الاستبداد الليبرالي

أو فجور الهيمنة الأميركية ومآلها

 

د. جورج حجار

كاتب من لبنان

 

لا تشكل أميركا الرايخ الرابع خطراً على العراق والوطن العرب فحسب، إنما تشكل تهديداً وخطراً على الشعب ألأميركي بالذات وعلى البشرية جمعاء. وعليه يقوم بحثنا على هذه الركيزة (القاعدة): "أميركا، أكثر من أي أمة، لربما ولدت لكي تموت" (إنترناشيونال هيرالد تريبيون، 2-6-2004)، روبرت كابلان، صاحب كتاب "الفوضى الآتية".

يزعم القادة الأميركيون الحاكمون "أن الخطر على سمعة أميركا إذا انسحبت من العراق سيكون أكبر مما لو بقيت هناك". لذلك ليس لديهم استراتيجية خروج. وسيحاولون قبل تقليص قواتهم ولجوئهم إلى ملاذ شبه آمن، إلى 16 قاعدة عسكرية في العراق، تحقيق مبدأ ويلسون الذي أعلنه بعد عدة حملات متواصلة على المكسيك في العام 1915، عندما قال: "سأعلم هؤلاء الأميركيين الجنوبيين انتخاب أشخاص صالحين". هذا ما يسعى إليه القادة الأميركيون قبل مغادرة المسرح العراقي العام والانكفاء إلى القواعد العسكرية مقتنعين بتفوقهم الأخلاقي الراسخ وقدرتهم على اخفاء الأدلة حرصاً على "الأمن القومي الأميركي" وتناسياً لثمن الحرب والكلفة المادية والمعنوية التي ترهق الشعبين العراقي والأميركي وتربك العالم بأسره.

وتبني هذه السياسة الخرقاء ينبع من موقف بوش وصحبه الذين لا يأخذون بعين الاعتبار حماقة التدخلات الخارجية المفتوحة والمقاومات التي تستولدها والتي يشير إليها روجر أوين بتجربة فييتنام وتبعاتها التي أقنعت فريق تشيني–رامسفيلد بأن الدرس الحقيقي منها هو "التغلب على ما أبدته أميركا وقتها من الضعف والافتقار إلى التصميم" لا الهروب من المعركة والاندحار أمام الإرهاب الدولي الذي كان على "صلة" بصدام حسين. وكان لصدام علاقة بالهجوم على كاتدرائيات الرأسمالية الأميركية.

 

الماضي كمرتكز للمستقبل

في أميركا، المحافظون يجاهرون بما يضمره الليبراليون ويتناوبون على السلطة على طريقة "توأمان يتعذر التمييز بينهما". في الخمسينيات والستينيات كان الفريقان منغمسان انغماساً كلياً في معاداة الشيوعية ومحاربة الإلحاد والمناداة بالقيادة الأميركية "للعالم الحر" وبتوسيع تلك الدائرة ما أمكن. وفي تلك الفترة بدأ العالم الثنائي القطبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانتهى إلى تعددية قطبية في الستينيات مع عودة اليابان وألمانيا إلى الساحة الدولية، وبروز كتلة عدم الانحياز كقوة معنوية وأخلاقية. وأبان تلك المرحلة، وتحديداً في الخمسينيات تمحورت السياسة الأميركية الخارجية حول وراثة الامبراطوريات المتهاوية وقمع التمردات التي ظهرت في مناطق نفوذها وذلك تأسيساً على قاعدة يالطا وتقاسم العالم بين العملاقين الرئيسيين آنذاك: السوفييت وأميركا.

إزاء تلك التحولات العالمية، برز في أميركا في مطلع الستينيات رؤيتان: الأولى تفردت بها مجموعة كينيدي "رجال التخوم الجدد" (The New Frontiers Men)، المجموعة الأطلسية المنشأ والموقع والتوجه، وتدهورت باغتيال كينيدي في 22-11-1963؛ والثانية مجموعة جونسون التي جمعها الشعار – السياسة الاجتماعية، "المجتمع العظيم" (The Great Society) –المقولة – الرؤية الازدواجية المنحى – الجنوبية الموقع والهوى التكساوي النفطي، الإنجيلي الأخلاقي والذي يتطلع في آن لفرض الهيمنة وشن الحروب كطريقة حياة والسير قدماً على قاعدة "الصفقة الجديدة" (The New Deal) الاصلاحية الجذرية التي ابتدعتها مجموعة روزفلت في الثلاثينيات لتجديد الرأسمالية بعد سقوطها المريع عام 1929 واستوعبت صدمة الانهيار ولكنها لم تخرج من أهوال وويلات الكساد والركود إلاّ في الحرب العالمية الثانية التي جاءت كطوق نجاة للرأسمالية الدائمة الدورات بين الصعود والازدهار والهبوط والإفلاس وأحياناً الذوبان كما حدث عام 1997/1998 لنمور آسيا.

إن سياسة الحرب-الخبز أو الرفاه التي اعتمدها جونسون أفضت إلى التصعيد في فييتنام وغيرها وإلى انهيار الرأسمالية ثانية في العام 1971 وخروج أميركا من معيار الذهب (Gold Standard) وتالياً إلى هزيمة أميركا وهروبها من فييتنام وإصابتها بمرض "عقدة فييتنام" التي تصور بوش الأب أنه ركلها برقى وتعاويذ حرب الخليج الثانية. وعليه لاحتواء هزيمة فييتنام وتبعاتها كان الحل عند المحافظين هو التخلص من سياسة الحرب-الرفاه والتركيز على سياسة الحرب-الخلاص. وفي هذا السياق، انتصرت تاتشر في بريطانيا عام 1979 وريغن عام 1980، وشرعا في تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي واستبدالها بسياسة الخصخصة ورفع القيود داخلياً والتصعيد خارجياً وفي سباق التسلح وشن الحروب مباشرة أو بالنيابة كما حدث في أفغانستان وإغراق الاتحاد السوفييتي في فييتنامه الخاصة وإفلاسه.

