محاكمة صدّام: مَن يُحاكِم مَن؟

 

حميدي العبد الله

كاتب وباحث عربي في الشؤون السياسية

Hamidi_a@hotmail.com

 

طرحت محاكمة الرئيس العراقي السابق صدّام حسين الكثير من الأسئلة على الصعيدين السياسي والقانوني. وجاء طرح هذه الأسئلة لا لأن الرئيس السابق ونظام حُكمه نظيفاً وخالياً مما يستوجب محاكمته، بل من السياق السياسي الذي جاءت فيه هذه المحاكمة وطبيعة تركيب المحكمة، ومَن أشرف على تكوينها، والضمانات القانونية التي يتمتع بها المتّهمون.

 

في السياق السياسي للمحاكمة

كما هو معروف فإن النظام العراقي لم يسقط بثورة شعبية قام بها الشعب العراقي، بل إنه سقط من خلال غزو قامت به قوات أجنبية في طليعتها القوات الأمريكية، أو بالأحرى جاء هذا الغزو في نطاق الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى فرض هيمنة إمبراطورية على العالم يكون العراق مدخلها. وكما هو معروف أيضاً فإن العالم يشهد سجالاً، منذ انتهاء نظام الحرب الباردة وتفكّك وسقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته الدولية، يدور حول ماهيّة النظام الدولي الجديد الذي يجب أن يحلّ محلّ النظام البائد. ففي حين تُصرّ الولايات المتحدة على تزعُّم العالم وتكريس قيادتها الأحادية وفرض هيمنتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، تدعو دول أخرى إلى إقامة نظام دولي مُتعدّد الأقطاب.

 

وهذا السّجال بدأ ينحو منحىً عملياً بعد توقف التيه الروسي إثر تفكّك الاتحاد السوفييتي، وبعد أن كفّت روسيا عن أن تكون جُرماً في الفلك الأمريكي، حيث بدأت هذه المرحلة في عهد حكومة يفغيني بريماكوف قبل أن يُنتخَب فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا. أما فرنسا، وإلى حدٍّ ما ألمانيا، فإنهما عبّرتا عن معارضتهما الشديدة للنظام الأحادي في وقت أبكر، وتصاعد موقفهما متزامناً مع عودة روسيا إلى سياسة الاستقلال النسبي عن الولايات المتحدة. في هذا السياق بدأت تتلمّس مراكز صُنع القرار في الولايات المتحدة، وخاصةً في الأوساط المحافظة، حقيقة أن عامل الزمن لم يعُد يعمل في مصلحتها في ظلّ عودة الصراع على الأسواق والموارد بين الحواضر الرأسمالية، الأمر الذي لا يُشكّل تهديداً للزعامة الأمريكية فحسب، بل يشكل أيضاً تهديداً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة. وفي هذا السياق كان رهان الولايات المتحدة، التي بدأت تخشى على مصادر قوّتها وقوّة اقتصادها، وخاصةً في مجال الطاقة بعد تحوّل فنزويلا. وهي مُنتجة للنفط ومصدر أساسي للولايات المتحدة، وفي ضوء الاضطرابات الأمنيّة التي بدأت نُذرها تُطلّ على السعودية منذ منتصف عقد التسعينات، حيث أدت إلى إرباك القيادة السعودية وأرغمتها على إبطاء تعاونها العلني مع السياسة الأمريكية لإرضاء الرأي العام الغاضب لديها، وتزامن كل ذلك مع تعزّز حالة اللااستقرار في كل من إندونيسيا ونيجيريا وهما من الدّول المكوّنة لأوبك.

 

في هذا السياق أيضاً اهتدى عدد من صانعي القرار في الولايات المتحدة إلى استراتيجية جديدة تقوم فلسفتها على فكرة مفادُها أن احتلال العراق والاستيلاء على نفطه من شأنه أن يُوفّر للولايات المتحدة وضعيّة استراتيجية جيدة تمكّنها من احتواء كل هذه المخاطر. فنفط العراق يمكّنها من الاستغناء عن السعودية وإندونيسيا ونيجيريا وفنزويلا، كما أنه يُساعد على التحكّم في اقتصادات الدّول الرأسمالية الأخرى، ويجعل الولايات المتحدة في وضع القادرة على الضغط على هذه الاقتصادات لإرغام حكومات البلدان الرأسمالية على قبول الزعامة والهيمنة الأمريكية، والكفّ عن التفكير في تحدّي هذه الزعامة.

