back to Joseph Abdallah's Books

 

جوانب راسخة في المسألة السورية

 

ترجم هذا النص د. جوزف عبدالله

(مع طلبنا من القراء مناقشته)

قضية الأقليات[1]

(ص 29) لا بد لمن يتابع ميدانياً، وعلى مدى بضع سنوات، تطور السياسة الداخلية لشتى الدول الموضوعة تحت الانتداب الفرنسي في الشرق من أن يخرج باعتراف صريح بالفشل المزري لهذه السياسة. فالسياسة الداخلية لهذه الدول تبدو في الواقع مقتصرة فقط تقريباً على نزاعات زمر سياسية أو نزاعات شخصية؛ بل الأمر أسوأ إذ تقتصر الحياة السياسية على قسم محدود من السكان، يشكلون طبقة من الساسة المحترفين الذين يستغلون الحياة السياسية، ومجموعة من المحرضين والصحفيين والطلاب. هذا بينما يبدو الجمهور الواسع من السكان، لا سيما مجمل الجماهير الريفية، لامبالياً بأمور السياسة.

بيد أنه ثمة مسائل جوهرية، مسائل دائمة، مطروحة في هذه البلدان، ويرتبط كامل مستقبلها بإيجاد الحلول لها. من هذه المسائل التي تتجاوز السياسة الصرف، مسألة الأقليات التي طُلب مني عرضها اليوم أمامكم.

عندما نتكلم عن مفهوم الأقلية بالذات في بلدان المشرق يبدو لنا مفهوماً ملتبساً. فلا يُمكننا، في الحقيقة، العثور على قاعدة وحيدة له. بالطبع هناك قاعدة للكلام على الأقلية كمفهوم العرق. ولكن إذا استثنينا ألمانيا الهتلرية، يمكننا القول من وجهة النظر العلمية أنه لا يُمكن طرح مسألة العرق، وخصوصاً في الشرق الأدنى حيث من المعروف أن هذه البلدان شهدت تعاقب جميع أعراق العالم عبر آلاف السنين.

عناصر مفهوم الأقلية

وبالتالي يجب البحث عن العناصر التي من خلالها يتجسد مفهوم الأقليات: العنصر الديني والعنصر اللغوي.

دور العنصر الديني والعنصر اللغوي

بالنسبة للعنصر الديني، بمتناولنا في سورية الكثير منه. لنبدأ بمجموعة الأقليات المسيحية. تضم هذه المجموعة بداية جميع العناصر المسيحية القديمة السابقة على الفتح الإسلامي: هناك أولاً جماعة الموارنة العائدة إلى القرن الخامس الميلادي، والمرتبطة منذ القرن الثاني عشر بالكرسي الروماني. ثم الروم، وهم أقدم أساس مسيحي في سورية، نقصد الكنيسة البيزنطية القديمة. وأخيراً هناك المنشقون عنها، وهم السريان Syriaques من جهة، والكلدان Chaldéens من جهة أخرى. أنتم تعرفون (ص 30) أصل كل من هاتين المجموعتين، وهو يعود إلى البدعتين اللتين ظهرتا في القرن الرابع والقرن الخامس. والفرق بينهما يعود إلى الخلاف حول طبيعة المسيح. فالبدعة المونوفيزية monophysite (الطبيعة الواحدة) أو اليعقوبية jacobite التي تبنتها الكنيسة السريانية تشدد على أحادية طبيعة المسيح؛ أما البدعة الثانية التي تبناها الكلدان فتشدد على ثنائية طبيعة المسيح، وهي البدعة النسطورية nestorienne.

وعلى مدى العصور، خصوصاً في الأزمنة الحديثة، فإن الجماعات الثلاث الأخيرة، الروم والسريان والكلدان، تضاعفت هي نفسها مرتين بفعل التبشير الفاتيكاني الساعي إلى ضم الكنائس الشرقية إلى الكرسي البابوي، بحيث أن كل واحدة من هذه الكنائس بقيت فيها جماعة خارج طاعة روما، بينما أنضوت جماعة أخرى تحت عباءة روما. ولعلكم سمعتم من يتحدث عن كنيسة الروم الكاثوليك وكنيسة الروم الأرثوذكس، وعن كنيسة السريان المستقلة وكنيسة السريان المتحدة بروما، وكذلك كنيسة الكلدان المستقلة وتلك المتحدة بروما.

ومع الموارنة يصبح المسيحيون سبع جماعات.