لذلك يبدأ العالم الجديد أو القرن الجديد في 9 تشرين الثاني 1989 مع انهيار جدار برلين الذي شيده خروتشوف في 13 آب 1963، تمهيداً لسقوط الاتحاد السوفييتي في 25 كانون الأول 1991، وإعلان الانتصار النهائي للنموذج الرأسمالي ودخول العالم في طور "العولمة"، التعبير المخفف لداروينية اجتماعية عالمية تقودها أميركا، وانتقال أميركا من طور الامبراطورية إلى طور الرايخ الرابع الذي سيسقط بغداد وينكفئ إلى "قلعته الحصينة" التي زعزع أسسها الإسلام الوهابي الذي حمته أميركا ودعمته منذ العام 1932 ودربته وسلحته ومولته لمحاربة السوفييت في أفغانستان وهو الآن يرد جميلها بفخر وامتنان.

 

العسكرة والقناصل

"إن الناس لا يحبون الإرساليات المسلحة" روبيسبيير

لم يمض على سقوط جدار برلين أسبوع واحد حتى قدم الجنرالان كولن باول وبتلر مشروعاً استراتيجياً جديداً للسنوات الخمس القادمة (1990-1994)، في 15 تشرين الثاني من عام 1989. قامت هذه الاستراتيجية على مبدأين. مبدأ "الدول المارقة"، ومبدأ القوة – القاعدة التي لا يجوز أن ينخفض عديدها عن مليون وستماية ألف جندي. وتمت الموافقة على المخطط في 26 حزيران 1990، والإعلان عنه في الثاني من آب 1990، في مؤسسة أبسين في كولورادو (Apsen Institute Colorado). فمع الغياب العملي للكتلة السوفييتية أصبح النموذج المحدد لسياسة الأمن القومي الأميركي الأخطار الإقليمية. واعتمدت المعايير التالية لتحديد الدول المارقة: 1) الدول ذات العداء التاريخي للغرب؛ 2) الدول التي تحاول الحصول على أسلحة الدمار الشامل؛ 3) الدول التي لا تحترم قواعد السلوك السائدة في المجتمع الدولي؛ 4) الدول التي تؤيد الإرهاب؛ 5) الدول التي تملك مؤسسات عسكرية ضخمة وحديثة. وبناء على هذه المعايير صُنفت العراق وإيران وليبيا وكوريا الشمالية وسورية وكوبا دولاً مارقة.

لقد أحدث تبني وإعلان الاستراتيجية العسكرية ضجة كبيرة في الوساط الديمقراطية والليبرالية في أميركا، ليس لأن بعض الدول صُنفت "دولاً مارقة"، بل لأن تلك الأوساط كانت تتوقع أن نهاية الحرب الباردة ستعني نهاية هستيريا الحرب الباردة التي كانت تروج لها القوى المحيطة بالمجمع الصناعي العسكري، ووضع حد لذهان الحرب التي كان يبشر بها اليمين في مناهضته الصاخبة للشيوعية والالحاد، وبالتالي تحويل جزء كبير من ميزانية التسلح ونفقات الجيوش والقواعد العسكرية إلى حلّ القضايا الاجتماعية المتفاقمة والمؤجلة وتحسين جودة الحياة في ظل السلام والتصرف "بربحية السلام (Peace Dividend) للصالح العام ومساعدة الفقراء، وذلك بعدما كان قد كلف كل فرد أميركي 82 ألف دولار لخدمة مآرب تلك الحرب. وعليه اعتبرت الأوساط الليبرالية أن البنتاغون، بتبني مبدأ "الدول المارقة" كان يعاني من الهوس والاستحواذ غير المبرر وجنون العظمة، وأنه يخترع أعداء-أقزام وتافهين حرصاً على امتيازاته وسلطاته وسلطانه.

أما القراءة الاستراتيجية لمبدأ "الدول المارقة" فقد امتاز بدراستها البروفسور مايكل كلير (Michael Klare) الذي كتب بحثاً في كتاب السياسة الدولية بعنوان "صناعة الأعداء للتسعينيات" (World Politics 96/97) واتهم البنتاغون باختراع نظرية "الدول المارقة" لتسويغ استمرارية سياسة الحرب الباردة وعدوانيتها ونيل رضى الدولة والمجتمع تحت مظلة المصلحة القومية. وعليه، يقول كلير إن البنتاغون وضع في سلة واحدة سبع دول متفاوتة القوة وفي قارات مختلفة لكي يقنع المواطن بأن العدو على الأبواب وفي كل مكان، ويقنعه بأن "الأخطار الإقليمية" المحدقة واحتمال نشوب الحرب على عدة جبهات في آن واحد أمر ممكن، ولكي يحث الكونغرس على الموافقة على أن "أشرار الدول المارقة" يشكلون خطراً كبيراً على الأمن القومي وتحدياً أخلاقياً للحضارة.

