هذا أوان الشدّ فإشتدي زيم

غالب أبو مصلح

 

 يمر لبنان اليوم بأخطر مرحلة في تاريخه، منذ إنشاء الكيان على يد فرنسا في سنة 1920. بل إن لبنان يقف على مفترق طرق تاريخي، كما العديد من دول المنطقة وأنظمتها، بعد أن أفقدت الأيام النظام اللبناني دوره الإقتصادي في محيطه العربي، كمنتج ومصدر للخدمات التي يحتاجها هذا المحيط. وستفقد الأيام الآتية دور الكيان السياسي، كرأس جسر ومنصة وثوب للإستعمار القديم والجديد، للقفز منه إلى داخل المشرق العربي، وذلك مع إتضاح هزيمة الهجمة الأميركية الصهيونية، المدعومة أوروبيا، على المشرق العربي ومحيطه الإسلامي، الممتد من أفغانستان حتى السودان والقرن الأفريقي.

   فقد عمدت الطبقة الحاكمة في لبنان، ذات الجذور العميقة في التاريخ الحديث، والتي تعود إلى أوائل عهد المتصرفية  في القرن التاسع عشر، على إستعادة دور الكيان والنظام الإقتصادي والسياسي، منذ إنتهاء الحرب الأهلية المديدة عند بداية التسعينات من القرن الماضي. فقد الكيان دوره إبان الحرب والإجتياح الإسرائيلي، وتشظى إلى كانتونات متحاربة، عملت سوريا عبر قواتها المسلحة في لبنان إلى لملمة أشلائه، وحسب صفقة شاملة ترجمت موازين القوى الجديدة بعد هزيمة العدوان الإسرائيلي الأميركي سنة 1982. فقد هدف ذلك العدوان، كما عدوان سنة 2006، إلى هزيمة فكر ونهج المقاومة، ونقل لبنان سياسيا وثقافيا من موقع الممانع والرافض الخضوع للسيطرة الأميركية الإسرائيلية، إلى موقع الجرم الدائر في الفلك الإسرائيلي.

   كان نظام ما بعد سنة 1992، والذي قاده ووضع أسسه الرئيس رفيق الحريري، نظاما هجينا غير قابل للإستقرار والحياة. فالتوجه السياسي الخارجي للنظام، المعبر عنه بوحدة المسارين السوري-اللبناني، وبقيادة سورية ممانعة ومعادية للهجمة الإمبريالية الصهيونية، كان يتناقض بشكل واضح مع تركيبة وتوجهات وعلاقات الطبقة الحاكمة اللبنانية مع المراكز الرأسمالية العالمية، ومع بنية النظام اللبناني، الإقتصادي والإجتماعي، المعبر عن مصلحة هذه الطبقة الحاكمة.

   وأتى إخراج القوات السورية من لبنان بتهديدات وضغوط سياسية خارجية وداخلية، وإبان إشتداد الهجمة الإمبريالية الصهيونية على المشرق العربي، لتزيح القوة الضابطة لهذا التناقض بين التوجه السياسي للنظام وبنية الطبقة الحاكمة وإرتباطاتها الخارجية، المتناسقة مع دورها ومصالحها الإقتصادية.

   كان من الطبيعي أن تسعى الطبقة الحاكمة وأسيادها في الخارج إلى إزالة كل العقبات الداخلية من وجه هذا التحول الجديد، المتجاوز لإتفاق الطائف، ليعود الإنسجام بين التوجه السياسي للنظام وبنيته الإقتصادية. وشكلت المقاومة الصاعدة والمنتصرة، العقبة الأساسية في وجه هذا المشروع الذي مثلته "ثورة الأرز"، حسب التسمية الأميركية. وبالتالي، أصبح إسقاط سلاح المقاومة ونهجها وفكرها، الهدف الأساسي للطبقة الحاكمة اللبنانية وأسيادها في الخارج الدولي والعربي المحافظ والتابع. وشنت هذه الطبقة، عبر سيطرتها على السلطة ووسائل الإعلام، هجومها السياسي والثقافي والإعلامي المتصاعد على المقاومة وحلفائها، رغم إمكاناتها العسكرية والقمعية المتواضعة. ولما فشل هذا الهجوم السياسي الإعلامي الثقافي في عزل المقاومة عن الجماهير وإضعافها، كان لا بد من تدخل خارجي لـ"مساعدة" السلطة اللبنانية، على بسط سيادتها الكاملة على كامل التراب اللبناني_ ما عدا الأرض التي تحتلها إسرائيل_ كما صرح غبطة البطريرك الماروني قبيل العدوان الإسرائيلي سنة 2006، وإبان زيارته للولايات المتحدة الأميركية.

