قراءة في أهم أحداث سنة 2005

غالب أبو مصلح

خبير اقتصادي ومالي من لبنان

 

ضجت سنة 2005 بالعديد من الكوارت الطبيعية والأحداث. فقد كشفت الكوارث الطبيعية عن هزال البنية الاجتماعية وقدرات الإغاثة عند العديد من دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، كما تبين من آثار إعصار كاترينا في نيو اورليانز، وعجز الحكومة الباكستانية والمجتمع الدولي في إغاثة منكوبي الزلزال.

 

كما شهدت سنة 2005  تحولات كبيرة على الصعد العالمية والاقليمية والدولية. بعض هذه التحولات له طابعه العسكري السياسي الاستراتيجي ، وبعضها له طابع اقتصادي اجتماعي ، وان كانت الابعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية متشابكة الى حد بعيد .

 

كان المشرق العربي بشكل خاص ،ومنطقة الشرق الاوسط بشكل عام، المنطقة الاكثر سخونة والتي شدت انتباه العالم اليها، وكان لاحداثها اصداء عالمية مؤثرة ومفصلية. وتترابط احداث المنطقة بشكل عضوي، حيث يشكل الوطن العربي، والدائرة الاوسع – المنطقة الاسلامية – مسرح عمليات و احد، ليس نظريا فقط، بل عمليا ايضا، من زاوية رؤية الامبراطورية الاميركية وومخططاتها للهمينة المطلقة والدائمة على العالم. ولفهم عميق للاحداث وترابطها لا بد من تحديد أهم التطورات المؤثرة على الصعيد العالمي، وخاصة التطورات في مراكز النظام العالمي الحديث، في عصر العولمة المحكومة بمبادئ الليبرالية الجديدة، وهيمنة الشركات المتعددة الجنسية على اسواق العالم كافة.

 

في سنة 2005 إستمر تراجع القوة الامبريالية الاكبر في العالم، وتعمقت مآزقها العسكرية والاقتصادية والسياسية. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتشظيه، أصبحت اميركيا القطب العالمي الوحيد المهيمن، صاحب القدرات الاقتصادية والعسكرية الاكبر في التاريخ البشري، اذ بلغ انتاجها الوطني – عند بداية القرن الحالي – اكثر من عشرة تريليون دولار، وميزانيتها العسكرية اكبر من مجموع الموازنات العسكرية  للدول الخمسة عشر التالية لها مجتمعة. ونمت غطرسة القوة عند قادتها، فها هو الرئيس السابق كلنتون يصف اميركا بأنها " منارة الأمل للشعوب حول العالم "أما هنتنغتن استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد فيقول ان الهيمنة الاميركية " اساسية لمستقبل الحرية، الديمقراطية، الاقتصادات المنفتحة، والنظام العالمي " (1) ثم يأتي بوش ،كممثل متطرف ورسولي  للمحافطين الجدد، ولعنصرية استعلائية يمثلها الانكلوساكسون – البروتستنات  - البيض ( WASP ) المقتنع بعمق استثنائية اميركا، التي تمثل اراداة الله في العالم، وليطرح مبادئه التي  تتمثل بالانفرادية الاميركية،  حيث يحق للولايات المتحدة ان تستفرد بحكم هذا العالم والتحكم بشعوبه. وبأن تشن حروبا إستباقية او وقائية حين تريد واينما تريد. فسلامتها واستمرار هيمنتها تتطلب انتهاك سيادة اية دولة في في العالم. لذلك رفض بوش بشكل قاطع أية معاهدة يمكن ان تشكل قيودا على السلوك الاميركي. فقد رفض الانضمام الى اتفاقية كويوتو، وانشاء محكمة الجرائم الدولية ومعاهدة حضر الصواريخ العابرة للقارات، وشن حربا مدمرة ضد افغانستان، ثم حربا اخرى "وقائية " ودون موافقة مجلس الامن وحلفائه الاوروبيين على العراق. كما وضع دولا عدة على لائحة " الدول المارقة " او " محور الشر العالمي "  والتي يتوجب  على دولة " الخير المطلق " – اميركا _ معاقبتها وتدميرها، لانقاذها، بمباركة ألهية.