من هنا يمكننا أن نفهم الحيثيات الأميركية لشن الحروب التي شنتها في التسعينيات، من حرب الخليج الثانية إلى البلقان وغيرها، وكيف ولماذا تم التخطيط لحرب الخليج الثانية في العام 1991 وحرب احتلال العراق عام 2003 والاطاحة بنظامه السياسي. وفي هذا السياق نذكر بأن مجلة تايم كشفت في أعقاب حرب الخليج الثانية، 11-3-1991، أن دراسات الاحتمالات التي كان البنتاغون يعدها منذ السبعينيات كانت تعتبر العراق العدو المحتمل في الخليج والمنافس الاستراتيجي الأوحد وتعتبره المقياس-العلم (Standard of measurement) للإعداد لمواجهته. لكن البروفسور كلير كشف ما تغاضى عن كشفه غيره من دارسي استراتيجيات البنتاغون، وما كانت تخططه أميركا للعراق عام 1990، إذ كتب: "قبل أن يدخل جندي عراقي واحد إلى الكويت كان البنتاغون قد استكمل استعداداته في مطلع آذار 1990، وكان قد وضع الخطط العملانية واعتمد المفاهيم الأساسية لعمليتي درع الصحراء وعاصفة الصحراء، وذلك تضمن انتشار قوات ضخمة في السعودية وقرر الاعتماد الكلي على القوات الجوية الصاعقة والوحدات المدرعة لتدمير العراق وجيشه... ويستنتج كلير أن حرب الخليج الثانية كانت الاختبار الأول للسلاح الجديد وفاعليته ونظرية "الدول المارقة" ومركزيتها ولمنع خفض القوات المسلحة وتزويدها باحساس جديد هادف لرفع معنوياتها.

في مؤتمر للقيادات العسكرية العليا، 9 آذار 2000، أطلق الجنرال أنتوني زيني على نفسه ورفاقه في السلاح مصطلح بروقنصل (Proconcul) الذي اقتبسه من تجربة الامبراطورية الرومانية لكي يعبر عن تحول الولايات المتحدة إلى امبراطورية جديدة على منوال روما، الأمر الذي يعارضه رفاقه ويدعون للتنصل من لعب هذا الدور، لأن لعبه يعني نهاية الجمهورية الأميركية وتحول القيادات العسكرية المنتشرة في القارات الخمس إلى مندوبين سامين مباشرين، كما في العراق والخليج، أو غير مباشرين كما هي الحال في معظم أرجاء العالم التي تسيطر عليها الولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. إن ظاهرة "البروقناصلة"، كما مارسها جنرالات أميركا في 82 حرباً شنتها أميركا أو حرضت عليها أو اشتركت فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تظهر بشكل لا يقبل الشك كيف أن الجنرال الأميركي اختزل في شخصه السياسة والاقتصاد والثقافة والعسكر. ومما يقلق زيني وأقرانه، ليس الدور الذي لعبوه أو يلعبونه في العالم فحسب، إنما الدور المؤثر الذي يلعبونه في المجمع الصناعي العسكري في أميركا وعسكرة أميركا وتالياً العالم بأسره.

وزيني الذي تحمل مسؤولية وقيادة "القيادة المركزية" انطلاقاً من تامبا فلوريدا والمسؤولة عن "25 دولة"، من المغرب الأقصى إلى إندونيسيا مروراً بكافة الأقطار العربية وبلدان القوقاز ومحيطها، يدرك تماماً دور "البروقنصل" بجلاء مفعم بالحيوية في حرب الاحتلال التي شنتها أميركا على العراق بقيادة فرانكس الذي خلفه أبي زيد وقائده الميداني سانشيز الذي لعب دور الثنائي مع بريمر "الديكتاتور المطلق" حسب تعبير الأخضر الإبراهيمي. بإيجاز، العسكر والقناصل والشركات التي يتولون قيادتها أو يجلسون على قمة مجالس إدارتها كمستشارين هي التي تحكم أميركا وتتحكم في العالم كما يرى معظم دارسي الظاهرة والباحثون في التحولات التي ظهرت في أميركا والعالم.

 

الحرب الامبريالية والديمقراطية

"إن حكومتنا هي المعلم الفعال الكلي الوجود. إنها تعلم الجميع بالمثل سواء كان عملنا جيداً أو سيئاً. إن الجريمة معدية، فإذا تحولت حكومتنا إلى مخالف للقانون فإنها تستولد ازدراء القانون، وتدعو بذلك كل رجل كي يتحول إلى قانون بذاته ولنفسه". لويس برانديس، أول قاض يهودي مشارك في المحكمة العليا الأميركية (1916-1939).

"الولايات المتحدة أطول من باقي الأمم ولذلك فهي ترى لمسافة أبعد" مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية في عهد كلينتون.

"إن إله أميركا أقوى من إله الإسلام الذي علينا قهره" الجنرال الأميركي جيري بوكين.

