ما الجديد بين اغتيال علي صالح واغتيال غالب عوالي؟
هل من جديد في قواعد الصراع اللبناني الصهيوني؟
جوزف عبدالله
باحث من لبنان
للمرة الثانية في أقل من عام تقريباً قامت إسرائيل، في 19-7-2004، باغتيال أحد كوادر ”المقاومة الإسلامية“، الشهيد الحاج غالب محمد عوالي، في عملية مخابراتية (زرع عبوة متطورة في سيارته، وتفجيرها عن بعد)، في حي معوض (الضاحية الجنوبية لبيروت). وكان سبق لإسرائيل أن اغتالت، في الثاني من آب 2003، أحد كوادر حزب الله أيضاً هو الشهيد علي حسين صالح، وبنفس الطريقة أيضاً، وفي نفس المنطقة تقريباً. لا تكمن أهمية الشهيدين في كونهما من المناضلين القدامى في ”حزب الله“ فحسب، بل في حقيقة أنهما كانا في عداد الفريق المكلف من الحزب بدعم الانتفاضة الفلسطينية. فما معنى هذا الاستهداف الإسرائيلي باغتيال عوالي؟ وما هي دوافعه؟ وما هي دلالاته وانعكاساته على الصعيد الإسرائيلي واللبناني؟ فهل هو معبر عن منحى تصعيدي إسرائيلي يهدف إلى تغيير قواعد الصراع في الجنوب؟ وكيف تعاطت معه المقاومة والساحة اللبنانية؟
الحيثيات ذاتها
منذ حوالي سنة تقريباً، وبالتحديد في العاشر من آب 2003، اشتعلت الجبهة اللبنانية الإسرائيلية بعد شهور طويلة من الهدوء. لقد نفذ حزب الله عملية على المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا، وأعلن عنها في التاسع من آب، في بيان جاء فيه: ”هاجمت مجموعة الشهيد علي حسين صالح في المقاومة الإسلامية مواقع العدو الصهيوني في الرادار...“. وقامت إسرائيل بقصف جوي لبعض المواقع في الجنوب مع تحليق للطيران الحربي وخرق لجدار الصوت، وتعالت التصريحات الإسرائيلية المهددة للبنان وسورية... ومن ثم تصدت الدفاعات التابعة للمقاومة للطيران الإسرائيلي الذي اخترق الأجواء اللبنانية ما أدى إلى قتل مستوطن إسرائيلي وجرح آخرين في مستوطنة شلومي. وما أعقب ذلك من دعوات عالمية لضبط النفس...
في حينه لم يعتبر حزب الله عملية المقاومة على المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا رداً انتقامياً على اغتيال الشهيد علي حسين صالح، بل أرادها ”لا تُقرأ لا في إطار الرد ولا في إطار عدم الرد“. نفس التفسير تقريباً أعطاه حزب الله لسقوط قتيل مستوطنة شلومي والجرحى الإسرائيليين الخمسة. ومع أن الحزب فسر سقوط القتيل والجرحى بفعل قذائف مدفعية المقاومة المضادة للطيران، أصر الجانب الإسرائيلي أن القتيل والجرحى سقطوا بقذيفة مدفعية أطلقها حزب الله، وزعمت مصادر عسكرية إسرائيلية أن النيران لم تكن ناتجة عن مدفعية مضادة للطائرات بل عن قذائف مدفعية من عيار 57 ملم.
الأمر ذاته تقريباً حصل في 19-7-2004 وفي اليوم الذي تلاه، إذ اشتعلت جبهة الجنوب بعد فترة هدوء طويلة نسبياً. إسرائيل تغتال الشهيد غالب عوالي، المقاومة تقوم بعملية تؤدي إلى سقوط جنديين إسرائيليين، تكمل إسرائيل عدوانها بقصف بعض المواقع في الجنوب (سقوط شهيد آخر لحزب الله) والطيران الإسرائيلي يحلق في الأجواء اللبنانية ويخرق جدار الصوت... والتهديدات الإسرائيلية المعتادة... والدعوات إلى ضبط النفس وعدم التصعيد، من مصادر متنوعة أميركية وأوروبية وأممية... وفي هذه المرة أيضاً لم يعتبر حزب الله قتل الجنديين الإسرائيليين بمثابة الرد على اغتيال عوالي، وكأنه رغب بتجاهل العملية في البداية.
حدود الخرق الأمني المتكرر!