 

ان سنة 2005 شهدت منذ بدايتها تعمق المأزق الاميركي في العراق، فمنذ بداية السنة بدأت الدراسات الاستراتيجية  الاميركية تتكلم عن المأزق الاميركي في العراق. وبدأ العديد من قادة الفكر الاستراتيجي  يتحدثون عن كيفية " ربح الحرب التي لا يمكن ربحها " و" متى تخرج من العراق وكيف " ؟

 

وبالرغم من التضييق الشديد على وسائل الاعلام كافة ،وطرد المراسلين أو قتلهم في العراق، وبالرغم من انفاق مليارات الدولارات للترويج للأكاذيب الاميركية، فان الحقائق على ارض الواقع عنيدة ، لا يستطيع الكذب طمسها وهزيمتها، لا بد ان تنتصر في النهاية.

 

ان الخسائر المادية والبشرية التي الحقتها المقاومة العراقية بجيوش اميركا وحلفائها، وعجز الاسلحة الذكية والكيميائية والبيولوجية ،والذخائر المشعة ،كل ذلك  لم يستطع ان يهزم ارادة الجماهير العراقية، وان يطمس الحقائق التي ايقضت الاميركيين، او بعضهم على الاقل، وجعلتهم يشكفون الستار عن جرائم ضد الانسانية ترتكبها القوات الاميركية في العراق ،وعن كذب بوش بشأن اسلحة الدمار الشامل  في العراق، والتي تهدد الأمن الاميركي.

 

ان تصدير نعوش الجنود الاميركيين من العراق ، هي التي اقنعت الاميركييين بتغيير مواقفهم من سياسة بوش. سياسة عصابة النفط في البيت الابيض. كما تسميهم مجلة النيوزويك.

في هذا الخصوص يقول استاذ العلوم السياسية في جامعة اوهايو " جون مولر " " تم ارسال القوات الاميركية في طريق المخاطر مرات عدة  منذ سنة 1945 ، ولكن في ثلاث حالات – كوريا ، فيتنام ، العراق – ثم جرها الى قتال ارضي طويل المدى ، وتكبدت اكثر من 300 قتيل ... واكثر ما يثير الانتباه في المقارنة بين هذه الحروب  كيف انه وبسرعة اكبر هبط الدعم  للحرب في الحالة العراقية . عند بداية سنة 2005 ،  عندما وصل قتلى الحرب الاميركيين الى  1500 جندي ، ان نسبة الذين يقولون ان الحرب على العراق كانت خاطئة – اكثر من 50% -  كانت نفس النسبة  التي قالت ان الحرب في فيتنام كانت خاطئة،  عند هجوم " التت   (Tet Offensive  )  سنة 1968 ، عندما وصل قتلى الجنود الى 20 الف جندي اميركي " (2) وفي نهاية سنة 2005 تقلص التأييد لسياسات بوش الى حوالي 35% لدى الرأي العام الاميركي .

 

ان هزيمة اميركا في العراق اصبحت حقيقة ،والكلام الاميركي عن " اعادة الانتشار " في العراق يتطابق مع ما قيل عن اعادة الانتشار في فيتنام عند الهروب منها . وذلك للتخفيف من وقع الهزيمة ، وللخروج من العراق بما تيسر من ماء الوجه .

 

كان لهزيمة اميركا في العراق خلال السنة الماضية تداعيات عديدة على كافة الصعد الفكرية والسياسية والاقتصادية .

 

1-على الصعيد الفكري : سقطت مبادئ بوش حول الانفراد الاميركي ،وحول الحروب الوقائية والاستباحية وعدم الاكتراث بالمؤسسات الدولية ،وسقط الكلام عن الاستثنائية الاميركية . والشعب الأميركي المختار لتنفيذ ارادة الهية في هذا العالم ،وارتفعت اصوات تتكاثر باستمرار تطالب بالانعزالية والحمائية الاميركية . وسقط القول بان القرن الحالي سيكون  قرنا اميركيا بامتياز . كما  سقطت نبوءات  فوكوياما  عن نهاية التاريخ ورؤى هنتنغتن عن ان الحروب المقبلة ستكون عبر التخوم الحضارية للحضارات الكبرى ، وانتفاء اشكال الحروب المواكبة للجدلية التاريخية .