لقد اتخذت الولايات المتحدة من زلزال 11 أيلول 2001 منطلقاً لتغيير الوطن العربي والعالم الإسلامي انطلاقاً من بغداد كنموذج يحتذى بعد "التحرير" عوضاً عن اصلاح ذات البين وتغيير عالمها المتصدع داخلياً آنذاك والذي بدأ يتبلور فيه الاستقطاب الاجتماعي ويبرز فيه التفاوت الطبقي بشكل فاضح ويتزايد فيه أعداد الفقراء والمظلومين والعاطلين عن العمل من أبناء الطبقة الوسطى الذين فقدوا في عالم التسعينيات ما بين 600 ألف إلى 700 ألف وظيفة سنوياً. وحوّل النظام الرأسمالي مواطنيه تحت وطأة العولمة من حالة الإنسان العاقل (Homo Sapiens) إلى حالة الإنسان الاقتصادي (Homo Economicus)، لقد وجد هذا النظام المترنح ضالته في 11 أيلول للتخلص من مأزقه التاريخي والهروب إلى الأمام ببعث القومية الشوفينية "الشيطان في القبو" كما وصفها أناتول ليفين في بحثه عن صعود القومية الأميركية (السفير، 10-3-2004)، حيث شرح ليفين "العقيدة الأميركية" وتحول مكوناتها في المبادئ الكونية المتعارف عليها كالحرية والديمقراطية والمساواة وغيرها إلى مكونها المحدد "البروتستنتية الكرومويلية" التي تمثل المهزومين في جنوب الولايات المتحدة والمضطهدين الذين جاءوا من الخارج إلى أميركا ومتذبذبي البرجوازية الصغيرة المنهارة، وتغذي النزعة الحربية في صفوفهم حيث تندرج مرحلياً الأصولية الإنجيلية. تلك القومية المتشنجة مع مكونها الويلسوني، أي الثنائية المنحى، يجد فيها أحد أعمدة الفكر اليميني إيرفنغ كريستول مدخلاً إلى "الأمل في مستقبل الأمة وعظمتها... وعنصراً ثورياً، هو عبارة عن التزام بصورة مثالية تتميز بروح صليبية، عن الأمة ودورها في العالم". وعليه اجتاحت أميركا أفغانستان (من 7-10 إلى 13-11/ 2001) لكي تثأر للقومية الأميركية الجريحة، واسقطت "نظام طالبان" بسرعة مذهلة وتكلفة لا تذكر، ألا وهي 70 مليون دولار لشراء قادة القبائل واستخدام 110 عناصر من وكالة الاستخبارات الأميركية و316 عنصراً من القوات الخاصة لتحقيق هدف الإطاحة، كما جاء في كتاب بوب ودورد "بوش في الحرب".

ولم تتوقف أميركا بوش وتقرأ في كتاب الإرهاب المؤسسي الذي ابتدعته وامتازت في ممارسته على مدى قرنين من الزمن وأكثر، فبعثت الحياة في النص المنجز الذي شرعته إدارة كلينتون تحت عنوان "قانون تحرير العراق" لعام 1998. وراحت إدارة بوش تناور وتخادع في المحافل الدولية وفي أميركا وتخترع الذرائع الزائفة، من أسلحة الدمار الشامل إلى علاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة وأحداث 11 أيلول إلى ديكتاتورية النظام واستبداده، لتبرير شن الحرب على العراق وتغيير نظامه. وتصورت أن العراق هو أفغانستان أخرى، لذلك فصل رامسفيلد الجنرال شانسكي عندما وضع الثاني مخططاً يتطلب 500 ألف عسكري لتحقيق النصر واحتواء تبعات الحرب وضبط الأمن في العراق.

وبينما كانت واشنطن-البنتاغون تعد العدة للحرب استنفر بوش-تشيني ليكوده العقائدي في الصحافة والتلفزة وغيرها مما أوصل التأييد للحرب على العراق إلى 71 بالمئة من الرأي العام الأميركي، وكانت الحملة قد وصلت إلى أوجها في خطاب "حال الأمة" (29-1-2002) الذي رفع فيه بوش مرتبة العراق وكوريا الشمالية وإيران من مرتبة "الدول المارقة" إلى مرتبة "دول محور الشر"، وتبنى كذبة أن العراق ابتاع اليورانيوم من النيجر لصنع القنبلة الذرية، وراح يبشر بدنو زوال النظام العراقي، فاستبدل (1-6-2002) "نظرية الاحتواء"، القاعدة التاريخية الاستراتيجية للسياسة الأميركية الخارجية منذ الحرب العالمية الثانية، بنظرية "الحرب الاستباقية" التي شكلت حجر الزاوية في "استراتيجية الأمن القومي" التي اعلنها كاستراتيجية عليا في 20 أيلول 2002. وفي نفس الوقت أطلق عملية كذب وتضليل في أروقة الأمم المتحدة لكي تمنحه غطاءً دولياً وتشرعن حربه التي شنها في نهاية المطاف خارج الشرعية الدولية في 20 آذار 2003، وأعلن نهاية العمليات العسكرية الكبرى في الأول من أيار 2003.

بعد الاطاحة بالنظام العراقي وجد بوش أمامه خيارين. الأول، محاولة تطبيق النموذج الياباني-الألماني الذي طرحه المستشرقون أمثال كنعان مكية (23-11-2001) وبرنار لويس وفؤاد عجمي، والذي يتطلب من 10 إلى 15 سنة لتحقيقه كحد أدنى. والثاني، الذي نادى به ستانلي كوريتز تحت يافطة الامبريالية الديمقراطية على غرار النموذج البريطاني-الهندي الذي استولد نخبة هندية تتكلم الإنكليزية وقد وصلت إلى الحكم وجعلت من الهند بلداً ديمقراطياً، بعد أكثر من قرنين من حكم "الشركة الشرقية". واعتبر عقلانيون من أمثال جايمس واب أن المشروعين المطروحين، أو أي مشروع يتطلع إلى غرس الديمقراطية في العراق والعالم الإسلامي يستغرق من 30 إلى 50 سنة لإنجازه عند المتفائلين، واستحالة تحقيقه بالمطلق عند المتشائمين. والملفت أن الإدارة الأميركية وأصحاب المشاريع المختلفة لم يأخذوا بعين الاعتبار احتمال ظهور المقاومة السلمية أو المسلحة لمناوأة أميركا ومحاولة إسقاط مشاريعها الشرق أوسطية لحماية مصالحها وضمان أمن إسرائيل وسيادتها في المنطقة. وفي هذا الصدد، يطرح عميد كلية كينيدي للسياسة في جامعة هارفرد، جوزيف ناي، داعية "القوة الناعمة" لتحقيق المآرب الأميركية، أن على اميركا التركيز على الديبلوماسية العامة لحل مشاكلها وخلق "وكلاء محليين" لتجاوز المقاومة واسترضاء الشعوب العربية والإسلامية.

