|
![]() |
مفهوما الله والدين في كتاب الهويّة وثقافة السلام
مقدّمة
في كلّ روضةٍ غنّاء زهور وورود وشجر، يسرّح المرء نظره فيها فيتوقّف هنيهةً هنا
ليعود ويتأمّل هناك فيشابهُ بذلك الفراشة في تجوالها الحرّ والمرح.
كتاب "الهويّة وثقافة السلام" روضةٌ عنّاء ملآنةٌ بورود فكرِ إنسانٍ عرفته شكلاً
فقط ولكنّي تعرّفت إليه وإلى فكره من خلال كتابه "الهويّة وثقافة السلام"، عنيت
طبعاً الأستاذ فؤاد بدوي بطرس، وهذا برأيي يزيد حظوظي في تقديم قراءةٍ أكثر
موضوعيّة لمفهومي "الله والدين" في هذا الكتاب الّذين طلب إليّ الدكتور فؤاد سلّوم
دراستهما، في صيف العام 2008، ما بعد وفاة المؤلّف، تمهيداً لندوةٍ حول الكتاب حالت
ظروفٌ متعدّدة دون عقدها.
لذا، في ذكرى مرور سنة على وفاة الأستاذ فؤاد بدوي بطرس، ارتأيت نشر هذا الموضوع
تكريماً وعرفاناً لعطائه الفكريّ والثقافيّ، ساعياً قدر الإمكان لإجراء مقاربتي
للمسألتين المذكورتين من خلال نصّ الكتاب نفسه، حرصاً على الأمانة لفكر المؤلّف
ولنمطه في عرض مكنونات قلبه.
1- مفهوم الله في الكتاب
في الصفحتين 67 و 68 من الكتاب، كتب الأستاذ فؤاد "ليس صحيحاً أن نحدّد الإنسان
بأنه حيوان ناطق. إنه يختلف عن الحيوان بالوعي".
هذا التعريف يعتبر قمّةً في الاعتراض على قرونٍ طويلةٍ من ربط الإنسان بالحيوان
وكلّنا يعلم أن هذا الربط ابتدأ مع الفلسفة اليونانيّة واستمرّ حتى قيام علم
الانثروبولوجيا الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر ولم يخرقه سوى ما قدّمه الكتاب
المقدّس ومن بعده القرآن من تعريف يستند إلى ربط الإنسان بالله بكونه على "صورته
ومثاله".
في الصفحتين 78 و 79 اعتبر الأستاذ فؤاد أنّ وعي الإنسان هذا هو
الّذي دفعه للبحث عن الله. يقول:" منذ فجر التاريخ والإنسان، الوحيد الذي يتمتّع
بالوعي بين بقية المخلوقات، يعرف أن له ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وأنه سيموت ومن
هذا المنطلق فتّش عن الحماية، عن مخلّص يساعده فكانت في لا وعيه إضاءات عدّة: عبادة
الأصنام، عبادة عناصر من الطبيعة كالشمس والقمر والرعد، عبادة الأقوى في قبيلته،
عبادة الملوك الذين كانوا بالنسبة إليه يستمدّون سلطانهم من الله بعد أن تعرّف إلى
الله".
أضاف الكاتب في ص.92 ما مفاده: " من أهمّ مميِّزات الإنسان إحساسه بأنه ينتمي الى
من هو أكبر منه. يُفتِّش عن قوي خارج ذاته فهو ينتمي الى عائلة، الى مجتمع، الى
أمّة دون أن يهمل انتماءه للكون ولخالقه". وفي مكانٍ آخر من نفس الصفحة كتب:"
الصلاة والصوم هي مؤشِّرات انتماء لكائن اسمى من الإنسان وانت حرّ في أن تسمّيه
الله أو تعطيه إسماً آخراً".
نستنج إذاً أنّ علاقة الإنسان بالله ركنٌ أساسٌ من أركان بناء
الهويّة الإنسانيّة، خاصّةً إذا أخذنا بعين الاعتبار التحديد الوارد في ص.9:"...