 

كما عززت انتصار المقاومة العراقية ورسخت ايمان الشعوب المظلومة والمهمشة في العالم بانها قادرة على مجابهة العدوانية الامبريالية بالحروب غير المتوازية ، بالرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي وانشغال الصين باستكمال بنيتها الداخلية . فقد كرست انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق ، في              ظروف دولية واقليمية غاية في  الصعوبة فكر ونهج المقاومة التي تصر اميركا وحلفائها الاوروبيين على تسميتها بالارهاب ،   بما فيها زبائنها المحليين لتسفيه فكر المقاومة وعزلها. وتجفيف مقومات صمودها ونموها ، واسقاط سلاحها في العراق وفلسطين ولبنان .

 

2- على الصعيد العسكري :  على هذا  الصعيد سقطت نظريات بوش عن التفرد الاميركي والأستثنائية الاميركية في قدرتها وحقها في شن اكثر من حرب متى تريد وعلى من تريد . كما سقطت مقولات الحروب الوقائية والاستباقية ، وشن حربين في وقت واحد والانتصار في هذه الحروب دون ضحايا من الجنود الاميركيين ،وذلك بفضل التفوق التقني الساحق والاسلحة الذكية واسلوب الحرب الصاعقة ، وانزال الصدمة و الرعب في نفوس الاعداء . ان الادارة الاميركية تعيد النظر بعقيدتها العسكرية الدولية فقد أقرت خططا  لاكبر تغيير اساسي في استراتيجية القواعد الاميركية في الخارج منذ الحرب العالمية الثانية وما سمته " “ Global Defense Positive Review (GDPR)  التي تدعو الى زيادة عدد مواقع  التسهيلات (Facilities  ) بابدال القواعد الكبيرة - مثل تلك  التي في المانيا واليابان وكوريا الجنوبية  - بقواعد اصغر تدعى "مواقع عمليات متقدمة " ( Foss  ) والتي يمكن بناؤها  بسرعة ،  "ومواقع امنية مشتركة(CSLC) و"تسهيلات الدول المضيفة " . يدير هذه القواعد عدد قليل من الافراد الاميركيين ولكن بمعدات وامكانات تموينية كبيرة . يمكن اعتبار هذه القواعد قواعد نائمة يمكن ايقاضها عند الحاجة واستعمالها ضد بؤر الاضطرابات المحلية . وسيتم اقامة هذه القواعد في شرق اوروبا وافريقيا بشكل خاص ومنها الجزائر وجيبوتي وغيرها العديد من الدول (3)   ، وكذلك يتم الكلام على اضافة  مثل هذه القواعد في لواء الاسكندرون وشمالي لبنان .

 

كما تشدد الاستراتيجية الجديدة ، على زيادة عدد المشاة وتحسين الدروع الاميركية ،وتقوية وزيادة قدرات المخابرات المحلية ،وذلك على حساب الاسلحة ذات التقنيات العالية والذكية ،ووسائل التجسس بالاقمار الصناعية وغيرها ،  بغية رفع القدرات القتالية الاميركية على الارض .

 