 

بناءً على هذه الحسابات قرّرت الولايات المتحدة غزو العراق واحتلاله، وبالتالي إسقاط النظام القائم هناك، ومن أجل تحقيق هذا الهدف لجأت إلى اختراع الأعذار والمبرّرات، فمرّةً اتهامه بالسّعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ومرةً أخرى ارتكابه مجازر جماعية ضدَّ شعبه، وثالثة بأنه نظام ديكتاتوري، وكانت هذه الاتهامات من قبل الولايات المتحدة مُجرّد تبرير لغزو العراق، لأن كل ما هو مُتّهم به النظام العراقي حدث بصورة أساسية في عقد الثمانينات ومطلع عقد التسعينات، وكانت الولايات المتحدة شريكة لـه في كل ذلك. فعند الهجوم على المناطق الكردية في نهاية عقد الثمانينات كانت الولايات المتحدة تُقيم أحسن العلاقات مع النظام العراقي، وفي حربه ضدَّ إيران حصل على الدّعم السياسي والعسكري المباشر من الولايات المتحدة، وعلى الدّعم المالي غير المباشر من خلال الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة وفي العالم، وعشيّة غزو الكويت كانت العلاقات التي تربط النظام بالإدارة الأمريكية أكثر من وثيقة لدرجة أن هناك مَن كان يعتقد بأن النظام العراقي لم يشنّ الحرب على الكويت إلا بعد أن تلقّى ضوءً أخضرَ من الولايات المتحدة، ولا تزال الأوساط الإعلامية والمؤرّخون يتحدّثون إلى اليوم عن اللقاء الشهير بين الرئيس العراقي السابق وبين سفيرة الولايات المتحدة إبريل غلاسبي، هذا اللقاء الذي ألمحت فيه إلى السلطات العراقية عن موافقة أمريكية ضمنيّة على غزو الكويت عندما أبلغت السفيرة الأمريكية العراقيين بأن الولايات المتحدة تعتبر الخلافات مع الكويت شأناً داخلياً لا يهمّها.

 

من هنا فإن جميع الاتهامات الموجّهة إلى الرئيس العراقي وأعوانه هي اتهامات كان يجب أن تُوجَّه إلى الولايات المتحدة ذاتها، وليس صدفة أن يتم إسقاط تهمة شنّ الحرب على إيران من بين هذه التّهَم، لأن الولايات المتحدة قامت بتحضير ملف قانوني لقادة النظام يخدم مصالحها هي وحدها.

 

طبيعة تركيب المحكمة

لقد شكّل هذه المحكمة السفير الأمريكي بول بريمر الذي ظلّ حاكماً مدنياً للعراق حتى 28 حزيران الماضي، أما دور مجلس الحُكم فكان التغطية وإخراج القرار الأمريكي لا أكثر ولا أقلّ. وقام بريمر شخصياً بانتقاء وتسمية القضاة المشرفين عليها وجُلّهم لا يحملون الجنسيّة العراقية، ولا يربطهم بالعراق سوى أصولهم، بل إن أبرز شخصيات هذه المحكمة، أي سالم الجلبي عُرفَ عنه ارتباطاته الوثيقة بإسرائيل، ويشترك مع محامي إسرائيلي في ملكيّة مكتب مُحاماة يعمل في الولايات المتحدة وداخل إسرائيل. وبهذا المعنى ومن دون أية مُبالغة لم تكن الولايات المتحدة وحدها التي أشرفت على تشكيل المحكمة وانتقاء رموزها، بل كان لإسرائيل دوراً كبيراً على هذا الصعيد.

 

الضمانات القانونية

لا تتمتع هذه المحكمة بأي ضمانات قانونية تجعلها مُؤهّلة للنظر بما هو معروض أمامها خاصةً وأن القضية التي تنظرها هي قضية ذات أبعاد مُعقّدة ومُتشعّبة لكثرة الاتهامات المطلوب النظر بها والبتّ بمدى صحّة هذه الاتهامات. فليس هناك محامون للدفاع، وإذا وُجِدَ مَن هو مُستعدّ للدفاع عن المتّهمين، فإنه لا تتوفر لـه حريّة المرافعة والحماية في وجه التهديدات التي يُطلقها أعضاء الحكومة الانتقالية، وبعض الجماعات المتعاونة مع قوات الاحتلال، وبهذا المعنى فإن المحكمة لا تتمتع أولاً بالنزاهة والحياد، وثانياً لا تتوفر فيها الشروط الضرورية لإجراء محاكمة قانونية بعيدة عن منطق تصفية الحسابات السياسية.

