سيمور هيرش
نيويوركر، 28-6-2004
كلما اقترب موعد الثلاثين من حزيران 2004، كلما كثفت إسرائيل اهتماماتها بالأكراد في هذه المنطقة. وفي تموز الماضي 2003، وبعد مضي شهرين على إعلان الرئيس بوش نصره المؤزر في العراق، وصلت هذه الحرب إلى نقطة حاسمة وأصبحت هدأتها وسكينتها أمراً صعب المنال. أما إسرائيل التي كانت من بين أغلب المتحمسين الداعمين لهذه الحرب، فقد بدأت تحذر الإدارة الأمريكية من أن هذا الاحتلال الذي تقوده أمريكا سوف يواجه عصياناً متزايداً وسوف يتعرض لمزيد من الهجمات وعمليات الاغتيال، وهذا ما حصل بالفعل في أواخر الصيف الماضي.
وذكرت الخلايا الاستخباراتية الإسرائيلية المتواجدة في العراق وفقاً لتقاريرها بأن المتمردين يحظون بدعم رجال المخابرات الإيرانية وبعض المقاتلين من الدول الأخرى والذين يعبرون الحدود المكشوفة، غير المحمية، الواقعة بين إيران والعراق وبعلم مسبق من المسؤولين في البلدين. وعلى كل حال فقد بقيت الحدود مفتوحة بين البلدين إلى وقتنا هذا. ويقول باتريك كلاوسون نائب مدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والذي يملك علاقات وثيقة مع البيت الأبيض: "إن الإدارة الأمريكية لم تتجاهل الأنشطة الاستخباراتية التي تمارسها إسرائيل حول إيران، ولا مجال للسؤال عن الخطوات التي لم نقم بها حتى الآن، ألا وهي إغلاق الحدود منذ نهاية الصيف الماضي، ولكن موقفنا تجاه هذه القضية هو أن العراقيين سيستفيدون كثيراً من وجود علاقات واتصالات مباشرة مع الإيرانيين العاديين الوافدين عبر الحدود، وكذلك من آلاف الإيرانيين الذين يعبرون الحدود بشكل يومي لأداء مناسك الحج وزيارة العتبات المقدسة. ويبقى السؤال الذي يواجهنا هو: هل أن إلغاء هذه المنافذ التجارية أمر يستحق المغامرة؟ وهل نريد عزل العراقيين عن العالم الخارجي؟ ولكن جوابنا سيكون كالتالي: لطالما أن الإيرانيين لن يحملوا سلاحهم ويطلقوا النار علينا، فإننا لا نمانع في إبقاء هذه المنافذ التجارية مفتوحة".
ويتابع كلاوسون قولـه: "أما الإسرائيليون فقد عارضونا بشدة في الصيف الماضي، وكان قلقهم من هذا الوضع صريحاً جداً ومخاوفهم واضحة من أن الإيرانيين سوف يُنشئون منظمات خيرية واجتماعية في العراق وسوف يستخدمونها لتجنيد الأشخاص الذين سينفذون هجمات مسلحة ضد الأمريكيين".
إن التحذيرات المتعلقة بتصاعد العنف قد أثبتت صحتها. ففي أوائل آب الماضي 2003 تفجّر العصيان المتمرد ضد قوات الاحتلال الأمريكي وتجلّى في عمليات هجومية وسط بغداد استهدفت السفارة الأردنية ومكاتب الأمم المتحدة (المقر الرئيسي) وذهب ضحيتها أكثر من 42 قتيلاً ومئات الجرحى. ويقول ضابط سابق في المخابرات الإسرائيلية: "إن القادة الإسرائيليين استنتجوا بأن الولايات المتحدة لا ترغب في مواجهة إيران، وفيما يخص إنقاذ الوضع في العراق فإن الولايات المتحدة لم تُضف شيئاً على هذا الوضع القائم، ولكن الأمور وصلت إلى النهاية، لا أعني بذلك من الناحية العسكرية لأن الولايات المتحدة لا يمكن هزيمتها عسكرياً في العراق ولكن من الواضح أنها انهزمت على الصعيد السياسي".
وأخبرني فلينت ليفيرينت، المحلل السابق في سي أي إيه والذي عمل حتى نهاية العام الماضي في مجلس الأمن الدولي وهو الآن عضو في مركز صبان لسياسة الشرق الأوسط، وكان حديثه في أواخر الصيف الماضي، قائلاً: "إن الإدارة الأمريكية تملك فرصة مناسبة للانسحاب والعودة بقواتها إلى أرض الوطن بعدما أصبح واضحاً أن مقولة بوش "المهمة أُنجزَت" والتي أعلنها في خطاب الأول من أيار العام الماضي كانت عبارةً سابقةً لأوانها. ويستطيع رجال بوش الملتفين حولـه أن يذهبوا إلى حلفائهم ويطلبوا إرسال مزيد من القوات العسكرية إلى العراق، ولكن المحافظين الجدد ذهبوا أبعد من ذلك وما زلنا نرسل مزيداً من قواتنا الأمريكية ونتحمل مسؤوليتها لوحدنا فقط". ويتابع ليفيرينت: "ولقد أدرك الرئيس بوش متأخراً أنه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يقوم بتغيير استراتيجي، أو أنه يصبح أكثر قساوة ويسحق هذا التمرد الحقيقي إذا ما أصر على مسألة انفراده في التحكم بهذا الوضع من طرف واحد. ولقد قررت الإدارة الأمريكية فيما بعد أن تنشر نموذج سجن غوانتانامو وتجعل منه مثالاً يحتذى به في العراق من أجل أن تمارس أحكامها وقوانينها في عمليات التحقيق والاستجواب، ولكن هذا القرار أخفق في وقف هذا العصيان الثائر، وفي واقع الأمر فإنه قاد الوضع القائم إلى أسوأ من ذلك وأدى لحدوث فضائح مخزية في سجن أبو غريب".
وفي مطلع تشرين الثاني الماضي 2003 تلقى الرئيس بوش تقييماً سيئاً للغاية من مدير سي أي إيه في بغداد والذي أعد تقريراً خاصاً وتقييماً داخلياً أُطلق عليه اسم "تقييم آردوولف" محذراً بأن الوضع الأمني في العراق على وشك الانهيار، وتقول الوثيقة التي وصفها نايت رايدر قائلاً: "إن أحداً من الزعماء السياسيين أو المؤسسات السياسية العراقية التي تشكلت في مرحلة ما بعد الحرب لم تُظهر رغبتها أو قدرتها على حُكم البلاد والسيطرة عليها، أو حتى إجراء انتخابات محلية أو وضع مسودة الدستور العراقي".
