نحو المنتدى الاجتماعي للقارة الأميركية
الأشكال جديدة في المقاومة، والتجارب البديلة
بينما يكون هذا العدد من العرب والعولمة تحت الطبع ينعقد في كويتو، من 24 إلى 30 تموز 2004، المنتدى الاجتماعي للقارة الأميركية. وإذا كنا سنعرض في العدد القادم أبرز أعمال وخلاصات هذا المنتدى فإننا نكتفي في العدد الراهن بعرض مقدماته ورهاناته. ولعله من المفيد للقارئ العربي التعرف إلى "حركات المحرومين من الأرض" وحركات الشعوب الأصلية في القارة الأميركية من هنود ومن أصول إفريقية، وكذلك معرفة التجارب في الإدارة الذاتية وفي الاستفادة من التراث الثقافي العميق في التاريخ... وما ذلك إلاّ لكي يبقى القارئ على تواصل مع الحركة العالمية المناهضة للعولمة النيوليبرالية (الرأسمالية)، ولنستفيد من تجارب الشعوب التي تعاني ما نعانيه وتقاوم المقاومة التي ننشدها لشعبنا. فالخصم الرأسمالي واحد وإن تعددت مجالات هجومه الجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية... هذا هو معنى العولمة: هجوم واحد في أمكنة ومجالات متنوعة، ومقاومة واحدة على تنوع أمكنتها ومجالاتها. هذا هو رهان الأممية الراهنة.
العرب والعولمة
دنيز منديز Denise Mendez
عضو اللجنة الدولية لحركة أتاك فرنسا
حزيران 2004
إن المنتدى الاجتماعي للقارة الأميركية الذي سينعقد، من 24 إلى 30 تموز، في كويتو سبقته عدة لقاءات قارية وعالمية، أهمها المؤتمر العالمي الرابع للنقابة الفلاحية العالمية فيا كامبيسينا (Via Campesina) واجتماع برلمان السكان الأميركيين الأصليين.
تدور أعمال هذا المنتدى حول محاور خمسة: البعد الاقتصادي، جانب العنف في النيوليبرالية، السلطة والديمقراطية والدولة، الثقافات والاتصال، سكان أميركا الأصليين ومن أصول إفريقية. كما ستقام فيه محكمة لتقرير إلغاء الدين، وستتم فيه إدانة العلاقات بين وجود الدين واتفاقيات التبادل الحر. غير أن أصالة هذا المنتدى ستكمن في عرضه للنضالات الجديدة بوجه النيوليبرالية ولتجارب بديلة مبدعة يقدمها تطور الحركة الفلاحية وحركة هنود أميركا.
الحركة الفلاحية
يرى السياسي الأوروغوياني، راوول زيبيتشي، أن أشكال الصراع الاجتماعي في أميركا اللاتينية تتطور بسرعة مذهلة، خاصة في أوساط الفلاحين: لقد أحدث ترسخ الرأسمالية في الأوساط الريفية في أميركا اللاتينية تغيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. فزراعة الصويا في الأرجنتين (ثاني منتج عالمي بعد الولايات المتحدة) أدت بين العام 1991 والعام 2001 إلى هجرة 33 بالمئة من القوى العاملة الريفية، كما أن توسع زراعة الصويا ترك آثاراً مدمرة للأرض والبشر معاً.
وفي البرازيل ارتفع الاستثمار الزراعي (الزراعة الصناعية للتصدير) بشكل هائل في العام 2003، وبات يمثل 42 بالمئة من صادرات البلاد بقيمة 30 مليار دولار، كما تمثل الصويا 25 بالمئة من الصادرات الزراعية. ولكن الصادرات الزراعية تترافق مع استيراد المواد الغذائية الأساسية كالرز والفاصوليا والذرة والقمح والحليب.
ويعتبر راوول زيبيتشي أن لجوء حكومة الرئيس البرازيلي لولا إلى استقدام الاستثمارات الزراعية أملته ضرورة سداد الدين الخارجي من خلال الصادرات الزراعية. وهذا ما يعتبره المحلل فخاً لأن هذا الخيار يؤدي إلى اختلال التوازن في الاسهام الغذائي الداخلي، فضلاً عن أن الاستثمار الزراعي تحكمه الشركات المتعددة الجنسية: نستليه، مونسانتو، كارغيل، بونج، باير، وهي الشركات التي تسيطر في نفس الآن على سوق صادرات المواد الأساسية وواردات المواد الغذائية والمصنعة.