فإنسان اليوم الّذي يفكّر وينشغل كثيراً وكليّاً بعلاقته مع الآخرين ينسى أنّه هو
و"الآخرون" وبقيّة الكائنات يشكّلون وحدة الحياة في هذا الكون المنسّق بإبداع من
قبل خالقه."
ولكن من هو هذا الله بنظر الكاتب؟
يجيب الأستاذ فؤاد في الصفحات 92 حتى 94 قائلاً:" الله لا يمكن تحديده بكلمات. هناك
تصوّر أو مفهوم قدّمته لنا الأديان فهو آب ضابط الكل – رحمن رحيم – روح نقيّة غير
محتاجة لتكملة وهو خارج إطار الزمان أو المكان... تصوّر الإنسان لله مسألة تجريد،
مسألة تتعلّق بعتبة التفكير عنده".
وبالتالي، فكلّ محاولةٍ لتعريف الله، بالنسبة للكاتب، لا تعدو
كونها محاولة لتقليد السيّد المسيح الّذي "كان يتحدّث بأمثال لتقريب مفهوم الله من
العامة". ويستنتج في الصفحات 95 إلى 97: "لم يصل بعد كلّ الناس حتى الآن الى فهم
الله وعبادته كما يجب" ليعود ويستفزّ مفهوم الإيمان في داخلنا عبر قوله في الصفحات
99-100:" الله محبّة وهو منذ البدء يُشرق شمسه على الأخيار والأشرار ويهب الحياة
بالتوازي لكل الناس. الله لا يتغيّر فلماذا نحاول إعادة صياغته حسب حاجاتنا
ورغباتنا. على كل إنسان أن يعرف أن ممارسته لدينه خدمة له وليست خدمة لله السؤال
البديهي: الإنسان بحاجة الى الله أم الله بحاجة الى الإنسان؟ عندما يجيب بصدق على
السؤال تنتفي أسباب الحروب الدينية والطائفية."
لا يناقش الكاتب إذاً موضوع وجود الله في كتابه بل ما يعنيه هو انعكاسات تشوّه هذا
المفهوم لدى الكثير من بني جنسنا والّتي تظهر تحديداً في مفهومهم للدين وفي
ممارستهم بل قل في ممارساتهم السطحيّة للدين والبعيدة جداً عن جوهره كما سيتبيّن
لنا في القسم الثاني من هذا البحث، أي مفهوم الدين في الكتاب.
1- مفهوم الدين في الكتاب
نظرة الأستاذ فؤاد إيجابيّة إجمالاً كما يظهر في الصفحة 99:" الأديان طريق الى الله.
الله في آخر الطريق".
ولكن هذه الإيجابية تجاه الله تنقلب إلى سلبيّة في ما يختصّ بالإنسان كما يظهر في
الصفحة 77:" ليس هناك عيب في الدين ولا في علم الأخلاق. العيب في الإنسان وعدم
قدرته على "ولادة جديدة" تضعه على المسار الصحيح".وبكلامٍ أكثر وضوحاً يردف الأستاذ
فؤاد في الصفحات 14 و15: "العيب ليس في الحياة إنما في الطريقة التي يعيش بها
الإنسان في هذه الحياة". ﻓ"الحياة على الأرض" كما كتب في الصفحة 9:" معدّة أصلاً
لتكون فردوساً إذا تناغمت حاجات الإنسان مع عدالة هذه القوانين (الطبيعيّة) التي
تتوزّع بدقّة على جميع المخلوقات. لا يستطيع الإنسان تغيير هذه القوانين لأنّ
الحياة تنتج عنها ولكنّه للأسف يستطيع تخريبها".