مع تغلغل الغرب في الشرق، انضاف كل من اللاتين والبروتستانت إلى هذه الأقليات المسيحية. وهم عدديا محدودون جداً: حوالي الألف من اللاتين باستثناء الفرنسيين في دول المشرق، وما يتراوح بين ثمانية أو تسعة آلاف من البروتستانت. فهم أقليتان صغيرتان جداً، ولكنهما تلعبان دوراً كبيراً غير متناسب أبداً مع حجمهما بفعل الموقع الاجتماعي الذي يحتله أتباعهما.

هذه هي إذن مجموعة من الأقليات الدينية على قاعدة الانتماء للمسيحية. وهناك إلى جانبها الأقليات، أو مجموعة الجماعات المتحدرة من الإسلام. وهنا الفرق بين أكبر جماعتين، السنة والشيعة، ينجم عن كون السنة يلتزمون سنة الرسول، بينما الشيعة يرفضون السنة ويتمسكون بالوفاء لعلي، صهر النبي.

ثمة جملة من البدع المنشقة بشكل أو بآخر عن الشيعة، عددها أربعة: المتاولة الذين يمكن تسميتهم بالشيعة الاثني عشرية لأنهم لا يعترفون بعلي فحسب، بل أيضاً بجميع خلفه حتى الإمام الثاني عشر. ثم هناك الإسماعيلية الذين يتوقفون عند الإمام السادس. وأخيراً الدروز الذين ظهروا ما بين القرن الحادي عشر والثاني عشر، والعلويون. وهذا ما يجعل المسلمين خمس جماعات.

سبق أن قلت لكم أن العنصر الثاني هو العنصر اللغوي. وإذا كانت اللغة المحكية من الجميع في سورية هي على العموم العربية، فثمة بعض الأقليات اللغوية هي على لغة أم أخرى. هناك من جهة أولى الأتراك Turks، ومن الأخرى الأكراد Kurdes والشركس Tcherkesses. ويتكلم الأكراد لهجة متفاوتة في قربها من الفارسية Persan، بينما لغات الشركس ترجع إلى المجموعة القوقازية Caucase.

 

ها نحن إذن أمام مجموعة ثانية من الجماعات (الأقليات). وثمة مجموعة ثالثة: وهي التي تتميز بكونها تجمع معاً العنصر الديني والعنصر اللغوي. وهي بالطبع من أكثر الجماعات تميزاً ووضوحاً عن غيرها: هناك اليهود من جهة، والأرمن من جهة أخرى. اليهود، تعرفون ديانتهم، وإذا كان معظم اليهود قد تبنى من حيث اللغة، العربية كلغة محكية دارجة، (ص 31) فإن العبرية كانت على الدوام ولم تزل لغة دينية ويتم تدريسها على هذا الأساس في وسط الجماعات اليهودية؛ وتعلمون أنه منذ نشوء الصهيونية عادت اللغة العبرية كلغة حية في فلسطين، كلغة لها جامعتها وأدبها الكامل وصحفها. صحيح أن هذا الأدب العبري الحي لم يتغلغل كثيراً في سورية، ولكنه يتسع يوماً بعد يوم.

أخيراً، هناك الأرمن الذين انفصلوا منذ بداية المسيحية عن جموع المسيحية. وهذا الانفصال يعود إلى المجمع الخلقدوني. ويمتاز هؤلاء الأرمن باستقلالية لغتهم وكتابتهم وطقسهم. بيد أن هذا الطقس الأرمني لم ينجُ من الغزو الكاثوليكي منذ الأزمنة الحديثة، بحيث أنه توجد اليوم جماعتان: جماعة الأرمن الغريغوريين الباقين خارج طاعة روما، وجماعة الأرمن الكاثوليك. وذلك مع بقاء الأرمنية اللغة الأساسية للجماعتين.

هذه هي، إن جاز القول، وبطريقة مختصرة لوحة شتى العناصر المكونة للجماعات، أو الأقليات، في دول المشرق. بيد أن المطلوب فهمه، وهنا الأمر الأساسي، هو أنه لا الدين ولا اللغة ولا الاثنين (الدين واللغة معاً) ما يمكنه أن يخلق ما أسميه "المركب الأقلوي" complexe minoritaire. فهذا المركب هو الذي يجعل مجموعة اجتماعية تبني تماسكاً خاصاً بها، ويرسخها لتنتصب بوجه الآخرين.

فمن أين ينبع في الشرق هذا "المركب الأقلوي"؟ إن الدين والغة، كما قلنا، لا يكفيان لخلقه. بالنسبة للدين، يكفي أن أذكركم بتقاليد التسامح الديني وهي سمة كل الشرق. فالشرق موطن الأديان التي نشأت وتعايشت معاً، وبفعل احتكاكها تعلمت كيف تمارس عيشاً مشتركاً.

