back to Books

 

د. لوريس الراعي

رواية

 

 

دار الجيل

 

 ملاحظة:    أن هذا الجزء المنشور هو جزء من القسم الأول، وأن الرواية تتألف من اربع أقسام, يحتوون على ثلاثين فصل.

 

القســــم الأول

 

(1) - مدرســـة عيــن -

الدار تجالس الدار الأخرى، وعلى حدود باحتيهما الخلفيتين، على الحائط الذي يفصل بينهما، مراهقان يجلسان سوّية وقد اتَّخذا من بعض الحجارة العريضة مقاعد لهما.

ـ « بُشــرى »، تعالي لتساعديني في إنزال الخبز عن رأسي! تسمع الفتاة صوت أمها فتهرع الى الداخل بعد أن يذهب الصبي الى بيته، وكثيرًا ما يقبع عند النافذة إنتظارًا لعودتها الى الدار.

فمنذ تسعة أشهر وهما يخرجان سوّية ليلتحفا ببقية الأتراب في الطريق الى مدرسة “الدال”، البلدة المجاورة لقريتهما، والتي ينتقل إليها تلاميذ كثر، بعد انتهائهم من الشهادة الابتدائية في قُراهم.

« سامي » في الصف المتوسط الثالث وبشرى في المتوسط الأول، وقد فاجأهما الصيف بتوقف المدارس وتعليق حياة الطفولة عندهما ... هي في الثالثة عشر وهو في السادسة عشر، وبين عمريهما شؤون وشجون كثيرة، حتى إذا اقترب منهما أحد، تحدَّثا فورًا عن المدرسة وعن مادة الرياضيات ومسائلها الكثيرة. أما لماذا يغيّران حديثهما فهما لا يعرفان، ولا يجرؤ أحدهما على طرح السؤال على الآخر ... وعندما يعودان في تشرين الأول (أكتوبر) الى المدرسة سوف يتجاسر سامي على الإمساك بيدها وهي تعطيه كتبه التي وضعها في محفظتها؛ قبل أن يحمل المحفظة، التي تكون تضمّ كتبه وكتب بشرى، طيلة الطريق ...

ويومًا، استفاقت القرية على ثوب أبيض عمل له تلاميذ المدارس عرس ثلج صباحيًّا كبيرًا، فلم يذهبوا يومذاك الى المدارس، ومضوا يصيدون بعضهم البعض بكرات الثلج، فإذا بهم يَقطعون طريق الساحة وهم يراشقون المارة من مخابئهم على السطوح المحيطة، بعد أن أوْحلوا البيدر من كثرة ركضهم على الثلج الأبيض وقد اسودَّ لونه، وبعد أن استفادوا من مياه العين لتجميد كرات ثلجية، أين منها الحجر متانة، والويل لمن أصابه!!

بشرى، وبعد أن ساعدت والدتها في لمْلمة البيت، خرجت الى البيدر وقد تذخّرت بكرة ثلج جامدة، وما إن صارت خارج الدار حتى أمسكها سامي بشعرها ثم لمّ بعض الثلج وفرك به وجهها قبل أن يهرب وتلحقه، حتى بعدا عن المجموعة الى منحدر قريب، توقّف بعدها سامي لاهثًا لتقترب منه رافعة كرة ثلجها بيدها اليمنى:

ـ وهل يطاوعك قلبكِ؟

سألها سامي باسمًا، قبل أن تتعلق عيناها بعينيه وهو يتقدَّم منها، ويحاوطها ماسكًا يدها التي بها الثلج ومقرِّبًا إياها من وجهه. وعندما تلاشت يدها وسقطت قطعة الثلج أرضًا، أخذ سامي يزيح شالها الصوفي عن أذنيها مقرِّبًا شفتيه ناحية فمها ومطبقًا عليهما، قبل أن تركض بشرى باتجاه منزلها ...

إثر ذلك ظلّت بشرى تتهرّب من سامي لأكثر من أسبوع، فما أن تلمحه حتى تدلف الى المنزل الواسع وتجلس مع النساء، أو تسارع خطاها حتى تصل الى مجموعة الطلبة على طريق "الدال"، حينما يبقى هو وحيدًا؛ إلى أن اختطف، يومًا من يدها، حقيبة المدرسة ولم يعطها إياها إلا عند انفرادهما على طريق منزليهما قائلاً لها وهو يخبط الحقيبة بصدرها:

ـ إقرئي المكتوب!

ثمّ قرصها في يدها وأكمل الى داره.

********************

 

دخلت الى المنزل، تناولت طعامها ثم فتحت حقيبة المدرسة وأخرجت رسالة سامي من بين دفاترها والكتب، ثم توجّهت الى الزاوية اليُمنى من البيت الكبير، حيث كان والدها قد وضع التبن داخل سياجٍ من القصب، الذي انتصب واقفًا بفضل حبكات حائكه؛ ثم إنتحت جانبًا وفضّت الرسالة التي كانت طُوِيَت بعناية، وأخذت تقرأ بصمت داخل "التبّان" :

« حبيبتي بشرى،

لم أقصد أن أجرح شعورك، حتى إني لا أدري كيف ضممتك الى صدري وكنت لا أريد أن أفلتك أبدًا، لا تظني اني سأضحك عليك وأتسلى بكِ، كما تقول نساء قريتنا، بل أنا أحبك، أحبك، أحبك، و أتمنى من كل قلبي أن نمضي العمر سوية ...

بشـــرى، أعدك بأني سأحافظ عليك ولن أدع الناس تلوك سيرتك، وتعرِّضك لمتاعب مع أهلك الذين سيعتبرونني ولدًا غير قادر على الزواج، في الوقت الذي تبدين أنت فيه شابة يتقاتل طالبو الزواج عليها ...

بشرى، يكفيني أن تتطلعي بي وتضحكي عاليًا، فإذا كنتِ ترغبين برسوبي في شهادتي الحالية، استمري على ما أنت عليه.

بشرى، يا أغلى بشرى في حياتي، هل تحبين سامي كما يحبك؟

سامي»

 

وما كادت تنتهي من قراءة الرسالة حتى أجهشت بالبكاء، وهي ما تزال في مخبئها، في غرفة التبن، وقد عبقت في أنفها رائحة غبار التبن الذي تحسّسته وهي تشهق باكية. بعدها طوت الورقة ودسّتها بين حمالة صدرها وثديها، ثم خرجت الى الدار ورشقت بعض الماء على وجهها وهي تردّد في سرها: أحبك، أحبك ... ثم استدارت ناحية الشرق قائلة:

دَخيلَك يا رب، لا تجعل مني فضيحة!! آمين ...


 

(2) - النجــــاح -

ـ إدعي لي يا بشرى بالتوفيق، فغدًا ستصدر النتائج.

قال سامي ذلك عصر يوم لاقى فيه بشرى على طريق العين لينزل الجرة عن كتفها ويحملها وإياها، من أذنيها الاثنتين، حتى يوصلاها الى البيت ويشرب الماء الطرئ قبل أن يعود الى بيته.

