back to Ashya Saghira

من كتاب "اشياء صغيرة"

للدكتور فؤاد سلوم

 



ســــــــرّ الــدمعتيـــن

 

في قُرانا الجبليّة كانت تنفتح أبواب البيوت العتيقة، عادةً، عند طلوع الصباح، ولا تنقفل إلاّ عند الخلود إلى النوم. هو باب وحيد للبيت، يدخل ويخرج منه ناس ودوابّ وطيور. وقلّما كانت تخلو تلك البيوت، في النهار، من ناس. كان يبقى فيها جدّات ومتوحّدات من عمّات وخالات، ينظرنَ الأطفال في غيبة أمّهاتهم الساعيات وراء الرزق في الحقول والمراعي. وإذا خلا بعض تلك البيوت التي ليس فيها أطفال وجدّات، كان المفتاح يرفع ويوضع في خلاء صغير بين حجرين، في الحائط، عند جانب أعلى الباب، بحيث يعرف مكانه كلّ فرد من العائلة أو من الجيران. كان الناس أمناء، كما لم يكن في البيوت ما يغري بسرقة، لا سيّما أنّ في آلات الزرّاع شراكة متاحة لكلّ جار.

وكان بين بيتنا وبيت جارنا أبو ابراهيم تينة وارفة، عند أصلها دكّة تسند التراب حوله، ويجلس عليها المستظلّون من الجيران والعابرين. تحت هذه التينة، عندما كان يسكن الحراك حول البيوت، قرابة الظهيرة، كنت أرى جدّتي أم سليمان وجارتنا أم ابراهيم، تلتقيان من غير سلام ولا كلام، تنظران حواليهما، تستأمنان، ثمّ تجلسان متلاصقتين، تتبادلان نظرة واحدة، وبصمت تحدّقان في الخواء أمامهما، وتروحان ترسلان دموعًا ترطّب خدودهما... لحظات قليلة، وتتنهّدان بعمق، وتقومان لتنصرف كلّ واحدة منهما لشأنها. هذا الطقس كان يتكرّر كل يوم، تقريبًا منذ أن تورق التينة حتّى تصفرّ وتسقط أوراقها...

في الشتاء كان يتكرّر الطقس نفسه عندما يخلو البيتان من العاملات والعاملين في البريّة، ومن أبناء المدارس، تدخل إحدى العجوزين إلى الأخرى، تجلس على دشك، وتعاقران دموعهما المعتادة، كما كان يحصل ذلك تحت التينة.

كان يتآكلني الفضول، وأنا طفل، لأعرف سرّ هذا اللقاء السريع، وسرّ هذه الدموع والنهدات.
أسال جدّتي :
- تبكين ؟ يا ستّي، موجوعة ؟
- شوّي !
- وين ؟
فتمسك بزندي، تبرمني وتدفعني بلطف :
- روح يا ستّي روح، الله يرضى عليك.

كبرت، فأدخلوني مدرسة داخليّة في المدينة. كنت أحسّ أنّ جدّتي تخصّني بعاطفة تكاد تتميّز عن عاطفتها لأيٍّ من أخوتي. كنت أحذر السبب. إسمي سليمان، وهم أمّ سليمان. وكانوا يقولون إنّ فيَّ شبه من عمِّي، لا سيّما تلك النقرة الصغيرة في ذقني... ورجعت إلى الضيعة، بعد حين، في عطلة مدرسيّة. دخلت إلى البيت فألفيت أمّ ابراهيم خارجة من طقس الدموع المعتاد، فاندفعت إلى جدّتي الجالسة على الدشك، ومغزلها في حضنها وخداها مرطّبان.

احتضنتها وقبّلتها وقبّلتها وقبّلتها وقبّلتها... على الخدّ الرطب. قلت : لن أفكّ عنك حتّى تخبريني، لماذا تبكين، منذ سنين، أنت وأمّ ابراهيم ؟ تملّصت من ذراعيّ، واحتضنت رأسي، وأغرقته في صدرها الذي كان يعلو ويهبط مع نشيجها، فما كنت أرى وجهها، لكنّ دموعها الساخنة كانت تتقطّر على رقبتي... لم تتمالك. مسكينة ! أخذتها موجة بكاء... دخل جدّي علينا، فجأة، فأبعدتني ومسحت دموعها بكفّيها، وهدأت. قال :
- أيش بكن ؟
قالت :
- ما شي.
- قلت : تبكي يا جدّي. لا تقول ما بها. أمّ ابراهيم أيضًا. خرجت منذ قليل !