وإلى جانب تعددية الأديان، هناك أيضاً عملية التوليف syncrétisme (بين العبادات) التي ما تزال حية في سورية. لقد تشابكت الأديان مع بعضها البعض حتى اليوم، في الكثير من المواضع، لدرجة أن نفس الموضع يكون مقصد حج المسيحيين والمسلمين.

لنتذكر أيضاً تسامح الإسلام، خصوصاً في ما يتعلق بأتباع أهل الكتاب: اليهودية والمسيحية. كما أنكم تعرفون أيضاً الدور الذي قدمه اليهود والمسيحيون في الحضارة الإسلامية من بغداد إلى قرطبة.

وأخيراً، يجب الاستناد إلى قدرة الشرق التسامحية التي سبق وتجلت بكل وضوح في زمن الحروب الصليبية. وإنه لمن المثير في الحقيقة ملاحظة فرق الذهنية بين قدامى الصليبيين والصليبيين الجدد؛ فقدامى الصليبيين المعتادون على بلاد الشرق بحكم معايشة طقوس مختلفة عن طقوسهم لم ينتهوا بعدم شعورهم بالصدمة من الكثير من معتقدات الشرق فحسب، بل تقبلوها. وذلك بعكس الصليبيين الجدد الذين لدى وصولهم شعروا بالتناقض المباشر وطالبوا بملاحقة الكفار!

وأخيراً، لنتذكر أن أي دين في الشرق الأدنى، لا المسيحية ولا اليهودية ولا الإسلام، لا يمارس الآن بشكل شائع وسوي التبشير لاجتذاب الآخرين prosélytisme. فمن الغرب أتى "المركب الأقلوي"، هذا إذا شئنا النظر بهذه العين إلى النزعة التبشيرية الساعية إلى اكتساب مواقع على حساب الديانات الأخرى.

وبالنسبة للغات فالمسألة هي نفسها، لأنه هنا أيضاً لا يكفي (ص 32) عنصر اللغة ليحفر فاصلاً مطلقاً بين مختلف الجماعات الاجتماعية. ونظراً لتعددية اللغات فإن الشرقي بالضرورة متعدد اللسان. وهذا أمر يصعب علينا، نحن الغربيين، تفهمه، وخصوصاً في فرنسا حيث الناس أبناء لغة واحدة؛ بينما من الشائع أن نلاحظ في الشرق، الكلام بلغتين أو ثلاث أو أربع، جنباً إلى جنب، وداخل العائلة الواحدة. فالأرمني يتحدث الأرمنية، لغته الأم، والتركية، وكذلك العربية أو الفارسية، هذا بصرف النظر عن اليونانية والإيطالية، وأحياناً الاسبانية أو الفرنسية.

لنضِف إلى ذلك أن تغيرات اللغات كانت متواترة عبر التاريخ؛ ولهذا قبل مسيحيو الشرق بسهولة العربية كلغة شائعة، وكذلك اليهود. وهكذا فالشرق، وعلى الأقل الشرق الأدنى، لم تكن فيه بغير شكل كامن أو افتراضي العناصر الملائمة لتكوين "المركب الأقلوي"؛ ولقد استلزم تحولها إلى عناصر فعلية وتطورها، إن جاز القول، جرثومة ("فيروس" virus). وكانت هذه الجراثيم ("الفيروسات") على نوعين: الجرثومة الاقتصادية والجرثومة القومية.

العوامل الاقتصادية

تظهر الجرثومة الاقتصادية ما أن تحتل مجموعة، هي أقلية على العموم، موقعاً في الدولة بحيث تزعج الآخرين من خلاله. هذا ما حصل في الشرق مع اليهود ومع الأرمن.

عندما نقول أقلية غالباً ما نقصد نخبة. وفي الحقيقة، من الطبيعي لمن يشعرون بأنهم في عزلة اللجوء إلى التضامن والمدافعة بالاستناد إلى تفوق مكتسب مرجعه الثقافة. وسرعان ما يتحول هذا التفوق، وهذا التضامن الذي يمارسه الأقلويون، إلى تهديد لجمهور الجماعة. يجب أن يبقى حاضراً في ذهننا أنه في الشرق، في بغداد، نشأ أول مصرف يهودي كبير بفعل مصادفات تاريخية معينة: تحريم الربا واستثمار المال في الإسلام، من جهة، وحاجات امبراطورية كبرى، الامبراطورية العباسية، إلى مبالغ كبيرة من المال للتداول، من جهة أخرى.

وما تزال بغداد تضم جماعة يهودية هي الأقوى في الشرق (من 70 إلى 80 ألفاً)، وهي ما تزال متحكمة تقريباً بمجمل الحركة الاقتصادية العراقية.