ومع تعثر المشروع الأميركي، إذا لم نقل تدهوره، بدأت معالم إعادة النظر في الحرب تبرز خاصة عندما فشلت أميركا في إيجاد أسلحة دمار شامل وفشلت في كبح جماح حركة الكفاح المسلح وانتشارها في جميع أرجاء العراق العربي. وبدأت ترتفع اصوات أميركية نقدية وتغير مواقفها، ومنها: 1) كينيت بولاك الذي نشر كتاباً عام 2002 حض فيه على غزو العراق واعتبره "العاصفة المهددة" وطلع بمقولة: "إنه البترول أيها الغبي"، وضمان أمنه، لا الديمقراطية ولا تغيير الأنظمة (Foreign Affairs, july-aug. 2003). 2) ولحقت ببولاك مادلين أولبرايت التي تساءلت عن سياسة بوش الحربية وأهدافها، وهل هي لبناء الجسور أو قصف القنابل، أو التوعد بالدمار، وذلك تحت عنوان "الحرب الخطأ" (Foreign Affairs, sept.-oct. 2003) ونبهت أن نظرية "الحرب الاستباقية" هي النظرية المضمرة التي استخدمها كل رؤساء أميركا دون الإجهار بها لأن ذلك يؤدي إلى تعكير صفو العلاقات الدولية ويخلق سوابق لا يمكن حصرها، وما استخدمه الرؤساء هو "الدفاع التوقعي عن الذات" (Antyicipatory Self-defense) لا عربدة التوعد والوعيد. 3) أما الجنرال أنتوني زيني فقد اتهم دون خجل أو وجل، إدارة بوش بالفشل في إدارة الحرب وطالب بإقالة المسؤولين المدنيين في وزارة الدفاع، واتهمهم بشن الحرب من أجل إسرائيل. ونبه على أن العرب والمسلمين لا ينظرون إلى أميركا كرافعة لقيام الديمقراطية إنما "كغزاة صليبيين جدد، كقوة احتلال" لا كقوة تغيير ديمقراطي (الحياة، 25-5-2004).

 

خصخصة الحرب

تصفيح الديمقراطية وعالم أميركا المتصدع

"لا يتوافق الحفاظ على السيطرة الأميركية مع أي ادعاء بحب الغير... علينا التوقف عن الحديث عن أهداف غامضة وغير حقيقية كحقوق الإنسان والديمقراطية" جورج كنان، "نظرية الاحتواء"

"ليس "تمثال الحرية" رمز أميركا، في الشرق الأوسط وفي هذه الأيام بالضبط، بل هو السجين الواقف على صندوق وهو يرتدي الكاب الأسود وقلنسوة البرنس على رأسه وجسده موصول بالأسلاك، وخائف من أن يعدم بالصدمة الكهربائية. إن حدوث التعذيب والإساءة الجسدية للسجناء في أبو غريب قد أفضى إلى أزمة مصداقية لأمتنا". السيناتور إدوارد كينيدي، (إنترناشيونال هيرالد تريبيون، 8 و9-5-2004).

يقول دعاة سلطة "القوة الناعمة" (ناي وغيره) أن الديبلوماسية العامة (الشعبية) لن تكون ذات فعالية ما لم ينسجم جوهر وشكل السياسات الأميركية مع الرسالة الديمقراطية الموسعة، ويقارنون بين الميزانية المخصصة للعسكر والميزانية المخصصة للديبلوماسية، فيجدون أن ربع الواحد بالمئة (0.025%) مخصصة للديبلوماسية من أصل 450 مليار دولار للميزانية العسكرية، فيطرحون شعار "علينا توظيف دولار واحد لإطلاق ونشر الأفكار مقابل كل 100 دولار تستثمر في إطلاق القنابل".

في 31 أيار 2004، وفي كمين استهدف القوات الأميركية الغازية في العراق سقط اربعة موظفين امنيين من شركة الأمن الخاصة (المرتزقة) بلاك ووتر (Blackwater, USA)، وتم تشويه جثثهم، الأمر الذي أرعب الأميركيين وصحبهم. كان الجند المقاولون حسب التقارير الأميركية متحدرين من جند العمليات الخاصة للجيش الأميركي، وأعلنت لاحقاً نبذة عن حياتهم العسكرية...

لا نتحدث هنا عن عملية عابرة حصلت في العراق واتهم الشعب العراقي بسببها بالبربرية، إنما نتعاطى مع ظاهرة عسكرية عابرة للقارات على منوال الشركات المتعددة الجنسية الاقتصادية والمالية وغيرها من مظاهر العولمة والخصخصة المنفلتة في العالم. نقصد ظاهرة استبدال الجيوش النظامية والمعترف بها دولياً والمسؤولة عن تصرفاتها، بينما لا محاسب ولا رقيب على شركات الأمن الخاصة التي تختص بحماية القتلة والمهربين في العالم مروراً بمحاربة الإرهاب والمشاركة في حروب المدن والحروب الأهلية إلى استجواب السجناء في سجون العراق (وعددها 17 سجناً) وخاصة في سجن أبو غريب. باختصار، إنها ظاهرة تزداد عمقاً واتساعاً وجندها عملوا ويعملون مكان الجيوش النظامية من أميركا الجنوبية إلى إفريقيا فالشرق الأوسط، وخاصة منذ أحداث 11 أيلول، في أفغانستان والعراق. وقد نشر الباحث بيتر سنجر (بروكينغ إنستيتيوشنBrooking Institution) كتاباً عن الموضوع بعنوان "محاربو الشركات، صعود خصخصة الصناعة العسكرية" (Corporate warriors: The Rise of the Privatized Military Industry).

