معركة نزع صلاحيات عرفات

العوامل التي فجرت أزمة السلطة وفتح والاحتمالات المتوقعة

 

حسين عطوي

 

الأزمة التي تفجرت داخل السلطة الفلسطينية وحركة فتح على نحو يكشف المدى الذي وصلت إليه، تظهر إنه لم يعد بالإمكان استمرار التعايش أو المساكنة بين التيارات المختلفة لحركة فتح والتي باتت على تناقض كبير خاصة بعد إقرار الحكومة الإسرائيلية خطة الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. والأسئلة التي تطرح اليوم هي: لماذا تفجرت الأزمة مجدداً على مصراعيها؟ من هي الأطراف المتصارعة؟ وبالتالي ما هي الاحتمالات المتوقعة؟

وبدون شك إن هذه الأزمة ظهرت على نحو أولي أيام تشكيل حكومة محمود عباس (أبو مازن) حيث حصلت صراعات وسجالات وعملية ضغوط متبادلة بين الجناح الذي يمثله عباس من جهة، والجناح الذي يمثله عرفات من جهة ثانية، وكتائب شهداء الأقصى من جهة ثالثة، حول موضوع الصلاحيات الأمنية. ففيما كان أبو مازن يطالب عرفات بالتنازل له عن الصلاحيات الأمنية تحت عنوان الإصلاح، كان عرفات يرفض ذلك ويحظى بدعم كتائب الأقصى التي رأت في حكومة أبو مازن وما تدعو إليه خطراً على خيار المقاومة الذي تجسده، ذلك أنها تسعى إلى تلبية الشروط الأميركية الإسرائيلية في وقف الانتفاضة والمقاومة، حيث لم يخفِ أبو مازن موقفه إزاء ذلك في اكثر من مناسبة، فهو اعتبر الانتفاضة والمقاومة وبالاً على الشعب الفلسطيني وأن لا سبيل في مواجهة إسرائيل غير التفاوض.

ولم يكن الجانب الأميركي والإسرائيلي بعيداً عن دعم حكومة أبو مازن خصوصاً بعد قمة العقبة حيث رمت واشنطن بثقلها من اجل محاصرة عرفات والضغط عليه للتخلي عن سلطاته إلى أبو مازن الذي سمي رئيسا للحكومة نتيجة هذا الضغط. إلا أن الصراع يومها حسم سياسياً لصالح رئيس السلطة ياسر عرفات الذي تمكن من إجهاض محاولات نزع صلاحياته وتهميشه بالاستناد إلى كتائب شهداء الأقصى، وكانت النتيجة استقالة حكومة أبو مازن ومن ثم تشكيل حكومة أحمد قريع الحالية. والأسئلة التي تطرح اليوم هي: لماذا تفجرت الأزمة مجدداً على مصراعيها؟ من هي الأطراف المتصارعة؟ وبالتالي ما هي الاحتمالات المتوقعة؟

 

عوامل تفجير الأزمة

أولاً: من الواضح إن هناك عوامل عدة تقف وراء تفجر الأزمة.

 

العامل الأول: مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون في خلق مناخات من الفوضى والحديث عن الفساد في السلطة الفلسطينية بهدف التغطية على قرار محكمة العدل الدولية بعدم الاعتراف بشرعية جدار الفصل العنصري والمطالبة بإزالته مما وضع إسرائيل في وضع دولي حرج جدا عمق من عزلتها العالمية، وفي هذا السياق يمكن تفسير المواقف التي أطلقها المبعوث الدولي تيري لارسن الذي تجاهل قرار محكمة لاهاي وركز حديثه عن قرب انهيار السلطة الفلسطينية بسبب عدم قيام رئيسها بإجراء اصلاحات ومحاربة الفساد.