   هدف العدوان الأميركي الصهيوني إلى إجتثاث المقاومة، بنية قتالية وفكرا ونهجا وثقافة، وإلى إلحاق لبنان بالكامل بالمعسكر الأردني المصري، من حيث علاقته بإسرائيل وخضوعه الكامل للإملاءات الأميركية، وتحويله إلى مقر وممر للإستعمار الجديد، يهدد الخاصرة السورية الرخوة في حدودها مع لبنان.

   وتحطم العدوان الأميركي الصهيوني على صخرة المقاومة، وخرجت المقاومة من هذا العدوان أقوى مما كانت عليه، بينما غرق الكيان الصهوني بأزمة شاملة. فقد أظهر عدوان تموز 2006 حدود قدرات هذا الكيان العسكرية في ضبط ساحة المشرق العربي لصالح الإمبريالية الأميركية، وصيانة "المصالح" الغربية عامة في هذه الساحة. فقد إنهار جدار الرعب الذي بناه الكيان الصهيوني بأموال وخبرات أميركية. وهزم الجيش الذي لا يقهر، المسلط على الأمة العربية وجوارها الإسلامي، بغية كبح تطلعاتها إلى المستقبل. فقد أظهر إنتصار المقاومة مقدار تردي قدرة الكيان الصهيوني على القيام بالدور التاريخي الذي أنشىء من أجله كما أظهر طبيعة الأزمة البنيوية لهذا الكيان، عبر تفسخاته الداخلية، الثقافية والسياسية والعسكرية، وسرعة تخلي نسبة عالية من سكانه عنه، عند ظهور المخاطر والصعاب. ولكن هزيمة عدوان تموز لم تؤدي إلى إنكفاء الهجوم الإمبريالي الصهيوني على المقاومة وحلفائها، من الداخل والخارج، بل إزداد العدوان شراسة ووقاحة، على كافة المستويات الأخرى دون العسكرية. فقد سقطت الأقنعة عن الوجوه، وأصبحت الخيانة الوطنية والقومية في لبنان مجرد وجهة نظر تطالب بالإحترام والإصغاء إليها، بدعوى "الديمقراطية" والحريات العامة. وأصبح الإنصياع لأوامر المندوب السامي الأميركي وأعوانه القناصل الغربيين، ووضع لبنان بالكامل تحت الوصاية الغربية تعبيرا عن مبادىء العروبة والإستقلال والسيادة.

   صحيح أن المقاومة أصبحت إلى حد بعيد منيعة ومستعصية عن الأخذ بها بسلاح الخارج الإمبريالي الصهيوني، لكن التناقض الصدامي القائم بين المقاومة وحلفائها، وبين الطبقة الحاكمة المدعومة على كل المستويات من قبل قوى الإمبريالية والصهيونية، ومن قبل دول الـ"الإعتدال" العربي، وخاصة مصر والسعودية والأردن، لا بد من أن ينتهي هذه المرة بغالب ومغلوب، إذا قدر للبنان أن يستقر ويعاد بناؤه كوطن، مهما طال الزمن. فالطبقة الحاكمة على حق عندما ترفض فكرة التعايش مع المقاومة وسلاحها وفكرها، إذ أنها ترى المقاومة نقيضا لقيام دولتها. والطبقة الحاكمة على حق عندما ترفض ما يسمى حكومة الوحدة الوطنية. فكيف يمكن أن تقام وحدة بين نقيضين دون وجود ضابط خارجي ضاغط، كما كان الحال إبان الوجود السوري في لبنان؟ كيف يمكن أن تقوم حكومة وحدة وطنية بين المقاومة وأتباع السيد الأميركي؟ وعندما يكون الصراع مع الإمبريالية والصهيونية صراع مصير، إما التحرر والإنعتاق وإنتهاج طريق النمو الحر المستقل، وتحقيق الأمن القومي بمفهومه الشامل، وإما الإستتباع والفقر وتأبيد التخلف.

