حاكم الماء

 

رزق مـوريّـا! هكذا، شهرته أمّه...

عاش رزق موريّا هذا، منذ طفولته، يتيم الأب. والعادة الدارجة، في بلدنا، أن يُنسب الولد إلى أمّه في حالين: إذا كانت شخصيّة الأمّ طاغية على شخصيّة الأب، أو إذا مات الأب مخلّفاً طفلاً صغيراً. وإذا فاتني أن أحسب الحال الثالثة، فلأنّها نادرة، وهي، لا سمح اللّه، إذا كان الوالد غير معروف، أو معروفاً غير مذكور، إلا إذا بلغت النكاية مبلغاً، فيذكر! ساعتئذٍ، العياذ باللّه... لكن موريّا، وإنّي لأشهد بالحقّ، كانت طاهرة الذيل، عطوفاً، مجاهدة، ربّت وحيدها على الاستقامة، وعلّمته عند الرهبان حتى استوفى علوم زمانه جميعاً.

وأزيد لأقول: لو أنصف الناس، عندنا، لكانوا سمّوا رزق موريّا رزق «السِكْر»؛ فهو، منذ درج، وأكاد أقول: منذ حبا، عاش على ساقية الماء، البعيدة مرمى حجر عن منزله الوالديّ. هذه الساقية تسمّى «السِكر الطويل»، لطول المجرى؛ فهي تنبع من خلف الجبل البعيد، تلتفّ حوله، وتنعطف من وادٍ إلى واد، فتسقي، في طريقها الطويل هذا، بعد سدّ النهر، صيفاً، حقولاً وبساتين كثيرة. إنها الشريان الرئيسيّ الذي يمدّ البلدة بالحياة. أمّا، في الشتاء، عندما تنحدر السيول وتفيض الوديان، فينهدم السدّ ويجري النهر الذي يشقّ البلدة ضفّتين، مرغياً، مزبداً، متوعّداً، فينام الناس على وعيده الذي قلّما أنفذه.

والطفل رزق اللّه، جار السِكر الطويل، كان يتدحرج، منذ أن تفتح أمّه الباب، صباحاً، صوب السكر؛ فأولع به، وصار عالمه المعشوق. والأطفال يعشقون الماء!... هنا، على الضفاف، يتجمّع الأتراب، واحداً بعد واحد. يجلسون على حافة السِكر، يغطّسون أرجلهم الحافية، يحرّكون بها الماء ويرفسونه. أو ينتشرون تحت الظلال القريبة، يجمعون التراب، يجبلون الطين، يبنون المحاقن المتتابعة، وينقلون إليها الماء بالتنك العتيق، وبالحفنات، وحتّى بالأفواه المنفوخة، فتفيض المحاقن «وتنفلش» السدود، فيجتاح بعضها بعضاً!... ويقهقه الأطفال.

وقد يعمد هؤلاء الأطفال إلى رمي بعضهم البعض بالماء، فيبتلّون وينشفون، ثمّ يبتلّون وينشفون... يعركون في الوحل فتّتسخ الثياب ولا يعبؤون. يحفنون من السكر ويرمون الماء في وجه الشمس، فينفرط حبّاتٍ تشعّ بالصفاء وبالألوان. إنّها عقودهم اللؤلؤيّة تغنيهم وتسعدهم...

وفي موسم الثمار يترصّد الاطفال المجرى: تفّاح أحمر فوّاح، وإجاص ذهبيّ لذيذ، وخوخ أحمر وأصفر!... ثمار، ثمار تتساقط عن أمّاتها، فيحمل المجرى بعضها إلى أيدي الأطفال التي تتلقّفه مغسولاً نديّاً، يثير تدافعاً وعراكاً، فيغنم الكبار ويبكي الصغار؛ ويتوسّل «الفَجعان»: «اللّه يخلّيك، كدّشني!» فيمدّ يده، من الغانمين، من رقّ قلبه ورهف إحساسه، فيكدّش الصغير كَدْشة، يحاول هذا، بفمه الصغير أن يكبّرها قدر ما يستطيع، ويروح يمضغ متلذّذاً، فينقطع دمعه وتبتسم عيناه... وكثيراً ما كان يحتدم العراك بين الأطفال، فتتّسع دائرته ليشمل الأمّهات، وحتى الآباء أحياناً... لكنه عراك سليم العواقب، لا يخلّف ضغائن. وكثيراً ما حسم العراك صوت الشاوي إذا ما صدف أن مرّ، فيذعر الأولاد ويتفرّقون، ويتوارى الأهل داخل الدور، تجنّباً لتكبير الشرّ، وهم يسمعون شتائمه البذيئة تنصبّ في آذانهم، فيبتسمون...

