الأيقونة من محفوظات أبرشيّة قبرص المارونيّة

أسبوع الآلام

القدّاس السّابق تقديسه

(29 آذار 2013)

 


ما هو القدّاس السّابق تقديسه؟


سنتكلم عن القدّاس سابق تقديسه، الذي يُسمّى في كنيستنا المارونيّة "نافور رسم الكأس في يوم الجمعة العظيمة". ففي الجمعة العظيمة، اليوم الذي يظهر حزينًا، تحتفل الكنيسة بموت المُخَلِّص ودفه، بطريقة تُدخِل المُؤمن في جوّ ولاهوت هذا اليَوم الكَبير. فَيَوم الجمعة العظيمة يقع في جوهر إيمان المَسيحيّ بشخص يسوع المَسيح: "وَصُلِبَ عَنَّا على عَهد بيلاطس البنطي، تألَّمَ، وَماتَ، وَقُبِر". نحن نتكلم عن اليَوم الوَحيد الذي رُبِطَ بالتَّاريخ في قانون إيماننا (على عَهد بيلاطس البنطي) نذكر فيه نُزول المَسيح –وهو الله- إلى قعر الموت والجحيم... هذا النُّزول، هذا المَوت ليس بأمرٍ سَهل بالنِّسبة للإنسان! إنَّهُ المُشكِلَة الأكبر، والمُعضِلَة التي لم يَجِد لها حلاًّ، وهوَ يَهرب منه، وَمِن هَجَماتِهِ، باسْتِمرار. هُوَ يرفض الظلم لأنّه موت، ويرفض الألم لأنّه موت، ويرفض العقم لأنّه موت، ويرفض السقوط على أنواعه (انزلاق، انهيار، دُوار، سقوط في الخطيئة...)؛ يرفض السّواد على أنواعه (سواد الموت، الحزن، المرض، الإختناق...)؛ ويرفض الحيوانيَّة والهمجيَّة على أنواعها (الجَرح، الخَدش، تَمزيق اللحم...)؛ كل ذلك لأنَّه مَوت. وَبِرَفْضِهِ للموت على أشكاله، يشحذ الحياة، ويبحث عنها أينما كانت...
في يوم الجمعة العظيمة، يرى الإنسان أنَّ الله ينزل إلى عُقرِ خَوفه، إلى عُقرِ مُعضِلَتِه، وهو الذي لطالما اعتَصَمَ بِهِ هَرَبًا من الموت!... ولكنَّ الإيمان بهذا الإله أقوى من الخوف، ومن الموت... يُعَبِّر عن ذلك أحد البواعيث: "مُبارَكٌ مَن فدانا بموته فأحيانا". هذا اليَوم هُوَ حَزينٌ لأنَّه ينطوي على الألم، وفَرِح في الوقت عَينه لأنَّه ينطوي على الأمل، خاصَّةً وَأنَّ الكَنيسة تحتفل به على ضَوء قيامة المَسيح، الذي تألم وأحيانا، وَهي تُعطيه جوًّا إحتفاليًّا ظاهِرهُ أليم، ليس للبكاء على يَسوع المُتَألِّم، بل للبكاء على الآلام التي تُصيبنا نحن، وَكُلّنا أَمَل بِأنَّ مَن حَمَلَ آلامنا هو يُزيلها بقيامته.

 