3- الصعيد الاقتصادي : فاقمت الحرب في العراق في سنة 2005 العجز في ميزان المدفوعات الجاري لدى الولايات المتحدة الاميركية فسجل رقما قياسيا بلغ 780.6 مليار دولار ، وكذلك سجل عجزا قياسيا في الحساب التجاري بلغ 767.8 مليار دولار ، كما بلغ عجز الموازنة العامة 3.7% من الناتج المحلي القائم ( 4) . فقد ارتفعت تكاليف الحرب المباشرة على العراق الى اكثر من 200 مليار دولار ، وذلك بجانب كلفة الخائر التقليدية والصواريخ الذكية العالية الثمن, والتي كاد مخزونها أن ينفذ, حسب تقارير البنتاغون, والخسائر في المعدات ،وتعويضات القتلى والجرحى من الجنود ،واهتراء او " استهلاك " المعدات بسبب  " الاستعمال القاسي في ظروف صعبة " كما تقول الاكونومست ، بحيت يتوجب ابدالها في وقت قريب . وبالتالي, فإن تقديرات مجمل تكاليف الحرب على العراق حتى نهاية سنة 2005 قد بلغت قرابة 2.2 تريليون دولار, وهو رقم يبلغ أكثر من ضعف أكثر التقديرات تشاؤما عند بدء الإجتياح. وتكاليف هذه الحرب ، بجانب الحرب على افغانستان قد اجبرت الادارة الاميركية على رفع الانفاق العسكري بشكل حاد ،اذ سيبلغ اكثر من 525 مليار دولار هذه السنة . وارتفاع الانفاق العسكري دفع الادارة الى تقليص العطاءات والضمانات الاجتماعية للاكثرية الساحقة من الاميركيين  . فقد انخفضت المداخيل الحقيقية لاكثر من 71%  من الأسر الاميركية . كما تولدت ضغوطات كبيرة لخفض سعر صرف الدولار ، والذي يفقد قيمته تدريجيا كعملة عالمية . وانخفض معدل الادخار كنسبة من الدخل  المتاح لدى القطاع المنزلي الى اقل من 0.2%  . والرؤية المستقبلية اشد كآبة .  فقد ذكرت لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ انه " ليس هناك " سيناريو " نمو قادر على توليد موراد مالية لتغطية المستحقات التي لم تدفع بعد – اكثر من 50 تريليون دولار – المرتبطة بتقاعد قريب لخمسة وسبعين مليون اميركي ، من عهد ارتفاع الولادات بعد الحرب العالمية الثانية (Baby Booms  ) ، ولا يمكن تأمين هذا المبلغ من اقتطاعات في الانفاق ، حيث ان 80%   من انفاق الخزينة لا يمكن المساس به ، مثل بنود الامن القومي وفوائد الديون"  كما يقول رئيس كلية  الادارة في جامعة ييل ( Goffery E0 Gorten )  (5)

 

ومن المعلوم  أن القدرات الاقتصادية هي التي تحدد في النهاية قدرات الامبراطورية الاميركية على التوسع والهيمنة .

 

4- الصعيد السياسي : اما على الصعيد السياسي ،كان لهزيمة اميركا في العراق اكثر من صدى على اكثر من صعيد .

أ – على صعيد الداخل الاميركي : انهارت شعبية بوش بشكل هائل ، حتى وصلت عند اواخر عام 2005 الى حوالي 35 % ، مما وضع الحزب الجمهوري في مأزق كبير عند ابواب انتخاب نصف اعضاء مجلس الشيوخ في منتصف السنة الحالية . كذلك فاقمت الحرب اندافع الادارة الاميركية الى تقليص العطاءات والضمانات الاجتماعية  للشرائح الادنى في السلم الاجتماعي ، مما فاقم نقمة الفقراء والطبقة العاملة ، التي رأت مداخيلها الحقيقية وقد انهارت بسرعة ، وكذلك فرص التوظيف والعمل الدائم ان تنامي الفقر وانخفاض الدخول الحقيقية لاكثرية الاميركيين افرز عدة  ظواهر اجتماعية وسياسة منها : عودة  الحياة للعمل النقابي ، وتأليف نقابات وطنية جديدة  ، مثل نقابة " البوابين " .  وعادت الاضرابات العمالية الواسعة ، مثل اضراب عمال المواصلات في نيويورك ، والذي شل الحياة فيها لعدة ايام . كذلك ما كشف عنه اعصار كاترينا في نيواورليانز من اهمال الادارة او عدم  اكتراثها بأرواح وعذابات الافريقيين والفقراء الاميركيين ، مما وسع الشروخ والتناقضات الاثنية والطبقية وجعل المجتمع الاميركي اقل استقرارا .