ولهذا فإن قادة "حركة المحرومين من الأرض" باتوا أمام ضرورة تكييف استراتيجية نضالهم مع الشروط الجديدة لاستغلال الأرض من قبل الشركات الرأسمالية العالية الممكننة والتي تستخدم البذار المعدل جينياً والأسمدة والمبيدات التي تنتجها الشركات التابعة لها. وتتركز هذه الاستثمارات الزراعية الرأسمالية في أراضي اللاتيفونديات (الملكيات العقارية الاقطاعية) التي كانت غير منتجة. يعني ذلك أن حركة المحرومين من الأرض باتت اليوم في مواجهة خصم جديد. ولم يعد الأمر اليوم يكمن في المطالبة بالأرض على اعتبار أن اللاتيفونديات غير منتجة، بل بات الأمر يكمن في نقد طريقة الانتاج بالذات.
فالمطلوب اليوم هو مراجعة قضية أن الانتاج المخصص للسوق العالمية لا يستجيب إلى الحاجات الأساسية للسوق المحلية. ولهذا تتجه حركة المحرومين من الأرض إلى المطالبة بزراعة تؤمن الاكتفاء الغذائي الذاتي وتنظيم حياة الفلاحين بما يحفظ كرامتهم. وهكذا باتت هذه الحركة في مواجهة شركات الاستثمار الزراعي الرأسمالي التي لا تنتج الغذاء ولا تخلق فرص العمل، والتي تمتص، علاوة على ذلك، إعانات الدولة. ويمكن قياس قدرة هذا الخصم من خلال ما حصل في منطقة بونتال دي بارانابانيما في دولة ساو باولو حيث استغرقت حركة المحرومين من الأرض عشر سنوات لاستعادة مساحة 100 ألف هكتار، بينما تمكنت شركات الزراعة الصناعية في أقل من سنتين من الحصول على مساحة 100 ألف هكتار لزراعة الصويا. وهكذا ينفتح عهد جديد من حرب الفلاحين، وذلك كما يراه المؤتمر العالمي الرابع لنقابة فيا كامبيسينا.
الاعلان النهائي لهذا المؤتمر
تأسست منظمة فيا كامبيسينا في المؤتمر الأول لها في العام 1994 في مونز في بلجيكا، وعقدت مؤتمرها الثاني في تلاكسكالا في المكسيك في العام 1996، ومؤتمرها الثالث في بنغالور في الهند. أما المؤتمر العالمي الرابع فتم في ساو باولو، وفيه التقى 400 مندوب من 76 بلداً قدموا في بداية لقائهم تحية لروح لي كيونغ هاي، الفلاح الكوري الذي انتحر في كانكون في العاشر من أيلول 2003 احتجاجاً على المخاطر التي تمثلها منظمة التجارة العالمية على فلاحي العالم أجمع...
استنكر الإعلان النهائي: تمركز ملكية الأرض بيد الاستثمارات الزراعية الرأسمالية وتدميرها للبيئة؛ والدور السلبي لمنظمة الفاو التي قامت مؤخراً بدعم الزراعة على قاعدة التلاعب الجيني؛ واتفاقيات التبادل الحر التي تهدف إلى تعظيم أرباح الشركات المتعددة الجنسية، وتجريم حركات الاحتجاج الاجتماعي.
كما أكد الإعلان: أن المحافظة على الزراعة الفلاحية ضرورية لمكافحة الجوع والفقر؛ وهي ضرورية لضمان الأمن والسيادة الغذائية؛ أن استقلالية الزراعة الفلاحية تستلزم حماية البذار التوليدي والرفض المطلق للزراعات القائمة على التلاعب الجيني؛ أن الاصلاح الزراعي ضروري لتحقيق زراعة فلاحية.