 

العامل الثاني: استحقاق الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية بفعل تعمق المأزق الإسرائيلي وفشل رئيس الوزراء الإسرائيلي في إخماد الانتفاضة والمقاومة. وقد بات الحديث عن هذا الانسحاب جديا بعد إقرار خطة الانسحاب الأحادي من قبل الحكومة الإسرائيلية وما تبعه من تطور نوعي في عمليات المقاومة الفلسطينية في الفترة الأخيرة مما زاد من الضغط الإسرائيلي الداخلي لتسريع تنفيذ قرار الانسحاب الذي اصبح توقيته مرتبطاً بتكتيكات شارون الذي يحاول استثماره في إطار خطة تستهدف الضغط على الجانب الفلسطيني من اجل تقويض سلطة ياسر عرفات لصالح الفريق البيروقراطي في السلطة المستعد لوقف الانتفاضة وممارسة القمع ضد المقاومة، بحيث يسيطر هذا الفريق على الوضع في غزة بعد الانسحاب بما يطمئن إسرائيل أمنيا، وإذا لم يحصل ذلك فأقله دفع الأمر نحو نشوب حرب أهلية فلسطينية يتم تغذيتها من اجل أنهاك قوى المقاومة وخلق مناخ شعبي محبط ويائس يعزز خيار التيار الرافض لاستمرار المقاومة.

ومثل هذه الخطة أكدتها المواقف والتصريحات الإسرائيلية إزاء الأزمة المتفجرة حيث نقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن مصدر أمني إسرائيلي قوله: "هذا تطور إيجابي جداً يضعف عرفات ويعزز المعارضة الفلسطينية ضده". أما ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية فقد رأى أن "الأحداث في غزة واحدة من ثمار خطة الفصل وأن مجرد الحديث عن انسحاب إسرائيلي من غزة شجع الصراع الفلسطيني الداخلي من اجل السيطرة على القطاع". وقال وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز "يحتمل جداً أن تؤدي هذه السياقات إلى أضعاف عرفات والى أن تتولى الأمر قوى براغماتية".

 

العامل الثالث: دولي وإقليمي، فقد ظهر بوضوح أن العديد من الدول تدعم وتشجع الفريق المستعد لتلبية الاشتراطات الإسرائيلية داخل السلطة على التمرد على عرفات. وإذا كان هذا الدعم والتشجيع غير معلن ويجري وراء الكواليس قبل اندلاع الأزمة، إلا إنه عبر عنه بوضوح بعد تفجر الأزمة، فمصر التي دخلت بشكل علني على خط الصراع داخل السلطة الفلسطينية مارس وزير دولتها عمر سليمان ضغوطاً مكثفة على عرفات كي يتخلى عن صلاحياته الأمنية، وتحدثت مصادر فلسطينية عن حوارات ساخنة بين الجانبين وهو ما دفع الفصائل الفلسطينية العشرة إلى إصدار بيان ينتقد الدور المصري ويحذر منه.

أما الولايات المتحدة فان موقفها كان واضحاً في دعوة السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ إجراءات فعالة لوضع حد لأعمال العنف وإنشاء هيئة موحدة لضمان الأمن. وقال المتحدث باسم البيض سكوت ماكليلون: "الأهم أيضا الآن أن تكون هناك قيادة فلسطينية عازمة على تشكيل المؤسسات (الأمنية) اللازمة لقيام دولة فلسطينية... وقلنا دائما إنه من المهم أن تكون هناك حكومة فلسطينية عازمة على محاربة الإرهاب".

واللافت أيضا في المواقف الدولية دخول الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان على خط الضغوط على ياسر عرفات عندما قال: "إنها أزمة جدية مع رئيس الحكومة، ويتوجب على الرئيس عرفات فعلاً أن يستمع بما فيه الكفاية إلى رئيس الوزراء وكذلك إلى الأعضاء الآخرين في إدارته واتخاذ الإجراءات الضرورية لمراقبة الوضع". بينما قال مسؤول السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا: "نحن ندعم ونريد رئيس وزراء له صلاحيات، هذا هو هدفنا وسيكون من الصعب للغاية أن نرى عملية السلام التي هي هدفنا تتواصل ما لم تكن هناك سلطة فلسطينية".