لم تغفُ بشرى ليلتها، وصباحًا صلَّت كثيرًا، وظلت مضطربة في عملها المنزلي مع أمها وأخواتها حتى دبّت الحركة في القرية التي كانت تنتظر نتائج أبنائها في “شهادات الحكومة”؛ وإذا بسامي وهو يأخذ طريقاً قادومية، يصرخ راكضاً:

ـ نجحت، نجحت، نجـحـت ...

راحت الزغاريد تتعالى من بيت آل سامي وأخذ الجيران يتقاطرون، كبارًا وصغارًا للتهنئة بالنجاح.

ـ عودوا فيما بعد لأخذ “حِلْوَيْنَة” النجاح، فهذه التهنئة غير مقبولة.

أخذت أم سامي تردّد هذا الكلام، ثم أوْعزتْ الى بناتها كي يصنعن “الجاتوه” قائلة:

ـ الحلوى، على إيامنا، كانت مختلفة، كنا نعمل “النمورة”، و“الزلابي”،  و“القطايف” و“الغريبة”، و“السيّالات”[1] و“الكعك أشكال أشكال”، أما “الجاتوه” فهو جديد علينا.

 

وحلّ المساء بهنيهاته[2] الطريّة، وجعل النسيم العليل يحمل أنغام المجوز من دار الى دار، ورأيت العجائز جالسين أمام بيوتهم يستمعون ويكتفون بإجابات المارة ردًّا على أسئلتهم، فيما ذهب الشباب والصغار الى البيدر حيث راح يتناهى الصوت. في حين جهد الأهل في الحفاظ على وضعية الوسط بين صخب الشباب وركود الكهولة، فرأيتهم يشاركون في حفلة النجاح تارة، ويراقبون أبناءهم - خاصة بناتهم - تارة أخرى، حتى انتهوا الى دائرة تجمعهم حول أعمالهم الواجب عليهم تنفيذها في الصباح الباكر، مما حثّهم على العودة الى بيوتهم. وهكذا تواصلت السهرة الى ما بعد منتصف الليل، باعثة في ساعاتها الأخيرة نشوة فرحها للشباب، وقد تعهدت الفتيات بالرقص مع الناجحين متى دعوهم الى ذلك.

كانوا أربعة ناجحين من الذكور، اذ لم تكُ أية أنثى من القاطنات في القرية قد أدركت المرحلة المتوسطة بعد، وها هي بشرى ترقص مع ثلاثة منهم وتتوارى بعيداً عندما يأتي دور سامي، الى أن جاء وجلس قربها، ايذانًا بأنهما سوف يمضيان بعيدًا، وصدق الظن إذ سرعان ما انسحبا من المجموعة، متوجّهين الى منزليهما. وحين انتبها، فجأة، الى أن القمر أخذ يرافقهما من بعيد، سارا في الظلال، ثم أمسك سامي بيدها قائلاً:

ـ لماذا لا تهنئيني؟ فحتى القمر لا يستطيع أن يرانا!

ـ لقد هنأتك منذ الظهر!

ـ أهكذا يهنئون الأحباب؟

وهكذا، جعل يمسك يدها اليمنى بيده اليسرى، وقد وضع يده اليمنى وراء ظهرها، ولبثا كذلك حتى وصلا قرب الدار حيث أرادت أن تفلت منه وهو ظلّ يمانع، ثم أشار بسبابته الى خدّه قائلاً:

ـ هنا المبروك!

ولمّا لم تتجاوب معه أحاط يده اليمنى برقبتها قائلاً:

ـ لن أترككِ!

وهكذا قبّلته على خده هامسة في خفر شديد:

ـ مبروك.

ـ أتحبينني يا بشرى؟

طأطأت رأسها وقد أرخى يديه ليقبِّلها في جبهتها وهي تمشي الى دار والديها، ثم تلتفت الى سامي الذي كان ما يزال على وقفته حتى غابت عن عينيه، قبل أن يعود الى سهرة البيدر ساكنًا.

 

(3) - الدوّارة -

ـ سأرى إن كان بإمكان أبي أن يكمل لي تعليمي الثانوي في "الدوّارة"!

قال سامي ذلك لبشرى بعد مضيّ أكثر من شهر على نجاحه، في الشهادة التكميلية، الذي أعلنه على حائط المنزل الأساسي وقد ألصق الشهادة المتوسطة مع رسمه الفوتوغرافي الصغير على الزجاج ضمن إطار خشبي.

ـ كما تريد، أجابت بشرى، ولكن كيف ستذهب وتعود الى “الدوّارة” كل يوم؟

ـ ماذا؟ أتظنين “الدوّارة” قرب “الدال”؟ “الدوّارة”، يا سِتْ، تبعد عن قريتنا حوالي الثلاثين كيلومترًا وقد تكلمت مع الرفاق حتى نستأجر غرفة ما، من أهل "الدوّارة"، إذا لم يستطع “كرم” ابن عمك أن يسكِننا معه هناك.

ـ وماذا سأفعل أنا؟

ـ تذهبين، كالشاطرة الى مدرستك في “الدال”، الى أن تصبحي في المرحلة الثانوية.

ـ ومتى تأتي الى البيت؟

ـ في العطل المدرسية، وعند نفاذ المؤونة، وعند وجود حجّة ما، أستطيع أن أقنع بها أهلي، كَرْمى لعيونك!

ومثل جرذ يتراكض الى جحره عند سماعه أدنى جلبة، هكذا وجدت سامي ينحني محاذرًا تحت سويّة الحائط ويدخل الى بيته، بعدما سمعا جلبة مصدرها بيت بشرى، حينما أخذت بشرى تردّد في سرّها:

ـ في "الدوّارة"، مع ابن عمي "كرم"؛ واذا تفوّه سامي بكلمة عني أمامه بماذا سأجيبه، وعمي ما فتئ يردّد أمامي:

ـ تعلّمي حتى تكوني من نصيب "كرم".

وعندما اقتربت منها الجلبة كان أخوها قد أدخل البقرات التي جلبها من المرعى، ثم سألها عن سبب مكوثها في الدار الخلفي، فأجابته:

ـ كنت أرشّ الحَبّ للدجاج! ثم أكملت بعد أن أمسكت بعلبة تحوي حب الزؤان وهي تنادي:

ـ "تعوه، تعو، تعو"، ... فيجتمع حولها الحمام والدجاج، إضافة الى ديك بيت سامي الذي ابتسمت له بشرى وزادت وهي ترشق أمامه الحب: “تعوه، تعوه...”

 

كم هي محاصرة وغير قادرة على لقاء سامي بمفرده بالرغم من أن البيتين متلاصقيْ السطوح، ولا يفصل بين داريهما الأماميين سوى حائط عالٍ ينخفض كثيراً في الدار الخلفية حيث تربط المواشي صيفًا وحيث يلتقي العاشقان. وماذا سيفعلان وهما يعرفان أن الجميع رقيب على الجميع، وأحد لا يجد حرجًا من طرح السؤال: خير، لماذا أنتما سوّية؟؟ وماذا تفعلان هنا؟  خاصة وأن سامي ما يزال محتاجًا للكثير من فتات الخبز، على ما تقول والدته عندما يقول لها أحدهم:

ـ “فرحة الشباب يا إم سامي!” لتجيب:

ـ ألله يفرّح قلبكم، ولكن يا حسرة، ما زلنا نفتّ لهم الخبز، وقد نموت قبل أن يصيروا رجالاً ...