كيف يُحتفل بهذا القدّاس؟


النافور الذي يُحتفل فيه اليوم، وضعته كلية الليتورجيا في الكسليك قيد التّجربة، مأخوذ عن النّافور الأصلي الوارد في كتاب القدّاس المطبوع في دير مار أنطونيوس- قزحيا. نلاحظ في النّص وجود مقاطع كاملة مأخوذة حرفيًّا عن نافور"شَرر"، وذلك إشارة واضحة إلى قرابة بين النّافورَين... والبطريرك اسطفان الدويهي في ختام تعداده للنّوافير المعروفة في عصره يقول: "ثُمَّ يوجَد أيضًا نافور "رُشِم كُوسو"، (أي رسم الكأس) الذي يُقال في الصيام الكبير وأسبوع الآلام على القربان الذي سبق تقديسه ومقالاته متّصلة بنافور بطرس الذي بدؤُه "شرر" ولا يَبعد أن يكون هذا الرّسول هو الذي رتّبه وقدّسه قبل الكل". وما يميّز نافور رسم الكأس عن نافور "شَرر"، هو غياب كلام التّأسيس، لأنَّ الجسد قد تقدّس سابقًا. فكيف كان الأقدمين يحتفلون بهذا النافور؟
- يتقدّم الكهنة والشّمامسة بثيابهم البيعيَّة والأجراس تُقرع حزنًا، نحو السّاعة الثّالثة من بعد الظّهر، يُصَلّون الفرض، ويضعون على المذبح كأسًا ممزوجة خمرًا وماء. في هذا الوقت يكون البذبح عاريًا من الأغطية، دلالة على عري المصلوب.
- يتقدّم الكاهن من المذبح ويضع البخور. ويقول البطريرك الدويهي أنّ في هذه الحركة دلالة على التّوبة. ففي هذا اليَوم يوضع البخور ويُترك ليتضَوَّع عطره بدون تبخير (أي بدون هزّ المبخرة)، وذلك رمز للحزن. يكمل المحتفل القدّاس حتّى نهاية قراءة الإنجيل والعِظَة.
- عند وصول المحتفل إلى رتبة السّلام، لا يُسَلّمون مصافحة لأنّ هذا اليوم ليس بيوم وفاق، ولا يسلّمون بالقبلة. فيُشَدِّد الدوَيهي: "لنسالم بعضنا بعضًا لا بالفم والقبلة فقط كما صنع يوضاس وأهل العالم الذي لا سلامَ لَهُم، بل بمحبّة صادِقَة وأمانة وَثيقة لِيُسَرَّ بِهِما الله"، فقبلة الوجه في هذا اليَوم تُذَكِّر قُبلة يوضاس، وهذا اليَوم العَظيم هُوَ يَوم ألم، لذلك يأتي السَّلام بشكل عِناق وتقبيل الكتِفَين.
- بعدها يتلو المحتفل النّوايا، ويضع البخور ثانيةً، ذاكرًا العذراء، الأنبياء، الرّسل، الشّهداء، الأحياء والأموات، وبعدها يذكر التّدبير الخلاصي ويُنشد الشّعب "قدّوس"، وبعدها يستدعي الكاهن الرّوح القدس على الكأس ليجعلها دم المخلّص.
- هنا لا يُقال الكلام الجوهري، بل يذهب الجميع إلى حيثُ القربان المصمود من يوم خميس الأسرار، ويحملونه بالتّرانيم والشّموع والبخور إلى المذبح حيث الكأس. ولا يُسمّ هذا زيّاحُا لأنَّ اليوم يتم نقل جسد المسيح الميت إلى القبر، ونحن نعلم أنّ المذبح يرمز إلى قبر المسيح.
- بعدها يبدأ المحتفل برسم الكأس (من هنا إسم النّافور)، فبينما يرنّم الشماس، يقول الكاهن سرًّا "آمَنّا وتقدّمنا"، ويرسم 9 صلبان بالجسد على الكأس ويكمل: "نختم ونرسم هذه الكأس المقدّسة باسم الآب الحي للحياة (يرسم 3 صلبان) والإبن الوحيد المولود مثله الحي للحياة (يرسم 3 صلبان) والرّوح القدس (يرسم 3 صلبان) مبدأ وغاية وكمال كل ما كان ويكون...". ويقوم بذلك كله من دون كسر القربان. لماذا يرسم المحتفل ثمانية عشر صليبًا؟ على عدد أصناف العذاب التي أنزلها اليهود، تسعة في المدينة، وتسعة على الجبل. يروي الدويهي مُستَنِدًا إلى شَواهِد كِتابيّة من العهدَين: آلموه بأفكارهم (1) وأقوالهم (2) وأفعالهم (3) سلبوه ثيابه (4) جلدوه (5) كللوه بالشّوك (6) أحاطت به كلاب (يقصد بهم اليهود) كَثيرة (7) جروه من البستان إلى بيت حنان ومن بيت حنان إلى قيافا (8) ومن بيت قيافا إلى بيلاطس وحمل الصّليب (9). والتّسعة الأخرى لأجل عذابه على الجلجلة، فاحتقروا سلطانه (10) ثقبوا يديه (11) طعنوا جنبه بحربة (12) سَخِروا منه (13) صارَ لَهُم عارًا (14) نظروا إليه بغضب (15) أسقوه الخل والمر (16) أماتوه (17) أسلم روحه (18). وفي السَّابق كانت هذه الصُّلبان تُرسَم بالصَّمت دلالة على الحزن الشّديد. بعد ذلك يرفع الكاهن القربان ويقول: "يا قربانًا شهيًّا قُرِّبَ عَنّا...".
- هنا، ولأنّنا نلنا الخلاص بآلام المخلّص، يقول المحتفل "السّلام لجميعكم" وتصير رتبة التّوبة.
- بعدها، يكسر المحتفل الجسد ويكسر أيضًا جزءًا صغيرًا (الجمرة) ويضعها فورًا في الكأس ويقول "وحّدت يا رب لاهوتك بناسوتنا..."، ويقول البطريرك الدويهي: "وأما في القداس السّابق تقديسه الذي يصير في نافور رسم الكأس"فلم تأذن البيعة للكاهن بعد أن يكون قسم الجوهرة (...) أن يأخذ مما في الكأس ويرسم به أجزاء الجوهرة كما يصير في سائر القداديس بل أن يأخذ جزءًا من الجوهرة ويرسم به ثلاثة صلبان فوق الكأس ثم يُلقيه فيها وسبب ذلك أنه في هذا النافور لا يصير تذكار قيامة الرب بل تذكار دفن جسده الذي في نهار الجمعة ما كان قام بعد من القبر ولا عادت إليه الروح بل نرسم بالجوهرة ثلاثة صلبان على ما في الكأس حتّى تتبارك الخمر التي تكون ساذجة لكنها تتبارك بوضع الجسد". وبعدها يتناول المحتفل والشّعب كالعادة.
بعد أن أظهرنا كيف احتفل الأقدمون بنافور رسم الكأس، نورد هنا بعض الإقتراحات الرّعويّة لتفعيل الإحتفال بهذه الرّتبة في رعايانا اليوم...
إنَّ تَوقيت الإحتفال في الرتبة "القديمة" هو عند السَّاعة التَّاسعة، أي الثّالثة بعد الظُّهر بتوقيتنا اليوم. والأساس الكِتابي واضح عند الإزائيين الثّلاثة: مت: 27: 46، مر15: 33، لو23: 44، وتُكمل القراءة الكتابية الموجودة في النّافور الفكرة، بِحَيثُ أظهر الإنجيلي يوحنّا كيف أنَّ اليَهود استَعجَلوا الرومان لِيُنزِلوا المَصلوبين لأنَّ حلول السّبت اقتَرَب، أي تخطّى الوقت السّاعة التاسعة وها هو يدنو من الثّانية عشرة -التي تُوافق السّادسة مساءً بتوقت اليوم- وهي موعد حلول اليوم التّالي.