وبعد مضي أيام عديدة، تجلجلت الإدارة الأمريكية وارتعدت فرائصها بسبب موجة العنف التي ظهرت في العراق وقررت المخابرات الأمريكية الجديدة أخيراً إجراء تعديل وتغيير جذري في سياستها المنفردة وحدّدت يوم الثلاثين من حزيران 2004 كموعد نهائي لتسليم السلطة إلى الحكومة المؤقتة والتي بدورها ستسمح للأمم المتحدة بأن تمارس دورها في هذه العملية. وأخبرني أحد المستشارين في هيئة الأمم المتحدة والذي عمل في القضايا العراقية قائلاً: "ولا ننسى أن تشرين الثاني 2003 هو على بُعد عام واحد فقط من الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجري في تشرين الثاني 2004 ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية أصابها الفزع والرعب وقررت أن تتقاسم اللوم والعتب مشاركةً مع العراقيين ومع هيئة الأمم المتحدة".
أما أحد الموظفين السابقين في الإدارة الأمريكية الذين دعموا هذه الحرب والذي أنهى جولته وزيارته السياحية غير المشجعة في العراق بعد السقوط الأخير، فقد زار تل أبيب بعد ذلك ووجد أن الإسرائيليين الذين تقابل معهم كانوا أيضاً غير راضين عن هذه الحرب، ونتيجة لما شاهدوه من أوضاع مضطربة في العراق فإن تحذيراتهم ونصائحهم قد تم تجاهلها تماماً وأن معركة الأمريكيين وحربهم ضد هذا العصيان والتمرد العنيف لا بد لها أن تفشل. ويقول الموظف السابق: "لقد أمضيت ساعات عديدة وأنا أتحدث إلى عدد من الأعضاء البارزين في المجتمع الاستخباراتي والسياسي الإسرائيلي والذين كانت اهتماماتهم تتركز على قضية واحدة مفادها أن الإدارة الأمريكية لن تُفلح أبداً في العراق ولن تنجح، وبنفس الوقت تساءل أولئك الأعضاء قائلين: ألا يجب علينا الاستعداد والتخطيط لأسوأ السيناريوهات المحتملة وتهيئة أنفسنا لكيفية التعامل مع المستجدات المستقبلية؟". أما رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك الذي دعم إدارة بوش في غزوها للعراق فقد تولى الأمر شخصياً وعلى عاتقه عندما حذر نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني من أن أمريكا سوف تفقد الكثير الكثير في العراق، ووفقاً لأحد الشخصيات الأمريكية المقرّبة جداً من باراك فإن رئيس الوزراء الأسبق يقول: "إن إسرائيل تعلم جيداً أن لا سبيل على الإطلاق لكسب هذا الغزو". أما باراك فقد أخبر تشيني قائلاً لـه: "إن القضية الوحيدة هي اختيار حجم الخزي والإذلال الذي ستعيشه أمريكا بسبب هذا الغزو"، ولكن تشيني لم يستجب لتحذيرات باراك وتقديراته، أما مكتب تشيني فقد رفض التعليق على هذا الأمر.
وبعد سلسلة من اللقاءات التي أجريتها مع عدد من المسؤولين في أوروبا والشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية فقد أخبرني كل أولئك أن إسرائيل وبنهاية العام الماضي قد استنتجت أن إدارة الرئيس بوش ستكون عاجزة تماماً عن تحقيق الاستقرار والديمقراطية في العراق وأن إسرائيل بحاجة إلى خيارات متعددة أخرى. ولقد أخبروني أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون قررت تقليص حجم الضرر الذي ستسببه هذه الحرب لمكانة إسرائيل الاستراتيجية من خلال توسيع علاقتها (القائمة منذ عهد بعيد) مع أكراد العراق ومن خلال تأسيس حضور هام وتواجد فعال في المناطق الكردية التي تتمتع بحكم ذاتي شبه مستقل. ولكن العديد من الموظفين قد وصفوا قرار شارون الذي سيكلّف الحكومة الإسرائيلية كثيراً من الالتزامات المالية بأنه تصرف متهور سوف يؤدي إلى كثير من الفوضى والعنف المتزامن مع موجة العصيان والتمرد المستمر الذي ينمو في العراق يوماً بعد يوم. وما زالت العمليات العسكرية والمخابرات الإسرائيلية تمارس أنشطتها بشكل تام في كردستان وتقوم بتدريب وحدات الكوماندو الكردية، والأهم من ذلك وفقاً لوجهة نظر إسرائيل أنها تُدير عمليات سريّة داخل المناطق الكردية الواقعة في سورية وإيران، وتشعر إسرائيل أن إيران تشكل تهديداً بالنسبة لها بشكل خاص بعدما تعززت مكانة إيران في هذه المنطقة بعد الحرب. إن العناصر الاستخباراتية الإسرائيلية تتضمن عدداً من أعضاء الموساد مع وجود بعض المراكز الاستخباراتية الأجنبية الإسرائيلية السريّة، ويعمل أولئك الأعضاء بسريّة تامة في كردستان على أنهم رجال أعمال، وفي بعض الأحيان لا يحملون جوازات سفر إسرائيلية. أما مارك ريجيف الناطق باسم السفارة الإسرائيلية في واشنطن وفي سؤال للتعليق على هذا الموضوع قال: "إن هذه القصة غير صحيحة بكل بساطة وأن حكومات الدول في تلك المنطقة يعلمون تماماً عدم صحة هذه المعلومات". وقد رفض المسؤولون الأكراد التعليق على هذا الموضوع كما رفض المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أيضاً التعليق على ذلك.
وعلى كل حال، اعترف مسؤول بارز في سي أي إيه في مقابلة معه الأسبوع الماضي بأن الإسرائيليين يكثفون جهودهم فعلاً في كردستان، وقد أخبرني أن الإسرائيليين يشعرون بأن لديهم خياراً ضئيلاً وهم يفكرون بشكل جدّي بضرورة تواجدهم في المنطقة، وفي سؤال عما إذا كان الإسرائيليون يلتمسون الموافقة المسبقة من واشنطن فأجاب المسؤول السابق ضاحكاً بقولـه: "هل تعرف أحداً ما يستطيع أن يُملي على الإسرائيليين ما يجب عليهم فعله ويخبرهم بما يترتب عليهم؟ لذلك، فهم سيقومون بفعل ما يناسب مصالحهم ويخدم أهدافهم فقط"، وأضاف المسؤول في سي أي إيه بأن تواجد الإسرائيليين ضمن المجتمع الاستخباراتي الأمريكي هو أمر معروف وواضح على نطاق واسع.