عندئذٍ همّت بالمغزل لترميني به، وصرخت بصوت متحشرج.
- أنا قلت : ما في شي.
فأدار وجهه جدّي وخرج. كان متأثّرًا، هو، أيضًا. زادت دهشتي : ثلاثة يعرفون السرّ. أنا لا أعرف ! زعلت.

بعد قليل، وقد آنست جدّتي من زوجها غيبة طويلة، نادتني :
- تعال. لا تزعل. أحبّك. أنت على اسمه.
- أعرف، على إسم عمّي. لكن أنتِ لا تخبريني ما بكِ! وأنا أحبك. ألا تعرفين؟
- بلى أعرف، أنت كبرت، مليح أن تعرف الآن.

جلست أنظر في وجهها المتغضّن بحبّ وحنان، بينما راحت هي تقصّ، ببحّة صوت في البداية، وبدموع كثيرة في بعض محطّات الحكاية، وبنشقات من أنفها، وبنهدات تجدّد بها هواء رئتيها، مرّة بعد مرّة. قالت :
كنت أنتظر... بدأت تحكي – طال الوقت، حاولت تقطيعه : على الجاروشة. جرشت، طحنت طبختي برغل. كنسّت أرض البيت مرّة ثانية. غزلت كبّة خيطان. خرجت مرّات إلى قدّام الباب. كنت أخطو مسافة لأطلّ على الكوع، علّي أراه قد عاد... هاه ! أطلّ، الحمد لله. كان جدّك يمشي رافع الرأس، منتصب القامة، بيده مسبحته "الكوربا" تلوح وهو يرفع بها يده، ويشير يمينًا وشمالاً، يحدّث نفسه بصوت خفيض. عندما رآني ابتسم بسمة عريضة. وجهه الأسمر كان بلون النبيذ. حثّ الخطى بنشاط من يريد أن يعلن بشارة. كان مزهوًّا وقد ردّ طرفي شملته على ظهره، ونكّس العقال قليلاً فوق الجبين، علامة على الفوز. بادرته، مع أنّني استبشرت من طلّته خيرًا :
- أيش ؟
- أيش ؟ ولأيش قلتلّك روَبي سطل الحليب ؟ يلاّ البسي تيابك !
تيابي ؟ يا عترة ! منَلِّي ؟ كانت إيّامنا غير... هو ثوب يتيم، قديم، لكن غير مرقّع. كنت قد غسلته، منذ أيّام بماء الرماد والغار، ونشرته على السياج. لمّا جفّ لممته ومططته ومسّدته. لم نكن نعرف المَكوى. لبسته مقلوبًا بعضًا من الوقت حتّى لا يتغبّر أو يتبقّع، وهكذا يتقولب، من جديد، على جسمي. لمّا خلعته أبقيته مقلوبًا وطويته طوية واحدة، وعلّقته، مع ثياب جدّك، على حبل ممدود بين عمودين، بانتظار لزومه. جاء وقت لزومه. أتيت به، قلبته على وجهه، خلعت ثوب كلّ يوم، ودخلت في ثوب المناسبات العظيمة. حسرت المنديل الأجرد عن رأسي ورميته. مشّطت شعري وجدّلته جديلة واحدة، طوّلتها بشريط مجدول من المخمل الأسود حتّى وصلت أسفل ظهري. جئت بالخمار، الجديد تقريبًا، طويته بجمع طرفيه المتقابلين، وشلحته على كتفي. لففت المنديل المزهّر عند أطرافه، وهو من حَبْك يديّ، فوق رأسي على شكل كعكة، وأجلست فوقها سطل اللبن النحاسي، وخرجت. كان جدّك أمام الباب ينتظرني، وقد عاد من الخمّ يحمل شيخ الدجاجات، وهو ديك ملوّن، لامع الريش، قدّ الجدي. أشار إليّ برأسه ومشى، فمشيت خلفه، كما كان مألوفًا في ذلك الزمان، على بُعد بضع خطوات منه. كنّا على عكس نساء هذه الأيّام، لا نتقدّم الرجل، بل لا نساويه. نتأخّر عنه خطوات احترامًا... وصل موكبنا الثنائي، حامل الهدايا، إلى باحة دار الشيخ نافع المنصور... كان النحيب والعويل يختلطان ببعض الزغاريد العفويّة المكتومة، ويصلان حتّى اسماعنا في الباحة. شهادةً لوجه الحقّ، أقرّ واعترف أنّني كنت من أهل الزغاريد، كما كانوا يقولون آنذاك، وإن لم أرفع صوتي. كان قلبي يزغرد. خالتك أم ابراهيم، يعني جارتنا كانت تنتحب وتلطم. المسكينة ! إبنها، ابراهيم، أخذوه ! أصابته القرعة. هي قرعة ؟ كلّ الناس يقولون : كانت مقارعة.