 

ب- ان هزيمة اميركا في العراق والتي اجبرت ادارة بوش على اسقاط "مبادئ بوش" في "الانفرادية  " و" الاستثنائية الاميركية " و " الحروب الوقائية والاستباقية "  اعادت اللحمة والتوحد بين ادارة بوش ومعظم القادة الاوروبيين . فالمعارضة الاوروبية للحرب على العراق كانت في جوهرها معارضة للتفرد الاميركي ، واستثناء اوروبا من مغانم الهيمنة الامبريالية في الشرق الاوسط ، وخاصة على منابع النفط وخطوط امداده . وبالتالي فان الهزيمة الاميركية وقرار الانسحاب من العراق وما يمكن ان ينتج عن ذلك من ضغوطات انزوائية اميركية ، واحداث فراغ جزئي في منطقة الخليج ، دفع بعض الدول الاوروبية ، وخاصة فرنسا الى احياء تاريخها الاستعماري الامبريالي ، لتعرض مشاركتها في ضمان امن دول الخليج  "وحمايته " وجعل السعودية مثلا، تعقد صفقة اسلحة وتدريب ضخمة مع بريطانيا تقدر باقل من 70 مليار دولار كما تقول المصادر السعودية ، بغية المشاركة في أمن الخليج . وعلينا ان ننتظر دورا متصاعدا للحلف الاطلسي في الهيمنة على المشرق العربي ، وايقاف التداعيات الناتجة عن هزيمة اميركا ، وخاصة في الخليح وفلسطين ومصر ولبنان ، كما في كافة انحاء الجزيرة العربية . ما يعزز هذه التحولات ، هو تحول العديد من الدول الاوروبية الاساسية نحو اليمين ، وذلك نتيجة المأزق المتنامي لنهج الليبرالية الجديدة ، الذي فاقم مشكلة البطالة المزمنة ، ووسع الفروقات الطبقية وقلص العطاءات الاجتماعية و الضمانات العمالية ، وابرز بالتالي عنصرية وشوفينية جديدتين ضد العمال الاجانب . كما قلص كثيرا من فرص تركيا في الانضمام الى الاتحاد الاوروبي .

 

ان نمو الشوفينية الاوروبية والعودة الى قيم "  عهود الاستعمار " عبر عنها جاك  شيراك بقوله "فرنسا  امة عظيمة " في اعقاب سحق " ثورة الفقراء "  في الضواحي الباريسية ، وقول وزير الداخلية  ساركوزي  " فرنسا بلد عظيم  لان لها  تاريخ عظيم "  بعد سحقه لهذه الاضطرابات بوحشية متناهية ،  وربط هذه الاضطرابات بالارهاب العالمي ، بالرغم من تقرير مخابرات الشرطة الذي تم تسريبه  الى Parisien  يقول ان العنف لم يكن منظما ومعدا سابقا ولم يكن دينيا ، ولكنه كان "ثورة شعبية "مرتبطا "بضعف" الاندماج الصارخ ". كما تم اسقاط طلب  المعارضة الاشتراكية  في مجلس النواب بابطال قانون يطلب من الكتب المدرسية " الاشادة خصوصا بالدور الايجابي للوجود الفرنسي في ما وراء البحار  وخاصة في افريقيا الشمالية  ، هذا القانون الذي قدمه نواب الحزب الحاكم في جنوب فرنسا ، وهو موطن اصحاب " الاقدام السوداء "   أي المعمرين الفرنسيين في الجزائر "  ( 6) . ثم ظهرت  الوحدة الاوروبية الاميركية الاسرائيلية في مؤتمر برشلونة 2005 ،  وفشل المؤتمر في اصدار بيان نهائي نتيجة اصرار الدول الاوروبية على تبني الطروحات الاميركية الاسرائلية ، بان كل مقاومة للاحتلالين الصهيوني في فلسطين والاميركي في العراق هو " ارهاب " وليس مقاومة .

 

ج- ان وقوع اميركا في الفخ العراقي – بجانب افغانستان – اتاح المجال لنمو حركة تغييرية هائلة  في اميركا اللاتينية  معادية   للهيمنة الاميركية ، اي لمصالح الشركات المتعددة الجنسيات ، دون ان تستطيع الولايات  المتحدة سحقها كما  في الماضي ،  واتاح المجال لإيران وسوريا في ان تكونا في منأى عن العدوان العسكري الاميركي المباشر .

 

ان قدرة شافيز على البقاء في فنزويلا ، وتحديه لاميركا كان عملا تغييريا كبيرا على صعيد القارة ، من الصعب  الا يستدعي العدوانية الاميركية السافرة ، لولا انهيار مبادئ بوش وقدراته العسكرية على التدخل، نتيجة ربط القدرات العسكرية الاساسية في الوحول العراقية  .  ان اميركا اللاتينية تشهد تحولا كبيرا وهائلا نحو اليسار للتحرر من الهيمنة الاميركية والنهب التاريخي لشركاتها الكبرى وللشبكة المالية العالمية الاميركية المركز وللمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ، اللذين تحولا الى ادوات لخدمة المصالح الاميركية والاوروبية .