إن قرار إسرائيل الساعي لفرض حضور وتواجد إسرائيلي في كردستان، وكما وصفه ضابط سابق في المخابرات الإسرائيلية وأطلق عليه اسم الخطة ب، قد زاد من حدة التوتر الحاصل بين إسرائيل وتركيا. وأن هذا القرار أثار موجة من التصريحات اللاذعة التي أدلى بها السياسيون الأتراك وأحدث نقلة نوعية رئيسية في هذه المنطقة وأدى إلى خلق تحالف جديد بين إيران وتركيا وسورية لأن هذه الدول تضم بعض الأقليات الكردية البارزة ضمن مجتمعاتها. وفي أوائل حزيران الجاري، قالت صحيفة إنتل بريف، وهي دورية استخباراتية يرعاها فينسنت كانيسترارو بصفته المدير السابق لمكتب مكافحة الإرهاب في وكالة سي أي إيه وبرفقته أيضاً فيليب جيرالدي الذي عمل نائباً لمدير هذه الوكالة في اسطنبول في أواخر الثمانينات 1980: "إن المصادر التركية أعدّت تقريراً رسمياً تقول فيه أن قلق الأتراك يتزايد بسبب التواجد الإسرائيلي المكثف والمنتشر في إقليم كردستان، ويزعم الأتراك أن هذا التواجد إنما يشجع الطموحات الكردية على إنشاء دولة كردية مستقلة، ويلاحظ الأتراك أن الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية المتزايدة في شمال العراق إنما تحاول توحيد صفوف الأكراد للقيام بعمليات ضد سورية وضد إيران، وتقوم هذه الأجهزة بتقديم الدعم للأكراد سواءً في سورية أو في إيران الذين يشكلون معارضة فعالة لحكومات هذين البلدين".
وخلال سنوات عديدة، ومنذ حرب الخليج الأولى، يحاول الأكراد في العراق وبمساعدة الحظر الجوي الدولي المفروض على شمال العراق وبتفويض من الأمم المتحدة التي منحتهم حق المشاركة في عائدات النفط العراقية، يحاول الأكراد التخطيط لتحقيق معيار أوسع من الاستقلالية في الأقاليم الواقعة شمال العراق، وبما أن الأكراد مهتمين جداً بهذه القضية، فإن إقليم كردستان التاريخي قد امتدت جذوره وتوسعت بشكل واضح خلف الحدود العراقية ليشمل أجزاءً متعددة في إيران وسورية وتركيا، وتخشى هذه الدول الثلاث من أن إقليم كردستان، على الرغم من ارتباطه العام بعكس ذلك، سوف يعلن استقلاله عن الحكومة العراقية المؤقتة إذا لم تتحسن الظروف بعد الثلاثين من حزيران الجاري.
إن تورط الإسرائيليين في إقليم كردستان ليس أمراً جديداً على الساحة السياسية، وفي بداية الستينيات والسبعينيات كانت إسرائيل تدعم التمرد الكردي ضد العراق بشكل فعال كجزء أساسي من سياستها الاستراتيجية الرامية للبحث عن حلفاء لها بين الأقليات غير العربية المتواجدة في منطقة الشرق الأوسط. وفي عام 1975 أقدمت الولايات المتحدة على خيانة الأكراد عندما انفردت واشنطن بقرارها مع شاه إيران والقاضي بوقف دعم الطموحات الكردية الساعية للحصول على حكم ذاتي مستقل في العراق.
وأصبح مفهوم العنف والخيانة نموذجاً يحتذى به من خلال العقدين الماضيين أما داخل العراق، فقد مارس صدام سلطة القمع والاضطهاد الوحشي ضد الأكراد حيث استعمل ضدهم سلاح الطيران وكذلك الأسلحة الكيماوية. وفي عام 1984 بدأ حزب العمال الكردستاني P.K.K حملة عنف انفصالية في تركيا وامتدت هذه الحملة قرابة خمسة عشر عاماً حيث ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف شخص معظمهم من الأكراد، وشرعت الحكومة التركية بقمع أولئك المنشقين بلا رحمة ولا شفقة واعتقلت زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان. وفي الشهر الماضي أعلن حزب العمال الكردستاني والمعروف حالياً باسم كونغرا جل أعلن انتهاء وقف إطلاق النار والذي امتد قرابة خمس سنوات (من طرف واحد) وأن هذا الحزب سيبدأ بمحاولة استهداف المواطنين الأتراك مرة أخرى.
وتفجّر غضب الزعامة الكردية العراقية في أوائل الشهر الحالي عندما وافقت الولايات المتحدة على قرار الأمم المتحدة المتعلق باستعادة السيادة والسلطة العراقية التي لم تؤكد في نص الدستور المؤقت على مسألة منح الأقلية الكردية حق الفيتو في أي من التشكيلات الحكومية الدائمة. ولقد أرسل القادة الأكراد مباشرةً رسالة تحذير إلى الرئيس بوش معلنين فيها أنهم لن يشاركوا في الحكومة الجديدة التي يُسيطر عليها الشيعة ما لم يتأكدوا من أن حقوقهم ستكون مصانة تحت سلطة الدستور المؤقت، وتقول الرسالة: "إن شعب كردستان لن يقبل على الإطلاق من الآن فصاعداً أن يكون مواطنوه من الدرجة الثانية في العراق".
وهناك مخاوف عديدة من أن الأكراد سوف يستولون على مدينة كركوك بالإضافة إلى حقول احتياطي النفط الأساسية المتواجدة في الأقاليم المحيطة بها مع أن العرب العراقيين يسيطرون حالياً على كركوك، والكثير منهم قد تم ترحيله ونقله إلى هذه المنطقة منذ بداية السبعينات كجزء من حملة صدام حسين التي شنها حينئذ بغية تعريب هذا الإقليم، لكن الأكراد يعتبرون أن كركوك وحقول النفط التابعة لها هي جزء من وطنهم التاريخي، وأخبرني أحد الخبراء العسكريين الأمريكيين العاملين في العراق قائلاً: "إذا تعرضت كركوك لتهديد من قبل الأكراد فإن المتمردين السنّة سوف يتحركون في تلك المنطقة بالتعاون مع التركمان وسوف تكون هناك حمامات من الدماء، وإذا ما استطاع الأكراد الاستيلاء على كركوك فإنهم سيكونون عاجزين تماماً عن نقل صادرات النفط خارج المدينة بما أن كل خطوط أنابيب النفط تمتد عبر المناطق المركزية التي يسيطر عليها العرب والسنّة". وذكر مسؤول رفيع المستوى في الأمن القومي الألماني خلال أحد المقابلات قائلاً: "إن حصول إقليم كردستان على استقلال ذاتي مع تواجد هذا الكم الهائل من احتياطي النفط سيكون له اعتبارات هامة وضخمة جداً بالنسبة لسورية وإيران وتركيا، وسوف يقود المنطقة بأكملها إلى حالة من الاضطراب الذي ستشهده منطقة الشرق الأوسط بغض النظر عما ستؤول إليه الأمور في العرق. وذكر مسؤول ألماني آخر رفيع المستوى قائلاً: "أن بعض العناصر داخل إدارة بوش (مشيراً بذلك بشكل خاص إلى الحزب الذي يتزعمه نائب وزير الدفاع بول وولفويتز) سوف تتسامح بقضية حصول إقليم كردستان على حكم ذاتي مستقل، ويناقش الألمان هذا الأمر بأنه سيكون خطأً فادحاً وأنه سيؤدي إلى نشوء إسرائيل جديدة وستنشأ هناك دولة منبوذة وسط عدة دول تكن لها عداءً تاريخياً".