نحن إذًا ليتورجيًّا، في يوم الجمعة العظيمة، أمام التّرتيب التّالي:
1- صلاة مساء يوم الجمعة العظيمة، حيث يكون القربان محفوظًا من قدّاس خميس الأسرار.
2- صلاة الستّار.
3- صلاة نصف الليل مع السّجدة أمام القربان المحفوظ في القومة الثالثة.
4- صلاة الصّباح عند السّاعة الأولى، أي السّادسة صباحًا بتَوقيت اليوم.
5- صلاة السّاعة الثّالثة، أي التّاسعة صباحًا بتوقيت اليوم.
6- صلاة نصف النّهار.
7- رتبة سجدة الصَّليب وفيها قراءات الإنجيليين الأربعة التي تتكلّم عن موت يسوع. هذه الرّتبة يجب أن تنتهي عند السّاعة التّاسعة على ما حَدَّدَ الإزائِيُّون.
8- نافور رسم الكأس، إذ بعد صلاة الساعة التّاسعة التي تحتفل بموت يسوع، يأتي وقت الإنزال عن الصليب والدّفن على ما أخبر يوحنّا الرّسول، ويتمّ الإحتفال به قبل حلول السّبت، وينتهي الإحتفال والصَّليب مدفون، وبيت القربان فارغ، والأنوار مُطفأة، والمذبح عُريان، وروائِح البخور مُبطَلَة.
لم تُحَدِّد الرُّتبة التي وُضِعَت قَيد الإختِبار وقت الإحتفال بالنّافور. إلاَّ أنَّ الأغلبية السّاحقة من كهنة الرَّعايا يحتفلون بهذا النّافور صباحًا. وهُنا يظهر بعض التّناقُض. فالإنجيليّون تكلَّموا عَن هذا اليَوم بِتَفاصيله، وما أهملوا أي جزء منه، وهو اليوم الوحيد المُرتبط بالتَّاريخ في قانون الإيمان، كما قلنا سابقًا. وقد درجت عادة آباءنا على الإحتفال بهذا اليوم ساعَةً بِساعة على ما جاء في الإنجيل. فكيف يحتفل اليوم الكهنة بنافور رسم الكأس صباحًا، ومن بعدها يدفنون الصَّليب؟