 

فبعد فنزويلا والتحولات المهمة في البرازيل ، أتت بوليفيا وتشيلي والبيرو ، ثم اخيرا التحولات في سياسة الارجنتين  اتجاه صندوق النقد الدولي وهيمنته . والانتخابات القادمة خلال السنة الحالية في العديد من دول اميركا اللاتينية "تنذر بتساقط دول " الانديز " مثل تساقط حجارة الدومينو الى مواقع العداء لاميركا " – كما تقول الإيكونومست – سيتغير وجه اميركا اللاتينية الى الابد ، وربما خلف في نهاية المطاف " اتحادا سوفياتيا " جديدا يهدد النموذج الاميركي الاقتصادي والسياسي والذي ظهر فشله في معالجة مشاكل دول العالم الثالث خاصة  ،ولو استطاع  ان ينقذ النظام الرأسمالي في مرحلته الاكثر احتكارية وعولمة من ازماته المتكررة ، ولو الى حين.

 

د- أما في منطقة الشرق الاوسط، فان سنة 2005 شهدت تراجعا واضحا للتهديدات العسكرية الاميركية لسوريا وايران. ولكن الهجمة الاميركية على الصعد الاخرى تضاعفت شراستها . ان الامبريالية تشن حروبها على جميع الصعد في الوقت ذاته. الدبلوماسية والسياسية والاعلامية والثقافية والتجارية والمالية والاقتصادية. مجندة جميع وسائل الاعلام والبحوث وقدراتها المالية الضخمة، وقدرات زبائنها المحليين من حكومات وطبقات حاكمة تابعة لها. اما التصدي لهذه الهجمة فلا يقتصر على الصعيد العسكري، بل يشمل كافة الصعد ايضا. وبالتالي، فان مفهوم المقاومة يتخطى البعد العسكري الى الابعاد الثقافية والاعلامية والاقتصادية والاجتماعية، بغية تحرير الانسان لا الارض فقط، ووضع المجتمع على سكة تطور تنموي شامل ودائم مستقل عن الهيمنة الامبريالية والتبعية لدول المراكز الراسمالية.

 

شنت اميركا هجوما امبرياليا على العرب والمسلمين، مستهدفة ثقافة الشعوب ووعيها السياسي وقدراتها الكامنة على المقاومة، كما من اجل السيطرة على مواردها الطبيعية واقتصاداتها. وتركزت الهجمة بشكل خاص على لبنان وسوريا وايران. فسوريا وايران تتعرضان لحملات اعلامية شرسة ولحصار اقتصادي متصاعد ، وتهديدات بمزيد من الحصار والعدوان عبر مجلس الامن (الملف النووي الايراني، وقضية اغتيال رفيق الحريري) كما للتهديدات العسكرية الاسرائيلية.

 

واذا كانت الضغوطات والتهديدات الاميركية الاوروبية قد دفعت سوريا للانسحاب العاجل من لبنان، مخلفة وراءها رأيا شعبيا معاديا في معظمه، نتيجة الاخطاء القاتلة المتعددة المستويات، ونتيجة التحريض الامبريالي الصهيوني الذي عرف كيف يستغل كل الاخطاء والخطايا، فان الطبقة الحاكمة استطاعت ان تلصق كل فشلها وفسادها وجرائمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالوجود السوري، وتبرئ نهجها الاقتصادي اللبرالي وبنيتها الاحتكارية والسياسة الطائفية الاستبدادية من مآل ما وصلت اليه الامور، ومن الوقوع في فخ المديونية والرضوخ الكامل لاملاءات "اجماع واشنطن".