وشبّ رزق اللّه مهيب الطلعة: وجه رفيع، أسمر، برّاق العينين، مفتول الشاربين، أقنى الأنف كباشق، ضئيل القامة، نزق، متوتّر الحركات. يلبس الشروال ويحطّ الكوفيّة والعقال، فبدا مكتمل الرجولة... وتحقّق حلمه: صار سيّد السكر، صار «الشاوي»! وها هي المجرفة تتآخى مع كتفه، فصار ينتهر ولا يُنتهر... وسرعان ما امتلك رزق اللّه سرَّ المصلحة لطول مصاحبته للسكر، ولقضيّة السقاية التي هي قضيّة القضايا في القرى، يوم كانت الزراعة قوام الحياة الوحيد!

ورزق موريّا يعرف منسوب الماء في السكر، ويحسبه بالقطرات، إن في سنيّ الخزين وإن في سنوات الشحّ. يعرف أصحاب الحقوق، وعدد «المصاريع» العائدة لكل منهم، يعرف عدد أجزاء المصراع العائدة لأصحاب القطع الصغيرة من الأرض. يعرف الأراضي و«مساكيرها»، ما يوفّر ماءً منها وما يهدر منه، كيف يجري الماء في أنحاء الأرض بسهولة ويطال كلّ أجزائها، فتأخذ كفايتها دون تبذير. ولطالما سهر الليالي على يد صاحب الدّور، يراقبه ويحثّه. ولطالما نام على لحم الأرض، يسند رأسه بحجر، يشخر من تعب؛ حتى يشعر بالماء تحته، فيهبّ مسرعاً ليصرفه إلى غير جهة. لا يمكن لأحد أن يسرق قطرة، وإذا حصل؟ لا يشكوه، لا يحرّر ضبطاً، بل توبيخ وتعنيف، وأحياناً: شتل بعض الزروع ورميها، بحسب الجرم... حتى «المَلايات»، عند العصر، كنَّ يَهبنه، لا سيّما في مواسم الشحّ، فكنّ يملأن جرارهنّ بالطاسة سكباً رفيقاً، حتّى لا تسرح قطرة واحدة خارج فم الجرّة؛ فيصبرن على بعضهنّ، ولا يزدحمن على المجرى، بل، حتى، يقتصدن في بيوتهنّ، فلا يسرفن في مصروف الماء حتّى لا تتكرّر روحاتهنّ على طريق «المملى»؛ فـ «الشاوي»، في سنوات الشحّ، لا ينطاق!

هكذا اكتسب رزق اللّه ثقة الجميع، فلم تكن الخلافات، على كثرتها عند أهل الريف، لتطاول موقعه. فقط، في مواسم الانتخابات، إذ تحتدم الحزازات وتشتدّ النكايات، تهتزّ ثقة الحزب المناوئ لحزبه به؛ يعلو اللّغط حوله وتكثر الاتهامات، لا سيما إذا ما تصاحبت مواسم السياسة مع مواسم الجفاف، وكثيراً ما تتصاحبان!... لكن رزق اللّه، مع تشدّده في حزبيّته، وإخلاصه لزعيم حزبه، لم يكن متحيّزاً في موضوع الحقوق، فلم يكن يبحبح أحداً على حساب أحد، أو يطفّف من حقّ أحد؛ لذلك سرعان ما كان يذهب الاحتقان بذهاب الانتخاب، وتعود المياه إلى مجاريها! نقطة ضعف وحيدة كانت تحسب عليه باستمرار! هي تساهله مع الأطفال اللاعبين على ضفاف المجرى: كان يميل عن ملاعبهم، ليلعبوا على راحتهم؛ حتى لو زادوا من شقاوتهم وعاثوا في المجرى الترابيّ، فنزّ بعض الماء وتحلّب! كان يقبل صارخاً من بعيد، وكأنما يرسل إشارة، فيتوارى الأطفال، فيسرع ويصلح ما تشعّث، ويرسل تهديدات صاخبة كرعد خلّب، ثم ينصرف باسماً، مختلساً، من وراء كتفه، نظرات إلى الاطفال، وقد عادوا، ملؤها الرضى! ولم تكن تلك المناورات لتخفى على الأطفال، لأنهم، بشفافيّة أحاسيسهم يعرفون أن يميّزوا بين العدوّ والصديق.