لذلك نقترح أولاًّ تنظيم أوقات الإحتفالات في يوم الجمعة العظيمة، بِحَيثُ يُحتفل بها بحسب المَواقيت التي عرضناها أعلاه، لكي يتَسَنَّى للمؤمن الدّخول في جَوّ هذا النّهار والمشاركة في الإحتفالات بطريقة تَضَعه في أهميَّة هذا النّهار الرّوحيّة. وهذا ليس بمشكلة بالنِّسبة لأغلب المُؤمنين في كنيستنا خاصّةً وأنَّهم اعتادوا منذ الصِّغَر على مُلازمة الكنيسة يوم الجمعة العظيمة.
في هذا اليَوم المُمَيَّز –على ما جاء في مقدّمة البحث- يجب أن يكون استعمال الأدوات الليتورجيّة، وشكل الكنيسة مُمَيَّزًا أيضًا.
1- الجَرَس يُقرَع حُزنًا في هذا اليَوم، خاصَّةً عند دعوة المُؤمِنين إلى الصَّلاة.
2- لباس الكهنة يتميَّز باللون الأسود، الذي يرمز إلى الموت، الظُّلمة، الألم والسُّقوط.
3- المذابح الصَّغيرة مُوَشَّحَة بالسَّواد دلالة على الألم والموت.
4- المذبح الكبير عُريان من أغطِيَتِهِ دلالة على عُري المَصلوب على صَليبه.
5- تُطفأ الأنوار ولا تبقى سوى شمعة اللص اليمين مُضائة بجانب القبر الذي فيه يُدفَن الصّليب.
6- تُوَشَّح أيقونة العذراء بالسَّواد: "وأمَّا أنتِ، فَسَيْفُ الأحزانِ سَيَنْفُذُ في قَلْبِكِ" (لو2: 35ب).
كُل ذلك ليدخل المُؤمن في جوّ ولاهوت يوم الجمعة العظيمة، إذ من خلال هذه المظاهر يفهم مدى أهميَّة ما يجري.


