رأي في "مأزق" سنة المعارضة

رشيد كركر، محام من لبنان
 

بعد مرور ما يقارب الشهر على إلقاء الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله كلمته الأخيرة، يمكن مقاربة المضامين والإشارات السياسية لها بطريقة مختلفة لما تظهره وتمظهره "ميديا حزب الله". واستطلاع المحتوى السياسي للخطاب يستوجب ابتداءً ترسيم الحدود الفاصلة بينه وبين الانفعالية الخطابية، والتي غالباً ما تستهدف عواطف المتلقي بحيث تبقي، لا بل ترفع أحياناً، درجة التفاعل بينه وبين محموله من شعارات وأفكار ورغبات.
أول الكلام السياسي في الخطاب تحميله بعضاً من فريق الأكثرية مسؤولية محاولة إسقاط "الاتفاق– الصيغة" الذي ارتسم كنتيجة لجلسات الحوار الماراتونية بين الرئيس نبيه بري وزعيم الأكثرية النيابية الشيخ سعد الحريري. وذلك بما يشبه "مضطبة اتهام" سياسية، لها إشاراتها البلاغية ودلالاتها في الكلام السياسي اللبناني.
وأهم تلك الإشارات أن المعطيات المحلية، بما فيها المسيرة المليونية للمعارضة وثورتها المعتصمة في مخيمات الوسط التجاري، كما الوقائع الإقليمية، وفي أولها الحوارات المباشرة وغير المباشرة الجارية بين الولايات المتحدة وسوريا لن تنتج سياسياً صيغة لبنانية للحكم خارج "الثنائية السنية الشيعية".
وأن أي رهان على مستجد إقليمي يسقط هذه الصيغة هو حلم لم يدخل بعد دائرة المخيال الإقليمي. كما أن أي محاولة لإحداث خرق أو تعديل في حجم القوى المحلية ليس له من سبيل إلا الحرب الأهلية وهذه الأخيرة لا رغبة لحزب الله بها، فضلاً عن عدم تحقق شروطها الموضوعية حتى الآن على الأقل.

تالي الكلام السياسي في الخطاب هو اتجاه الأمين العام لحزب الله لتعداد الإنجازات السياسية للمعارضة. ولعل أبرز إنجاز في هذا المجال هو ما حققه الرئيس نبيه بري من خلال نجاحه في إسقاط محاولة الأكثرية وضع اليد على المؤسسة التشريعية. إما إدراج موقع رئاسة الجمهورية في خانة الإنجازات تلك فتحتاج إلى إعادة درس وتدقيق. لأن فهم بقاء الرئيس لحود في قصر بعبدا حتى اليوم وسر هذا البقاء يتطلب قراءة في صفحة أخرى من هذا الكتاب اللبناني.

إن تعداد الإنجازات يشي بضمور قدرة المعارضة على ابتداع ومراكمة المزيد. وهذا الضمور يشكل إحدى المشتركات الأساسية بين الأكثرية الحاكمة والمعارضة في لبنان.
فالانكماش الذي أصاب الأكثرية الحاكمة نتيجة عجز البعض منها عن كسر هذه الصيغة أو تحسين شروط بقائه داخلها دفعهم إلى الاستعانة بالمستوى الدولي لإعادة الاعتبار إلى رافعتهم السياسية، وهي المحكمة ذات الطابع الدولي، ولو أفضى ذلك إلى انكشاف كلي للواقع السياسي الداخلي في لبنان. كما أن خلو أجندة المعارضة من "المفاجآت" التي تمكنها من إقرار "الاتفاق– الصيغة" كما هو أو تعديله لمصلحة مكون أساسي من مكوناتها أجبر زعيمها السيد حسن نصر الله على اللجوء للغة العرفان السيـاسي حيـن اعترف أن ضرورات المحافظة على الستاتيكو اللاتفجيري تبيح محظور انتظار موعد الانتخابات النيابية المقبلة رغم الحضور الملفت لعنصر المغامرة في هكذا رهان.

جوامع الكلام هنا أن بعضاً من الأكثرية الحاكمة مارس حقه الاعتراضي على الصيغة أو على تفصيلاتها بدافع ذاتي ومؤازرة سياسية أميركية. ونجح الفريق السيادي في نقل الملف اللبناني بكل تفصيلاته من رئاسة الجمهورية إلى حكومة الوحدة الوطنية، إلى الانتخابات النيابية المبكرة، وانتهاءاً المحكمة الدولية، ليصبح جزءاً من الترتيب الإقليمي، وليكون توزيع القوى في لبنان انعكاساً لحجم القوى الإقليمية والدولية وليس لأوزانها الشعبية والسياسية الداخلية. وفي ذلك حضور لمروحة واسعة من الخيارات السياسية التي تميز حركة الأكثرية الحاكمة بغض النظر عن موقعها حيال المصلحة الوطنية العليا!
بالمقابل نلتقط صمتاً يلف سائر أطياف المعارضة حيال موقفها من حوارات "بري– الحريري". وهذا السكون وإن كان مبرراً على الضفة المسيحية بعدما طمأن الرئيس بري البطريرك صفير من خلال "المبعوث الأرثوذكسي النائب غسان التويني" أن قانون الانتخابات المقبلة سيراعي الهواجس المارونية، ليقوم بعدها الجنرال ميشيل عون بزيارة الصرح البطريركي في محاولة لأخذ البركة على أفضل الممكن السياسي للموارنة في هذا الزمن اللبناني. إلا أن هدوء "سنة المعارضة" حيال تلك الصيغة وشروط العيش فيها لا يشبه، بالتأكيد، هدوء ما قبل العاصفة؛ لاسيما وأن حراكهم السياسي لا يشي بقدراتهم حتى على الاعتراض اللفظي عليها.