كان ذلك الزمان هنيئاً...

وجاء زمن رديء، أهمل الناس فيه الزراعة، ولحقوا الوظائف وهجروا البلدة... عائلة رزق موريّا كبرت، ولم تعد مهنة «الشاويّة» تقوم بها! رزق اللّه ينظر إلى الحقول البور وفي عينيه دمعة محروقة، وفي قلبه جمرة لا يطفئها ماء السكر في سنيه الغامرة. يتأمّل في وضع عائلته فتتفتّت عزيمته الصوّان. ما العمل؟ الهجرة مثل من هاجر؟ أيترك الماء والحقول، والخضرة والظلال، وملاعب الصبا ومرابع العزّ؟ أيبيع أرض الآباء والأجداد ثمناً «للناولون»؟ أيهجر إمارته؟...

ما أمرَّ!

لكن؟...

قلّع رزق اللّه. أي هاجر بالعائلة جميعها، وإلى استراليا؛ باع أرض الآباء والأجداد، ولم يُبق إلا على البيت العتيق، كبقيّة أمل! كموضوع قد تحصل فيه، يوماً ما معجزة القيامة!

ربّما، ربّما؟

نعم. سافر رزق اللّه بقلب مقطّع، فلذة منه تركها في زاوية من البيت العتيق...

لم يقلَّ نجاح رزق اللّه، في أستراليا، عن نجاحه في إدارة ماء السِكْر. كبر الأبناء والبنات وتزوّجوا. على أنّه حرص على تزويج الصبيان من أُستراليات لبنانيات، ليبقى الحنين إلى الوطن، في ظنّه، دائم الاشتعال. عدا الابن الأصغر، فقد نذر أن يزوّجه في لبنان، وفي كنيسة الرعية، بالذّات؛ لذلك سمّاه عائداً. قال له: إسبقني يا عائد، اسبقني إلى لبنان. تنزل في بيت خالك. تزور الأنسباء وتختار من بناتهم عروساً. يحبّها قلبك. كلّهن جميلات، كلّهن فاضلات، كلّهن صاحبات بيوت. أغمض عينيك ونقّ عروساً لك منهنّ. وعندما يقرّ قرارك، أرسل لي إشارة صغيرة، أكن عندك. الإكليل في كنيسة «السيّدة». العرس ولا عرس ابن السلطان. أربعون ليلة: عتابا وميجنا و«مِجْوِز» ودبكة وطبل و«مازة» وعرق... ثم شهر عسل في أنحاء لبنان، ونعود. تيسّر الآن على بركة اللّه. لا تطوّل زبيبتك، يا ابني. إختر بسرعة. غمّض عينيك، قلت لك: وعلى مسؤوليّتي...

وجاء عائد إلى لبنان، ونزل عند الأنسباء على الرحب والسعة. إِختار جميلة من الجميلات، أحبّها قلبه. أرسل الاشارة إلى والده الذي وصل مساء السبت التالي. دخل إلى بيت أنسبائه، فجأة، فكانت الحفاوة به بالغة، والفرحة لا توصف!

صباح الأحد، بكّر رزق اللّه في مغادرة الفراش. سيفاجيء من في الكنيسة بحضوره، لا سيما عندما سيباشر في خدمة القدّاس: «شَبَحو المُريو كُلخُن عنيد»... بصوته الشجيّ الفخم، كأيّام زمان.