إنهما يخافان إفتضاح أمرهما، علمًا أنهما يلتقيان يوميًّا في السهرات واللقاءات العائلية التي تجمعهما مع الكثير من أهلهما، فيتحاشيان، قدر المستطاع، النظر الى بعضهما أو المحادثة المباشرة فيما بينهما، قبل أن تقوم بشرى وتدور بإبريق الماء على الحاضرين، فلعلَّهما يتلامسان في غفلة عن الجميع.

هموم جديدة أوْجدتها “الدوّارة” لبشرى، خاصة وأن سامي يؤكد لها دومًا بأنها أجمل فتاة في قريتهم، ولكنه لم يحدّثها أبدًا عن بنات الدوّارة وجمالهن، الى أن قالت يومًا، وهما يجالسان آخرين في ساحة القرية:

ـ سامي سعيد جدًّا، لأن بنات “الدوّارة” حلوات!!

فيبادر سامي، للتو، الى الرّد بانفعال:

ـ لا يوجد في الدنيا كلها بنات أجمل من بنات قريتنا، سبحان الله، يدخلن الى القلب ولا يخرجن منه أبدًا ...

جواب ابتسمت له بشرى بخبث، قبل أن يأخذ الحديث منحى آخر حول وجوب زواج شباب القرية من بناتها لأنهن: “للسيف، وللضيف، ولغدرات الزمان”... 

لقد أصبحت "الدوّارة" من هواجسها الأساسية، فهي تتحايل كثيرًا حتى يتحدث الموجودون عن "الدوّارة" وأهلها وبناتها ومعاملتهم للطلاب الوافدين اليهم من القرى البعيدة والقريبة، وهي لا تدري ان أحسّت بالغيرة من سامي أم عليه! ولكنها بدأت تضع الكُحْل لعينيها والحمرة لشفتيها وهي تخرج مع أمها وأختيها في زياراتهن الى بيوت القرية، كما أكثرت من التردّد والتودّد الى بيت سامي وأخته ساميا التي تكبرها قليلاً.

 

(4) - موسم الزيتون -

ها هو موسم الزيتون يعود من جديد لينسحب منه تلامذة المدارس صباحًا ويعودون إليه في فترة بعد الظهر. وكم طال طريق “الدال”! وكم ثقلت خطواته على بشرى في اليوم الأول من عامها الدراسي!، فقد أصبحت في الصف التكميلي الثالث وهي تتأبط حقيبتها بكلتا يديها مفتقدة كتب سامي فيها وأصابع يديه عليها، ولكنها ما كادت تصل الى نهاية القرية وتلتقي بزملائها، حتى لاح لها سامي مُهَرْوِلاً من أحد الكروم. ثم لم يلبث أن وصل ورافقهم الى مشارف قرية “الدال” بعدما قال لهم ممازحًا:

ـ مدرستي تبدأ بعد أسبوع، وحتى أرتاح قليلاً من قطاف الزيتون، ومعلومكم أنه يبدأ مع الفجر، سأوصلكم في الصباح الى "الدال"، وسأستقبلكم عصرًا على مشارف القرية، وهكذا أطمئن عليكم وعلى دروسكم...

 

لقد كان أسبوعًا قصيرًا بساعاته الراكضة نحو العدم، خاصة حينما أخذت تتذكر أيامه فيما بعد، وتستفقدهم بحسرة، وهي تسترجع تفاصيلهم، وطعم أحاسيسها إذ شعرتْ، ولأول مرة، أنها إمرأة تهتم برجلها وهما يعودان سوّية الى بيت أهلها المغلق، وقد وضعوا لها المفتاح في تجويف الحائط، بعد أن أمضوا في البيت فترة قيلولة جاء فيها الصغار من مدرسة القرية، ليعودوا جميعًا الى قطاف الزيتون تاركين لبشرى غذاءها تحت المكبّة[3] خوفاً من هجوم الهررة عليه.

 

تكاد القرية تخلو من ناسها في هذا الموسم المبارك ومن لم يستطيعوا أن يشاركوا في القطاف تحسّروا على ضياع العمر، وعلى ضياع الصحة، فيجتمعون في الساحة بخيبة وكأنهم في مجلس عزاء.

ـ الانسان عندما يموت لا يأخذ معه الا نقطة الزيت التي يمشحه بها الكاهن!!

عبارة يردّدها الكبار في الكثير من المناسبات وهم يتحدّثون عن شجرة الزيتون، فإذا تحدّثوا عن المؤونة قالوا: الزيت والزيتون!، وإذا تحدثوا عن تطاول أحدهم على شجرات زيتون لآخر قالوا: “سرقة الزيتون أكبر حرام”، وقد تقول المتضررة من ذلك وقد كشفت عن رأسها:

ـ “يا رب، يا مولاي، ويا سامع دُعاي، تموّت السارق ميتة تحرمه فيها من نقطة الزيت” ...

وإذا تلكأ أحدهم عن العمل في القطاف قالوا له:

ـ هذه شجرة مباركة والعمل فيها يجلب الخير ...

من غير أن ننسى أن الكثيرين من أهل القرية والجوار، ينتظرون هذا الموسم لبيع الزيتون والزيت والصابون، جلبًا للمال الذي صُرف قبل مدة من القطاف على أن يكون “الدفع عالموسم”!

 

تخلع بشرى مريول المدرسة، وتندم لأنها لم تلبس ثياب يوم الأحد تحته، ثم تجلب طبق[4] القش وتضعه على كرسي صغيرة[5].

ها هما يجلسان حول الطبق، كالجالس قرب طاولة دائرية صغيرة، قبل أن يبدآ الطعام وقد "خطف سامي رجله" الى بيت أهله وجلب منه طعامه.

كم هو جميل أن تكون أنتَ مع من تحب فعلاً، أنت في ذكائك وبلاهتك، أنت في مرحك وانقباضك، أنت، كما أنت، في خصالك الجميلة والقبيحة، أنت كما أنت، طفلاً وكبيراً في نفس الوقت، غاضبًا لأتفه الأسباب وراضيًا من أتفه المبررات.