لقد شرعت فيا كامبيسينا بإعداد شرعة عالمية لحقوق الفلاحين. لقد بينت مداخلة رئيس حركة المحرومين من الأرض، جاو بيدرو ستديل، الأمر الجديد الذي أصاب الزراعة: يعني بذلك خضوعها للرأسمال المالي العالمي الذي يتركز بيد عشرة من الشركات العملاقة، مثل نستليه ومونسانتو وكارغيل، التي تتقاسم الانتاج والتسويق والبذار والمبيدات والاستثمارات الزراعية الرأسمالية. إن هذه الشركات الاحتكارية، في سعيها لزيادة حصتها في السوق وأرباحها، تتجه إلى فرض نموذج غذائي وحيد بالإلغاء الإضطراري للخصوصيات المتعلقة بكل ثقافة. وأكد جاو بيدرو ستديل أن الرأسمال لا يكتفي باستغلال العمل أو بامتلاك الأراضي، بل يحتكر المعارف (من خلال براءات الملكية على المعارف التقليدية) والبذار (من خلال السيطرة على إعادة إنتاجه) والضمائر (من خلال التلاعب بالإعلانات).
ترابط مقاومتين
إن تجدد المقاومات الفلاحية العالمية يكشف، في أميركا اللاتينية، شكلاً خاصاً تندمج فيه المطالب الفلاحية بمطالب ثقافية تاريخية لشعوب هنود أميركا ومن ذوي الأصل الإفريقي. وهذا ما بينه "اللقاء العالمي لمقاومة وتضامن الفلاحين والسكان الأصليين" المنعقد في كاراكاس من 11 إلى 13 تشرين الأول 2003. ولقد جاء إلى هذا اللقاء، ليقدم الدعم للإصلاح الزراعي الجاري في فنزويلا، كل من قادة حركة هنود أميركا والحركة الفلاحية في بلاد الأندين: البوليفي إيفو موراليس والإكواتورية بلانكا شانكوزو والهندوراسي رافايل أليغريا والغواتيمالي جوان تيني والبرازيلي إيديجيو برونيتو.
لقد أكدت بلانكا شانكوزو، العضو البارز في "اتحاد القوميات الأصلية في الإكوادور"، أن "الأرض أمنا ولا يمكن بيعها" فهي التي تضمن حياة الشعوب. واقترح رافايل أليغريا مواجهة "اتفاقية التبادل الحر في القارة الأميركية" واستبدالها باقتراح "البديل البوليفاري للشعوب" الناشئ في فنزويلا والذي يرفض النموذج التصديري في الزراعة، ويتخذ كأولوية العمل لتأمين الحاجات الأساسية للشعوب بصرف النظر عن قوانين السوق النيوليبرالية. كما ذكّر إيفو موراليس بأن هنود أميركا لا يعترفون بالملكية الخاصة للأرض. فاستغلال الأرض عندهم كان عملاً جماعياً، لأن المجتمع الأصلي كان يعمل على قاعدة التضامن والتبادل في توزيع الثروة.
منتدى بلاد الأندين
هذا أيضاً ما يركز عليه بيان منتدى الأندين الصادر في ليما في 23 تشرين الأول 2003 كخلاصة لمنتدى الأندين الثاني الذي ضم الحركات الفلاحية وحركات السكان الأصليين والمتحدرين من أصل إفريقي، وهم من كولومبيا والإكوادور والبيرو وبوليفيا وفنزويلا. جاء في هذا البيان: أن السياسات النيوليبرالية فاقمت الأزمة الاجتماعية وزادت فقر شعوب الأندين؛ استنفد النموذج الليبرالي ذاته، وليحمي نفسه يعمد إلى تضييق مجالات الديمقراطية وتشجيع الأنظمة الاستبدادية؛ على شعوب الأندين مواجهة الأمور بخلق البدائل واستمداد العبر من ثقافاته القديمة.
ويستنتج البيان: نحن نؤكد على أولية الأمن الغذائي لشعوبنا على كل القواعد التجارية؛ نعلن أن الزراعة جزء من تراث شعوبنا، ونتعهد بحماية بذارنا وتنوعنا البيولوجي؛ نحن نطالب بضمان قانوني لأقاليم الجماعات الريفية والسكان الأصليين وتطبيق السياست المتمايزة الهادفة إلى تأمين رفاهية وتقدم جماعات صغار المنتجين؛ نطالب لكل بلد من بلاد الأندين بالحق بحماية منتجاته الغذائية، ونرفض سياسة الإغراق المدعومة من قبل منظمة التجارة العالمية؛ كما نرفض خصخصة المياه ومصادرنا من الطاقة.