 

العامل الرابع: داخلي، تشهد حركة فتح منذ تفجر الانتفاضة الفلسطينية عام ألفين على خلفية فشل اتفاق أوسلو وسقوط خيار التفاوض على حساب خيار المقاومة المسلحة أزمة أخذت بالتصاعد مع استمرار الانتفاضة واستمرار تمسك السلطة الفلسطينية بنهج أوسلو على رغم ما أدى إليه من نتائج سلبية. على أن الأمور بدأت تأخذ طابعا محورياً مع اشتداد الضغوط الأميركية الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية لإنهاء المقاومة والانتفاضة وقبول السلطة بخريطة الطريق التي تنص على ذلك، حيث برز بوضوح وجود ثلاث تيارات تتجاذب فيما بينها يسعى كل تيار لحسم الأمور لصالحه.

 

تيارات ثلاثة

التيار الأول وهو تيار كتائب شهداء الأقصى القوة العسكرية التي تشارك بفعالية في مقاومة الاحتلال وترفض التخلي عن خيار الانتفاضة وبدأت هذه الكتائب في الآونة الأخيرة بممارسة ضغوط متزايدة على ياسر عرفات كي يحسم خياراته باتجاه إحداث تغييرات وإصلاحات تعزز خيار المقاومة وتطهر السلطة من رموز الفساد والمتعاملين مع الاحتلال.

وظهر ذلك بوضوح من خلال البرنامج الذي تقدمت به الكتائب إلى عرفات ونشرت جريدة الحياة مقتطفات منه يدعو إلى تحقيق ثلاث أمور أساسية.

1 ـ العمل فوراً لإنهاء حال الانحراف الرسمي من خلال إقالة الشخصيات المسؤولة عن الانحراف والفساد ومارست العمل تحت سقف الاحتلال الإسرائيلي.

2 ـ إعادة الاعتبار إلى منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني من خلال إجراء حوار وطني جاد ومسؤول مع القوى الوطنية والإسلامية لإنجاز عملية إعادة البناء من خلال الفصل الكامل بين مؤسسات منظمة التحرير وقيادتها العليا وبين مؤسسة السلطة وقيادتها التنفيذية.

3 ـ إجراء انتخابات تنظيمية واعتماد كتائب الأقصى جناحا عسكرياً لـفتح بصورة رسمية والعمل على تمتين بنائها وتقوية أركانها وتأمين الإمكانات اللازمة لها لتبقى حصناً قوياً للحركة ومؤشراً واضحاً على تعددية خياراتها النضالية.

التيار الثاني، وهو التيار الذي بمثله أبو مازن ـ محمد دحلان، وهو يسعى بشكل واضح من اجل إحداث تعديلات وتغييرات داخل السلطة تؤدي إلى حسم خياراتها لصالح اعتماد خيار التفاوض مع إسرائيل على قاعدة التخلي عن الانتفاضة والمقاومة، مما يعني حل كتائب شهداء الأقصى لصالح تعزيز بناء الأجهزة الأمنية للسلطة لتكون القوة الأساسية التي تستند إليها لفرض سلطانها وإنهاء أي ظاهرة للمقاومة، ويبدو من الواضح أن هذا التيار له ضلع أساسي في تفجير الأزمة بوجه عرفات من اجل الضغط عليه لتقديم التنازلات التي رفض تقديمها لحكومة أبو مازن.

وفي هذا السياق يجري التناغم بين تقديم احمد قريع استقالة حكومته ورهن التراجع عنها برد عرفات على مسألة تحديد صلاحيات السلطات الثلاث في السلطة الفلسطينية، وبين ما يجري على الأرض في قطاع غزة من استقالات لروؤساء أجهزة أمنية ومهاجمة مركز الاستخبارات في رفح وتظاهرات معارضة للتعيينات التي أعلنها عرفات، فيما رد أنصار عرفات بتظاهرات مؤيدة له ولقراراته.