للأرمن نفس الوضعية: فهم يشكلون في الحقيقة جماعة نشيطة وطموحة وتتمتع بصفات رائعة من وجهة النظر الاقتصادية؛ وهنا أيضاً فإن الإفراط في هذه الصفات بالذات هو ما يشكل خطراً على الجيران. فحيثما حلّ الأرمن يتوصلون إلى احتكار التجارة والتصرف بالمال.

ولقد قام الشرق بحل هذه المسألة على طريقته؛ إنه حل البوغروم (الاستئصال) pogrom: نترك الأقلية اليهودية أو الأرمنية تزدهر وتحتل المواقع وتحتكر المال والأرض، وبعد ذلك يتم انتزاع كل شيء دفعة واحدة[2]. وما تزال هذه الذهنية حاضرة حتى اليوم، كما هي الحال في فلسطين، حيث قيام العرب ببيع أراضيهم من الصهاينة يتم على أمل استعادتها، فهم على قناعة راسخة أنه سيأتي يوم، قريب ما أمكن، لا يسترجعون فيه المال فحسب، بل والأرض المستصلحة أيضاً[3]. ثمة دورة طبيعية ملحوظة هنا جاء الغرب ليقطعها بأفكاره الإنسانية.

(ص 33) العنصر القومي

هناك بالإضافة إلى الجرثومة الاقتصادية جرثومة القومية، وهي أكثر أهمية. جاءت هذه الجرثومة القومية من الغرب، ولا نستطيع اليوم إدراك وضع الأقليات إن لم نلحظ درجة تغلغل هذه الجرثومة في الشرق.

وهنا يمكننا أن نعين ثلاث مراحل. تعود المرحلة الأولى إلى نظام الامتيازات الأجنبية (في الامبراطورية العثمانية) Capitulations، فللمرة الأولى يتغلغل داخل الامبراطورية العثمانية غرباء كانوا بمعنى ما فوق القوانين العثمانية، ويمكنهم فعل ما يريدون لأنهم غير خاضعين لتشريع البلاد. وكان من الطبيعي أن يستفيد هؤلاء من وضعيتهم هذه. ولكنه كان من الطبيعي أيضاً أن تتجه غالبية الناس إلى كرههم وعدائهم، ولم يكن بمتناولها للثأر منهم غير اللجوء إلى المجزرة.

ثم جاء، علاوة على نظام الامتيازات الأجنبية الذي كان محدود الأهمية بفعل أن الأجانب وحدهم هم المستفيدون منه، نظام المحميين من جانب قناصل الغرب؛ وبذلك تجمع إلى جانب الغرباء عدد من أبناء البلاد الذين طالبوا بنفس الحقوق. وأصبح هذا الأمر بالغ الخطورة عندما اتخذ نظام الحماية صبغة سياسية: فرنسا ومحميوها من الأقليات الكاثوليكية، روسيا ومحميوها من الأقليات الأرثوذكسية. وكانت النتائج الحتمية لهذه الحماية انتشار مشاعر الغيرة والحقد لدى غالبية السكان بوجه هذه الأقليات. وهكذا تلاحظون في هذا الصراع بين الغالبية والأقلية أن الأقلية هي التي شرعت بشن الهجوم.

واما المرحلة الثالثة بعد نظام الامتيازات والحماية فهي دخول كل الإيديولوجيا القومية النابعة من الثورة الفرنسية والمبادئ التي نادت بها.

وباتت العقيدة المسيطرة من الآن فصاعداً هي عقيدة تقديس القومية. فالقومية فوق كل شيء. واتجهت، من جهة، بعض الجماعات الأقلوية إلى تكوين جماعات مستقلة وغريبة داخل غالبية السكان. هذه هي حال جماعة الأشوريين- الكلدان Assyro-chaldéens، وهذا أيضاً ما كاد يحصل مع الأرمن لأنه طُرح في لحظة ما تأسيس أرمينيا مستقلة. ولكن الأخطر من ذلك كان رد فعل جمهور الغالبية: ففي كل مكان اتجهت الغالبية إلى طرد كل الفرق المعتبرة أجنبية استناداً إلى العقيدة الجديدة؛ وكانت تريد إخضاع أو استئصال كل الفرديات الاجتماعية، وهذا ما يُفسر جهود دول الشرق لتصفية الأقليات.

لم نبلغ في سورية هذه الدرجة بعد. ولكن العراق يقدم لنا مثلاً عنها، وفي تركيا المثل أوضح.

وهكذا نرى أن تأثير الغرب هو الذي أدى تدريجياً بصراع الأقليات إلى أن يتخذ هذا المنحى المأساوي الذي يجعل من الأقليات واحدة من المسائل الأساسية في الشرق الأدنى.