حقًّا، إنها اكتشافات صغيرة، اكتشفها سامي وبشرى سويّة، في هذه الأيام الجميلة التي تحسسا خلالها قدرتهما على الحب بشغف وفرح، ولكنها أيام أسبوع واحد قفزت قفزًا عريضًا حتى وصلت الى نهاية الخط قبل أن تعود من جديد: اثنين، ثلاثاء، أربعاء.. لقد التحق سامي بمدرسته في "الدوّارة" فغاب عن بشرى تحفّزها الدائم إنتظارًا لمفاجآته لها كيفما راحت أو تحدثت ... ليته بقي طوال موسم الزيتون وقد خلا بيتهما الا منهما وهما يضحكان كثيرًا، كطفلين يلعبان “البيت بيوت”، فيصبحان الزوجين أو الجارين أو الأخوين ... وعندما سألته مرة:

ـ سامي، هل تظن أننا نقترف خطيئة مميتة يجب أن نعترف بها للكاهن؟

ـ عن ماذا تتكلمين؟

ـ عن ماذا؟ نبوس بعضنا، وتمسك يديّ، وتلعب بشعري وتتلمس بعض أجزاء جسمي، وتقول لماذا؟؟

ـ أيتها المسكينة البريئة، كل المتحابين يفعلون ذلك!

ـ ولكن الله قال: “لا تزنِ”

ـ وماذا تفهمين عن الزنى؟

ـ على البنت أن تظل شريفة حتى الزواج؟

ـ بشرى، أنتِ يا بشّورتي الحبيبة، أشرف من الشرف، ونحن لا نفعل شيئًا حرامًا، لا سمح الله، وإذا لم تقتنعي بحديثي، اسألي الكاهن، أو انتظري حتى صف المتوسط الرابع لتفهمي ذلك من أستاذ العلوم، ولربما من أستاذ اللغة.

ـ هل تحكي لرفاقك ما يجري بيننا؟

ـ ليبعث الله لي حكّة في لساني، أنتِ سرّي الى أن يحين موعد إعلانه. ثمّ لديّ سؤال.

ـ تفضل!

ـ هل تقبّلين والدك وأخاك بالطريقة ذاتها؟

ورفعت حاجبيها علامة النفي:

ـ لا.

ـ لماذا تقبّلين أخاك أو أختك أو صديقتك؟

ـ تعبيرًا عن عدة أشياء!

فأمسكها بكتفيها وقبلها قبلات سريعة في فمها قائلاً:

ـ وأنا أعبر عن شيء واحد: أحبك يا بشرى، وأرغب في أن تعبري لي عن حبك بالطريقة التي لا تزعجك!

ولكنها لم تسأل الكاهن، ولم تنتظر، أيضًا، حتى تصل الى صف المتوسط الرابع بل أخذت تفتح أذنيها جيدًا في أحاديث الكبار، وتكثر من الأسئلة عندما تكون مع صاحباتها، الى أن أعارتها سعاد، إحدى رفيقاتها، كتابًا صغيرًا وهي تقول:

ـ لقد جلب لي خطيبي هذا الكتاب حتى أفهم الأمور قبل أن نتزوج، فنحن لا نريد أن نجلب عددًا كبيرًا من الأطفال. ولكن، إياكِ أن يرى أحدهم الكتاب أو يعرف بوجوده!!

ولكن بشرى نكثت بوعدها، فسرّبت الكتاب الى أختيها، الأكبر منها سنًّا واللتين أوقفتا دراستيهما عند نهاية المرحلة الابتدائية، فغضبتا منها ومن رفيقتها لأن كتبًا كهذه “مهزلة تفسد الأخلاق”، ولكنهما قرأتا الكتاب وقد سمعت الوسطى تقول، مرة، للكبرى:

ـ جميل جدًّا أن يهتم الخطيب بخطيبته، ويجلب لها كتبًا تفتح لها عينيها على الدنيا!!

ـ يا حسرة، من أين سنجلب رجالاً متمدنين كخطيبها!!

فأجابتها الوسطى:

ـ لقد علمتُ أنهما، لما ذهبت الى بيروت، ذهبا الى السينما وشاهدا “فيلم عربي”، وقد ذهبت معهما أختها العزباء.

ـ صحيح؟ لا أصدق ذلك، لا، لا، إنها اشاعات خبيثة!!

ولم لا تكون خبيثة طالما أن أكثر أهالي القرية يتحدثون عن السينما بتشويق كبير وبتحريم أكبر، وهي ما زالت تسمع عن النلفزيون الذي يجلب السينما الى البيت ولكنها لم تشاهده الا من خلال أحاديث بعض القاطنين في المدينة أو بعض زوارها، الذي ينهون حديثهم عن التلفزيون قائلين : “ والله، انه فرجة لمن يتفرّج! » ...

 

(5) - الـورطة -

ـ ما زلتِ تتكلمين مع هذا الحقير؟

ـ عمن تتكلم؟

ـ عن سامي، فلولا إنه ضابط وأنا عسكري، للقّنته درسًا لا ينساه!

ـ ما به سامي؟

ـ لقد إتصل بك منذ قليل، فقلت له إنكِ غير موجودة!

ـ ها؟!

ـ قلت لك إنه حقير، أخبرني أحدهم، هذا اليوم، أن صاحبك سامي إعتدى على سلمى ابنة كريم وهو يرفض الزواج منها.

ـ غير معقول، سلمى بنت لعوب، وأنت تعلم أنها من حضن شاب الى آخر.

ـ لا تدافعي عنه، مسكينة يا أختي! أكنتِ تظنين أنه مغرم بك؟ يا ضياع عمرك وجهدك على واحد مثله!

ـ من فضلك زاهي!..

ـ إذا سمحت، لا أريد أن أسمع اسمه في هذا المنزل ...

بهذا الطلب الأخير الذي يحمل كل معاني الأمر، أنهى زاهي، أخو بشرى، الحديث معها ثم خرج صافقًا الباب وراءه، صفقًا عنيفًا.

ها هو الهاتف يرن من جديد:

ـ آلو.

ـ آلو بشرى، أنا سامي.

ـ ما بك، من أين تتكلم؟

ـ إتصلي بساميا أختي. باي..

ـ آلو، آلو ...

لقد أقفل سماعة الهاتف تاركًا إياها ترتجف كفزّاعة الحقول، قبل أن تطلب رقم هاتف ساميا.

ـ "أوف" ... الخط مشغول!

سامي يتورط مع سلمى ابنة كريم؟ غير معقول!! ردّدت بشرى ذلك أكثر من مرة، وتابعت:

إني أعرف كل تفاصيل حياة سامي، فكيف يوقعونه في هذه الورطة؟ القحبة[6]!! تريد أن تتطاول على أفضل شباب القرية، وتسرق مني سامي؟؟ لا، لا يعقل أن يحدث هذا!!

من جديد طلبت رقم هاتف ساميا:

ـ ما يزال الخط مشغولاً ...

لقد تحدثت وسامي، مرة، عن بيت كريم ببناته السبع. ثم أردفتْ: بنات غير متوازنات؛ الكبيرات شديدات الانغلاق على أنفسهن، والصغيرات لا مباليات، فكيف الحال مع أوسطهن سلمى؟؟

تعود الى التلفون قائلة في نفسها:

ـ "الثالثة، ثابتة".

ـ آلو، إيه، أنا بشرى، أين ساميا؟

ـ أنا ابنها جواد.

ـ كيف أحوالك؟ أين الماما؟

ـ هي في الخارج، وقد طلبت مني أن أخبرك حتى تأتي اليوم الى بيتنا لأمر هام جدًّا..