إن إعلان استقلال كردستان رسمياً سوف يشعل فتيل الحرب ويثير حفيظة الأتراك وأن قطار التحالف الهام القائم بين إسرائيل وتركيا سوف يخرج عن مساره الصحيح. إن تحالف الشراكة الدبلوماسية والاقتصادية بين تركيا وإسرائيل قد ازدادت قوته خلال العقد الماضي، وأن آلاف الإسرائيليين يسافرون إلى تركيا سنوياً بهدف السياحة، ولكن معارضة تركيا لحرب العراق قد أجهضت هذه العلاقة، على الرغم من أن تركيا ما زالت تتمتع بسياسة شرقية تجاه الغرب وعلى الرغم من الفوز الذي حققه الحزب الإسلامي في الانتخابات الوطنية التي جرت عام 2002، إلا أن هذه الدولة ما زالت علمانية بشكل واضح. وتسعى تركيا حالياً للتنافس من أجل حصولها على عضوية الاتحاد الأوروبي. وبالمقابل فإن الخلافات والنزاعات بين سورية وتركيا امتدت لسنوات عديدة وكادت في بعض الأحيان أن تصل إلى مواجهات مباشرة بين البلدين، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا وإيران اللتان استمرت المنافسات الإقليمية بينهما إلى وقتنا هذا. وأحد القضايا المتوترة بين البلدين هي مسألة الصراع بين موقف تركيا المتشبه بالغرب وبين الحكومة الإيرانية ذات الصيغة الدينية المتشددة ولكن حذرهما وقلقهما المتبادل من الأكراد قد تجاوز هذه الانقسامات. ويقول أحد الوزراء الأوروبيين في محادثة معه جرت الشهر الماضي: "إن نسف عملية التحالف القائم بين إسرائيل وتركيا سيشكل عقبة أساسية في هذه المنطقة، ولكي نتجنب حدوث الفوضى العارمة، يجب على كافة الدول المجاورة أن تكثف جهودها وتعمل على أنها كينونة واحدة مشتركة مع بعضها البعض".
وعلى كل حال فإن الإسرائيليين ينظرون إلى دول الجوار على أنها دول معادية باستثناء سكان إقليم كردستان. وما زالت إسرائيل مقتنعة بأن إيران على وشك إنتاج وتطوير أسلحة نووية وأنها وبمساعدة سورية تخطط لتأييد ودعم الإرهاب الفلسطيني حالما تنسحب إسرائيل من قطاع غزة. ويقول موظف بارز في المخابرات الأمريكية أن الزعامة الإسرائيلية تنظر إلى قادة ميليشيات الشيعة العراقيين أمثال مقتدى الصدر على أنهم مثل "الأحصنة الجامحة"، وأن إيران تملك الكثير من هذه الأحصنة الجامحة والقادرة بنجاح مبهر على دحر قوات التحالف التي تتزعمها أمريكا، حيث أن إيران تقدم الدعم اللوجيستي والاتصالاتي لهذه القوى الجامحة، وكذلك توفير التدريب اللازم لها. ويقول الموظف السابق في المخابرات: "لقد بدأنا نلحظ دلالات وإشارات واضحة على وجود بعض الأنشطة التنظيمية والتدريبية خلال الصيف الماضي، لكن البيت الأبيض لا يريد سماع مثل هذه الأقاويل، ونحن لا نستطيع أن نعالج مشكلة أخرى حالياً في هذه المنطقة، وبالمقابل فإننا غير عاجزين تماماً عن دفع إيران إلى النقطة التي يمكن لنا فيها حسم النزاع بشكل مطلق". وفي الصيف الماضي ووفقاً لأحد المستندات والوثائق التي حصلت عليها فإن إدارة بوش أمرت بإرسال قوات من المارينز للقيام بخطة مفصلة أُطلقَ عليها اسم "عملية ستيوارت" من أجل اعتقال مقتدى الصدر أو اغتياله إن لزم الأمر، ولكن هذه العملية تم إلغاؤها بعدما بدا واضحاً أن مقتدى الصدر تم تزويده بمعلومات سرية حول هذه الخطة، وهذا ما أخبرني به الموظف السابق في المخابرات الأمريكية. وبعد سبعة أشهر أمضاها الصدر طيلة فصل الشتاء وهو يشيد البنيان الداعم لحركته المتمردة، أقدمت قوات التحالف التي تقودها أمريكا على إغلاق صحيفته، مما أثار غضب أتباعه وأشعل فتيل الأزمة التي عززت بقاء الصدر مع أتباعه ومكانته المرموقة بينهم وأكدت على أن الصدر سوف يلعب دوراً رئيسياً غير مرغوب فيه خلال المؤامرات والمكائد التي ستحصل في العراق بعد موعد تسليم السلطة في الثلاثين من حزيران الجاري. وذكر الموظف السابق في المخابرات الأمريكية قائلاً: "إن الهدف الفوري الذي ستسعى إليه إسرائيل بعد الثلاثين من حزيران هو بناء وحدات الكوماندو الكردية التي ستعادل موازين القوى المقابلة للميليشيات الشيعية، وأن هذه الوحدات الكردية ستكون بشكل خاص معادية لنوع النظام القائم في جنوب العراق، وهذا ما ترغب إسرائيل برؤيته وتسعى لتحقيقه، وإذا ما استولت الميليشيات البعثية السنّيّة المتعصبة على مقاليد الحكم في العراق (كما كان صدام حسين من ألد أعداء إسرائيل) فإن إسرائيل سوف تطلق العنان للطائفة الكردية ولهذه الوحدات أيضاً".