بعد أن حللنا تطور مفهوم "الأقلية" في العصور الأخيرة، يبقى علينا أن نبحث في دول المشرق عن شتى أنماط الأقليات وكيف تتفاعل مع الظروف الراهنة. وذلك انطلاقاً من الأقليات البسيطة إلى أكثرها تعقيداً، وحينها سنرى أن كل أقلية تطرح مسائل خاصة وأصيلة.

(ص 34) الأقليات

الأقلية التركية

أول أقلية سأحدثكم عنها، وهي الأقرب إلى أفكارنا، هي الأقلية التركية؛ وهي تنطوي في الحقيقة على نموذج لغوي قومي، بل وإقليمي أيضاً، وهو نموذج غالباً ما نصادفه في أوروبا، على الأقل في أوروبا الوسطى والغربية. يبلغ وجود الأتراك ما بين 60 إلى 70 ألفاً. وهم بقايا الاحتلال[4] العثماني القديم؛ بعضهم منتشر في المدن، ولكن في الشمال استولى الأتراك على الأرض ومارسوا احتلالاً فعلياً، على حدود تركيا بالذات، في منطقة حلب، بل أكثر في المنطقة الساحلية من سنجق الاسكندرونة، وعاصمته أنطاكية، وهي مدينة تركية فعلية شبيهة تماماً بمدن الأناضول.

لسنجق الاسكندرونة الذي يعتبره الأتراك ألزاس- لورين تركيا تطور طريف. لم يلحظ فيه أي تراجع على الإطلاق للغة أو للسكان الأتراك أمام السكان العرب؛ وذلك لأن الأتراك يعتبرون أنفسهم متفوقين على العرب. أليسوا من عرق امبراطوري حكم لعدة قرون واحدة من أكبر امبراطوريات آسية؟ ومن جهة أخرى، هم فخورون جداً بلغتهم، ولا يحاولون مطلقاً استبدالها بالعربية. إن أتراك انطاكية استمروا طويلاً محافظين أكثر من الكماليين. ولكن نفوذ هؤلاء لم يكف عن التصاعد. وفي السنوات الأخيرة لوحظ تغيير سريع في ذهنية سكان انطاكية الأتراك؛ فواحدة من الصحف المحلية، الصحيفة التركية الوحيدة المطبوعة بحروف تركية عربية، تحولت وبدأت بكتابة التركية بالحرف اللاتيني. قبل سنتين أو ثلاث كان معظم واجهات المحلات يحمل كتابات التركية بالحرف العربي، ولكن الحرف الكمالي حلّ اليوم مكان الحرف التركي العربي. والثانوية الرسمية تضم شعبة عربية وأخرى تركية. الشعبة التركية على حيوية ملفتة وتوسعت كثيراً؛ بيد أن المتخرجين منها لا يجدون عملاً ولا وظيفة داخل الدولة السورية، لأن الغالبية المسلمة تنظر إليهم بعين الريبة. وهذا ما يلزم معظمهم في البحث عن لقمة العيش إلى الهجرة إلى تركيا الكمالية للعثور على عمل. وهكذا نلاحظ أمراً طريفاً في أن تتحول ثانوية تابعة للحكومة السورية يديرها فرنسيون إلى مدرسة للضباط أو الإداريين في تركيا الكمالية. فمتخرجو ثانوية أنطاكية مفضلون كثيراً في اسطمبول حيث يُمنحون كل المغريات الممكنة؛ وليس ذلك بحكم قيمة إعدادهم فحسب، بل خصوصاً من زاوية سياسية.

الأقليات الأرمنية واليهودية

مقابل هذا النمط من الأقلية الشبيه بالأقليات الأوروبية هناك أقليات الشتات Diaspora. إنهم الأرمن واليهود. ثمة قليل من الأرمن كسكان أصليين إذا جاز لنا استعمال هذا التعبير؛ هناك بضعة قرى في الشمال الغربي، في المنطقة التي شكلت في العصر الوسيط أرمينيا الصغرى.

أما الغالبية العظمى من السكان الأرمن فتتكون من (ص 35) شتات قديم سابق على الحرب (العالمية الأولى). وهذا الشتات موجود في جميع المدن، لا سيما في الشمال. وثمة موجة جديدة جاءت بعد الانسحاب من كيليكيا Cilicie، ومنها لجأ الأرمن المطرودون إلى دول المشرق. ويشكلون هناك أقليات موجودة تقريباً حصرياً في المدن، خصوصاً في بيروت وحلب. وفي حلب بالذات انتعش الأرمن انتعاشاً ملحوظاً. فالمتنزه في شوارع حلب الأساسية يخال نفسه أنه في مدينة أرمنية فعلاً: الكتابات المتصدرة لواجهات المحلات والإعلانات هي محصورة تقريباً باللغة الأرمنية. أما الوضع فعلى العكس في بيروت حيث ما يزال الحي الأرمني مجرد تجميع لأكواخ غير صحية وبؤرة للأوبئة والأمراض. ولكن ما أن يخرجوا من هذا البؤس الكامن حتى يتحول الأرمن بسرعة إلى منافسين خطرين لبقية السكان. ففي اللاذقية مثلاً، ما أن استقر الأرمن حتى استولوا تقريباً على كل الحركة التجارية الحديثة: السيارات، المواقف، إلخ... الحصيلة: إثارة غيرة وغضب السكان المستبعدين من هذه الأنشطة.

