back to Ashya Saghira

من كتاب "اشياء صغيرة"

للدكتور فؤاد سلوم

 



علـى مَـن تـدور الـدوائـر

 

إنَّه قدّاس آخر أحد من المرفع[1]، أحد قطع الزفر[2]. مريانة في الكنيسة تسمع القدّاس. الرعيّة[3] كلّها في الكنيسة، بأمّها وأبيها، إلاّ من أعجزه المرض أو الشيخوخة عن المجيء، أو من كان مسافرًا. المؤمنون يودّعون، بالصلاة والرجاء، عند الصباح، زمن التفسيح بأكل وشرب. وتبقى لهم بقيّة نهارهم ليودّعوا، بما لذّ وطاب، على موائدهم العامرة، بما لن يعودوا إلى التمتّع به طوال خمسين يومًا من زمن الصوم الكبير. في هذا الزمن ينقطع الصائمون عن الأكل والشرب من الثانية عشرة، ليلاً، حتّى الثانية عشرة، ظهرًا، أيضًا عن كلّ ما هو من مصدر حيواني : لحم، بيض، حليب وما يشتق منه. يبدأ هذا الصيام نهار "إثنين الرماد" حيث يأخذ الصائمون على جباههم علامة مرسومة بالرماد المتْبول بالزيت وهم يسمعون : "تذكّر يا إنسان أنّك من التراب وإلى التراب تعود".

صباح هذا الأحد جاءت مريانة إلى الكنيسة بحماسة وفرح لتترجّى لأمّها المريضة لطف الله ورحمته، ولعائلات أخوتها وأخواتها الحفظ والرعاية. ولن تطلب لنفسها شيئًا، فهي راضية بما قسم الله لها من نصيب.

الزمن ربيع. الحرّ يشتدّ يومًا بعد يوم. العمل في بلاد الريف قاسٍ وكثير. الصيام عن الأكل محتمل، لكن عن الماء ؟... إنّه زمن صعب ! لكن من يفي به يلقى ثوابًا كبيرًا. هذا تعرفه مريانا بالتربية والعادة والممارسة، ولا تعترض عليه.

 

مريانا فتاة عزباء، في الأربعين من عمرها. تعيش في بيت أبيها الفرح. بيت تقليدي قديم من بيوت القرية الجبيليّة. مات أبوها يوم كانت لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها. ولأنّها الكبرى بين الأبناء انقطعت عن المدرسة لتساعد أمّها في رعاية العائلة اليتيمة، وفي الاهتمام بالبقرة والدواجن والكرم. سافر أخوها الثاني وتزوّجت أختان. أمّا الأخ الأصغر فتزوّج وبقي مع العائلة، وها امرأته حُبلى بطفلها الثالث.

 

لم تتزوّج مريانا من حبّ عمرها، إبن عمّها دعبول، رفيق طفولتها وعشير صباها، لأنّه سافر مع مَن سافر من شبّان القرية. بعض أولئك الشبّان حالفه الحظّ فعاد وتزوّج مِمّن أحبّ. بعض آخر أرسل وأخذ إليه مَن أحبّ. إبن عمّها لم يعد، ولم يرسل. إنقطعت أخباره. انتظرت، على أمل، إلى زمن، ثمّ قطعت الرجاء. تحوّل أملها إلى ذكرى، فيها حسرة، وفيها خيبة. خشونة الحياة، في الضيعة، ومرارة الخيبة أزهداها في الحبّ والزواج. وجاء مرض أمّها وقعودها ليزيداها انشغالاً وترهّبًا في "دير" العائلة الفقيرة. هذا حظّها. رضيت به.

 

في الكنيسة كان الجوّ مؤنسًا، عابقًا بالتَقوى والسلام. الجماعة كلّها، هنا، يقود كاهنها صلواتها، تتّجه الأعيُن إليه وتبتهل الشفاه والقلوب إلى ربّ السماوات والأرض، الذي يشمل الكلّ برحمته وحنانه. جماعةٌ متحدّةٌ بالإيمان والممارسة، وبالعادات والتقاليد. ستخرج هذه الجماعة، بعد القدّاس، كلّ إلى بيته، ليحضّر المائدة الدسمة الوداعيّة. ستصدح الأجران في كلّ بيت بدقّة الكبّة الخضراء، التي هي مدخل أيّ وليمة، في الجبل، وتليها الكبّة المشويّة، والفراريج. المازة متنوّعة : تبولة، شنكليش ومخلّلات... العَرق سيّد المائدة ومنشّط الإنشراح... مريانة أعدّت أشياء كثيرة من تلك الأصناف، وتنوي أن تكمل، بعد القدّاس، ما كانت قد أجّلته، إلى أن يحين الموعد. مع ذلك كان فكرها يشرد، بين لحظة وأخرى، إلى البيت، لتستعيد ما حضّرت، وما يمكن أن تكون قد نسيت، ثمّ تعود إلى الكنيسة لتتابع الصلاة. ها الآن انتهى الكاهن، من قراءة الإنجيل، ليبدأ العِظة. لقد أعدّ عظة قويّة تليق بالمناسبة :

 