ـ سامي، خالك سامي عندكم؟

ـ لا أدري، باي!!

ـ باي!

ـ باي!

ها هي تكتب ورقة وتتركها قرب الهاتف: " أنا في السوق ـ بشرى".

تخرج من المنزل، وتمشي قليلاً قبل أن تصل الى الطريق العام فتروح تشرد وهي تتذكر أيام ذهابها الى مدرسة "الدال"، وتحسّ إحساسًا شبيهًا بتلك الكآبة التي انتابتها في الأيام الأولى التي انتقل فيها سامي الى مدرسة “الدوّارة”، أو تحسّ إحساسًا شبيهًا بتلك الغيمة التي قبعت في عينيها، حينما أُنْبئت برسوب سامي في مدرسة “الدوّارة”، مستعيدة ما قاله لها يومذاك:

ـ سأذهب الى مدرسة الرتباء في الجيش ومنها سأتابع الدراسة.

ـ لا تستطيع، قالت له.

ـ صدقيني!! سأدرس الفرع الأدبي. أعدك بذلك!

ها هي تومئ لسيارة النقل العمومي بيدها اليمنى وقد تحركتْ كأيدي الألعاب، وما ان دلفت الى السيارة حتى فاجأها السائق بقوله:

ـ خير؟ هل تشعرين بألم ما؟

ـ لا، فقط أشعر ببعض التعب؛ أريد أن توصلني قرب مستشفى الوزارة.

جلست في المقعد الأمامي، متشبثة بالخارج وهي لا تكاد تشاهد من كل المشاهد التي تنتقل الى عينيها سوى شريط ذكرياتها ... سامي يدخل الى الجندية ويعود بعد أسبوع بالبذلة العسكرية وقد حلطوا له شعر رأسه، عندما أخذت أمه تزغرد، منشدة:

 «يا سروري وما صدّقت أنا يومي،

                                                مِدري صحيحة، مدري عم أبصر بنومي؟؟
ويا سروري، صار إبني إبن حكومه

                                                وصرْلي زمان، عم إتحسّرْ عا ها اليوم!»


                                                                                    وليليلليليليــــــــش...

********************

 

هي في الصف المتوسط الرابع، وهو في سنته الأولى لمدرسة الرتباء التي استمرّت ثلاث سنوات، كان فيها سامي يتابع حديثه قائلاً:

ـ بعد مدرسة الرتباء، سأرى إبنة حلال من قريتنا وأتزوّج. ثم يضيف موجّهًا الكلام الى والد بشرى:

ـ ما رأيك يا عمي أبو سعد؟

ـ عين العقل يا ابني!

وذات يوم وصل الى القرية خبر نجاح سامي في الشهادة الثانوية “الفلسفة”، إذ كان قد نجح في العام الذي سبقه في شهادة “البكالوريا” بعد إنتظار طال أمده على بشرى المتشوقة الى كلمة “مبروك”. ويومًا، وصل سامي صباحًا وهو يلوّح بالجريدة في يد، وبحقيبته في الأخرى، قبل أن يلتفّ حوله المتقدمون الى شهادة البكالوريا - الفرع العلمي مع الكثير من أهلهم وقد أخذ سامي يفتش عن الرقم الذي يلفظونه له ليقول بعدها: “مبروك”، أو ليقول: “بسيطة، إنشاء الله تنجح في الدورة الثانية”، ثم تساءل أمام الجميع:

ـ هل يعلم أحدكم رقم بشرى ابنة عمي أبو سعد؟

ـ “شو النتيجة؟؟” يقولها أكثر من شخص وهو يدّعي التفتيش عن الرقم.

ـ نجحت بدرجة جيد !!! إذن سنذهب الى بيت عمي أبو سعد ونأخذ حِلْوينة النجاح.

 

ما إن وصل الى دار أبو سعد الملاصق لدارهم حتى دفع الحقيبة الى أخيه ودخل الدار، وسط مفاجأة الجميع.

ـ مبروك يا خالتي إم سعد، لقد نجحت بشرى بالشهادة.

ـ مبروك لك أيضًا يا ابني نجاحك بالشهادة التي أخذتها. ثم أخذت تنادي على بشرى وهي تقول له: تفضل!

والغريب أن أم سعد، لم تعلّق على تقبيل سامي لبشرى وهو يهنئها في نجاحها، وهل صحيح أنها سهتْ عن ذلك، في حين أخذت أم سامي تزغرد عندما أوصل إبنها الصغير حقيبة سامي الى البيت؟ أم أن للأمهات اسلوبهن في التغاضي استحقاقًا للسعادة التي تخلقها لذة اختباء الحب في عيون الحبيبين وفي لهفتهما الشفافة؟

فيما بعد، عمل سامي وبشرى على صياغة جديدة لمستقبلهما:

ـ نعم تتقدم أنت للمدرسة الحربية وسآخذ أنا، الشهادة الثانوية والتحق بالجامعة لحين انتهائك.

ـ ولكنها فترة طويلة.

ـ أتمنى أن أراك بين النجوم!!

ـ ولكن الحربية تحتاج لمادة الرياضيات والعلوم، وكما تعلمين فلقد اخذتُ الثانوية العامة بفرعها الأدبي.

ـ لا يهمّ، ندرس سويّة عندما نستطيع إيجاد حجة نقنع بها الأهل.

أبعث أهلي، الى أهلك وينتهي الأمر.

ـ لحين موعد تقديم الامتحانات، يحلّها الحلاّل.

********************

 

متى حدّثها عن سلمى ابنة كريم؟؟ متى حدّثها عن سلمى؟؟

ـ لقد وصلنا أمام مستشفى الوزارة.

قال لها السائق ذلك، لتحسّ وهي تنقده أجره وكأنها شلحتْ على ذاكرتها غطاءً كثيفًا حتى ما عادت ترى منها شيئًا ...

تنزل من السيارة، ثم تتطلع ناحية بيت ساميا وشرفته، ثم تخفض نظرها، وتبدأ بحساب السنوات التي أمضتها حتى الآن في حب سامي.

الثاني متوسط، الثالث متوسط، الرابع متوسط، الأول ثانوي، الثاني ثانوي، الثالث ثانوي، ثم السنة الجامعية الأولى، والسنة الجامعية الثانية. وها هي في بداية سنتها الثالثة ضمن اختصاص أحبّته. تنظر الى أصابع يديها فتحصي مرور ثماني سنوات وبداية التاسعة، ثم تنظر الى البيت من جديد وقد خرج “جواد” الى الشرفة وتقول: كيف مرّت هذه السنوات الثماني "كالحَرامي"، حتى لم أشعر بثقلها؟ ثم تعاود السؤال: متى حدّثني عن سلمى ابنة كريم؟ فلا تجد أخيرًا الا صورة ساميا وهي تستعجلها، فتطرق أرضًا.