تأتي عملية اغتيال عوالي بمثابة محطة في سلسلة اغتيالات طالت لبنانيين وفلسطينيين قامت بها إسرائيل في عمق الأراضي اللبنانية، منذ اندحارها من لبنان في العام 2000 وتحرير معظم الأراضي اللبنانية المحتلة. بدأت هذه السلسلة باغتيال رمزي نهرا مروراً باغتيال جهاد جبريل نجل أحمد جبريل (الأمين العام للجبهة الشعبية، القيادة العامة) واغتيال علي حسين صالح وصولاً إلى غالب عوالي. ولا شك أن هذه العمليات في عمق بيروت تشكل دليلاً على خروقات أمنية خطيرة، سواء لجهة تحديد الأهداف (كادرات لدعم الانتفاضة الفلسطينية) والمواقع والوصول إليها والرصد الدقيق والتنفيذ والإختفاء... صحيح أن المناضل لا يحمل شهادة تأمين على حياته مهما كان حريصاً، ولكن ذلك لا ينفي خطورة الخروقات الأمنية التي تنجح إسرائيل في تحقيقها، خاصة في منطقة الضاحية الجنوبية. وأول معنى لهذا الخرق الأمني هو أن أسلوب الاغتيالات هو منهج تراثي في الحركة الصهيونية عامة.
ولكن هل تؤشر هذه العملية على نية إسرائيل بفتح الجبهة الشمالية والتصعيد على الحدود اللبنانية الفلسطينية؟
جواباً على مثل هذا السؤال نقول: إذا كانت لإسرائيل هذه القدرة على الخرق الأمني الناجح والمتكرر فلماذا هي لا تحاول أن تضرب أهدافاً قيادية أكثر أهمية في حزب الله؟ صحيح أن أهدافها منتقاة بدقة بحيث تشكل رسالة واضحة برفضها لدور حزب الله في دعم الانتفاضة الفلسطينية، ولكن امتناعها عن ضرب مواقع أخرى أكثر تأثيراً داخل الحزب وعلى جسم المقاومة الإسلامية وعلى دعم الانتفاضة له معناه الكبير. وهذا المعنى يكمن في تهيب إسرائيل من فتح معركة شاملة مع حزب الله في ظل انشغال جيشها في محاولاته الفاشلة في قمع الانتفاضة.
من المعروف أن توسيع العدوان الإسرائيلي والإقدام على رفع درجة استفزازها للمقاومة الإسلامية يعطي لحزب الله فرصة يبحث عنها في تصعيد العمليات ضد الصهاينة. إنه يتصرف لحد كبير وفق ذلك الشعار الذي رفعه د. علي فياض، رئيس ”المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق“، في مقالته في السفير، 13-3-2004، تحت عنوان: ”المقاومة في طورها الراهن: الدفاع الاستراتيجي بوظائف هجومية“. حيث طرح فياض مفهوم الدفاع الاستراتيجي الذي ”يأخذ كل الميزات الإيجابية للهجوم، إلاّ أنه يؤدى بمنطق دفاعي وقواعد دفاعية، إذ إن قتال المقاومة لقوات الاحتلال على أرض محتلة هو عملية دفاعية، والتصدي لحالات الاعتداء والمس بالسيادة أو خرق الحدود أو تهديد الأمن القومي تندرج كلها في الإطار الدفاعي... (لتأمين) القدرة على تقييد حركة الخصم وكسر مشروعه، وربما إلحاق الهزيمة به“. ويضيف: ”فالدفاع الاستراتيجي يتجلى بوصفه نظرية التعاطي مع الحقبة الراهنة بتعقيداتها المعروفة...“. ويؤكد فياض في نفس المقال: ”أما الإسرائيلي في مواجهة العجز عن إنهاء المقاومة الفلسطينية، فيدأب على دفع المسؤولية باتجاه الخارج فيحمل المسؤولية لسوريا ملوحاً بتهديداته تجاهها“.
إسرائيل العاجزة عن تصفية الانتفاضة بشتى السبل الوحشية التي اعتمدتها، وبشتى أشكال الاستعانة بالمنحرفين في السلطة الفلسطينية أو بالأنظمة العربية (خاصة مصر والأردن) تحمل المسؤولية إلى حزب الله ومن خلفه إلى لبنان سورية وإيران، وتطلق تهديداتها تجاه الجميع. ولكنها أمام كل حالات عجزها، وربما تكون استفادت مما يجري في قطاع غزة، تتجه إلى حزب الله، وفريق دعم الانتفاضة بشكل خاص، لتوجه ضربة محدودة باغتيال كادر هنا وكادر هناك، وفي حالتنا الراهنة اغتيال عوالي. وهي تمتنع عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى دفع حزب الله للقيام بعمليات واسعة النطاق كفتح الجبهة الشمالية مثلاً.