برلمان السكان الأصليين
انعقدت في كويتو (الإكوادور)، من 2 إلى 5 حزيران 2004، الدورة السابعة عشر لبرلمان السكان الأصليين في القارة الأميركية، وحضرها برلمانيو وقادة الهنود الأميركيين من 21 بلداً في أميركا اللاتينية. وعمل المندوبون المئة على مشروع الإعلان الأميركي لحقوق السكان الأصليين.
ولقد أعلن رئيس البرلمان، النائب الإكوادوري ريكاردو أوكوانغو: آن الأوان لتدرك "منظمة الدول الأميركية" حقوق الشعوب الأصلية بإدارة أقاليمها بحرية ووضع التشريعات المتوافقة مع ثقافاتها التاريخية. وذكّر الزعيم البوليفي، إيفو موراليس، أن 62 بالمئة من البوليفيين هم من أيمارا أو كيشوا أو غواراني، وأنهم يطالبون بحكم يتوافق مع التقليد الديمقراطي المعروف في متحداتهم الاجتماعية.
إن البرلمان الذي اجتمع عشية لقاء "منظمة الدول الأميركية" استنكر وجود روبرت زوليك وزير التجارة الأميركي ووزير الخارجية كولن باول، لأن حضورهما يشكل رمزاً على تدخل الولايات المتحدة وفرض اتفاقيات التبادل الحر، وهذا ما يعني، بنظر نواب الهنود الأميركيين، استراتيجية جديدة لترسيخ الاستعمار القديم.
استراتيجيات المقاومة
نستخلص من كل هذه الاجتماعات أن المبادئ والبرامج المعلنة من قبل هذه المنظمات الفلاحية وحركات الهنود الأميركيين تتناقض تماماً مع البرنامج النيوليبرالي الموضوع قيد التنفيذ منذ عشرين سنة في أميركا اللاتينية. وهذه التناقضات لا تقبل المساومة في جوهرها.
ولكن الأمر الأهم هو مدى قدرة هذه الحركات والمنظمات على بلورة مشروع سياسي يتجاوز مجرد حالات الانتفاضات... وعلى أي حال ثمة تصورات سياسية جديدة هي موضع المخاض انطلاقاً من الانعطافات الاجتماعية الجديدة وعلى قاعدة النقد الواعي للنيوليبرالية.
إن المبادئ التي أعلنتها فيا كامبيسينا، هذه المنظمة الفلاحية العالمية، تتوافق تماماً مع المبادئ التي ألهمت المطالب الاجتماعية والثقافية للهنود الأميركيين في مجمل القارة، وهي المطالب التي تمت بلورتها وأصبحت مسموعة في العام 1992 بمناسبة الذكرى الخمسماية لغزو الأوروبيين للقارة الأميركية.
تمتاز حركات الهنود الأميركيين جميعها بصفة الحركات الفلاحية لأنها تضع في طليعة اهتماماتها العلاقة بالأرض. الأرض كمصدر للحياة، أي الأرض الطبيعة التي تبقى بعد أن يزول المرء، والتي عليها أن تستقبل الأجيال القادمة. إن فكرة أن الإنسان ليس غير مستثمر للأرض وليس مالكاً لها، لا تلهم الأنماط التقليدية في التنظيم الاجتماعي للهنود الأميركيين فحسب، بل تلهم بعض الأشكال الراهنة في الإدارة التي بواسطتها يحمي الفلاحون أنفسهم من الكارثة التي تسببها النيوليبرالية.
وفي برازيليا أطلقت المؤسسة الرعوية (من رعية) الاجتماعية ومنظمات غير حكومية، في مطلع أيار المنصرم، "الأسبوع الاجتماعي الرابع" الذي اقترح شعار "العونة من أجل برازيل جديدة". والعونة هي هذا العمل الجماعي كتقليد فلاحي في تبادل المساعدة في الزرع والحصاد أو بناء المنزل... وعلى مدى أسبوع قام المشاركون بتحليل الأزمة الاجتماعية، ودور الدولة في مواجهة الدين العام والتبادل الحر. وختموا المؤتمر "بنداء إلى الشعب البرازيلي" يقترح عليهم صياغة مشروع سياسي يليق ببلد سيد. ودعوا المجتمع المدني إلى السعي لبناء بدائل تقوم على التضامن، وطالبوا بإحياء مبدأ العونة. وكان مبدأ العونة شعاراً رفعته حركات السكان الأصليين (كوناي) في الإكوادور و(باشاكوتي) في بوليفيا و(كوناموري) في الباراغواي.