القوي بقواه... يفوز أو يخسر. سمّوها قرعة ليخدعوا الناس، هكذا، فيلومون الحظّ... كان الله بعون من ليس له ظهر !... كنت أسمع عويل أمّ ابراهيم وأتميّزه بين عويل المعوّلات. لم أعرف ماذا أفعل ! كنت أشفق على لوعة قلب أمّ ابراهيم، لكنّ الخوف على ابني كان يقول : أشكري ربّك. لو كان... لا سمح الله.

ابنك نجا من السَوقيّات. الضنى غال. الكسرة مرّة. نجّنا، يا الله، من الشماتة. الذين راحوا في السَوقيّات لم يعودوا. الحرب لا تشبع نارها. حرب الترعة أكلت أبناءنا. أكثرهم تشرّد ومات قبل وصوله إلى ساحة الحرب. أنا لم أشاهد أمّ ابراهيم أمام مركز "أخذ العسكر"، لأنّ جدّك، حتّى لا يمرّ من هناك، فيراه أبو ابراهيم، فيعتب. حقّه أن يعتب. المسألة مسألة حياة أو موت، لكن لم يكن في يدنا حيلة. ساعتها كلّ واحد يقول : يا ربّ، نفسي. صدّقنا أنّنا ننفذ بريشنا ؟ لذلك أخذ جدّك "قادوميّة"، قبل دار الشيخ بعشرات الأمتار، تخترق حقلاً يتّصل بالدار. مشيت وراءه، أدوس الحجارة وبقايا الحصيد، كأنّي أمشي على بساط عجمي. سطل اللن على رأسي كان خفّ الريشة، لا أشعر بثقله، فكأنّي أشكّ زهرة في شعري.