يغوص الكاتب أكثر في عمق المسألة عندما يعتبر، في الصفحة 13، أنّ:
"الإضاءات التي سلّطت عليه (الإنسان) من الدين والفلسفة وعلم الأخلاق لم تتخطّ "لعبة
أضواء" على مسرحٍ قديمٍ مظلم يرى فيه الحضور النور من بعيد وهم ملفوفون بالعتمة
وبالتالي لم يخترق هذا النور وجدانهم ويغيّر في سلوكهم." ويضيف في الصفحة 22:"كان
ولا يزال يفتّش عن أسرار الحياة في الأرض والجوّ والبحار وهذه الأسرار موجودة في
داخله ولا يستطيع اكتشافها في أيّ مكانٍ آخر. لقد حاول أن "يربح العالم لكنّه خسر
نفسه" لأنّه لم يوجّه انتباهه إلى ما في داخله، إلى حقيقة وجوده".
نعم لقد خسر الإنسان نفسه لأنّه، كما يتوضّح في الصفحة 29، "الإنسان
الّذي خلقه الله أعرب عنه وخلق هو المال وعبده محقّقاً كلّ رغباته وغرائزه ومعتبراً
إياه هدفاً لحياته متنازلاً عن هويّته الحقيقيّة ليتّخذ موقفاً عدائياً من القوانين
الطبيعيّة وساعياً لتدمير ذاته".
ويلخّص الأستاذ فؤاد في الصفحة 91 الجوهر اللاهوتي لهذا السلوك
من خلال يقينه بأنّ:"الصراع بين الخير والشر أساساً هو صراع بين الله والشيطان تحول
في عالمنا الحالي إلى صراع شياطين بفضل تعاليم وتقاليد وسلوكيات تبعد الإنسان عن
معرفة الذات – ذاته الحقيقية – وتلفه بمعتقدات خاطئة وضع عليها حجر الأساس لبناء
المجتمعات القائمة حالياً."
نفهم بذلك ما قصده في الصفحتين 99 و100 :"الذين يولدون من أبوين مسيحيين أو مسلمين
أو .... دون أن يتعلّموا قيم الدين المنتمين إليه يظلون في أول الطريق ويعيشون في
فراغ روحي يملأونه بحاجات أخرى: التملّك، المال، السكر، المخدرات، الجنس... ".
يميّز الأستاذ فؤاد إذاً ما بين الممارسة الدينية والإيمان
الحقيقي كما يظهر في الصفحات 94-95:" الإيمان الحقيقي بالله من أسمى حالات الوعي
ولكن للأسف يستطيع الإنسان أن يمارس الطقوس الدينيّة وان ينتزع من ذاكرته كل
محتويات كتابه المقدّس يردّدها دون أن يعيشها يردّدها ببغائياً وهذه ليست عبادة أو
إيمان حقيقي".
هنا لا بدّ من السؤال: هل يكتفي الأستاذ فؤاد بدوي بطرس بتوصيف المشكلة دون تقديم
حلول لها؟
طبعاً لا فهو يعتبر أن :" هذا الفراغ يعزلهم عن الآخرين وعندما يكتشفون البعد
الروحي يمتلئ هذا الفراغ في داخلهم ويعون علاقتهم بمحيطهم، بالآخرين وبما هو أبعد
من حواسهم ويعود للحياة معناها الحقيقي" (الصفحات 99 و100).
ولكن على الإنسان، بالنسبة إليه، أن يقتنع بما كُتبَ في الصفحة 98:" الحروب
الدينيّة في مضمونها الحقيقي تصبّ في خانة عبادة الأصنام على الأخص "المال" ولا تمتّ
الى الله بصلة. الله قوّي جبّار ليس بحاجة لمن يدافع عنه والله خالق والمخلوق لا
يستطيع أن يدافع عن خالقه."