أن فتح الجبهة الشمالية (الحدود اللبنانية الفلسطينية) يستلزم استحضار قوات عسكرية هي منشغلة أصلاً في حصار غزة وشتى مدن ومواقع الضفة، فكيف ستكون عليه أمور الانتفاضة ومدى تصاعد نشاطها في ما لو اضطرت إسرائيل إلى سحب قواتها المنهكة في غزة والضفة؟ إن من شأن ذلك أن يتيح للانتفاضة فرصاً واسعة لإلحاق المزيد من الخسائر بجيش العدو، فالانتفاضة، وهي تحت الحصار، تطور سلاحها (الصواريخ) وتكتيكاتها وتعزز من وحدتها الوطنية، وبالطبع تكون أسرائيل كمن يعطي المزيد من الأوكسيجين للمقاومة الفلسطينية في ما لو فكرت إسرائيل بتخفيف حصارها للضفة والقطاع. هذا فضلاً عن أن الوضع الدولي في ظل العجز الأميركي والفشل المتمادي للقوات الأميركية في العراق يشكل ضغطاً كبيراً يلزم إسرائيل على عدم الانجرار في المغامرة العسكرية.
نتائج عملية اغتيال عوالي
واهم من يتصور أن إسرائيل ستكف عن عدوانيتها بغير حالة من حالتين. الأولى، هي حالة الاستسلام العربي والفلسطيني الشامل وغياب أي منطق مقاوم للهيمنة الصهيونية. وهنا تكون العدوانية الصهيونية حالة مترسخة ومسلم بها يعيشها الفلسطيني والعربي متقبلاً لها، وهذا ما تتوهمه الإدارة الأميركية والصهيونية عبر طرحها لشتى مشاريع ”الشرق الأوسط“ الكبير والمتوسط والصغير ورفع الرايات الزائفة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان... والثانية، هي حالة زوال الكيان الصهيوني وقيام دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني. وإذا كانت الحالة الأولى ضرباً من الخيال لأن روح المقاومة وجسمها باتا على درجة كبيرة من المناعة بحيث لم يعد ممكناً القضاء عليها من فلسطين إلى العراق وما بينهما وحولهما، فإن الحالة الثانية تشكل المنحى التاريخي الراهن خاصة مع تعثر السيطرة الأميركية الأطلسية في أفغانستان وإنهاك قوات الغزو الأميركي في العراق تحت ضربات المقاومة العراقية، وانعكاس التواطؤ العربي مع الغزو الأميركي على شكل حرب أهلية تهدد الخليج العربي بمجمله وإن كان مسرحه الأساسي يغطي ساحة السعودية واليمن اليوم.
وواهم أيضاً من يتصور أن المنحى التاريخي الراهن لتحرير فلسطين يعني انقضاضاً شاملاً على الكيان الصهيوني وتصفيته. ولكن راهنية هذا المنحى تكمن، أولاً، في تعاظم قدرة الصمود وإرادة الصمود لدى الفلسطينيين، وتحقيق بعض المناطق شبه المحررة (كما هي الحال في غزة). وتكمن، ثانياً، في سعي المقاومات العربية (العربية الإسلامية) إلى نوع من التلاحم العضوي على قاعدة نموذج المقاومة الإسلامية في لبنان التي نجحت في تحولها إلى نموذج أو أسلوب في حرب التحرير الشعبية أوحرب العصابات التي تتمكن من دحر الجيوش العصرية المعتدية الإسرائيلية والأميركية الأطلسية. فليس من العبث أن يرفع مقتدى الصدر في العراق رايات حزب الله، وليس من العبث أن ترفع نفس الشعارات حركة الحوثي في اليمن، وليس من العبث أن ينشأ ارتباط دقيق بين قوى الانتفاضة الفلسطينية، ومنها كتائب شهداء الأقصى، وحزب الله اللبناني، فليس صدفة أن تقوم ”كتائب شهداء الأقصى“ بقتل قاضِ إسرائيلي (إدي عازار) في ضواحي تل أبيب كعملية انتقامية لاغتيال عوالي . وتكمن، ثالثاً، في حقيقة إن هذا التواصل بين حركات المقاومات يستند إلى عمق عربي إسلامي مشرقي يتجسد في كل من لبنان وسورية وإيران، مما يعطيه قدرة على حرية الحركة والاستمرار.