منذ مكوثها في بيروت، أي منذ ما يزيد على السنتين، بشرى وساميا صديقتان تلتقيان في الذهاب الى السوق، تتصلان ببعضهما باستمرار، وتتزاوران مع سامي، بل أكثر من ذلك لقد أتت ساميا مع والدتها عندما “شاورتا” على بشرى بعدما أبلغتْ هذه الأخيرة ساميا أن أباها وإخوتها يرغبون في تزويجها من كرم ابن عمها، وقد أنهى مدرسة الرتباء واستأجر منزلاً في بيروت واشترى سيارة “وما عاد ينقصه الا العروس”، على حد قول إمرأة عمها.

ـ إرفعوا الموت جانبًا، نحن نريد أن نأخذ بشرى الى دارنا عروسًا لسامي، وزهرة، نتزيّن بها. قالت إم سامي.

ـ بشرى ابنتكم، وسامي، ابننا، أجابت أم سعد.

ـ الفترة طويلة قليلاً، ولكنهما ما يزالان صغيران، واسمالله عليه سامي كم سنة ويصبح ظابطًا وبعدها يتزوج! تابعت إم سامي، ومن الآن نحن مستعدون لكل ما تطلبونه. بشرى جوهرة ثمينة وتستأهل كل شيء ...

 

(6) - في بيت ســـاميا -

خرجت بشرى من المصعد عند الطابق الرابع حيث تقيم ساميا وزوجها وأولادهما: جواد، جاد، وجومانة، وما إن قرعت الباب حتى أطلّت عليها ساميا وهي تحاول الابتسام:

ـ أهلاً وسهلاً ... قالت ساميا ذلك وهما تتصافحان.

ـ شو القصة؟ قالت بشرى.

ـ مصيبة، مصيبة كبيرة، بحياة شبابك لا تكوني قاسية مع سامي.

ـ خبر سلمى صحيح؟

ـ تعالي! تقولها ساميا وقد شرعت في البكاء وهي تمشي أمامها باتجاه الصالون ... ثم تتركها قائلة:

ـ عن إذنك، سأعود حالاً.

تخرج ساميا من الصالون، فتتنبه بشرى الى أصوات كثيرة تصدر من غرفة الجلوس، إضافة الى رنين الهاتف الذي لا يهدأ...

بعد قليل، يطلّ زوج ساميا من الباب الرئيسي ثم يشيح وجهه عائدًا الى غرفة الجلوس ... تدخل أم سامي وقد أخذت تبكي وتقول بصوت متهدّج:

ـ لا تزعلي، إنه لا يستأهل كَعْبَ رجلك!

ـ أين سامي؟

ـ يوم أسود، لقد جئنا من القرية في منتصف ليل أمس، بعدما جاء أعمام سلمى، ابنة كريم، طالبين إلينا إصلاح الغلط الذي حصل يوم عرس سهيل أو ... وتعود الى البكاء. وساميا تنظر اليها كالبلهاء وهي تعاود الكلام:

ـ “إتفه” ... الله يلعن الشباب وطيشه!!

ـ أين سامي؟ سألت بشرى مجددًا.

ـ لا ندري، فلقد اختفى بعدما طلبناه صباحًا من المدرسة الحربية وأخبرناه بالموضوع. يا ولدي بدأ ينشج كالأطفال، وهو يقول:

ـ لقد عملتها “القحبة” ابنة كريم ... لن أتزوج منها حتى ولو ذبحوني!! ثم خرج لا ندري الى أين!

تقدمت والدة سامي من بشرى وأمسكتْ يدها قائلة:

ـ أبوس يدك يا بنتي، ساعدينا لنخرج من هذه الورطة، سامي يحبك ويسمع رأيك.

ـ تدخل ساميا حاملة صينية معدنية عليها أكثر من دزينة فناجين من القهوة، فتضع واحدًا أمام بشرى وتترك لها آخر، ثم تطلب من والدتها أن تأخذ الصينية إلى غرفة الجلوس.

تحاول ساميا وقد جلست على الكنبة قرب بشرى، أن تبدو طبيعية وهي ترى هذه الأخيرة وقد جمدت وشحب لونها وهي تحاول أن تكبح شفتيها وأطرافها من الارتجاف دون طائل. ثم استجمعت قواها وقالت لبشرى:

ـ لا يهمك شيء! واللهِ، انك تستحقين رجلاً أفضل من سامي بألف مرة ...

ـ أريد أن أشرب بعض الماء قبل أن أذهب الى المنزل.

ـ هل اتَّصل بك سامي؟

ـ أجل، وكان على عجلة كبيرة.

ـ أعرفك عاقلة، يا بشرى، سامي في موقف لا يحسد عليه.

ـ أريد أن أذهب الى المنزل.

ـ سيوصلك زوجي.

ـ لا داعي لذلك ...

ـ بل سيوصلك، الآن!!

 

(7) - عرس ســهيل -

لقد بدا “أبو جواد”، زوج ساميا، ناقماً على ابن حميه، وعلى هذا المجتمع الذي سيفرض زواجًا “لأبد الدهر” على هذا النوع من العلاقات العابرة والطائشة، مما ساعد بشرى على استعادة بعض ليونتها قبل أن يسألها “أبو جواد”:

ـ لِمَ لمْ تذهبي الى عرس سهيل؟

ـ أخي زاهي لم يذهب...

ـ ليتك ذهبتِ.

ـ إيه!! شو صار بالعرس؟

ـ كانوا في عرس سهيل وقد تغامز الشباب، وجلّهم من العسكر، على الضابط سامي فأخذوا يرفعون كؤوسهم قائلين:

ـ كاسك سامي.

ـ فرحتك سيدنا.

ـ كاس اللي فكرك فيها.

ـ كاس الغياب والأحباب والشباب.

ـ فرحتك، وعاقبالك.

ـ كاس الحربية وظباطها.

وسامي يشرب “مقفّى”[7] حتى انطفأ وقام الى الرقص ... والويل لمن لا ترقص معه .. وأخيرًا أخذ يرقص مع سلمى التي أخذته الى الدبكة وتمسّكت به ..

ـ وبعدها؟

ـ تقول رواية أم سلمى: أن سلمى لما وجدته تعبًا، أرادت أن توصله الى بيته وهي في طريقها الى منزلها، فأمسكته من يده - و”يا غافل لك ألله” تردّد هذا زوجة كريم كلما وصلت الى هذه النقطة - وما إن سارا بضع خطوات حتى تشبّث بها سامي وأخذ يضمها اليه بكلتا يديه، ثم أخذ يقبلها و”البنت” تحاول ايقافه، لعلمها أنه غير واعٍ لما يفعل، قبل أن يرميها أرضًا ويأخذ بتقبيلها حتى حصل ما حصل: “فضحنا وخرّب البنت، الله يفضح حريمه” ودائمًا على لسان الست زوجة كريم والدة المحروسة.

ـ أين سامي الآن؟

ـ أترغبين برؤيته؟

ـ أجل!