ويُقدّر عدد القوات الكردية المسلحة والمعروفة باسم "البشمرغة" حوالي 75000 عنصر، وهو يفوق بكثير عدد قوات الميليشيات الشيعية والسنّيّة. واعترف ضابط سابق في المخابرات الإسرائيلية قائلاً أن إسرائيل ومنذ نهاية العام الماضي كانت تدرّب وحدات الكوماندو الكردية لتعمل بنفس المستوى ونفس الطريقة المؤثرة والفعالة التي تقوم بها معظم وحدات الكوماندو الإسرائيلية السرية التي يُطلق عليها اسم «الميستارافيم»، وأن الهدف الأول الذي تسعى إليه إسرائيل من خلال دعمها للأكراد هو السماح لهم بفعل ما عجزت وحدات الكوماندو الأمريكية عن فعله والقيام به ألا وهو دمج الجهود الاستخباراتية وتوحيدها من أجل اختراق صفوف الميليشيات الشيعية والسنّيّة وبعد ذلك قتل قادة زعماء المتمردين الشيعة والسنّة في العراق، إن الشعور السائد هو أن هذه الطريقة هي من أفضل الطرق الفعالة للوصول إلى مركز العصيان واختراقه، لكن العلاقة الإسرائيلية الكردية المتنامية بدأت تزعج الأتراك وتُغضبهم، ولا مجال لإنهاء هذا الخلاف لأن حجتهم في هذا الأمر والقضية الرئيسية هي أن قوات الكوماندو الكردية المتدربة هذه والتي ستقوم بعمليات في العراق، يمكن لها بنفس الوقت أن تتسلل خلف الحدود التركية، وتقوم بعمليات هجومية ضد الأتراك. ولكني (هيرش): "لم أستطع حتى الآن معرفة فيما إذا كانت هذه العمليات وهذه الاختراقات قد بدأت مرحلة التنفيذ أم لا".
ومما لا شك فيه أن التعاون والتنسيق بين الإسرائيليين والأكراد قد وصل إلى مرحلة متقدمة وتوسعت آفاقه، وهذا ما ذكره الإسرائيليون. إن بعض عناصر المخابرات الإسرائيلية قد عبرت الحدود الإيرانية بصحبة وحدات الكوماندوس الكردية من أجل تركيب بعض الأجهزة والمعدات الحساسة التي تهدف بشكل أساسي إلى رصد وضرب بعض المواقع النووية الإيرانية المشتبه بها. ويقول الضابط السابق في المخابرات الإسرائيلية: "إن إسرائيل كانت وما زالت تدعم الأكراد بطريقة ميكيافيللية قائمة على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة كقوة متوازنة في مواجهة سطوة صدام حسين، وهذه هي السياسة الحقيقية، وأن رصف صفوف الأكراد وتوحيدهم سيساعد إسرائيل كثيراً على أن يكون لها أعين وآذان كثيرة تتحسس الأخبار في كل من إيران والعراق وسورية لأن ما تقوم به إسرائيل وتقدمه للأكراد هو أمر قد سمحت به إدارة بوش وغضّت الطرف عنه".
وأخبرني عدد من المسؤولين الألمان البارزين وبلهجة تحذيرية أن مجتمعهم الاستخباراتي يملك دليلاً قاطعاً على أن إسرائيل تستغل نفوذها الجديد داخل إقليم كردستان وداخل المجتمعات الكردية في إيران وسورية من أجل تحقيق أهداف استخباراتية وعملياتية. ويعتقد المسؤولون اللبنانيون والسوريون أن المخابرات الإسرائيلية قد لعبت دوراً هاماً في سلسلة من المعارضات العنيفة التي حصلت منتصف آذار الماضي في سورية حيث أدت هذه المعارضات إلى صدامات عنيفة بين المنشقين الأكراد السوريين من جهة وبين قوات الأمن السورية والتي أدت إلى مصرع أكثر من ثلاثين كردياً، ويعيش قرابة مليوني كردي في سورية التي يبلغ عدد سكانها حوالي 17 مليون نسمة. وقد حدثت أغلب المناوشات في المدن الواقعة على الحدود السورية التركية وفي بعض المدن الكردية التي يسيطر عليها العراق. وقد أخبرني وزير الإعلام اللبناني ميشيل سماحة بقوله أن هذه الاضطرابات وأعمال الشغب قد ارتفعت حدّتها لتصل إلى حالة من الانتفاضة العارمة التي قادها الأكراد ضد حكومة الرئيس السوري بشار الأسد ويتابع وزير الإعلام اللبناني قولـه "أن حكومته تملك دليلاً واضحاً على أن إسرائيل كانت تجهّز وتحضّر الأكراد لمقاتلة كل دول الجوار بما فيها العراق وسورية وتركيا وإيران، وأن الأكراد قد تم إعدادهم وبرمجتهم للقيام بعمليات كوماندو وهجمات مسلحة".
وأخبرني كبير مسؤولي الأمن القومي الألماني أنه يعتقد بأن إدارة بوش قد أخطأت قراءة الموقف الإيراني وأساءت فهمه، وذكر قائلاً: "إن الإيرانيين يرغبون ببقاء أمريكا عالقةً وغارقةً في المستنقع العراقي، وأن تبقى أمريكا منهمكة ومشغولة جداً هناك، لكنهم بنفس الوقت لا يحبذون مزيداً من الفوضى والاضطراب". وأخبرني أحد المسؤولين الألمان قائلاً: "إن المسألة الحرجة والحاسمة في هذه القضية هي: ماذا سيكون سلوك إيران وتصرفها إذا ما حصل الأكراد في كردستان على استقلالهم الذاتي مع وجود علاقات مقربة جداً ووثيقة مع إسرائيل؟ أضف إلى ذلك أن إيران لا ترغب بوجود قواعد جوية إسرائيلية وحاملات طائرات في المناطق الكردية الواقعة على الحدود مع إيران، لأن ذلك سيشكل معقلاً وحصناً حصيناً تستفيد منه إسرائيل عسكرياً".
وذكر مسؤول أوروبي بارز قائلاً: "إن الإيرانيين سيقومون بعمل إيجابي في جنوب العراق إذا ما حصلوا بالمقابل على مكاسب إيجابية أيضاً، لكن واشنطن لن تقوم بطرح هذه المكاسب الإيجابية، وأن إدارة بوش لن تطلب المساعدة من الإيرانيين ولا تستطيع أن تطلبها أيضاً من السوريين، وبناءً على ذلك: مَن الذي سيُنقذ الولايات المتحدة من هذه الأزمة؟ ومع بداية الغزو الأمريكي للعراق صرّح عدد من أبرز القادة والمسؤولين الأوروبيين وأخبروا نظراءهم الإيرانيين قائلين لهم: "أنتم الفائزون في هذه المنطقة".
وليست إسرائيل وحدها التي تؤمن حق اليقين بأن إيران تعمل جاهدةً وبسرية تامة للحصول على القنبلة النووية على الرغم من احتجاجات إسرائيل ومعارضتها المستمرة لهذه القضية. وفي مطلع هذا الشهر (حزيران) نشرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بصفتها المسؤولة المباشرة عن مراقبة انتشار الأسلحة النووية، تقريرها الفصلي الخامس وبعد مهمة عسيرة قامت بها في إيران، حيث ذكرت في التقرير أن إيران ما زالت مستمرة في إساءة تقديم وعرض أبحاثها وتحويلها إلى مواد يمكن استخدامها في إنتاج الأسلحة النووية. إن معظم القلق يتركز حول عمليات التخصيب التي تتم تحت سطح الأرض في منطقة ناتانز التي تبعد 250 ميلاً من الحدود الإيرانية العراقية، والتي تم اكتشافها من قبل المفتشين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال عمليات تفتيش سابقة وتبين أنها تحتوي على أجهزة قوى الطرد المركزي وبعض الآثار من مواد اليورانيوم المتطورة. إن هذا البناء الضخم المعقّد والذي ما زال قيد البناء والإنشاء حتى الآن، يُقال أنه يمتد على مساحة قدرها 800 ألف قدم مربع وأنه خلال أشهر قليلة ستتم حمايته ووقايته بواسطة سقف من الإسمنت المسلح الذي يسمح تصميمه أيضاً بتغطيته بكميات كبيرة من الرمال، وعندما يتم الانتهاء من هذا البناء المعقّد، فعندئذٍ يصبح من الصعب جداً على الأقمار الصناعية أن تكتشفه ويمكن عند ذلك للإيرانيين بأن يضيفوا طوابق أرضية إضافية.