هذه القناعة تترجم برأيه، وفق ما ورد في الصفحات 94 و95، بالقناعة بأن"هناك وجهان
للحياة: علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالآخرين. الحياة المتوازنة الهادئة هي التي
تتحكّم بها علاقة الإنسان بالله بعلاقته بالآخرين. لا يجوز لاي إنسان أن يقتل
ويصلّي. ممارسة الطقوس الدينية أمر رائع إذا كانت متناغمة مع سلوك الإنسان بعلاقته
بالآخرين". وإذا غاب التوازن يقع الإنسان في المحظور "عندما عندما لا نعي أننا جزء
من هذا التكامل الطبيعي وأنّنا والآخرون سطور متوازية في كتاب الحياة بحيث أرى الله
في داخلي وفي الآخر تصبح صلاتنا لغة خشبيّة أو أحرف ميّتة. ماذا ينفع أن أقول أني
أعبد الله وأنا أعبد المال أو أحبب قريبك كنفسك وفي داخلي طوفان من الحقد والجشع".
وهنا ذكر الأستاذ فؤاد عدّة حلولٍ نورد منها ما يلي:
1) في الصفحة 38: "عندما ندرك هذه العلاقة (الانتماء الكوني) ونعيش انتماءنا نعرف
بوضوح أن الأرض بالنسبة لنا بلد غريب نعبره دون أن يكون لنا الحقّ في امتلاكه. نحن
عابروا سبيل وبقيّة البشر هم رفاق الدرب نجتاز معهم طريق الحياة ويجب أن نجتازها
كلّنا بفرح ومحبّة".
2) في الصفحة 72: "العلم يجب أن يكون لصالح الحياة وليست الحياة لصالح العلم: "السبت
خلق من أجل الإنسان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت".
3) في الصفحة 74: "المهنة ضرورية للحياة. الله قال لآدم: "بعرق جبينك تأكل خبزك"
ولكنه لم يقل له بعرق جبينك تأكل خبز أخيك لانه"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".
خاتمة
نلخّص كلّ ما سبق بالقول أنّ الأستاذ فؤاد بدوي بطرس حاول جاهداً من خلال كتابه
تشذيب مفهومنا لله الّذي شوّهته، عبر العصور، قرونٌ من التديّن المشوّه المستند إلى
مفهومين خاطئين لله وللإنسان فكيف يمكن للإنسان الغافل عن حقيقة كيانه أن يفهم كيان
الله؟!
الحلّ يكمن برأيه إذاً في تعميق وعي الإنسان لذاته ولهويّته ولكيانه مما يجعله أكثر
قابليّة للدخول في الحوار مع الله ومع الإنسان من خلال الصلاة والمحبّة، رافدي نهر
الحياة اللذان يقودان إلى بحر السعادة والتي هي، بنظره، "هدف الحياة" (صفحة 45).
هذا غيضٌ من فيض، والعبرة هي في أن ننهل من فكر الأستاذ فؤاد وأن نطبّق ما أمكن مما
دعانا إليه لنعيش بسلام والأهم لندع الآخرين أيضاً يعيشون بسلام كما ورد في نهاية
كتابه، في الصفحة 107، وهو ما سأختم به هذا البحث المتواضع: "العيب في الإنسان. لا
بد من وقفة نراجع فيها طريقة تربيتنا لهذا الانسان الذي ينبع السلام من داخله ويجب
أن يُبنى في داخله . عندما يتم تعريف الانسان على ذاته وبأنه ناتج كوني وبأنه يتمتع
باستقلالية طالما هو متمّم للآخرين يتغيّر مجرى الحياة وتُتَرجَم سعادة الانسان في
سلوك عبّر عنه السيّد المسيح حين قال: " إفعلوا بالآخرين ما تريدون أن يفعلوه بكم"
وحينئذٍ فقط تقوم دكتاتورية العدالة لتحتضن الحرية كسلوك بشري مُمارَس وتحوّل غرائز
الانسان الى حاجات أساسية لا تطغي بتورّمها على مسار الحياة ".
تم تحضير الموضوع خلال شهر أيلول من العام 2008.
تمّ عرضه للنشر في 12 آذار 2009.
الخوري نسيم قسطون
|
![]() |