 

وتهدف هذه الحملة الشاملة الى: أولا، اسقاط النظام السوري وابداله بنظام موال لامريكا ومتصالح مع اسرائيل، او اجبار النظام السوري على تغيير مواقفه من المقاومة العراقية والمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، وقطع العلاقات وطرق الامداد عنها. ثانيا، نقل لبنان من ضفة سياسية الى ضفة اخرى – اي عودة لبنان المحايد سياسيا وعسكريا في الصراع العربي الصهيوني، وعودة لبنان جسرا وموطئ قدم للامبريالية، للوثوب الى سوريا والداخل العربي. وربما كان الهدف ابعد من ذلك. ان الحملات المسعورة التي تشنها بعض القيادات ليس فقط ضد النظام السوري بل ضد الشعب السوري والاعتداءات المتكررة والوحشية على العمال السوريين في لبنان، كما الشعارات العنصرية والشوفينية الحقودة التي ترفعها بعض القوى في وجه سوريا، ربما كان الهدف منها قطع العلاقات اللبنانية السورية، تمهيدا لاستبدالها بعلاقات باسرائيل للوصول الى الداخل العربي، وجعل لبنان يدور في الفلك الاسرائيلي الاميركي كما الاردن. ثالثا، محاصرة المقاومة الفلسطينية التي اثبتت قدراتها، بالرغم من الحصار العربي، على تحقيق انتصارات كبيرة، كان اهمها اجبار اسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة. صحيح ان "الاحتلال" للقطاع ما زال قائما عبر الحصار الشامل البري والجوي والبحري، غير ان هذا الانسحاب من "ارض اسرائيل" حسب الاعتقاد الصهيوني، يدل على نهاية اسرائيل الكبرى، وعلى التوسع الجغرافي الاسرائيلي اي على انهيار الحلم الصهيوني، كما يمثل بداية المسيرة الانكفائية للصهيونية، والتي سيعززها كثيرا انتصار المقاومة العراقية وهزيمة الهجمة الامبريالية على لبنان. ان اغتيال عرفات، وهو رمز المقاومة الفلسطينية، والاتيان  بـ ابو  مازن على راس السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو صاحب التاريخ الحافل بالتنازلات والانصياع لتوجيهات اوروبية اميركية ، لم تستطع ان تحتوي المقاومة الفلسطينية وتسقط سلاحها وتسقط فكر ونهج المقاومة في فلسطين. وما انشقاقات فتح وتنامي شعبية اطراف المقاومة الاكثر جذرية وراديكالية، والتي اظهرتها الانتخابات البلدية الفلسطينية، الا مؤشرا اساسيا على اتجاه تطور الاحداث في الارض المحتلة.

 

شهدت سنة 2005 تجذر فكر ونهج المقاومة الشاملة، واطلاق حراك شعبي عربي واسع من المحيط الى الخليج، واثبتت ان العروبة ما زالت نابضة حية وفاعلة رغم نعيها الدائم من قبل العديد من اشباه المثقفين ووسائل الاعلام العميلة. وما توجه الآلاف من الشباب العربي المجاهد من كل الاقطار والمشارب الفكرية، الى ارض المقاومة في العراق، الا احد الادلة على ذلك. وكل ما حدث في مصر من ضربات عسكرية وحراك شعبي، يمثل بداية عودة مصر الى احتلال موقعها الذي عززه عبد الناصر، موقع القيادة في التصدي للاستعمار والامبريالية والصهيونية، وعلى طريق الوحدة او التوحد العربي على الاقل.

 

وفي سنة 2005، تنامت القدرات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للصين الشعبية. فقد استمر الاقتصاد الصيني في النمو بمعدلا مرتفعة جدا تفوق 9.5 % سنويا، كما طيلة ربع القرن الماضي. وادى ذلك الى تقليص سريع لنطاق الفقر، وبروز نموذج مغاير للتنمية الشاملة المستدامة،  بعيدا عن فكر الليبرالية الجديدة واملاءات ما يسمى "باجماع واشنطن".