فالشارع السني أعيد تشكيله وفق نمطية جديدة بعد الخروج السريع للقوات السورية من لبنان تشبه النسق السائد في المكونات السياسية اللبنانية الأخرى. وسبب النجاح في إعادة التشكيل السريع مرده إلى استعداد هذا الشارع لذلك بسبب تداعيات الحقبة السورية، ولغياب الحاضن السياسي البديل. فحزب الله الذي طبع منذ أمد تجربته بطابع "عصبيته الشيعية" جعلها قاصرة عن الذهاب بارتداداتها إلى الشاطئ السني.

هذه الأسباب الذاتية إضافة إلى الإشارة التي أرسلتها "صيغة بري- الحريري" من تسليم مطلق لزعامة تيار المستقبل للساحة السنية وموافقة حزب الله على ذلك التي ترددت أكثر من مرة على لسان نائب الأمين العام والمعاون السياسي للأمين العام تضع إمكانية حجز دور "لسنة الأطراف" في المعادلة الجديدة انطلاقا من الاصطفافات الداخلية أمراً مستحيلاً ولا حماسة لأي طرف داخلي فاعل على دعمه وتأييده.

بقي أن الخيار المتاح لسنة المعارضة لحيازة دور ما في الصيغة التي ستحكم الجمهورية المقبلة، بعد أن اقتصر حضورهم في الحقبة المنصرمة على مد المركز السني بالروافد البشرية والسياسية، هو الإقتداء شكلاً ببعض أجنحة الأكثرية. وذلك بتعزيز حضورهم السياسي في محيطهم الإقليمي وأعني سوريا. التي بات واضحاً أن المتداول من أوراق سياسية إقليمية في يدها آخذة بالتكاثر والتناسل. فمن المفاوضات على مستقبل العراق مروراً باتفاق مكة وانتهاءاً بالكلام الإسرائيلي المتزايد عن اتجاهات سلمية لمستقبل العلاقة مع سوريا،
كلها محطات على طريق حيازة دمشق لموقع متقدم في المنظومة الإقليمية المقبلة. وهذا ليس كلاماً في الرومانسية السياسية وإنما في وقائع واتجاهات سياسية متنامية لا مجال لتفصيلها هنا.

وإننا نرى ضرورة تفعيل العلاقة بين "سنة الأطراف" وسوريا؛ ولسوريا مصلحة بذلك على قاعدة حفظ التنوع. ومنطق التفاعل يستدعي:
1- أن لا تكون علاقة المستوى الأمني مع المستوى السياسي، لأنها لن تنتج إلا علاقة أمنية بامتياز. بل المطلوب علاقة على قاعدة سياسية مفادها ضرورة تفاعل سنة الأطراف بحيوية، لا بعدمية، مع قضايا أمتهم وتعزيز حضور الاتجاهات الحيوية على حساب التوجهات العدمية.

2- إجراء مصارحة انطلاقاً من قراءة نقدية لسالف المسار الذي حكم هذه العلاقة، وذلك على قاعدة التبرؤ من كل محاولات استغلال الحيز الجغرافي لسنة الأطراف كقاعدة تستهدف أمن سوريا.

3- إعادة تفعيل النشاط الاقتصادي الذي يعيد ربط الدورة الاقتصادية لمناطق البقاع والشمال بالحياة الاقتصادية في سوريا، تأسيساً على منطق تبادل المنافع لا استئثار طرف بها.

وأختم أن مشتركاً آخر يمكن العثور عليه في أداء "بعض الأكثرية" و"بعض المعارضة"، وهو الرغبة في الإبقاء على صيغة "التلخيص السياسي داخل كل مكون من مكونات المجتمع اللبناني". وذلك بحيث يكون الاجتماع السياسي اللبناني هو اجتماع هذه الخلاصات. إلا أن هذا المنطق الذي يطارد الحيويات السياسية لمكونات المجتمع اللبناني سيدمر حيوية هذا الأخير كثمرة طبيعية. وأرى أن من أولويات "سنة الأطراف" كسر هذا "التابو" ابتداءاً لصعوبة الابتداء به داخل منظومة طائفية أخرى لاستحكام ثقافة "الغيتو" بها.


24-4-2007

رشيد كركر، محام من لبنان