئة الجديدة من أنسباء له، ومعارف، وربما كان للتقدّم في السنّ، فعل أيضًا، فتخلّى عن سلوكه الماجن، واقتصرت ملذّاته على المشروع منها، من كأس قليلة، ولقمة طيّبة، وغناء محتشم، يعبّر عن إنبساط النفس، واحتفائها بما توفّره الحياة، من دعة وطيب عيش. هذا الوضع الجديد، أقنع المطران بنقله، إلى رعيته الأمّ، فعاد، كالإبن الشاطر، عودة مرّحبًا بها.

هنا صار الخوري، بين أهله، تحت رقابة صارمة، فإذا ما غلبت النفس الأمّارة بالسوء، وخرج على سواء السبيل، ألزموه بالعودة إليه. دُعي، ذات سنة، إلى عشاء عيد الميلاد. لم يتماجن، لكنّه أسرف في أكل وشرب، حتّى تعب، فانسحب إلى بيته ونام. إنتظر المؤمنون أن يسمعوا طنين الجرس، في أُولى دعواته، يعلن إقتراب قدّاس منتصف الليل، فلم يقرع الجرس. تساءلوا ؟ نُمِيَ الخبر إلى أخيه، فجاءه إلى بيته، فوجده مُمدّدًا على سريره، وهو في كامل ثيابه، لا يعي. قلبه على ظهره، أجلسه، رشّ على وجهه ماءً باردًا، وقال له : "الناس ناطرة القدّاس، استعدّ" وتركه وخرج إلى الكنيسة، تحت المطر، وقرع الجرس بشدّة، واستطالة، وعاد إلى أخيه، وجده عاد إلى النوم، فنهره :
- ما سمعت الجرس ؟ رجعت تنام ؟
- ما ثمعت سي. (بالثاء والسين)
- أنا دقّيت الجرس أوّل دقّة. رايح دقّ الثانية. استعدّ، الناس بدّا تقدِّس.
- قدّثلن (بالثاء) أنت.

وعاد الخوري، ليستلقي على فراشه، ولم يسمع أخاه يقول وهو يخرج : آي بفرجيك، أنا حاطط السطل تحت المزراب... وتركه مستلقيًا، وعاد إلى الكنيسة ليقرع الجرس، مرّة ثانية، كالأُولى، عنيفة مستطيلة. ثمّ عاد إلى الخوري، شال السطل المملوء ماءً باردًا، من تحت المزراب، ودخل. أحسّ الخوري بدخول أخيه الغامض، فتجلّس، لكن "حنانيا"، المصمّم، لم يتردّد، وألقى بالماء البارد على أخيه، الذي صرخ :
- لاه يا مجنون، لاه يا مجنون
لكنّ المجنون هذا، لم يأبه. أسرع إلى الخزانة، وجاء بمناشف، وثياب بديلة، وألبسه وهو يبتسم على "جنون" الخوري وهو يبعط بين يديه، يكلّمه ويركله، وينعته بالجنون، حتّى إذا ما أكمل زيّه اللائق، تركه مهدّدًا، قائلاً :
- الحقني، رايح دق الثالثة.

وسمعه وهو خارج، يقول :
- آي
دق "حنانيا" الثالثة... ما أن إنتهى، حتّى سمع أخاه يقحقح، عابرًا الوادي، آتيًا صوب الكنيسة.

وجاء المؤمنون ليسمعوا قدّاسًا، من أجمل ما سمعوا في حياتهم : خشوع وتقوى وترتيب، وترتيل شجيّ.

من الحضور من علّق، فقال :
- صحوة بعد سكرة.
آخر، قال :
- صحوة ضمير ! لو تدوم !
والبعض، قال :
- قد ينتكس البارئ من سقام
وأكّد بعضهم :
- تشتاق حليمة إلى عادتها القديمة، مرّة بعد مرّة.

من عادات حليمة القديمة، أن الخوري بقي على حبّه في جمع المال، لكن باعتدال، من غير جشع. بقي يديّن بالفائدة عينها، لكنّه كان يصطبر على مدينيه، شهرًا وشهرين إذا أعسروا، ومن غير احتساب الفائدة. هنا، كان يردّد مثلاً يُؤمن به كلّ أهل البلدة : "مَن اصطبر عليك قنّاك، (أي جعلك تقتني أثاثًا وعقارًا أو حيوانًا أنتَ بحاجة إليه)". كذلك كان إذا عجز بعضهم عن الوفاء، مغلوبًا على أمره، لسبب قاهر، كأن تموت بقرته، أو ينهدّ ركن بيته، ويسقط بعض سطحه أو يمرض أحد أعضاء عائلته كان يسامح ويُمزّق أحيانًا سند الدين كتعزية، ولم يلجأ مرّة إلى المحكمة، ليستوفي دينًا. لكن، لم يكن يفوّت فرصة، يفيد بها من كسب هيّن لا يؤذي.

جاءته إحدى عائلات الرعيّة، تطلب منه أن يقيم قدّاس الأحد، على نيّة أحد أعضائها المتوّفين، واسمه اسكندر.