 

كما ارتفعت حاجات الصين الشعبية الى موارد طبيعية اجنبية منتشرة في جميع القارات . وتنامت بذلك علاقات الصين الاقتصادية والسياسية مع العديد من دول العالم في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية واوستراليا، مزاحمة الولايات المتحدة وهيمنتها، ومثيرة هواجسها وعدوانيتها وتخوفاتها من تنامي القدرات العسكرية الصينية ايضا، وخاصة البحرية، الضرورية لحماية خطوط امدادها بالخامات وخاصة النفط والغاز الطبيعي. ان خطوط الامداد الصينية يمر معظمها في المحيط الهندي، كما عبر مضيقي "ملقة" و "تايوان" بشكل خاص. فالصين تستورد نصف حاجاتها من النفط من منطقة الشرق الاوسط، وتعمل بالتالي على تقوية تواجدها الاقتصادي والسياسي فيه، بالتنافس مع اميركا واوروبا. فقد التزمت الصين بتطوير حقل "يدافاران" الضخم في ايران، وان تشتري 250 مليون طون من الغاز السائل خلال 30 سنة المقبلة، وان تستورد 150 الف برميل نفط يوميا بسعر السوق ولمدة 25 سنة، وذلك في ظل المقاطعة الاميركية لايران. وأنشأت "المؤتمر الدئم للتعاون الصيني-الافريقي" لتنمية التجارة والتوظيفات مع 44 بلدا افريقيا. ونشطت الصين في اميركا اللاتينية ووثقت علاقاتها مع العديد من دولها مثل البرازيل وفانزويلا، فتضاعفت تجارتها مع دول اميركا اللاتينية 5 مرات منذ سنة 1999 ، لتصل الى 40 مليار دولار في نهاية سنة 2004 كما تقول الفاينانشل تايمز.

 

ومن خلال التجارة ،  تغيرت علاقة الصين باوستراليا – احد اشد حلفاء اميركا تعصبا- وارتفعت واردات الصين من اوستراليا من خامات الحديد بنسبة 41 % ومن الفحم بنسبة 72 % في سنة 2004، ويقدر ان الصين ستحل مكان الولايات المتحدة كثاني شريك اقتصادي . يعتقد البعض انها حلت مكان اميركا في سنة 2005. ويقول  دايفد شفيغ تعليقا على زيادة الصفقات التجارية مع الصين "هذه الصفقات تزيد من القوة الرخوة للصين في اوستراليا" . وحسب استطلاع للرأي في ربيع سنة 2004 ، فان 51 % من الاوستراليين يعتقدون ان اتفاقية تجارة حرة مع الصين  ستكون جيدة لاوستراليا مقابل 34 % يعتقدون ان اتفاقية التجارة الحرة القائمة مع الولايات المتحدة هي لمصلحة اوستراليا. وما يصح على اوستراليا يصح ايضا على كندا، التي وقعت منذ اواخر سنة 2004 سلسلة اتفاقات مع الصين للمساهمة في تطوير قطاع النفط (الرمال التي تحتوي على النفط) والغاز الطبيعي واليورانيوم. ويقول شفيغ " هذه الاتفاقات يمكن ان تخلق توترات بين الولايات المتحدة وكندا، وخصوصا منذ ان اكد ديك تشيني في تقرير عن سياسة الطاقة لسنة 2001، على اهمية "النفط في الرمال" (Tor sands) لامن الولايات المتحدة في الطاقة"(7).

 

ان سنة 2005 بالتالي شهدت بروزا كبيرا لدور الصين العالمي على الصعد الاقتصادية والحركة السياسية، وفي توثيق علاقاتها مع روسيا والهند وعقد اتفاقات عسكرية معهما في اطار السعي لاقامة قطب عالمي جديد مناوئ للمعسكر الامبريالي الاميركي –الاوروبي مما يعيد ربما تشكيل مظلة سياسية واقتصادية وأمنية  للدول النامية الساعية الى الانطلاق من قبضة  الامبريالية وسيطرة مؤسساتها وشركاتها المتعددة الجنسية.

عين كسور في 4/1/2006

 

غالب أبو مصلح

خبير اقتصادي ومالي من لبنان

1- Foreign Affairs, vol. 84, No 5 p. 106
2- Foreign Affairs, vol 84, No 6 pp. 44-45
3- Foreign Affairs, vol 84, No 6 p. 85 Foreign Affairs, vol. 84, No 5 p. 106
4- The economist Jan. 6th 2006
5- Foreign Affairs, vol 84, No 1 p. 42
6- The Economist, Dec. 17 2005
7- Foreign Affairs, vol. 84, No 5, pp. 30-31