في هذا اليوم العظيم، كما في كُلّ أسبوع الآلام لا يُقال: "السَّلام لجميعكم" ولا "السَّلام للبيعة ولبنيها" لأننا في وقت حُزنٍ وليس في أيّامِ سلام؛ ما عدى خميس الأسرار الذي فيه تعيّد الكَنيسة تَأسيس يسوع لسرّي الإفخارستيا والكهنوت خاصّةً، ووقت نافور رسم الكأس... فما هِيَ العناصر التي تُمَيِّز الإحتفال بنافور رسم الكأس؟
1- البخور: يوضع في المبخرة في أوانه، ولكن دون تحريك المبخرة للتّبخير. لأنَّهُ في هذا اليَوم لا يُنشَر الطِّيب (دلالة على البشارة) بل يُسكَب سَكبًا دلالة على التَّحنيط والتَّوبة.
2- السَّلام: لا يُعطى كالعادة من المذبح، وَيُوَزَّع باليَدَين المَضمومتين، بل، يَتبادل المُؤمِنون قبلة التّعزيَة التي هِيَ ضَم الشّخص على مُستَوَى الكَتِفَين، دون تقبيل الوجه.
3- الزياح: بعد الـ"قُدُّوس" يتوجّه الجميع إلى حيثُ صُمِدَ القُربان من يوم خميس الأسرار، وعلى المُؤمن أن يفهم أنَّ يسوع ميت على صليبه، وبإنزال الجسد عن مكان صَمدِه وزياحه حتّى المذبح الكبير، يكون قد رافق إنزال يسوع عن صليبه، ومشى وراء جسده الميت إلى القبر. لذلك يكون الزياح بترنيم خاشِع، ويُرافقه إن أمكن قرع الجرس حُزنًا (وقد درجت هذه العادة منذ القديم في كثير من الكنائس)، مع الشُّموع (فقط وقت الزياح) والبخور (يوضع في المبخرة من دون تبخير).
4- رسم الكأس:
• يُصَلِّب الكاهن بالجسد على الكأس تسع مرَّات عندما يقول "آمنَّا وتقدَّمنا..."، ويُصَلِّب تسع مرّات أُخرى عندما يقول "باسم الآب الحَي للحياة..." من دون أن يكسر القربان، ولا يقول "وحَّدتَ يا رب"، بل يقول مع الشَّعب "يا قُربانًا شَهِيًّا" من دون رفع الكأس. في هذا الوقت يُفَضَّل ألاّ تُقال التّرانيم المعهودة لرفع الكأس، بل أن يقول الشّماس أحد الأناشيد التّعليميَّة (مثلاً: أيّها الرب إلهنا/ يا ذبيحًا رُفِعتَ على الصَّليب/ رفعت الخليقة نحو باريها العجيب/ ندعوك استجب دُعاءَنا يا رب...).
• بعد رسم الكأس تكون رتبة التّوبة كما ينصّ عليها كتاب القُدَّاس، وفيها يقول الكاهن "السّلام لجميعكم" لأنَّ سلامنا أتى من رحم آلام وموت الرَّبّ يسوع.
• بعد رتبة التَّوبة، يصمت الجَميع، علامة للموت، يكسر الكاهن الجسد، يأخذ منه الجمرة، ويضعها في الكأس مع الدّم من دون أن يرش الدّم على باقي الجسد الذي في الصينيّة (وذلك يرمز إلى الموت لأنَّ رش الدّم على الجسد يرمز إلى عودة الحياة إليه)، ويقول بصوتٍ خافت: "وحّدت يا رب...".
• من بعدها يرفع بيمينه الكأس ويقول: "الأقداس للقدّيسين ..."، وتأتي المُناولة ويليها الشُّكر.
هذه الرُّوبريكات التي عرضناها أعلاه هِيَ -برأينا- الأقرب للنّص الأصلي والأقرب لما ألِفَتهُ آذان المُؤمِنين من صلوات في أيّامنا هذه. لذلك نقترح الإبقاء على الإحتفال بالنَّافور كما وضعته جامعة الرُّوح القدس- الكسليك قيد الإختبار، مع الأخذ بعين الإعتبار الرّوبريكات التّي اقترحناها.

 