يكشف سنجر أن شركات الأمن الخاصة قد ظهرت بشكل واسع ومنظم منذ مطلع التسعينيات. وقد احترف في تنظيمها رجال أعمال وضباط متقاعدون وضباط أفرزتهم سي أي إيه وغيرها ومغامرون من كل حدب وصوب. وقد تحولت الصناعة الجديدة التجارية من رديف إلى بديل ممكن في حروب أميركا في أفغانستان والعراق والحروب المقبلة، وكان أول ظهور لها في العراق في مسرحية إسقاط تمثال صدام حسين حيث ورد في كتاب "أسلحة الخداع الشامل" أن شركة "علاقات عامة" هي التي أسقطت التمثال، لا الجيش الأميركي، وانها استأجرت 143 شخصاً لتنفيذ العملية هلى الطريقة الهوليودية، وللزغردة على الانجاز البطولي للجيش الأميركي و"تحرير العراق".

أما عينات الشركات العسكرية الخاصة في العراق التي تجاوز عددها الستين شركة على أقل تقدير، فإن أبرزها، صحفياً، هي شركة بلاك ووتر التي فقدت كما ذكرنا قبل قليل أربعة من عملائها ما فجّر أزمة شركات الأمن الخاصة ووضعها في مركز الصدارة. تأسست تلك الشركة عام 1998، نفس عام تشريع "قانون تحرير العراق"، وهي وغيرها من الشركات التي سنأتي على ذكرها، توظف حوالي عشرين ألفاً من "المقاولين" المرتزقة؛ والتخطيط لدى سي أي إيه أن يرتفع العدد إلى أكثر من 50 ألفاً في الشهور أو السنوات القادمة إذا اقتضى الأمر.

إن وظيفة شركات الأمن الخاصة هي توفير "جند للإستئجار" (Soldiers for Hire)، وفي أغلب الأحيان للقوات الأميركية. وهذه الشركات تدرب عسكراً أجانب وأميركيين وتدفع لهم رواتب مجزية ومغرية وتشكل فرقاً منظمة "لمحاربة الإرهاب". ومن أبرز الفرق: القبعات الخضر، عجول البحر، الجيش الجوال للأمن... وكما يروي سنجر وكذلك نيويورك تايمز، 3 و4-4-2004، بدأت بلاك ووتر في شهر شباط بتدريب كوماندوس من تشيلي، بعضهم خدم في ديكتاتورية بينوشيه، بغية تقديم خدمات متزايدة في عراق المستقبل. ويقدر سنجر أن الدخل الإجمالي لشركات الأمن قد تجاوز 100 مليار دولار سنوياً، وأن الرقم مرشح للارتفاع مع زيادة الطلب على المرتزقة في أفغانستان والعراق وغيرهما.

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى بعض الشركات العاملة في العراق ومنها شركة "براون إند روت" التابعة لشركة "هاليبرتون" التي كلفها بوش الأب بإعداد دراسة لتدعيم الجهود العسكرية في حرب الخليج الثانية بعقد قدره تسعة ملايين دولار، وبذلك تشكلت الخميرة الأولى لظهور شركات الأمن الخاصة على خلفية "العمليات السوداء" التي كانت تقوم بها القوات الأميركية في فييتنام دون الاعتراف بوجودها. أما الآن فإن ازدهار تلك الشركات يعود إلى مناخ الخصخصة المتفشي وإيمان بوش الابن بالخصخصة وانعدام التطوع تقريباً في غياب التجنيد الإجباري في الولايات المتحدة. وهناك أيضاً "أربع شركات أمنية كبيرة تقوم بحماية المنشآت النفطية، والشركات الدولية التي تعمل على إعادة إعمار العراق" وتلك التي تقدم خدمات لقوات التحالف من مواد غذائية وصيانة ونقل معدات. ومن أهمها: دين كورب (Dyn Corp)، كول (Koll)، رونكو (Ronco)، فينيل (Vinnell) (الحياة، 20-5-2004). أما الوكالة الفرنسية للأنباء فتقول، في 19-4-2004، أن عديد جند شركات الأمن الخاصة فاق عدد الجنود البريطانيين وجنود قوات الإئتلاف عدا الأميركيين. وأن شركة إيرينيز (Erinys) هي التي أنيط بها حماية حقول النفط، وأن نورثروب غرومان (Northrop Grumman) وإم بي أر إي (MPRI) ونور (Nour) هي الشركات التي تزود الجيش العراقي الجديد بالسلاح وتدربه عليه.

لكن أضخم الشركات هي أيجيس ديفانس سرفيسز (Aegis Defense Services) التي يرأسها العقيد البريطاني تيم سبايسر من الحرس الاسكتلندي الذي تحول إلى ضابط محارب للاستئجار. وأهمية هذا العقيد أنه خبير في تنظيم الانقلابات واشتهر بعلاقاته الدولية، وحصل على عقد قيمته 293 مليون دولار لتنسيق 50 شركة أمن تعمل في العراق، ولتوفير فرق حماية لحفظ أمن العمال الأميركيين الذين يشتغلون في "مكتب إدارة المشاريع في العراق" (إنترناشيونال هيرالد تريبيون، 23-6-2004).