رحّب، وحدّد لهم يوم أحد من الآحاد. في اليوم التالي، جاءت عائلة أخرى، تطلب إقامة قدّاس، على نيّة أعضائها المتوّفين، صادف أن كان إسمه اسكندر، ما هذه المصادفة؟ اسكندران في يوم واحد ؟ هل يتّسع لهما قدّاس واحد ؟ فكّر الخوري... لكنّه في حرج ! فاعتذر. ألحّ أهل الاسكندر الثاني بحجة أنّ هذا الأحد، يناسب موعد ذكرى مرور سنة على وفاته، ويناسبهم، لأنّ بعض أبناء المرحوم، سيسافر بعد هذا الأحد. بينما أهل الاسكندر الأول، مقيمون دائمون في البلدة، وليس لديهم موعد مُلزم، فبإمكانهم أن ينتظروا.

سكت الخوري، لاك الفكرة من جديد في رأسه. ماذا يفعل ؟
سألوه :
- ماذا تقول ؟ معنا حقّ. أليس كذلك ؟
- معكم حق. لكن أنا مرتبط.
- ولو يا أبونا ؟ نعرف أنك قادر أن تحلّها.
وألحّوا عليه...
- طيّب. اتّكلوا على الله.
- القدّاس على نيّة اسكندرنا ؟
هزّ برأسه إيجابًا، فانصرفوا مطمئنّين.

حسبها الخوري جيدًا : يقبض مرّتين عن قدّاس واحد. يفطر مرّتين في صباح واحد، عند عائلتين من الرعيّة، حسبما هي العادة بعد القداديس، عن أنفس الموتى، يعرف الخوري عقليّة أهل القرى. تتحكّم بهم التقاليد، وأحيانًا حبّ الوجاهة، حبّ الظهور. لا يعترض على ذلك، بل يرحّب به، ويشجّعه، لأن مثل هذه العادات، مصدر معيشة للكهنة. لكنّ تفكيره ينطلق، هنا، كتبرير لِما سيقدم عليه. لا بأس، إنما يحاسب الله على أعمال المؤمن، وليس على ما يقدّمه إليه الآخرون من صلوات وبخّور. الله، تعالى، لا يؤخذ بالزلفى، هو العالم القدير، يعرف ما في الضمائر، ويعرف كيف يتصرّف بما يتصاعد إليه من صلوات وبخّور.

وصل موعد القدّاس، ودلف كلّ من آل الاسكندرين إلى الكنيسة، وجلسوا كلّ من جهة. عندما حان إعلان نيّة التقديس، إلتفت الخوري إلى الجمع، وقال :
- صلّوا، يا إخوتي المُبارَكين، على نفس أخينا اسكندر، حتّى يعامله الله بالرحمة والرضى.

ثمّ أدار ظهره إلى المذبح، ورفع صوته بالصلاة : أبانا الذي في السماوات... وتبعه الجمهور.
فتح أهل الاسكندرين أفواههم مدهوشين. رمق بعضهم البعض، بالنظرات المستفهمة: إسكندرنا أم اسكندرهم ؟ لا أحد يعلم !

وسرت همهمات بين الجمهور. وعَلَت تمتمات لا تليق بمكان الصلاة. الخوري غير عابئ بما يدور. تابع قدّاسه بثقة واطمئنان، وسرعان ما هدأ الجمع، وتابعوا القدّاس حتّى النهاية.
خرجوا، وتخلّف الخوري في السكرستيّا، ريثما ينفضّ الجمع. وسارع كلّ من أهل الاسكندرين، في الطريق إلى بيته، حتّى لا يتقابلا أمام الكنيسة، ولئلاّ يحصل بينهما كلام. عرفا أن الخوري قد "عملها بذقونهم" معًا.

وخرج الخوري، بعد أن خلت باحة الكنيسة من الناس، باسمًا. توجّه مباشرةً إلى بيت الاسكندر الأقرب إلى الكنيسة. رأته ابنته عابرًا أمام الشبّاك، متّجهًا صوب المدخل، فوثبت إلى الباب كذئبة، وسدّته بجسمها، وصرخت فيه :
- لوين جايي ؟
- ع الترويقة، حسب العادة، ما هيك ؟
- بعد كلّ ما عملت ؟
- شو عملت ؟ قدّست عن اسكندر الله يرحمو، وتعيشي أنت ألف سنة.
- أي اسكندر ؟ اسكندرنا أم اسكندرهم ؟
- أنتِ عرفتي شو كانت نيّتي ؟
- مين بيعرف شو كانت نيّتك ؟ ليش ما ذكرت الكنية ؟
- قولِك الله ما بيعرف أيّ اسكندر هو المقصود ؟
- هنِّي فكّروا إنُّو المقصود هو اسكندرهم.
- وإنتو فكّرتو إنُّو المقصود هو اسكندركم.

وضحك، وأردف وهو يدخل، بعد أن أزاحها عن الباب، بيده.
- روحي حطِّي الترويقة، يلاّ.

فذهبت لتأتي بالطعام، مردّدة :
- اسمالله، ملاَّ خوري !

وأنهى الخوري طعامه، وقام ليذهب، متوجّهًا إلى أعلى الحيّ، حيث بيت الاسكندر الثاني.
هناك، سمع ما سمعه هنا، وكأنّ البيتين، يقرآن في كتاب واحد. أمّا آخر جملة سمعها من ربّة البيت، وهو يمدّ يده إلى الخبز، فكانت :
- اسمالله، ملاَّ خوري !

 

back to Ashya Saghira