بعض الرّموز من هذا القدّاس


- الكأس: تصف الحساية بوضوح ماهِيَّة الكأس التي هِيَ في الواقع موضوع النّافور ككل. فالكأس ترمز إلى المَسيح المُتَألِّم المُرتَفِع على الجُلجُلَة، فكان الكأس التي عُصِرَت بِعُنفٍ مُميت وكان عصيرها حياة للمائتين. هذه الكأس هِيَ كَأس الشُّكر والخلاص والغسل من أثار الخطيئة، ومُعطِيَة الحياة الجديدة، إنَّها كأس المَدعوِّين التي تُعطي الفرح، وتَفتَح أرض الجنَّة. هذا ما قاله النّافور عن الكأس. فإذا نظرنا إلى رمزيته الأنتروبولوجيّة، نرى أنَّ الكَأس تَرمز إلى الوفرة (l’abondance)، ويُمكِن أن تَحوي أيْضًا عَدَم المَوت (l’immortalité). فالكَأس هِيَ حاملة الدّم مبدأ الحَياة؛ هِيَ تَرمُز أيْضًا إلى قُبول الإنسان عَطِيَّة الله وَمَشيئَته، كما يُسكَب في الكَأس، فَتَطفَحُ بَرَكاتٍ وَهِبات (مز24: 5). والكأس هِيَ أيضًا الينبوع، الذي يُعتَبَر في كُلّ الثَّقافَات الشَّرقِيَّة فَم الماء الحَيّ، أو الماء العُذريّ، فاليُنبوع بالنِّسبَةِ للشَّرقيين، هُوَ أوَّل ظُهور حَقيقي لِما هُوَ أساسُ الحَياة: الماء الذي بِدونِهِ لا تَوالُد ولا حَياة. وَمِياهه الحَيَّة شَبيهَة بِمِياهِ الأمطار، بِذارِ السَّماء، وَعِندَ الحَضارات المُتاخِمَة للفُرات تُعتَبَر مياه النّبع دَم الآلِهَة. لذا، فالنّبعُ يَرمُزُ إلى الأمومَةِ التي تَلِدُ على الدَّوام. أوَ لَيْسَت الكَأس، كَأس الآلام، يُنبوعًا يَدفُقُ منهُ ماءً حَيًّا هُوَ كَلِمَة الله، وَدَمًا حَيًّا يَرمُزُ إلى الرُّوح المُحَرِّك الذي يَبُثُّهُ الله في أجْسامِ البَشَر لإحْيائِها؟ ألا تَحمل شَهادة الدّم التي أدَّاها المَسيح رَمز الأمومَة- النَّبع، لأنَّها تَلِدُ للآبِ أبْناءً جُدُدًا، وَكَنيسَةً عَظيمة؟


- الجمرة: الجمرة هي بداية موت النّار، وبداية حياتها في الوقت عينه. فإن تُرِكَ عليها الرّماد خَمَدَت، وإن أُزيحَ عَنها تَأجَّجَت. فهي في نفس الوقت إحتمال موت وحياة. فهي تُعطي الحياة للنّار وتأخذ الموت من الرماد. فيها قُوَّة النّار كامِلَة، وجُمود الرَّماد. وبحسب باشلار، فإنَّ الحب هُوَ النّظريّة العِلمِيَّة الأساسِيَّة التي تُفَسِّر وجود الجمر، فهوَ قبل أن يكون إبن الخَشَب، فهو إبن الإنسان. فهو الذي حَكَّ الخشب، وبتعب يديه وعرق جبينه حَصَلَ على الجَمر، وأجَّجَهُ لِيُصبِحَ نارًا. فالمسيح عندما أعطى دمه "عربون الحياة الأبدية" وكأنَّ بِهِ يضع فيه قُوَّة عدم الموت، المُتَأتِّيَة من النّار التي في الخمر: تَوليفة الماء والنار. لذلك لا تطفأ الجمرة في الخمر (رمزيًّا) بل تبقى مُتَّقِدَة. وفي آلام الإنسان، يشعر بألَمٍ حارِقٍ في مَعِدَتِهِ، وكأنَّ الجَمرَ يُحرِقها... من هنا يتَّصِل الجَمر بالآلام، خاصَّةً النَّفسيَّة- الدّاخليّة.