أما الشتات اليهودي في سورية فهو ضعيف للغاية. وعدد اليهود يتراوح ما بين 16 و17 ألفاً. وثمة جماعتان على شيء من الأهمية، في المدن فقط؛ واحدة في دمشق من حوالي ستة آلاف تقريباً، وأخرى في حلب من حوالي سبعة آلاف. وهذه الأقليات اليهودية ليست ضعيفة وتلعب دوراً ثانوياً من الناحية الاجتماعية فحسب، بل هي فقيرة أيضاً.

وعليه لم تكن لتوجد مسألة يهودية في سورية لو لم تكن فلسطين، وهي على حدود سورية، بؤرة الصهيونية.

والحال فالعالم العربي والشتات اليهودي متضامنان؛ وهذا ما لوحظ بوضوح عند مرور بلفور Balfour في دمشق، حيث تم تهديد الحي اليهودي من قبل السكان المسلمين.

هذا فضلاً عن أن الصهيونية تظهر كاستعمار جديد. تم التفكير بداية بحل مختلط: قد يكون اليهود أصحاب مزارع ويبنون المستعمرات باليد العاملة العربية. ولكن العقيدة الصهيونية الجديدة تريد أن يكون كل شيء يهودياً، وعمدت إلى تشريف العمل اليدوي. وهذا ما يشكل مسألة حياة أو موت بالنسبة لعرب فلسطين.

والحال فالصهيونية لا تكتفي بفلسطين، بل تحمل طموحات مستمرة في سورية. فلا يمر أسبوع إلاّ وتكشف صحيفة عربية عن مطامع صهيونية؛ طوراً على حدود فلسطين، وتارة في أقصى الشمال حيث يدور الكلام على تنازلات في الغاب، تنازلات عن أراض شاسعة لصالح شركات صهيونية لتخلق هناك مراكز مستعمرات زراعية.

أقليات متراجعة

ثمة نمط ثالث من الأقليات بالإضافة إلى النمطين السابقين، يمكن أن نسميه بقايا أقليات أو اقليات متراجعة (أقليات تراجعت ولم تضمحل minorités résiduelles). يقدم لنا الروم Grecs مثلاً على ذلك. سبق ان رأينا أن أنماط المسيحيين الروم كانوا يشكلون غالبية السكان في زمن الفتح الإسلامي؛ وحتى اليوم لا يوجد موضع في سورية، باستثناء المناطق الصحراوية التي انتشرت فيها موجات البدو، لا نجد فيه جماعات من الروم الأرثوذكس المترسخة الجذور هناك، في قرى من الفلاحين، لها ذاكرتها العميقة وحياتها الريفية العريقة؛ (ص 36) كما أنه لا توجد مدينة أيضاً إلاّ وفيها أقلية من الروم. ويبلغ عدد الروم الإجمالي 200000 نسمة.

يشكل تاريخ جماعة الروم في الشرق سلسلة من التراجع بدأت من فترة قديمة. لقد كانت مهددة حتى في زمن بيزنطية بالانقسامات بين اليعاقبة والنساطرة. ومن بين جميع الأقليات المسيحية كان الإسلام أكثر ما يرتاب بتلك التي هي على علاقة مع بيزنطية. وكذلك كانت الحال في زمن الصليبيين الذين فضلوا التفاهم مع الأرمن واليعاقبة أو النساطرة بدل التفاهم مع الروم.

ومع استتباب الوضع للامبراطورية العثمانية تَهدّد الروم نزاعٌ جديد، وهو النزاع مع الفنار Phanar الذي أراد بسط هيمنته بفرض اللغة اليونانية؛ أما الكنائس المحلية فكانت بالعكس ترغب باستعمال اللغة الدارجة، أي العربية.

وفي العصر الحديث انشق الروم الكاثوليك عن جماعة الروم الأرثوذكس، كما تعرض الروم من الناحية الاقتصادية إلى سلسلة من التراجع. فقبل الحرب (العالمية الأولى) كانت روسيا تدعم الروم الأرثوذكس وترسل الكثير من المال؛ ومنذ الحرب غابت عن المسرح روسيا المقدسة، وزال بذلك مصدر الدعم. كما أن نظام الامتيازات أيضاً هو الذي جعل من الروم الكاثوليك الوسطاء الطبيعيين بين الأتراك والأوروبيين؛ ولقد احتكروا تقريباً كل التجارة مع أوروبا، وهذا ما غاب أيضاً (بعد الحرب).