ـ سأحاول، خاصة وقد طلب مني سامي أن آخذك الى حيث هو، فمانعتُ لأن المختار والكاهن في بيتي وقد جاءا من القرية لأن آل كريم يصرّون على ستر ابنتهم بالزواج وقد رفضوا المال، أو فترة خطوبة ريثما يُنهي سامي المدرسة الحربية، وجاء جوابهم واحدًا: أو زواج أو لا شيء ... بمعنى أنهم يعرفون كيف يثأرون لشرفهم ... 

 

(8) - جثة بُشــرى -

لم تكد تخطو بضع خطوات، بعدما نزلت من سيارة أبو جواد، حتى أحسّتْ، وهي تجهد للوصول الى البيت، انها جثة، جثة تمشي وترى، ثم تتبع نظراتها بذهول.

ـ مرحبا بشرى.

ـ قالها أحدهم وهو يتجاوزها من غير أن تجيب أو تسمع. ساقاها أوصلتاها الى باب المنزل، بينما فتشت يداها عن المفتاح في حقيبتها، التي ثقل وزنها حتى ما عادت تقوى على حملها في كتفها وقد تدحرجت الى يدها اليسرى لتجرّها وراءها وهي تقفل الباب... استمرت جثتها في الحركة، فوصلت قرب الهاتف حيث ما تزال الورقة: “أنا في السوق”.

غريب مشي الجثث، فهي تجبر صاحبها على أن يستعيد أول عهده بالمشي، فيمدّ يديه أمامه وينقل رجليه وكأنهما من غير مفاصل ... ولكن كيف حصل وبات لا سلطة لها على جسمها وحركاته في الوقت الذي زاغ فيه بصرها وقد تناقص الهواء في رئتيها، فأجهدها تنفُّسها؟؟

تكوّرت على أحد المقاعد: عرق بارد يتصبَّب منها وهي تريد أن تبكي، أن تصرخ، أن تأكل أن تشرب أن تفعل أي شيء دون جدوى... لقد أصبحت جثة، أوَ تراها تمنّت الموت ذلك الحين؟ أم كانت ميتة بالفعل؟ هي لا تدري وليست على يقين من شيء!

استفاقت ليلاً على صوت هاتف يرنّ، رنّة، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ... أين أنا؟ تساءلت وهي تتطلع حولها، فيما الهاتف يواصل رنينه. ترفع السماعة: آلو، آلو، آلو، ... ثم ينوس صوتها وهو يأخذ بالبكاء قبل أن تقفل السماعة وتعمل على خلع ثيابها وحذائها وتأخذ طريقها الى غرفة النوم. من جديد، ترنو الى جثتها وهي تتكوّر وسط السرير، فلا تفقه لجسمها حرارة أو برودة، ثم تعمل على تحريك أصابع رجليها دون طائل وهل لصاحب الجثة أية سلطة عليها لتتحرك كما يشاء؟؟ لِمَ أبقت جثتها على عينيها مفتوحتين؟ ثم تذكرت أن الأحياء إنما يغمضون للأموات عيونهم، وهي وحيدة!!! خشب جثتها يتمدّد على ظهرها جاحظة العينين ومحدقة في السقف: لا سقف فوقها ... بالحقيقة هي لا ترى شيئًا، هل سيأتي مَن يطبق لها عينيها؟ من بعيد عاودها صوت الهاتف مدوِّيًا حتى كاد رأسها أن ينفجر مما دفعها للتحرك باتجاهه... ترفع السماعة من غير أن تقول شيئًا وقد سمعت الطرف الآخر ينادي بصوت ملؤه شوك الزكام: آلو، آلو، آلو، بشرى أنت وحدك؟ آلو، ردي عليّ... تقفل الخط وتجلس متهالكة على كرسي ملاصقة لها وقد عرفت صوت المتكلم: إنه سامي. بعدها أخذت تحرِّك أطرافها وقد لفعها فيها برد مفاجئ في الوقت الذي أخذ فيه رأسها كل الحرارة فإذا به كطنجرة الضغط فوق النار؛ انها لم تمت، وسامي ما زال يتصل بها.

ولكن لِم لمْ يغفُ هو الآخر حتى عجق ليلها باتصالاته البكماء؟ ثم قامت ورفعت سماعة الهاتف ووضعتها جانبًا قبل أن تلحق رجليها اللتين لا تتقدمان إلا بفضل تجديف يديها دفعًا بجثتها الى السرير.

ضربات عنيفة على الباب الخارجي تحسم أمر قيامها من الفراش، بعد أن استفاقت على صوت تعرفه جيّدًا:

ـ بشرى، إفتحي يا إمي!! إفتحي!!

تجلس في فراشها المبلول، وتنقز[8] لأنها رأت جدتها تبوّل في فراشها قبل أن تموت، فتتلمس ما بين جنبيها: لا، إنها لم تمت، بل هي مبللة بالعرق تمامًا فيما الشمس تعكس مرآتها، في الغرفة، عصرًا... تقوم من فراشها، تحسّ وخزًا في أضلاعها، ثم تمضي فتقفل سماعة الهاتف، ولتلاحظ وجود رسالة على الأرض، قرب الباب، من الداخل، فتلتقطها وتضعها في عبّها بعد أن تقرأ عليها: “إلى بشرى”.

ـ لقد أمرضَكِ، وبلى نفسه.. عمره ما يرجع، ألف شاب يتمنون على حذائك..

بادرتها أمها بالقول، والباب ما يكاد ينشقّ، وهي تكاد لا تتحرك، في حين أخذ أخوها زاهي يدخل الأغراض التي جلباها من القرية.. ثم ما لبث زاهي أن قال لها:

ـ عا قبالك، الساعة الخامسة هي موعد زفاف سامي على سلمى.

ـ إسكت، أجابت الوالدة، بشرى غير مهتمة للأمر، هي ببيتها وهو ببيته.. الله يرضى عليك يا بشرى كوني قدر أملنا فيك... أبوك زعل كثيرًا وقال: بشرى لا تستأهل كسرة القلب هذه... الله يرضى عليك يا إمي.

بعد قليل تجلس قبالتهما وهما يحاولان أن يحدّثاها خبريات من هنا وهناك فتجهد كي تسمع وتجيب دون طائل.

يدير زاهي جهاز التلفزيون حتى يحظى بأغنية خفيفة فيرفع صوت الجهاز ويبدأ بالغناء .. الأم تقوم الى المطبخ وتحضّر القهوة، قبل أن تقول بحياد مستحيل:

ـ إم سامي راح تموت، وكذلك أبوه، ولكن الماء اندلَقَت أرضًا ولا أحد يستطيع لمّها ... سامحه الله، لو لم يكن ابن حكومة، لكانت علقته أهون بكثير، ... ثم تابعت:

ـ الله يستر علينا وعلى بناتنا، هي سلمى من الأساس غير مشقوعة[9]، والآن يحلفون بشرفها. ولِكْ، تْفُوهْ، عليهم وعلى شرفهم ... ثم أردفت:

ـ بنت الكلب، ذهبت عند المزيّن، وسوّت شعرها، ثم استأجرت بذلة بيضاء.. إسمالله نقيّة وطاهرة !! إيه، إيه، قبل أن نمشي أنا وزاهي، الى بيروت جاء سامي الى دارنا وركع، أعوذ بالله، ركع تحت رجليّ وقال لي: “قولي لبشرى أن تسامحني” ... ولِكْ تفووه، المرأة تخفّض رأس أكبر رجل... ولِك يلعن الشيطان الذي أغواه وترك كريم وأهله وغيره يتحكمون “بالأشبهية” مثل سامي.