وسينتشي بالدهشة التي سيحدثها في نفوسهم، وبالفرحة تشرق على وجوههم!

عندما وصل إلى السِكر، اقشعرّ بدنه واضطرب قلبه واشتعل رأسه! من؟ رأى رجلاً يخبّ بجزمة «الكاوتشوك» السوداء. رجلاً يلبس الشروال البلدي... عرفه للتوّ. تمهّل، وتنحنح ليثير انتباهه. لكنّ يوسف شاهين، «الشاوي»، لم يعبأ به ولم يعرفه. وكيف يعرف هذا الغريب، البدين، الأجلح، الأبيض الوجه، الورديّ الوجنتين. وبلباس إفرنجي؟!...

ومع ذلك مرّت في خاطره، مسرعة، صور مشوّشه، أهملها. قال في سرّه: ما بال هذا الغريب مسمّراً في مكانه؟ يحدّق بي! لمّا لم يأته الجواب اليقين، حرّك رجليه مسرعاً، مفكّراً: «يصطفل...» لكن أحاسيسه كانت قد توتّرت وتنبّهت!...

عندئذ صرخ رزق اللّه بصوت الشباب الخالي، وقد استعاده من زاوية البيت العتيق:

- «يوسف. المَيْ، اليوم، مع مين؟»

فجمد «الشاوي» مكانه كالمصعوق... وبلمح البرق عادت ذاكرته ثلاثين سنة إلى الوراء! ورنّ الصوت الذي عرفه جيّداً، الصوت الذي كان أليفاً، رنّ في أذنه رنيناً رجّ أعماقه! إنّه صوت رفيقه القديم، صوت «حاكم الماء...»

فصرخ بالنبرة ذاتها:

- مع رزق موريّا...

وخبط «الشاوي» المجرفة في الأرض، وعاد فاتحاً ذراعين واسعتين وسع ثلاثين سنة، وارتمى على الصديق القديم غير عابئ بالوحول على ثيابه، وبالعرق الحامض في جسده.

تعانق الرجلان طويلاً طويلاً... كان رزق اللّه كلّما قبّل صديقه قبلة اشتمّ رائحة طيّبة لم يشمّها من زمان؛ فيعود إلى تقبيله واحتضانه، ففي ذلك الشميم رائحة الطيّون والرَزّين والحَبَق والنَعْنَعيّة والقصْعين وحتّى الدِفلى وغبار الدُلب...

تلك الروائح التي طالما أحبّها، وطالما اشتهاها في غربته!

وعاد رزق اللّه إلى بيت أنسبائه من غير أن «يقدّس» ذلك الأحد الأوّل لوصوله. ومع ذلك شعر بالراحة والغبطة، فكأنّه «قدّس» ملء نهاره...

لما رآه أنسباؤه ملطّخاً بالوحل، صرخوا:

- رزق اللّه! يخرب «كوشتك»! «أيش عامل بحالك؟ من أول يوم رجعت عَ الشاويّة؟...»

وضحك رزق اللّه ملء فمه، ومن كلّ قلبه...

شهر واحد قضاه رزق اللّه في بلده. سوّى شؤونه، وزوّج ولده كما أحبّ ووعد، وسفّره مع عروسه إلى استراليا، واعداً أن يلحق به بعد أسبوع...

لكنّه لم يلحق به أبداً! رفض قلبه أن يبرح جنّته الضائعة، بعد أن استعادها، فتوقّف بعد سفر عائد وعروسه بيومين!

كان وداع رزق اللّه إلى مثواه الأخير مؤثّراً... ودفن في مدافن الأجداد، تحت شجرات العفص العتيقة، حيث يجري ماء السكر حيناً بعد حين، مرنّماً أغنية الخصب للبساتين التي يجري إليها، بينما حاكم الماء القديم يرقد تحت تراب وطنه قرير العين.

من كتاب "كان في تلك المغاني الجميلة، أقاصيص في عمق التراث " للدكتور فؤاد سلوم