دخل جدّك الدار ودخلت وراءه. خطوتين حتّى هبّ أحد الخدم فتناول سطل اللبن عن رأسي وخطف الديك من يد جدّك، فكأنّه ينتظرنا، وخرج بهما إلى "الكلار". تنحنح الشيخ من غير أن يتزحزح من مكانه. تشاغل بالملقط، يسوّي به الجمرة على تاج أركيلته، ويشرق نفسًا بعد نفس ليجود مسحوبها. أشار إلى جدّك بالملقط ليجلس، لكنّ جدّك بقي واقفًا أمامه، ملتزمًا الآداب المعهودة عند السلام على الأسياد، حتّى إذا ما سنحت الفرصة تناول يد الشيخ التي أرخاها له، يريد أن يقبّلها، فكأنّ الشيخ تفاجأ، فسحبها وقال :
- ولو ! تفضّل.
جلس جدّك حيث أشار الشيخ، وكانت عيناه ممتلئتين بدموع العرفان بالجميل. بادره الشيخ :
- ما كان في لزوم تعذّب نفسك.
يقصد الشيخ الهديّة.
أجاب جدّك بصوت خافت فيه بحّة احترام :
- ولو يا شيخ ؟ أنا محسوبكم...
ولثمت بدوري يد الشيخة التي مانعت باستسلام، وقالت :
حتّى تعرفوا، يا أمّ سليمان، قدّيش منحبّكن !
الشيخ حطّ كلّ تقلو حتى يخلّص إبنكن من السَوْقيّات. إبنكن إبنّا. ما هيك ؟
عندها، رفعت عينيّ إلى السماء وفتحت ذراعيّ أدعو لها ولسيدنا الشيخ بالصحّة وطول العمر. وسارع جدّك أبو سليمان يأخذ الجواب عنّي، قال :
- خدّامكن نحنا، يا ستّنا الشيخة. دمّاتنا فدى الشيخ. فضلكُن نير على رقبتنا إلى الأبد.
قلب الأمّ – تابعت جدّتي – يبقى دائمًا، راكبًا على نار. عندما عدنا من دار الشيخ كان قلبي راكبًا على بساط النسيم اللطيف. قلب أمّ ابراهيم كانت النار تشويه. في قلبين متجاورين نار وماء. لأنّي أمّ كنت أعرف مدى لوعة أمّ ابراهيم. ولأنّها أمّ كانت تعرف مدى غبطة جارتها. ماء ونار يتجاوران. هكذا، حصل بين الجاران فتور، ثمّ برودة، ثمّ قطيعة...

مرّت سنة، والحال بيننا على حالها ! سافر عمّك سليمان إلى المهجر، يقطع ساعته! فقعدنا ننتظر منه رسالة بسلامة وصوله إلى حيث شاءت المقادير. بعد شهرين وصلت الرسالة. لم تكن منه، يا حسرة، ولم تكن إلينا. وصلت إلى بيت المختار من ولده الذي كان مع سليمان على البابور ذاته. هذه الرسالة تطمين للمختار بأنّ ابنه وصل سالمًا إلى حيث يقصد. وفي الرسالة، يا مصيبتك يا أمّ سليمان، سليمان، عمّك...

وصفّقت جدّتي بكفّيها فيما بينهما، وبهما على فخذيها، اختنق صوتها. سالت عيناها. رشح أنفها... أطرقت، وأسندت رأسها بكوعيها... أنا انتظرت دقائق مطرقًا أيضًا، ومختلسًا النظر إليها مرّة بعد مرّة، حتّى إذا ما هدأ نشيجها مررت كفي على رأسها وخدّها، فرفعت رأسها ومسحت عينيها بقفا كفّها، ومخطت بمِرْيَلتها، ثمّ تابعت :
حصل شجار في أحد عنابر الحمولة وكان عمّك سليمان طرفًا فيه. أخصامهم مغاربة لمّهم البابور – يحرق ساعتهم وساعتو – عن شطّ تونس. كان عمّك بطلاً قديرًا، لكنّ أحد المغاربة غدر وضربه من الخلف بكلاّب فقتله لساعته... تآمر المهاجرون الذين في العنبر حتّى لا يدخلوا في سيم وجيم، على أن يكتموا الأمر ويرموا الجثّة في البحر ليلاً. راح عمّك كأنه لم يكن...

هكذا جاءنا خبر سليمان الذي كنّا ننتظر بشارته. قلبي احترق مرّة واحدة ! كانت المناحة كبيرة ! جاءت أمّ ابراهيم تعزّيني، وشاركتني حزني أربعين يومًا. لم تكن شامتة، لكن كانت مرتاحة إلى أن المصيبة عادت وجمعتنا. تساوينا ! ولدانا : واحد أكله البرّ، وواحد أكله البحر. منذئذ صرنا نلتقي كلّ يوم، كما تعرف. لا يلزمنا كلام. لا يلزمنا سلام. فقط دمعتان نروّي بهما الندوب العتيقة في قلبينا. 

 

1-  ويسمّونها كهرمان، ومنها جاءت لفظة كهرباء لأنّها تشعّ في الظلام، ولأنّها تجذب الأشياء الخفيفة كالمغناطيس، إذا حففت حبّاتها. مصنوعة من ضمغ متحجّر بفعل آلاف السنين.

 

back to Ashya Saghira