وأخبرني مسؤول في الوكالة الدولية للطاقة الذرية قائلاً: "ويبقى السؤال المبهم هو: هل سيقوم الإسرائيليون بتوجيه ضربة قاسية لإيران؟". وقد صرّح محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية مراراً وتكراراً "أن وكالته لم تجد دليلاً قاطعاً على وجود بعض البرامج العسكرية، ولهذا فإنه من السابق لأوانه أن نحكم على هذا الأمر". أما ديفيد البرايت بصفته موظف سابق ضمن فريق المفتشين التابعين للأمم المتحدة والخبير في انتشار الأسلحة النووية، فقد عزّز بدوره تصريحات الوكالة الدولية للطاقة الذرية قائلاً: "إن الولايات المتحدة لا تملك دليلاً قاطعاً على وجود برنامج للأسلحة النووية في إيران"، وأخبرني البرايت قائلاً: "إن القضية هي قضية استدلالية فقط أو كما يقولون: لا وجود لدخان المدافع والبنادق" وفي يوم الجمعة الماضي وخلال اجتماع عُقد في فيينا مرّرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قراراً تقول فيه أن الوكالة تعترف بوجود بعض البرامج النووية السلمية في إيران، وأن على إيران أن تبقى متعاونة تماماً مع الوكالة الدولية التي بدورها تطالب إيران بالمسارعة في حل قائمة من الأسئلة الغامضة والمحيّرة.
وأخبرني مسؤول في الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن قادة وزعماء هذه الوكالة قد تم تحذيرهم بشكل سري من قبل كبار المسؤولين الإيرانيين في وزارة الخارجية، واشتكى زعماء الوكالة قائلين: "لقد واجهنا صعوبات كثيرة وأوقات حرجة جداً في الحصول على المعلومات من القادة السياسيين والزعماء الدينيين المتشددين الذين يحكمون البلاد"، ويتابع المسؤول في الوكالة الدولية قوله: "وقد أخبرتنا وزارة الخارجية الإيرانية بقولها: نحن فقط دبلوماسيون ولا نعلم فيما إذا كنا سنحصل على القصة الكاملة عن طريق تصريحات شعبنا الخاص بنا، وأشار المسؤول السابق إلى أن الولايات المتحدة وإدارة بوش قد حذرت ونبّهت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بوجود بعض التسهيلات والعمليات النووية السرية في إيران والتي لم تُصرح بها إيران رسمياً. إن الإدارة الأمريكية لن تدلي بمزيد من المعلومات ويبدو أنها قلقة من أن هذه المعلومات سوف تصل إلى إيران بطريقة أو بأخرى.
أما "باتريك كلاوسون" بصفته عضو في معهد سياسة الشرق الأدنى فقد زوّدنا بتفسير آخر يتعلق بموقف إدارة بوش المتردد حول تسليم بعض المعلومات الاستخباراتية المحددة قائلاً: "إذا قمنا بتحديد موقع ما، فإن من المحتمل أن تسارع إيران لتفكيك هذا الموقع وإخفاء معالمه، وبعد ذلك سيصل مفتشو الوكالة الدولية إلى الموقع (وعادةً يتماهل المفتشون الدوليون لعدة أسابيع لكي ينظموا أنفسهم ويجهزوا فريقهم) وعندما يصلون يكون كل شيء قد اختفى ولا يجدون شيئاً". ويتابع كلاوسون قولـه: "إن المجتمع الاستخباراتي الأمريكي قد ساءت سمعته وفقد مصداقيته بسبب التقارير الخاطئة المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل العراقية، وأنه سيتم انتقاده مجدداً وتوجيه اللوم والعتب له، ولهذا، فإنه من الأفضل أن يكتشف مفتشو الوكالة الدولية الأمر بأنفسهم ويقرروا وجود بعض المواقع ثم يذهبوا لتفتيشها والعثور على دليل واضح يثبت وجود عمليات تخصيب للمواد المتعلقة بإنتاج الأسلحة النووية".
وأخبرني كلاوسون "أن قلق إسرائيل المتزايد واهتمامها بالأمن القومي ينصبّ كله على إيران، وأن حصول إسرائيل على تواجد في إقليم كردستان سوف يمنحها طريقة مؤكدة لمراقبة جهود إيران النووية، ولهذا فإن إسرائيل ستبذل ما بوسعها لأن تتواجد في إقليم كردستان". وفي هذه الأثناء ذكر مسؤول بارز سابق في المخابرات الأمريكية "أن علاقة إسرائيل بإقليم كردستان ستكون ذات قيمة هامة جداً وأكبر بكثير من تحالفها المتزايد والمتنامي مع تركيا". ويقول ضابط سابق في المخابرات الإسرائيلية: "نحن نحب تركيا، لكننا نرغب بزيادة الضغط على إيران، وأن الأكراد هم آخر الحلفاء المقربين من الولايات المتحدة في العراق، والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكننا موازنة الأكراد في وجه تركيا؟".
وخلال جلسة فطور صباحي مع أحد المسؤولين الأتراك قال: "ليس هناك مجال على الإطلاق لموازنة الأكراد في وجه تركيا. ولكن قبل الحرب الأخيرة في العراق، كانت إسرائيل تمارس نشاطاً فعالاً في كردستان وها هي الآن فعالة أكثر مما كانت عليه من قبل. وهذا الأمر خطير جداً بالنسبة لنا وبالنسبة للأكراد أيضاً. نحن لا نرغب برؤية عراق مقسّم ولن نتجاهل هذا الأمر إطلاقاً وكما يقول المثل الشعبي التركي: (سنحرق كل "البطانية" من أجل قتل حشرة صغيرة) ولقد أخبرنا الأكراد قائلين لهم: نحن لسنا خائفين منكم ولكن أنتم يجب عليكم أن تخشونا وتخافوا من ردة فعلنا". وأخبرني أحد الدبلوماسيين الأتراك وكان أكثر صراحةً في حديثه معي حيث قال: "لقد أخبرنا أصدقاءنا الأكراد والإسرائيليين قائلين لهم أن مساعي تركيا الطيبة تتمثل في المحافظة على وحدة العراق وعدم تقسيمه، وأننا لن ندعم أي حلول بديلة".