ولقد زال مصدر آخر هو الهجرة. لقد نجح جداً مهاجرو الأرثوذكس، لا سيما في أميركا الجنوبية. كانت هذه الجماعات المهاجرة غنية جداً وتدعم بأموالها الجماعات القديمة الباقية في سورية.

ومما زاد الطين بلة البروز الدائم للفضائح التي زادت من حركة الانشقاق: هناك حديثاً فضيحة طرابلس لأسباب أخلاقية، وكذلك انشقاق أسقف اللاذقية.

أقليات قيد التكوين

بالإضافة إلى هذه الأقليات المتراجعة هناك عدد من الأقليات المنقرضة، ومنها نمطان: لغوية الشركس، ودينية الاسماعيليون.

كان الشركس عبارة عن مستعمرات عسكرية أقامها السلاطين العثمانيون في جميع مناطق سورية الداخلية. وهم في الأصل مهاجرون أتوا من البلقان أو القوقاز، ونصادفهم من حدود تركيا حتى جنوب سورية، وإلى الأبعد من شرق الأردن. وهذه الجماعة هي اليوم في طور الاضمحلال؛ وفي الحقيقة هم سنة من حيث الدين، ومن حيث اللغة انهارت لغتهم وليس أمامهم فرصة لبعثها؛ ولا يعيش الشركس اليوم المركب الأقلوي: إنهم يختلطون بجموع السكان عبر الزيجات المختلطة.

بينما لا يشكل الإسماعيليون الشيعة غير جماعة صغيرة جداً، بين ستة وسبعة آلاف، يعيشون في منطقة جبال العلويين، وهم يتحدرون من قدماء أتباع "شيخ الجبل". وهنا أيضاً نشهد اضمحلالاً تدريجياً: فهم مجرد أقلية متراجعة.

(ص 37) أقليات ميتة

بعكس هذه الأقليات الميتة ثمة أقليات في طور التكوين، هي أقليات سديمية إن جاز التعبير. وهنا أيضاً لدينا نموذجان، واحد لغوي وآخر ديني. يعبر عن النموذج اللغوي الأكراد الذين يبلغ اجمالي عددهم حوالي 100 ألف. الأكراد تاريخياً هم مرتزقة رائعون، أقاموا في مستعمرات عسكرية؛ ففي دمشق ما يزال هناك حي باسمهم، حي الأكراد، الذين أتوا مع صلاح الدين. فضلاً عن أننا نعثر في كل مكان من سورية على آثار إقامتهم: حصن الفرسان Krak des chevaliers المعروف في الأصل باسم حصن الأكراد Hesn-el-Akrad؛ وثمة منطقة شمالي اللاذقية تحمل نفس الاسم.

ولكن، في كل هذه المناطق لا يوجد دور للمركب الأقلوي؛ ففي دمشق النساء فقط تتحدث بالكردية، ولا يتجاوز المركب الأقلوي حال التباهي الريفي المحلي التي نصادفها في فرنسا.

وبالعكس، ثمة مناطق أخرى سكانها من الأكراد فيها يمكن للمركب الأقلوي أن يلعب دوراً ما، نقصد المنطقة الحدودية مع تركيا: كورداغ Kurd-Dagh في الغرب وفي أعلى الجزيرة Haute-Djeziré، حيث جاء عدد كبير من الأكراد للإقامة في السنوات الأخيرة هرباً من الاضطهاد الكمالي.

لا يوجد حتى الآن مركب أقلوي كردي. لعل المسألة مسألة وقت، لأن ثمة مثقفين أكراد يسعون إلى تنمية هذا الوعي ونشر اللغة الكردية.

هل علينا تمني نجاح هذه الحركة وأن يمتلك الأكراد هذا الوعي القومي؟ النتيجة الأولى الناجمة عنه هو إثارة ردات الفعل العنيفة من قبل الدول المجاورة: تركيا والعراق، وإيران أيضاً.

بالإضافة إلى هذه الأقلية اللغوية، هناك أقلية دينية: أقلية العلويين. كان العلويين سابقاً واسعي الانتشار في كل سورية، ونعثر على آثارهم في كل مكان تقريباً: على حدود فلسطين، حول حلب، في كيليكيا. ولكنهم لا يشكلون اليوم أغلبية في غير منطقة واحدة: دولة العلويين سابقاً التي أصبحت اليوم حكومة اللاذقية. وهم يشكلون أقلية مضطهدة بحكم وضعهم الاجتماعي والاقتصادي البائس دوماً؛ هم مجرد "فلاحون" يسيء معاملتهم أصحاب الأملاك السنة أو المسيحيون.