أخوتي الأحبّاء

ليس الصيام، في جوهره، فريضة تكرهنا عليها أمّنا الكنيسة، بل هو تدبير أعدّته، على مثال ما فعله سيّدنا يسوع المسيح، قبل أن يُسلّم نفسه، طوعًا، إلى جلاّديه وصالبيه. نذهب إلى الصيام إقتداءً بالمسيح، وبشوق وحريّة. شوقنا إلى الصيام هو شوق إلى البرّ، وشوق إلى التسامي فوق شهوات الجسد، وذلك يعني الشوق إلى الكَمال عن طريق إماتة الرغبات المادّية، وعن طريق شدّ العزيمة إلى اعتناق الفضائل، فضائل البشارة، فنصير أنقياء على مثال القدّيسين الأطهار. نعم، بحرّيتنا، بملء إرادتنا نصوم، لأنّنا نريد أن نشارك أخوتنا الفقراء، الذين بيننا، وهم كثيرون، بأحاسيسهم البائسة بسبب حرمانهم الدائم، فكأن حياتهم شبه صيام دائم. هم لا يتمتعون بما نتمتع به، كلّ يوم، من عيش هنيء. ونحنُ صائمون نشعر بالأخوّة الإنسانيّة معهم، لذلك يا أخوتي، يجب أن نشركهم، أيّها الأخوة، بما نتمتّع به، أدعو الميسورين بينكم أن يذكروا إخوانهم المحتاجين، فيمدّوا لهم، بالمحبة، يد العون.

 

أيّها الأخوة الأحبّاء بغير هذا لا يكون صيامنا كاملاً...

 

هذا باختصار ما ركّز عليه الكاهن في عِظته، وهو ما أعجب الحضور ولَقِيَ ترحيبه، فصارت النفوس أكثر استعدادًا للصيام. ولم يكن شعور مريانا مختلفًا... لكن ما ألهب نقمة نفسها، وجَلَد إحساسها هو ما أعلنه الكاهن، بعد العِظة، من وصايا الكنيسة. قال:

تعفو أمّنا الكنيسة من الصيام : المَرضى والعجائز والحَبالى والأولاد والمرضعات، والمسافرين خارج ديارهم... هنا قفز خيال مريانا إلى عائلتها : أمّ مريضة، كنّة حُبلى، أولادٌ، أخ بائعٌ جوّال على بغلته، يخرج صباحًا، يطوف في القُرى والمزارع البعيدة ويعود، مساءً، وقد يمضي، أحيانًا، ليلته خارج المنزل، حاله في الصيام كحال المسافر. العائلة كلّها، خارج دائرة الصيام ! مريانة وحدها داخل الدائرة. لا ينطبق عليها أيّ شرط من شروط الإعفاء... ورأت بخيالها، جيرانًا وأنسباء مَرضى، أو شيوخًا. رأت حَبالى ومرضعات وأولادًا. ولم ترَ في المدعوّين إلى الصيام، مَن هم مثلها، تنطبق عليه أحكام الصيام، مع أن مثل هؤلاء هم الغالبية في الجماعة، ورأت نفسها تروّب الحليب ليصير لبنًا، يبلّ الريق، في نهارات الحرّ، يبرّد أحشاء غيرها ولا تذوق. تصنع الزبدة والجبنة والقريشة، ليأكل غيرها ولا تذوق. تقلي البيض الطازج بالزبدة الفوّاحة، التي تهيّج القابليّة بينما، هي، يقتصر أكلها، على حبّات البطاطا والزيتون والبرغل والصعتر. تصوم، كلّ يوم، من منتصف الليل حتّى منتصف النهار. من صنع يديها يأكل غيرها الأطايب...

 

هكذا أنستها ثورة نفسها أنّها في الكنيسة، بين الناس ! ومن غير وعيٍ أعلنت حديث نفسها، بصوت مرتفع :

-      لكن هو عليّي دارت الدايرة ؟ هيدا ظلم. بخاطركم.

-      وقامت وخرجت.


سمع الجميع ما قالت، اندهشوا، التفتوا، رأوا مريانة تخرج غاضبة.

ما بها مريانة ؟...

مشت مريانة، إلى البيت، ونفسها في أزمة :

-      الكنيسة أمّ تحتضن وتعلّم، فهل تتمرّد على هذه الأمّ التي تنتمي إليها ؟

-      الصيام تقليد وواجب. فيه شفاءٌ للنفس والجسد، وفيه مكسب للإنعامات. يأتي كلّ عام، وتلتزم به الجماعة بالسويّة. مريانة من الجماعة ولا تذكر أنها، منذ يفعت، كسرت صيامًا.

لماذا الآن ؟

-      لماذا أحبّت نفسها إلى هذا الحدّ، وحسدت المَرضى والعَجزة وأصحاب العِلل ؟


لم تجد مريانة جوابًا، على حديث نفسها هذا. لكن نفسها ثائرة.

دخلت مريانة البيت، فرأتها أمّها أنها ليست على ما يرام.

سألتها :

-      أيش في يا مريانة ؟ خلص القدّاس ؟ راجعة وحدك ؟

لم تجب مريانة.


وعادت الأمّ تسأل وتلحّ.

-      أيش يا مريانة ؟ خير إن شاء الله ؟


فأجهشت مريانة : إي أنا وحدي بدّي صوم. إنتو بتاكلوا شو ما بدكن وساعة ما بدكن.

وعدّدت مريانا ما جاء على لسان الكاهن، من صِفات المرخّص لهم بالإمتناع عن الصيام، حرفًا بحرف.

قالت الأم بهدوء :

-      إي. بسيطة ما حدا جابرك تصومي، لا تصومي.


هزّت مريانة رأسها هزّة يائسة، وقامت لتكمل مائدة المرفع، ونفسها حزينة، لأنّها تعرف أنّها سوف تصوم مع الجماعة. ستتصرّف كما تتصرّف الرعيّة الصائمة.

 


[1]  المرفع : أسبوع يسبق صِيام المسيحيّين يحتفلون به مودّعين المآكل الدسمة.

[2]  الزفر : اللحم ومشتقات الحليب.

[3]  الرعيّة : جماعة المؤمنين في القرية

 

back to Ashya Saghira