ويقول مسؤول تركي بارز: "وإذا ما انتهى الأمر إلى تقسيم العراق, فإن ذلك سيجلب الدماء والدموع والألم لمنطقة الشرق الأوسط وعندئذٍ سوف نوجّه اللوم والعتب للأميركيين, وبدءً من المكسيك وانتهاءً في روسيا, كل شخص سيدّعي بأن الولايات المتحدة تملك جدول أعمال سري في العراق ولقد أتيتم إلى هناك لكي تمزّقوا العراق, وإذا ما تم تقسيم العراق فإن الأميركيين لا يستطيعون شرح هذا الوضع للعالم بأسره". وقام المسؤول السابق بمقارنة هذا الوضع مع الوضع المتفكك الذي أصاب يوغسلافيا وأضاف قائلاً: "أما في البلقان فإنكم لم تعثروا على النفط ولم يكن هناك نفط أصلاً, وأن الدرس الذي تعلمتموه من يوغسلافيا مفاده أنه عندما تمنحون بلداً ما استقلاله الذاتي, فإن كل فرد في هذه البلاد يريد ذلك ويرغب به, ولكن إذا تم ذلك وحصل كردستان على استقلاله الذاتي فإن كركوك ستصبح "سراييفو العراق" ونموذجاً أخر للمذابح الجماعية الوحشية التي حصلت هناك في "سراييفو يوغسلافيا"، وإذا ما حصل شيء من هذا القبيل في كردستان, فإنه من الصعب جداً الخروج من هذه الأزمة أو على الأقل احتواؤها".
وفي أنقرة شرح مسؤول تركي بارز أخر الوضع بقولـه: "إن الحكومة التركية تتقاسم القلق مع حكومات المنطقة بسبب الأنشطة العسكرية التي تمارسها إسرائيل داخل كردستان بالتعاون مع وزارة الخارجية الإسرائيلية, وأن الحكومة التركية ترفض عمليات التدريب وشراء الممتلكات مدّعيةً بأن عمليات الشراء هذه غير رسمية ولكن يقوم بها أشخاص خاصّون جداً. ومن الواضح جلياً أن أجهزتنا الاستخباراتية قلقة جداً من هذا الأمر, وأن هذه السياسة ليست مناسبة بالنسبة لأمريكا والعراق وإسرائيل وحتى اليهود".
إن التذمر العام والشكاوى المتشددة المتزايدة التي أطلقها الأتراك بسبب الهجمات الإسرائيلية الصاروخية التي شنتها ضد زعيم حركة حماس في قطاع غزة تعتبر عاملاً آخر في ازدياد حدة التوتر بين الحليفين تركيا وإسرائيل. وفي السادس والعشرين من أيار الماضي أعلن وزير الخارجية التركي عبد الله غول في مؤتمر صحافي في أنقرة قائلاً أن الحكومة التركية طلبت من سفيرها في إسرائيل العودة إلى تركيا لإجراء مشاورات معه حول كيفية إحياء عملية السلام في الشرق الأوسط. وبدوره أخبر البرلمان التركي أيضاً بأن الحكومة التركية عازمة ومصممة على تعزيز علاقاتها مع السلطة الفلسطينية، وخلال محادثات عديدة جرت مع دبلوماسيين من الشرق الأوسط في الشهر الماضي عبّر وزير الخارجية التركي عن قلقه العميق إزاء الممارسات الإسرائيلية. وفي أحد هذه المحادثات أخبرني أحد الدبلوماسيين بأن عبد الله غول وصف النشاطات الإسرائيلية واحتمالية حصول كردستان على استقلاله الذاتي "بأن هذا الأمر سيفرض علينا خياراً ليس بالخيار الحقيقي فإما أن نستمر في البقاء ونحافظ على وجودنا أو أننا سنرضخ لهذا التحالف مع إسرائيل". وأخبرني مسؤول تركي ثالث قائلاً: "إن الإسرائيليين كانوا يتحدثون إلينا من أجل تهدئة وتلطيف القلق المتزايد لدينا، وقالوا لنا أنهم لن يفعلوا أي شيء في كردستان يُسيء إلى المصالح التركية، ولا يجب أن نقلق من هذا الأمر، وإذا حدثت الأمور بشكل علني، فإن هذا الوضع سيضع الحكومة التركية والحكومة الإسرائيلية في موقف صعب للغاية. ونحن نستطيع التسامح فيما يخص مسألة كردستان طالما أن العراق بقي سليماً ولم يُمَس بأذى ولم يتم تقسيمه، ولكن لا أحد يعلم ماذا يُخبئ المستقبل في جعبته، ولا حتى الأمريكيين أنفسهم يعلمون ذلك".
ويصف مسؤول سابق في البيت الأبيض الإدارة الأمريكية بأنها تواقة ويائسة بنفس الوقت في أواخر فصل الربيع الماضي من أجل إنشاء حكومة مؤقتة جديدة ومقبولة في العراق قبل أن يعلن الرئيس بوش يوم الثلاثين من حزيران كموعد نهائي لنقل السلطة إلى العراقيين. وقد اعتمدت الإدارة الأمريكية على جهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي لتنسيق الجهود بنهاية الثلاثين من حزيران الجاري وعمل شيء يتوافق مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وأن الإبراهيمي وبموافقة واشنطن قد مُنح مهمة اختيار الأعضاء «الواحد والثلاثين» للحكومة العراقية المؤقتة. وبالرغم من ذلك فإن اختيار إياد علاوي كرئيس وزراء مؤقت شكّل صدمةً وإحباطاً بالنسبة للأخضر الإبراهيمي، وهذا ما ورد وفقاً لتقارير صحفية عديدة.
ويجب على البيت الأبيض أن يتعامل مع ماضي إياد علاوي لأن الوثائق والشهادات تثبت أنه كان طبيب أمراض عصبية وأنه تورط خلال العقدين الماضيين في أنشطة مختلفة ضد نظام صدام حسين، وباعتباره مؤسس حركة الوفاق الوطني العراقي والتي مقرها بريطانيا، لكن دوره الذي لعبه كعنصر فعال في حزب البعث بينما كان صدام يناضل ويكافح للوصول إلى السلطة خلال الستينيات والسبعينيات، وعندما أصبح صدام رئيساً للعراق عام 1979 فإن علاوي حينئذٍ لم يكن مشهوراً أو معروفاً بشكل جيد. وأخبرني ضابط في المخابرات الأمريكية قائلاً: "إن علاوي ساعد صدام حسين كثيراً في الوصول إلى السلطة. فقد كان علاوي شخصية فعالة ومؤثرة جداً وكان يؤمن جيداً بأفكار حزب البعث الحاكم في العراق". وأضاف ريول مارك جيريشت بصفته موظف سابق في سي أي إيه وعمل في الشرق الأوسط قائلاً: "هناك حقيقتان واضحتان حول علاوي: الأولى أنه ينظر لنفسه على أنه رجل أفكار ومبادئ، والثانية أن من أفضل فضائله وأقواها على الإطلاق هو أنه سفاح متعطش للدماء".