ليس مبدأ العونة مجرد رؤية ماضوية لتنظيم الاجتماع السياسي، بل هو رمز لرفض ما تطرحه النيوليبرالية من أولية الصالح الفردي على المصلحة العامة. إن فلاحي بلاد الأندين، وهم في غالبيتهم هنود أو خلاسيون ومن ضحايا النظام الزراعي التصديري، يعتبرون أنماط التنظيم الذاتي للجماعات المحلية بدائل لنظام غير محمول. وهذا هو أيضاً ما تقوم به "حركات المحرومين من الأرض" عندما تنجح في إقامة تجمع على قطعة أرض مستعادة.
إن ابتكار هذه الأساليب الجديدة في التنظيم الاجتماعي والتي تمليها ضرورة البقاء على قيد الحياة إنما يتم استلهامه من التاريخ الطويل للشعوب المغلوبة التي ما تزال تحتفظ بذاكرة عن صراعاتها.
وفضلاً عن المجال الريفي، يشهد المجال المديني مؤخراً ابتكارات اجتماعية هي صدى لمبدأ العونة. فالأرجنتين، هذه الضحية للكارثة النيوليبرالية، أصبحت مختبراً للابتكار الاجتماعي: 150 مصنعاً مستعاداً تتم إدارتها ذاتياً، والمئات من المدارس والمطاعم الجماعية الشعبية. ولعل آخر حدث رمزي لمقاومة المغلوبين حصل في الثالث من أيار المنصرم في الضاحية الكبرى الفقيرة من بيونس أيرس: افتتاح مدرسة ابتدائية بناها الفقراء بأنفسهم، وكانوا قد اقاموا فرناً ومصنعاً للخياطة، ما وفر لهم القدرة على استمرارهم على قيد الحياة. واليوم، وبمواجهة غياب الدولة المطلق في مجال التعليم، قاموا ببناء مدرسة. وهذا ما يرمز إلى إرادة نشر معرفة ربما لن تكون بالضرورة للتبشير بالنيوليبرالية.
إدارة ذاتية للمؤسسات المستعادة
أقفل، في التسعينيات، عدد كبير من أرباب العمل مؤسساتهم دون إنذار مسبق، وغالباً ما أخذوا معهم الآلات والوثائق، ولم يدفعوا رواتب العاملين. فقرر العمال بشجاعة، في بعض الحالات، إعادة تشغيل المصنع أو المشغل. لقد واجهوا الكثير من الصعاب، لا سيما مقاضاة أرباب العمل لهم. فما كان بوسع الشغيلة القيام به إزاء غياب الدولة ولا مسؤولية أرباب العمل غير مواجهة التحدي، مواجهة التناقض بين حق الملكية الخاصة والحقوق الإنسانية كالحق بالعمل والحق بالحياة. وعلى العموم فإن هؤلاء العمال المدينيين وجدوا أنفسهم بكل فظاظة في نفس وضع عمال البرازيل الريفيين الذين شرعوا منذ نهاية السبعينيات باحتلال اللاتيفونديات غير المستثمرة، ليطرحوا دفعة واحدة مبدأ لا قدسية الملكية الخاصة للأرض. وتمكنوا بجرأتهم من تأسيس "حركات المحرومين من الأرض" في العام 1984، ومن أن يطرحوا رسمياً مبدأ أولية حق الحياة على حق الملكية.
وهناك اليوم 150 مؤسسة تتم إدارتها ذاتياً، وتعمل وتؤمن الحياة لبضعة آلاف من شغيلة الأرجنتين. وأعضاء هذه المؤسسات متضامنون، فهم يمارسون على العموم مبدأ العونة الذي يعتمده الهنود الأميركيون. تشكل هذه المبادرات المتناقضة كلياً مع أسس النيوليبرالية تحدياً للأفكار السائدة في عصرنا. وهذا التحدي يغذي أمل الملايين من ضحايا النظام النيوليبرالي. ويبرهن هؤلاء المناضلون، بنضالاتهم وابتكارهم للأشكال الجديدة في التنظيم الاجتماعي، أنه من الممكن مقاومة مجرى الأمور الراهنة للوصول يوماً إلى تغييره. إنهم مقتنعون أن النيوليبرالية ليست "نهاية التاريخ".
المصدر: Grain de Sable, no 476, 7 juillet 2004