وفي هذا السياق نقرأ رد حزب الله على عملية اغتيال الشهيد غالب عوالي، ونتائج هذه العملية. صحيح أن حزب الله لم يعلن عملية قتل الجنديين الإسرائيليين كعملية انتقامية لاستشهاد عوالي، ولكن اختراق الهدنة عند الخط الأزرق ما كان ممكناً لو لم تبرره عملية الاغتيال. هذا هو ”الدفاع الاستراتيجي بوظائف هجومية“. إن قواعد الصراع في الجنوب تسمح لحزب الله، في ظل الظرف الدولي والإقليمي القيام بعمليات في نطاق مزارع شبعا، ولكنها لا تتيح المجال لعمليات عبر الخط الأزرق. وحدها الانتهاكات الإسرائيلية هي التي توفر هذه الفرص. وإذا كانت إسرائيل تخول لنفسها انتهاك الحدود اللبنانية الدولية وتتجاوز ما هو معمول به، فإن حزب الله يقوم بما يذكر إسرائيل دوماً بأنها ليست السيد المقرر في تغيير قواعد الصراع، بل هو بالأحرى من يقوم بذلك، ويقوم به وفق منطق ”الدفاع الاستراتيجي بوظائف هجومية“. وعليه لا تغيير في قواعد الصراع على الجبهة الشمالية، أي بين لبنان وإسرائيل.
ولعله من أهم نتائج ما حصل إثر اغتيال عوالي هو العودة إلى تأكيد أن لبنان هو بلد مواجهة مع إسرائيل، وأن للمقاومة اللبنانية شرعية فعلية أكدتها المرجعيات الأساسية في الدولة اللبنانية، وأن المواجهة اللبنانية الإسرائيلية ليست مجرد صراع على بقعة من الأرض الحدودية (مزارع شبعا) بل تتعدى ذلك لتطرح مسألة اللاجئين الفلسطينيين بوصفها القضية المركزية في الصراع مع الكيان الصهيوني. لن يكون لبنان أداة لقمع الفلسطينيين في المخيمات (وإن كنا نرى على الدولة اللبنانية الكثير من الواجبات تجاه اللاجئين، ولهم الكثير من الحقوق المحرومين منها لبنانياً) بل إن حركة المقاومة اللبنانية ”الشرعية“ مخولة بمد كل العون للانتفاضة والمساعدة على تحرير فلسطين لأن في ذلك المدخل المنطقي لعودة اللاجئين.
وفضلاً عن تأكيد الإلتفاف الرسمي حول المقاومة، تبنت المرجعيات الأمنية والقضائية الرسمية أهمية الملف المتعلق بالعملاء الذي طرحه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. وفي ذلك إشارة إلى الجو السياسي الذي يشكل الحضن الأخلاقي للعمالة. فثمة قوى ورموز معروف عنها تفاخرها بتراثها في العمالة للكيان الصهيوني، وتبريرها لهذه العمالة، وسعيها اليوم لحماية عملاء الأمس، وقوى أخرى تندرج في مشاريع العولمة الرأسمالية والمصالحة مع العدو الصهيوني كجزء أساسي عضوي في مشاريع العولمة، لا تنفك تطرح التشكيك بالمقاومة وتحميلها مسؤولية التردي الاقتصادي، وذلك من ضمن خطاب سياسي يرى في توتير الأجواء في الجنوب خسارة لموسم السياحة والاصطياف وهروباً للاستثمار وما سوى ذلك... فكأن التوتير ينعكس على لبنان ولا يطال الكيان الصهيوني. أو كأنه علينا التضحية بالمقاومة والرضوخ للمشيئة الصهيونية من أجل ”الرفاه“ الموعود منذ أكثر من عقد.
باختصار شديد نقول أن عملية اغتيال عوالي لا تؤشر على جديد نوعي في واقع الأمور على الساحة اللبنانية (ما خلا تفشي وتشجيع العملاء مع تفشي ظواهر أخرى كالدعوات العلنية للتطوع في الشركات الأمنية الخاصة)، وشأنها شأن العمليات السابقة المشابهة لن تؤدي إلى أي تغيير في قواعد الصراع اللبناني الصهيوني، بل هي بالعكس أدت إلى المزيد من تشريع المقاومة واحتضانها الرسمي، كما ستؤدي إلى المزيد من محاصرة العملاء، ومحاصرة الخطاب السياسي الحاضن لهم، فضلاً عن تشريعها لدعم حزب الله للانتفاضة الفلسطينية. ولا تعكس هذه العملية تحولاً في خطة الهجوم الإسرائيلي، فالكيان الصهيوني في مرحلة عجز في الداخل، وهو في جو عزلة عالمية نسبياً، وراعيته الولايات المتحدة تعمل شيئاً فشيئاً على ابتلاع هزيمتها المحدقة بها في العراق. ومن هنا تصريحات الجميع، ومن ضمنهم الخارجية الأميركية التي تحدث باسمها ريتشارد باوتشر“ ”أن من مصلحة كل الأطراف (لبنان وسورية وإسرائيل) التزام الهدوء على الحدود اللبنانية الإسرائيلية“. ولهذا فإننا لا نرى جديداً بين اغتيال علي حسين صالح في الثاني من آب 2003 واغتيال غالب عوالي في 19 تموز 2004.