   وتتميز المرحلة الراهنة بهزيمة أميركا في العراق ووقوعها في الفخ العراقي الذي يصعب الخروج منه دون إعلان هزيمة مخططها الشامل في المنطقة. فالفخ العراقي يستنزف الطاقات العسكرية والإقتصادية الأميركية بأكثر مما فعلت حرب فيتنام. فقد تضاعف العداء لأميركا في العالم كله، وليس في الوطن العربي والعالم الإسلامي فقط، وفي مرحلة تشهد إنحدار نجم الإمبريالية الأميركية. فبفضل الفخ العراقي، أصبحت كوريا الشمالي وإيران وسوريا في مأمن من العدوان العسكري الأميركي، وأفلتت معظم دول أميركا اللاتينية من براثنها. فقد أصبحت أميركا تخوض حربا يائسة، وتسعى إلى الإنسحاب من العراق، مع الإحتفاظ بماء الوجه، وتأمين إستمرار قاعدتها الصهيونية، عبر العمل على إنهاء الصراع العربي الصهيوني بواسطة أبو مازن وأنظمة "الإعتدال" العربي العاجزة.

   في هذه المرحلة الحرجة، تعمل أميركا للإمساك منفردة بالورقة اللبنانية، وعدم السماح لأية دولة أوروبية أو عربية باللعب على الساحة اللبنانية خارج مخططاتها، أكانت هذه الدولة فرنسا أم السعودية. وتستعمل أميركا الورقة اللبنانية في إطار إستراتيجيتها العدوانية الشاملة على المشرق العربي والإسلامي.

   علينا أن لا ندهش من بروز أصوات "معتدلة" في صفوف فريق 14 شباط في المرحلة الراهنة. فبروز هذه الأصوات لا يشكل خروجا عن الهيمنة الأميركية وسياساتها في لبنان، بل إن أميركا، وبعد أن أحرقت الكثير من أوراقها ومن الرموز السياسية التابعة لها، تهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه في لبنان، في مرحلة إنهيار هجمتها الشاملة على المنطقة العربية الإسلامية. فهي تسعى إلى المساومة مع إيران وسوريا، ومع أطراف المعارضة اللبنانية للوصول إلى حلول وسطى للأزمة اللبنانية، تضمن بقاء وإستمرار النظام اللبناني وبعض رموزه التابعة لها. هذا يستدعي بروز قوة سياسية لبنانية ثالثة، تدعي نوعا من الحيادية، لتمنع حسم الصراع في لبنان لمصلحة مقاومته وعروبته وحريته.

   لا شك في أن تطورات لبنان والمحيط ليست في صالح أميركا والطبقة الحاكمة اللبنانية. ومن غير الجائز بالنسبة للمقاومة وحلفائها للدعوة إلى ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية، إلا تكتيكيا. بل من الضروري من أجل لبنان وشعبه، قيام حكومة وطنية تعيد للبنان وجهه العربي المقاوم القادر على تحرير الأرض والإنسان. فبناء الدولة الوطنية القوية القادرة العادلة لا يمكن أن يتم إلا بعد إلحاق هزيمة شاملة بالطبقة الحاكمة وفكرها ونهجها ومصالحها وارتباطاتها الخارجية. أما سياسة لا غالب ولا مغلوب، فقد تجاوزها الزمن.

   المرحلة الراهنة هي مرحلة مخاض ثوري شامل على صعيد المنطقة كلها، وليس على صعيد لبنان فقط. فالفوضى الخلاقة التي دعت إليها وعملت لها الولايات المتحدة ستعطي عكس ما أرادته لها من ثمار. وعلى قوى المعارضة والمقاومة في لبنان أن تحزم أمرها، وتسعى بكل طاقاتها إلى الإمساك بالسلطة، وذلك حقها وواجبها في هذه المرحلة التاريخية. وإذا ما تقاعست عن ذلك وبقيت في إطار ردود الأفعال في سياستها، فإنها ستتجه نحو الفشل والضياع. والإمساك بالسلطة من أجل إنقاذ لبنان وشعبه، يستدعي رص صفوف المقاومة وتجاوز تناقضاتها، وتأليف جبهة وطنية ذات برنامج إنقاذي شامل، سياسي إقتصادي إجتماعي، يكون مشروع حكم ومشروع توحيد الأكثرية الساحقة من الجماهير اللبنانية، خارج إطار الإستقطابات المذهبية والولاءات الغرائزية والبدائية.

   صحيح أن تطورات المحيط توسع فرص إمكانات التغيير الشامل في لبنان، ولكن تطورات المحيط ليست بديلا عن جهود داخلية كبيرة يجب أن تبذل على جميع المستويات لبناء الكتلة التاريخية الحاملة للتغيير، في أجواء رياح عاتية تهب على المنطقة وتهدد بجرف كل ما هو رجعي وتابع للإمبريالية وأدواتها الصهيونية. إن النظام اللبناني كما الكيان يقع في عين العاصفة، وعلى قوى التغيير أن ترتفع إلى مستوى هذا التحدي التاريخي. هذا أوان الشد، فاشتدي زيم...

عين كسور في 23-7-2007