أما الجديد الجديد في منح العقود حسب باتريك سيل (الحياة، 25-6-2004) هو حصول شركة إنهام جوينت فانتور (Anham joint venture) على عقد من وزارة الدفاع الأميركية قدره 259 مليون دولار، ويجعل من هذه الشركة المورّد الوحيد للسلاح إلى العراق، ويمنع حصول العراق على أسلحة ثقيلة كالصواريخ والدبابات والطائرات. وكيلا يفوتنا التركيز على دور سي أي إيه في كل هذه العمليات والمعاملات فإننا نؤكد على أنها هي التي تشرف على تعيين واستخدام وتحديد أماكن وجود وسكن كل الجنود المرتزقة. ووفقاً للمعلومات المتوفرة، فإن سي أي إيه تطمح لرفع عدد المرتزقة من حوالي 20 ألفاً إلى 50 تعبيراً عن نجاعة هذا الأسلوب في الحرب، وإبعاد شبح الحرب وكأسها المسمومة عن الشعب الأميركي.

 

المثال الأميركي المتصدع ومآله

كان معظم الكتاب الأميركيين في التسعينيات يبشرون بالعولمة الزاحفة ويحتفلون بفوائدها الجمة وبالانتصار النهائي لليبرالية والديمقراطية والتعددية، ويتطلعون إلى زوال الدولة القومية كعقبة أمام التطور الحضاري والتقدم البشري. وكانوا يتنبأون بزوال الحروب العالمية والكبرى، ويتصرفون بكياسة مليئة بعقدة التفوق إزاء حروب الإبادة الإتنية في إفريقيا والبلقان وغيرها، بينما كان البعض الآخر من "عمالقة" المدرسة الأنكلوساكسونية الواقعية يدعون إلى استكمال تفكيك الاتحاد السوفييتي وإعادة روسيا الاتحادية إلى موسكيفى التاريخ، وإلى استئصال الخطر الإسلامي المتمثل في يوغوسلافيا الاشتراكية وبالتالي إخراج روسيا نهائياً من شرق ووسط أوروبا. وكان القليل منهم، وعلى رأسهم صموئيل هنتنغتون، يصور لنا عالم الغد كعالم صدام حضارات تقهقرت فيه الطبقات والإيديولوجيات، وانكفأت فيه القوميات تحت وطأة العولمة ومآثرها في حقول الاتصالات والمواصلات وتوطيد سلطان الشركات المتعددة الجنسية. وكان هنتنغتون يتطلع إلى صدام حضارات كبديل لصدام الدول القومية، تفرض فيه الحضارة الغربية هيمنتها على الآخرين، أو تتعايش معهم، وتتمتع فيه أميركا بمركز الصدارة وبقدر عال من السلطة والقيادة وبموقع خاص في توجيه الحياة البشرية قاطبة على قاعدة الفرادة والاستثنائية للشعب الأميركي الأنكلوساكسوني، بالشراكة مع الغرب كقوة محددة في التاريخ البشري.

لكن القرن الحادي والعشرين شهد انقلاب الطاولة على تصورات الأنكلوساكسون ومشاريع الهيمنة الأميركية. وأول معركة للحروب الكبرى التي استبعدها استراتيجيو أميركا وقعت على الأرض الأميركية بالذات، في واشنطن ونيويورك، مقري السلطة السياسية المتغطرسة والسلطة الاقتصادية والمالية والصناعة المتبجحة. فأطلقت أميركا الرايخ الرابع حربها على "الإرهاب". واسقطت نظام طالبان الذي كان من صنع وكلائها، كما أسقطت حزب البعث العربي الاشتراكي في عاصمة الرشيد واستبدلته بوكلاء محليين أثبتوا جدارتهم كحملة لمشاعل طغيان الخنوع والرضوخ والانصياع لأوامر الأميركي المتسلط وخدمة مآربه. وكان بوش الابن قد أعلن حربه كحرب بين الحضارة والبربرية والإرهاب، وحاول تجنيد وتجييش العالم تحت لوائه باسم الدفاع عن الحرية والديمقراطية والتعددية، الأمر الذي ألهب الوطنية الأميركية وكلفن الشعب الأميركي الذي اعتبر نفسه ضحية الإرهاب الكبرى، مما بعث فيه مجدداً روح الشوفينية والتعصب والمكارثية الجارفة. لكن المقاومة المسلحة الباسلة في العراق التي شنها الشعب العراقي كاستجابة لتحدي الاحتلال على قاعدة وحدته الوطنية وكرامته وعروبته وحقه في تقرير المصير، أعادته نسبياً إلى الصواب وفرضت على استراتيجيي بوش وجنده الحاقد التراجع والتقهقر، وفي نهاية المطاف، الهروب الرسمي من بغداد.

إن ظاهرة الكفاح المسلح هي التي فرضت على القيادة الأميركية وشعبها قدراً من الصحوة من الكبوة العصبية التي استولدتها نبؤية رؤيوية أحداث 11 أيلول 2001، وأحدثتها انعكاسات ومضاعفات السلاح المقاوم وكراهية الشعوب لأميركا وسياساتها المجحفة والمنحازة بالمطلق للمشروع الأميركي-الصهيوني للوطن العربي وتجزئته. وفي هذا السياق يأتينا جديد هنتنغتون في كتابه الجديد وتساؤله الملفت حول الهوية الأميركية المأزومة في ظل الأحداث الداخلية والخارجية التي طرأت على مشروع الهيمنة الأنكلوسكسونية، ورغم قدرتها اللامتناهية في تنظيم العنف وإلحاق الهزائم بالأعداء كما ادعى هنتنغتون في كتاب "صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي" (1996).