وقبل أن تنهي أم سعد، والدة بشرى، حديثها بعبارة: “ليتهم يقبرونها (تقصد سلمى) يوم عزائهم، إن شاء الله”، لاحظت بشرى أن رأسها قد التوى استعدادًا لحمل جثتها، فانسحبت الى غرفة النوم، وأقفلت عليها من الداخل، ثم رمت جثتها على السرير.

نار في قلبها وغليان في رأسها من غير أن ينتج عن هذه العملية بخار ما في عينيها... تتلوّى على سريرها كذنب أفعى فُصِل لتوّه عن جسمها، ثم تتحسس الرسالة التي وضعتها في عبّها... رفعت الرسالة: إنه خط سامي... أعادت الرسالة إلى مكانها وحاولت أن تنام، ثم وضعت يدها عليها وأخذت بالبكاء وهي تغطي رأسها، إلى أن نهضت وجلبت لحافًا سميكًا وضعته فوق الشرشف الصيفي وتمنّت لجثتها الموت السريع، ثم الاضمحلال الأسرع من غير أن يقع نظر سامي عليها.  أوتراها تستطيع أن تتطلع اليه أو ترى دموعه؟؟ تستفيق من جديد على قرع الباب وصوت أمها الذي مُلئ بالظلام من حولها:

ـ قومي حتى نتعشى سوّية...

تتحسس الرسالة من جديد، وهي تحرك رقبتها، ثم تضيء الكهرباء، وتنهض لتنتعل مشّايتها وتفتح الباب:

ـ صح النوم، يا حبيبة القلب، تقول لها أمها ذلك، بعد أن تغمرها وتقبلها.

فتجيب بشرى:

- وعلى قلبك!

********************

كانت والدتها قد نظّفت البيت فانتشرت رائحة مساحيق التنظيف في الأرجاء، وقد وضعتْ الطعام الكثير على الطاولة الصغيرة قبل أن تضطر لإلصاق طاولة أخرى بها عند مجيء إبنتيها المتزوجتين وعائلتيهما وقد جلبتا معهما طعامًا كثيرًا، إضافة إلى الحلوى التي صنعتها إمرأة ابنها وجلبتها معها.

سهرة طويلة أمضتها بشرى وهي تشعر بمن حولها وكأنهم يمثِّلون فيلمًا مُنعت فيه المشاحنة بين الممثلين، أو سيرة القرية وما فيها، إضافة الى كل ما يتعلق بقصص الحب. عمّا دار الحديث إذًا؟

بشرى لا تدري، وجلّ ما بقي عندها هو انطباع ما، عن تضامن عائلي إرتأى عدم تركها وحيدة حتى لا تفكر بحالها. وليتهم تركوها تتخلّص بهدوء من صدمتها، أو ليتهم أسمعوها ما يهمسون به فيما بينهم حتى لا تدفن خيبتها حيّة نابضة. وأخيرًا استجمعت قواها، ونهضت إلى غرفة نومها، وهي تضع يدها على صدرها الأيمن حيث تنام رسالة الأمس.

ـ متى حدثني سامي عن سلمى؟

سؤال عاد يلحّ عليها وهي تفرك صدغها وقد تربعت وسط السرير. أجل، إن سامي خائن يدَّعي الإخلاص حتى استطاع أن يضلّلها لأكثر من سنتين.

أجل، لقد حكى لها مرة عن سلمى، وقد التقى بها في سهرة مشتركة. أين سهرا؟ لا تذكر ذلك ولكنه قال لها بعد حين: أخذت سلمى ترقص حافية القدمين وقد أعطاها صاحب البيت أربع صناجات[10] وضعتْها في سبابتيْ يديها وإبهاميها ثم جاء صاحب الدعوة وسحب الدبابيس من شعرها الذي انسدل هادرًا على كتفيها، وجاء رجل آخر وربط لها على خصرها منديلاً طويلاً وهي ما انفكت تهزّ برأسها وصدرها ووركها، في حين أن بضعة شباب ومنهم كرم، أخذوا يرمونها بالليرات الورقية، وهي تضحك وترفع يديها عالياً بايقاع متواتر، حتى تحمّس أحدهم ورماها بورقة مالية فئة المئة ليرة ثم أمسك لها أحد رجليها قائلاً: إدعسي، يلعن أبو المال!!

ـ وأنت يا سامي، ماذا فعلت؟

ـ وحياتك، يا بشرى، كنت جالسًا على الشرفة أنظر اليهم وأشرب من كأسي الملآن.

ـ وما هو دليلك؟

ـ إسألي شباب القرية .. و”وسّعي عينك” صاحبك سامي أرفع مستوى من هكذا بضاعة.

ـ واضح!

ـ نعم واضح، إذ لولا ضجري لما ذهبت الى هكذا سهرة، كنت أتخيلك فيها وأنا أرنو الى سلمى.

ـ أو تريدني أن أكون هكذا؟

ـ معاذ الله! رقصك أجمل، وأنتِ أجمل ...

 

[1]  نوع من الحلويات اللبنانية التي ما زال أهل القرية يعملونها حتى أيامنا هذه.

[2]  إمكث هنيهة: أي ساعة يسيرة.

[3]  كبأ الإناء: قلبه على رأسه” - المكبة وهي القِفّة الكبيرة (جمع قِفَفْ) تستعمل عند سلق القمح لتصفية القمح المسلوق من الماء الساخن قبل أن يطلعوه بالقفة الصغيرة الى السطح - أما في بقية العام فتقلب على رأسها ويوضع تحتها الطعام، أو الحليب واللبن.

[4]  صينية تحاك من جذوع سنابل القمح وهي تلوّن وتزخرف ...

[5] كرسي صغيرة الأرجل كان يصنعها أهل القرية من خشب الأشجار، ثم يصنعون مقعدها من عشبة الحلفاء التي كانت تفتل على بعضها وتترك لتيبس، قبل أن تشدّ حبالها على الخشب بشكل حلزوني، مؤلفة، عند انتهاء الفراغ، داخل مربع الخشب، مقعد الكرسي.

[6] القحبة: جمع قحاب: الفاسدة الفاجرة. البغي.

[7] القفية: الطعام يُؤثر به الضيف؛ رجل مقفى ومقفّى به: مؤثر، مُكْرَم. وتقولها العامة للإشارة إلى شرب الكثير من الخمر من دون كثير طعام، مما يعجل في حالة السكر.

[8]  تنقز: تجفل

[9]  غير مشقوعة: غير سوية الاخلاق

[10]  صناجات: صفيحة مدورة من النحاس تضرب على اخرى مثلها للطرب.

 

back to Books

Ref: Laurice al rahie, لوريس الراعي, Boushra, بشرى