وفي مطلع هذا العام قامت إحدى زميلات علاوي السابقة في المدرسة الطبية وهي الدكتورة هيفاء العزاوي بنشر مقالة في صحيفة عربية تصدر في لندن وتثير فيها عدة أسئلة تتعلق بشخصية علاوي وتاريخه خلال فترة الدراسة، وقد وصفت علاوي بأنه رجل قوي البنيان، ضخم، وكان بين الحين والآخر يحمل بندقيته أو مسدسه ويضعه على حزامه ثم يسحبه ويلوح به مهدداً ومحاولاً إرهاب الطلاب وتخويفهم في المدرسة الطبية". وتضيف الدكتورة قائلةً: "إن درجة الامتحانات التي كان ينالها، كانت دائماً تتم مداولتها ومباحثتها وفقاً لانتمائه لصفوف حزب البعث الحاكم في العراق. وقد انتقل علاوي إلى لندن في عام 1971 وتابع تحصيله العلمي الطبي ظاهرياً، وهناك تولى مهام العمليات الأوروبية التي تقوم بها منظمة حزب البعث والعناصر الفعالة في جهاز المخابرات حيث أدار وكالة المخابرات هناك حتى عام 1975. ويقول فينسينت كانيسترارو المسؤول السابق في سي أي إيه: "إذا سألتني عما إذا كانت أيدي علاوي ملطخة بالدماء منذ أن كان في لندن فسأقول نعم وبكل صراحة. لقد كان عميلاً مأجوراً للمخابرات العراقية ولقد كان متورطاً مع مجموعة من العناصر القذرة". وأخبرني دبلوماسي رفيع المستوى من فئة مجلس الوزراء في الشرق الأوسط والذي ضاق ذرعاً من موافقة الولايات المتحدة على تاريخ علاوي الشخصي قائلاً لي في مطلع هذا الشهر بأن علاوي كان متورطاً مع المخابرات وخاصةً الفرقة التي يُطلَق عليها اسم "الفرقة الضاربة" التي تخطط وتقتل المنشقين عن حزب البعث في كافة أرجاء أوروبا (علماً أن مكتب علاوي لم يستجب لطلبنا بخصوص التعليق على هذا الموضوع) وفي هذه الحالة، ولأسباب غير واضحة فإن علاوي أصبح من المغضوب عليهم حيث نظّم البعثيون سلسلة من المحاولات الرامية لاغتياله والقضاء عليه، أما المحاولة الثالثة فقد تجلت بدخول أحد السفاحين ويحمل بيده فأساً، إلى منزل علاوي القريب من لندن عام 1978 حيث تعرض علاوي لطعنات عديدة جعلته يرقد في المشفى ولمدة طويلة زادت عن سنة كاملة.
ويقول فلينت ليفيرينت العضو في "مركز صبان" معلقاً على نقل السلطة: "إذا لم ينجح هذا الأمر فإنه لا داعي للسقوط في الهاوية"، وأخبرني مسؤول بارز سابق في المخابرات الأمريكية قائلاً: "وبالمقابل فإن المحافظين الجدد ما زالوا يفكرون بأنهم قادرون على إخراج الأرنب من جحره (أو من تحت القبعة). وما هي الخطة القادمة؟ فنحن لسنا بحاجة إلى هذه الخطة، لأن الديمقراطية قوية بما فيه الكفاية، وسوف نسعى جاهدين لتحقيق الديمقراطية هناك".
وأخبرني عدد من الدبلوماسيين في الشرق الأوسط وكذلك بعض العاملين السابقين في سي أي إيه والذين يعملون حالياً كمستشارين في بغداد، أن عدداً من رجال الأعمال الأغنياء العراقيين وكذلك عائلاتهم قد هجروا بغداد ورحلوا عنها خلال الأسابيع القليلة الماضية خشية وقوع أو استمرار أو ربما تصاعد الهجمات الانتحارية والتفجيرات الإرهابية بعد الثلاثين من حزيران. ويقول وزير الإعلام اللبناني في تقريره: "سوف نرى المسيحيين والشيعة والسنّة وهم يغادرون العراق، وبعدئذٍ ستسعى المقاومة إلى استهداف الناس البسطاء والفقراء الذين سيديرون المكاتب الحكومية في العراق والعاجزين عن دفع الأموال اللازمة لتأمين فرق الحراسة الشخصية. وقبل شهر مضى، حضر أحد أصدقائي المقربين وهو أحد مالكي الأراضي البارزين في العراق، جاء إلى بغداد من أجل تأسيس بعض المشاريع الاقتصادية. وهناك وجد أن تكلفة يوم واحد من "الحراسة الشخصية" يصل إلى 12 ألف دولار.
وأخبرني وايتلي برونر وهو ضابط متقاعد في المخابرات الأمريكية وكان عضواً بارزاً في قوة المهام الخاصة التابعة للوكالة حيث عمل في العراق لأكثر من عشر سنوات، قائلاً أن الحكومة المؤقتة الجديدة في العراق سوف تبحث وبالسرعة الممكنة عن سبل توفير الحماية الأمنية التي يمكن تحمّل نفقاتها المالية من أجل موظفي الحكومة (من الدرجة الثانية) سواءً من الرجال أو النساء الذين سيديرون شؤون الدولة وسيشغلون مقاعد الحكومة. وفي مطلع حزيران الجاري تعرض اثنان من أولئك الموظفين البارزين وهما كمال جراح، موظف في وزارة التعليم، وبسام صالح كبة، وكيل وزير الخارجية، إلى عملية اغتيال أودت بحياتهما حيث أطلق رجال مجهولون النار عليهما وهما خارجان من منزليهما، علماً أن المسؤولين لم يكن لديهما قوات حرس شخصي خاصة. أما برونر الذي عاد من بغداد مطلع هذا الشهر فقال أنه يعمل حالياً من أجل المساعدة في تنظيم الشركات العراقية التي يمكن لها أن توفر حرّاس أمن ذوي كفاءات عالية بحيث يستطيع العراقيون تحمّل نفقاتهم المادية ودفع أجورهم ومرتّباتهم. ويتابع برونر: "إن الصيف قادم وسيكون حاراً جداً وأن كثيراً من العراقيين قد قرروا فعلاً الذهاب إلى لبنان والأردن أو دول الخليج وينتظرون حتى انتهاء الأزمة".
ترجمة: عصام اندورة