عنوان الكتاب الجديد هو: "من نحن؟ تحديات للهوية الأميركية القومية (Who Are We? The Challenges to America's Natinal Identity). في صلب الموضوع أطروحة مبتكرة تنبع من الواقع الأميركي وتتماشى مع مسار الأحداث المتلاحقة كما يراها هنتنغتون وهي تتمثل بما يلي: "إن البلدان ذات الثقافات المختلفة كأميركا، تواجه خطر التفكك لأسباب ثلاثة أساسية هي: التعددية الثقافية، التنوع، ازدواجية اللغة". ويضيف مفسراً أن هذه المزايا التي كان يحتضنها المجتمع الأميركي وتشكل عناصر قوة له في الانصهار الثقافي تاريخياً قد تحولت إلى اعباء افضت إلى تقوية الهويات دون القومية كالإتنية والعرقية وذلك على حساب القومية الجامعة والحاضنة. وفي نفس الوقت، يجد هنتنغتون أن هناك ظواهر معولمة تزيد الفرقة الداخلية عمقاً واتساعاً ألا وهي علاقات الأعمال الكونية والتجارية والاتصالات والاهتمامات العالمية (كقضايا البيئة وحقوق المرأة) التي تعزز الهويات ما فوق قومية بين النخبة الأميركية وتقوض أسس الأمركة والقومية الصلبة والمنفتحة في آن.

بإيجاز، إن اميركا حسب هذه الأطروحة تخضع لعملية تغيير غير مسبوقة وتشكل خطراً محدقاً على الثقافة الأميركية وحتى على وجود أميركا وبقائها وتضعها عملياً في خانة الهوية المأزومة وكأنها عالم ثالث معكوس. ولتوضيح المأزق الذي تعيشه أميركا، يفصح هنتنغتون أن الهوية الأميركية التي ارتكزت تاريخياً على أربعة مكونات: الإتنية والعرقية والثقافة والإيديولوجيا، منها إثنان في حالة تدهور وتبلور لا أميركي هما الإتنية والعرقية، وقد بدأ زوالهما معاً منذ تشريع قانون الهجرة لعام 1965، وبالتالي ظهور سياسة المجموعات المتأصلة في أميركا وبشكل مقلوب وذلك على حساب الفردانية والاندماج عوضاَ عن الانخراط والانصهار في المجتمع الأميركي. أما الثقافة وأبرز معالمها اللغة الإنكليزية والدين البروتستنتي، فقد اجتاحتها اللغة الاسبانية والثقافة المكسيكية التي زعزعت وحدة الهوية القومية. وأخيراً، الإيديولوجيا، وهي صلة ضعيفة ورابطة فقدت حيويتها مع سقوط الاتحاد السوفييتي وهي لا تشكل الإغراء الكافي لدمج الشعوب وتلاحمها كما أظهرت التجارب الاشتراكية المنهارة. باختصار، يرى هنتنغتون أن أميركا في حالة حصار ولا خروج من الحصار إلاّ بإعادة فرض الاندماج الثقافي.

إن أميركا هنتنغتون، كما يحددها، هي الثقافة الانكلوبروتستنتية وتدينها، ويؤكد على كل صفحة في كتابه ما لم تلتزم به أميركا مجدداً في قيم الثقافة الأميركية وعقيدتها السياسية في الحرية والديمقراطية، فإنها في طريقها إلى الهاوية، علما انه لا يركز في هذا الصدد على خطورة "قانون الوطنية" لعام 2001 (The Patriot Act) الذي أسس لدولة توتاليتارية ليبرالية، وتجاوز كل الضمانات الدستورية وحقوق المواطن والإنسان. إن خوف هنتنغتون على أميركا وامكانية زوالها لا يأتي أساساً من حروب الاحتلال في الخارج، إنما من الهجرات الهسبانية والثقافة المزدوجة واللغة المزدوجة، ويعلن بدون مواربة أن على المكسيكيين أن يحلموا باللغة الإنكليزية لكي يتمكنوا من المشاركة في "الحلم الأميركي العظيم". وما يحنق ويزعج هنتنغتون هو أن المهاجرين الجدد، بخلاف الهجرات السابقة لما قبل الحرب، يطمحون لنيل الجنسية الأميركية لا لأنهم منجذبون للثقافة والعقيدة الأميركية، مبدأ الإيمان بأميركا ومستقبلها ومؤسساتها، بل لأنهم منجذبون لمشاريع الرفاه الاجتماعي وبرامجه الصناعية للحياة الكريمة. ورغم هذا المنحى عند الأميركيين الجدد، يعترف هنتنغتون أن الأميركيين بشكل عام هم أكثر وطنية من نخبهم الكوزموبوليتانية، ويضيف أن هذا الشرخ بين الشعب والنخبة التي اعتنقت فنتازيا التعدد الثقافي وأولويات التجارة والأعمال المعولمة سيفرض على أميركا مكابدة خطر القدر الذي آلت إليه اسبارطة وروما وغيرها من الأمم وادى إلى انحطاطها وتفككها، وبالتالي إلى تلاشيها واندثارها.

ولتاريخه، لقد اقتصر الرد على مقولة هنتنغتون باتهامه بالأهلانية (Nativism) لا بدحضها وعلى الادعاء بأن لا ضرورة للإصرار في عالم اليوم على الاندماج الثقافي أو تنقيحها في أميركا، إنما المطلوب الالتزام العقيدي للهوية على قاعدة الديمقراطية والحرية كهوية أميركية قومية وذلك على قاعدة التعددية في كافة مجالاتها (Alan Wolf, Foreign Affairs, may-june 2004).