والواضح أن هذا التيار أراد تفجر الأزمة الآن لشعوره بان الأمور لن تكون لصالحه بعد حصول الانسحاب الإسرائيلي الأحادي وأن الفرصة الآن هي افضل بالنسبة له لممارسة الضغوط على عرفات لدفعه لتقديم تنازلات له.

التيار الثالث، وهو التيار الذي يمثله ياسر عرفات والذي ينتهج منذ فترة سياسة مسك العصا من الوسط ، يدرك من جهة أن الاستجابة لمطالب التيار الثاني بالتخلي عن الصلاحيات يعني تهميشه وإقصائه، ومن جهة ثانية لا يريد الانحياز الكامل لخيار كتائب شهداء الأقصى الداعي لإقصاء رموز التيار الثاني لان مثل هذا الإجراء سوف يؤدي إلى إعلان إنهاء سلطته من قبل إسرائيل والولايات المتحدة.

ولهذا يقف عرفات بين الطرفين لا يريد خسارة أحدا منهما لان ذلك يؤدي إلى فقدانه للسلطة.

 

في الاحتمالات المتوقعة

من الواضح أن الأزمة تفجرت بعد أن بات التعايش والمساكنة بين هذه التيارات الثلاثة داخل حركة فتح والسلطة صعباً ويبدو مستحيلاً نتيجة ازدياد الافتراق السياسي بينهم. فكتائب شهداء الأقصى التي تعبر عن قاعدة فتح المنخرطة في الانتفاضة والمقاومة تجد نفسها تقترب اكثر فاكثر من التحالف مع حركات المقاومة الفلسطينية الأخرى (حماس، الجهاد، الشعبية). وهو ما اصبح يتجسد من خلال التنسيق الميداني في تنفيذ العديد من العمليات الفدائية المشتركة والتي كان آخرها عملية حفر النفق وتفجير الموقع الإسرائيلي في قطاع غزة.

أما التيار البيروقراطي صاحب العلاقة مع إسرائيل وأميركا فيرى أن وجوده بات مرتبطاً بمدى قدرته على حسم الصراع لمصلحته قبل الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة والضفة الغربية، ذلك أن هذا الفريق بات يدرك أن الزمن لم يعد يعمل لصالحه، وفي حال حصول الانسحاب قبل تمكنه من حسم هذا الصراع لمصلحته، فان موازين القوى سوف تختل لصالح قوى المقاومة اكثر من أي مرحلة مضت مما يجعلها قادرة على إدارة المناطق التي سيرحل عنها الاحتلال.ولهذا فأن كل تيار يمارس ضغوطه على عرفات كي يحسم خياراته لصالحه.

لكن السؤال هو في أي اتجاه سوف تسير الأمور؟ من الواضح أن عرفات يحاول المناورة وعدم حسم الأمور نهائياً، غير أن الوقائع الحاصلة على الأرض تشير إلى أن الأوضاع وأن أخذت منحى المد والجذر في موضوع الأزمة المتفجرة إلا أنها على الأرجح سوف تحسم لصالح التيارات الفلسطينية الداعية إلى تشكيل قيادة وطنية فلسطينية موحدة لمواجهة المرحلة القادمة بعد الانسحاب الإسرائيلي، وهو ما عبر عنه بيان الفصائل الفلسطينية الثلاثة عشرة ومن بينها فتح وحماس والجهاد والشعبية، الأمر الذي يعكس أرجحية ميزان القوى لصالح هذه القوى التي تحظى بتأييد شعبي واسع حيث أفادت استطلاعات الرأي مؤخراً أن نسبة 70 إلى 80 في المائة تؤيد استمرار المقاومة والانتفاضة، وأن عمليات اغتيال الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي لم تؤدِ إلى الإخلال بميزان القوى لصالح الفريق المتماهي مع المطالب الإسرائيلية الأميركية.