ثمة ميل إلى أن ينتشر لديهم وعي قومي بتأثير الأفكار الوافدة من الغرب. ولكنه وعي في حالة التلاشي إن جاز القول، لأنهم ما أن يتحرروا من النفوذ الديني الذي يصنع لوحده أصالتهم حتى ينتهون في الجماعة العربية الثقافية الكبرى. العلويون أقلية ستختفي ما أن تتكون؛ وهنا أيضاً هل يجوز التمني بأن تتخذ وعياً بكونها أقلية؟

أقلية عصية على الإلغاء: الأشوريون- الكلدان

النوع الأخير من الأقليات الذي سأذكره هو نوع الأقلية العصية على الإلغاء irréductible. وأفضل نموذج عنها يقدمه الأشوريون الكلدان. وهم آخر بقايا الكنيسة النسطورية الكبرى التي انتشرت سابقاً حتى حدود الصين، والتي استمرت في مطلع الحرب (العالمية الأولى) في منطقة جبال هاكياري Hakkiari، منطقة وعرة حيث كانوا يعيشون في قبائل بإدارة بطريركهم. ولكنهم ارتكبوا مع الأسف خطأ (ص 38) اللعب على ورقة الحلفاء؛ فقاموا مع الروس ضد تركيا؛ وعندما انهزم الروس تمكنوا من النجاة بأنفسهم باجتيازهم مرغمين إيران والالتحاق بالجيش الإنكليزي في بلاد ما بين النهرين. وبذلك أصبحوا مرتزقة يعملون عند انكلترا، فكانوا هم من قام بقمع شتى الانتفاضات الكردية أو العربية.

وعندما زال الانتداب البريطاني على العراق جرت محاولة لإقامتهم في الشمال حول الموصل. ولكن ممارستهم دور المرتزقة على مدى 10 و15 سنة لم تمكنهم من العيش كمزارعين حياة هادئة. فتعرضوا لحوادث بليغة الخطورة. ونتيجة لاستحالة ترتيب حل لهم في العراق بالذات تعرفون أنه يُطرح اليوم موضوع نقلهم إلى سورية. وهنا يجدر بنا التساؤل حول مآلهم فيها.

وهنا أيضاً، نرى مرة أخرى أن النهاية الطبيعية للمركب الأقلوي الذي تطور بتأثير الغرب هو المجازر والتهجير الجماعي. وهذا ما يطرح من زاوية النظر السياسية والأخلاقية مسؤولية غير جائز المبالغة فيها. من الجميل جداً ممارسة سياسة الأقليات. ولكن علينا الاعتراف بأن إيقاظها معناه وضعها في البؤس والعذاب، وأن حمايتها تعني المغامرة في القضاء عليها.

 

[1] محاضرة ألقاها الفرنسي جاك وُلرس Jacques Weulersse أمام "فريق الدراسات الإسلامية" Groupe d’études de l’Islam، ونُشرت في المجلة الفرنسية "السياسة الخارجية" Politique Etrangère، المجلد الأول، العدد الأول، 1936، ص 29-38.

سافر وُلرس إلى سورية كعضو في المعهد الفرنسي في دمشق (1932-1938). وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية شارك فيها في فرنسا ثم في سورية. ذهب في بعثة إلى الشرق (1945-1946).

كان الشرق الأدنى حقل دراساته المفضل. ففي إقامته في سورية وضع أطروحته للدكتوراه حول "بلاد العلويين" (1941)، ثم دراسة حول نهر العاصي، وله مؤلف بعنوان "فلاحو سورية والشرق الأدنى" 1946.

ترجم هذا النص جوزف عبدالله.

[2] الاستئصال هنا بمعنى المصادرة، مصادرة كل المقتنيات والأملاك والثروات. بينما الاستئصال (البوغروم) بمعنى الإبادة (إبادة اليهود) فهو عبارة روسية الأصل تعني الانقضاض العنيف غالباً على جماعة يهودية. (المترجم).

[3] يسخلص القارئ هنا فكرة يتم بها تبرير الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، بصرف النظر عن صحة مبدأ المصادرة التي كانت معتمدة في بلدان الشرق. (المترجم).

[4] من الغريب أن امبراطوية كالامبراطورية العثمانية التي استمرت لأكثر من أربعة قرون في بلادنا نسميها بعد تقسيمها بفعل الحرب العالمية الأولى احتلالاً!

 

  back to Joseph Abdallah's Books