- الدّم: في النافور يظهر الدّم الغافر الذي أُريقَ على الصَّليب. ولكن، لا يتوقّف عند هذه الصّورة، بل يظهر أيضًا على أنَّهُ مصدر حياة، إذ يرتسم بِهِ الشَّعب، فَيَخلُص مِنَ المَوت. فالدّم يَرمز إلى كُل القِيَم المُرتبطة بالنَّار (راجع رمز الجمرة)، وبحرارة الحياة المرتبطة بالشَّمس. إلى هذه القيمة، تَنضَم قِيَم أُخرى تَتَعَلَّق بِكُلّ ما هُوَ جمال وَقِيَم وَرِفعَة... وبذلك تَتَّصل رمزيّة الدّم باللون الأحمر الذي يرمز إلى مبدأ الحياة. فالدّم هو بالنِّسبة لكل الشُّعوب "ناقل الحياة"، لا بَل "هُوَ الحياة" إن دخلنا في مفهومه التّلمودي. وحتّى إن نظرنا إلى أساطير بلاد ما بين النَّهرَين، نرى أنَّ الدّم الممزوج بالتُّراب هُوَ الذي أعطى الحياة للكائِنات. والدم مُرتبط أيضًا بحرارة الحياة التي في الأجساد، إذ يستحيل أن يكون في الجسد حرارة (علامة حياته) إن لم يكُن في عُروقِهِ دَم (لذلك لا نستغرب رمي الجمرة في الدّم، لأنَّها لن تنطفئ، بل، ستتأجَّج من قُوَّة الحياة التي في الدّم، وسَتَكون حرارتها دَفع الحياة الذي في الدّم). من هُنا نفهم ما يقوله نصّ النّافور عن الشَّعب الذي يرتسم بالدّم فينجو من المَوت: فالأجساد المائتة لن تعود لها الحياة إلاَّ إذا امتزجت بها الحياة (أي الدّم). من هنا نفهم أهميَّة ما قاله يسوع في العشاء الأخير: "هذا هو دمي"، ومن هنا نفهم أهميَّة إراقة الدّم على الصَّليب، خاصَّةً، الدّم الممزوج بالماء الذي نزل من جنبه بعد أن طُعِن. فماذا يعني الدّم الممزوج بالماء؟ ليسَ هُناكَ مَعبَد أو كَنيسة، أو أي مَكان ديني، خاصّةً إذا كانَ عَريقًا في التّاريخ، لا نجِدُ فيهِ بِِئر أو نبع، أو لا يَكونُ مَبنِيًّا على مَجرَى مائِي أو ما شابَه... بِقٌربِ الماء يُولَد الحُبّ، تُبنَى الزّواجات.... فالماء ارتَبَطَ ارتِباطًا وَثيقًا بالأُلوهَة، وَهو عَطِيَّةٌ مِن الله القادِر أن يُخرِجَها مِنَ الأرض، كَما أن يُنْزِلها مِن السّماء. لِذا فَالماء هو حامِل السّلام، والنُّور، والحَياة، حَتَّى في قَلب الصّحراء: الواحَة. لِذا، فَطَلَب الماء هوَ مَوضوع صَلاة، وَإن هَمَى المَطَر، اسْتَشَفَّ إسرائِيلُ رِضَى الله، وَتَنَسَّمَ سَلامَهُ: "لِنَعْلَمْ وَنُتابِعْ مَعْرِفَةَ الرّبّ. طُلوعُهُ ثابِتٌ كالفَجْرِ فَسَيَأتي إلَيْنا كالمَطَر، كَمَطَرِ الرَّبيعِ الذي يَروي الأرض" (هو6: 3). والعادِل، هُوَ الذي يُشبِهُ شَجَرَةً مَغروسَةً على المِياه: "كَجَنَّاتٍ على نَهر، كَعودِ نَدٍّ غَرَسَها الرَّبّ، وكَأرزٍ على المِياه" (عد24: 6)، بِهذا المَنحَى، يَظهَرُ الماءُ على أنَّهُ عَلامَة بَرَكَة. هُوَ عَطِيَّة الله، التي تَنِمُّ عَنْ حِكمَتِهِ: "بِعلْمِهِ تَفَجَّرَتِ الغِمارُ وَالغُيومُ قَطَرَتْ نَدًى" (أم3: 20). فالدّمُ الممزوج بالماء هُوَ المُعطي والعَطِيَّة في آن، هُوَ مَبدأ الحياة والحياة. لذلك لا يُرَشّ الدّم على الجسد في نافور رسم الكأس لأنَّ في ذلك علامة لعودة الحياة إلى الجسد، فيه قُوَّة عدم الموت، في حين أنَّ الكنيسة تحتفل في هذا اليوم بموت المسيح.



الأيقونة
من محفوظات أبرشيّة قبرص المارونيّة

من إعداد
الإكليريكي فؤاد فهد
fouad.fahed@hotmail.com
https://www.facebook.com/fouad.fahed.92