 

تناقضات

تعاني المحكمة من تناقضات على أكثر من صعيد. ففي حين نزعت الصفة الرسمية عن الرئيس العراقي ووجّهت الاتهامات إلى نظامه القانوني بوصفه المسؤول عن المظالم التي لحقت بفئات كثيرة من العراقيين، اعتمدت المحكمة القوانين ذاتها التي كان معمولاً بها في عهد النظام السابق لتكون الأساس القانوني للمحاكمات. وهذا ما أثار الكثير من اللغط في الأوساط القانونية المحايدة. فقد أعلن المحامي والقانوني اللبناني المعروف إدمون نعيم، وهو من الذين عُرفوا بعدم وجود أي صلة لـه بالعراق وبالنظام العراقي السابق، ومن المعارضين لفكرة القومية العربية «أن المحاكمة غير قانونية» وعزا نعيم السبب إلى أن «صدّام انتُخبَ رئيساً للعراق وفقاً لأصول الدستور العراقي، ولكنه  لم يُخلَع وفقاً لهذه الأصول، وبالتالي بحسب تلك القوانين التي لا يزال معمولاً بها، فإنه رئيس للعراق ولا يمكن محاكمته إلا وفقاً للأصول التي يجب أن تتبع لمحاكمة الرئيس العراقي» وأضاف نعيم أن «القوانين الدولية تعطي نظرياً قوات الاحتلال اختصاصات لإجراء محاكمات تعتقد بأنه يجب أن تجريها لأشخاص، ولكن ليس في حال إقدام سلطات الاحتلال على القبض على الرؤساء والشخصيات الكبار وتسليمهم إلى سلطات محلية لتقوم هذه الأخيرة تحت سلاح الاحتلال بمحاكمتهم» وهذا ما حصل فعلاً الآن في العراق مع صدّام حسين وأعوانه، على عكس ما حدث لقادة يوغسلافيا السابقين، أو بعض القادة الإفريقيين المتهمين بارتكاب مجازر جماعية.

 

وطرح محامٍ آخر هو هاني سليمان أسئلة ترمي كلها بظلّ ثقيل على شرعية المحكمة وهذه المحاكمة: يتساءل سليمان «بموجب أي قانون يُحاكَم صدّام؟ هل بموجب القانون العراقي أم بموجب قانون آخر؟ هل استقى القاضي شرعيّته في شكل رسمي دستوري، أي هل عيّنه مجلس نيابي مُنتخَب من الشعب؟ وهل يسمح القانون لقاضٍ منفرد، كما شاهدنا، محاكمة رئيس للجمهورية؟ وهل السلطات المنبثقة من احتلال قائم باعتراف الأمم المتحدة جديرة بمحاكمة أي شخص أكان صدّام حسين أو سواه؟». هذه الأسئلة كلها لها دلالاتها إزاء ما يجري، إذ يقول سليمان: «لو افترضنا أن المحاكمة تجري وفقاً للقانون العراقي فإنها هنا تحصل في ظلّ الاحتلال الذي يتحكّم بإدارتها، وهو سلطة غريبة غير مُنتخَبة، تجعل المحاكمة باطلة في الشكل والمضمون، وكان الأحرى بالاحتلال أن يُؤجّل محاكمته حتى تنشأ سلطات شرعيّة مُنتخَبة من الشعب العراقي».

 

لا شكّ أن محاكمة رموز النظام العراقي، لو تمّت من وجهة نظر الشعب العراقي، وفي سياق تغيير قام به الشعب العراقي ذاته، وفي ظلّ حكومة انتخبها الشعب العراقي، وليس حكومة عيّنها الاحتلال، وعُرفَ رموزها بارتباطاتهم بأجهزة الاستخبارات الدولية، ولو شُكِّلَت المحكمة بناءً على معايير قانونية عادلة ونزيهة وموضوعية، لربما كان هناك الكثير مما يُعاقَب عليه الرئيس العراقي السابق وأركان حُكمه. ولكن في ظلّ هذه المحاكمة والسياق السياسي الذي جاءت فيه، وطبيعة قُضاتها وظروف عملها، والجهات التي شكّلتها، بات رموز النظام الذين تحفل سجلاتهم بانتهاك القوانين وارتكاب الممارسات الشاذة وكأنهم مُتفوّقون على قُضاتهم ومَن يحاكمونهم أو يقف وراء محاكمتهم، وبدا الرئيس العراقي السابق مُتفوّقاً عليهم وقادراً على توجيه الاتهامات لهم ووضعهم في وضع الدفاع، بل إن تصرّف «القضاة» المشين، إن لجهة التواري وعدم القدرة على مواجهة الكاميرا أو الارتباك الذي سيطر عليهم أثناء استجواب «المتهمين» برهن وكأنهم يمارسون عملاً غير مشروع، وهم فعلاً قاموا بذلك، لأنهم إذا حكموا فإنهم سيحكمون بإرادة الاحتلال وتنفيذاً لمشيئته وليس باسم الشعب العراقي وتعبيراً عن إرادته الحقيقية. فلهذا ليس عجباً أن تخرج المظاهرات المؤيّدة للرئيس العراقي السابق في عدد كبير من المدن العراقية بعد هذه المحاكمة الصورية، فما يقوم به الاحتلال وأعوانه دفع الشعب العراقي، أو على الأقلّ فئات واسعة منه لم يُعرَف عنها علاقاتها مع النظام السابق، إلى التعاطُف مع رموزه ليس حُبّاً بهم بالضرورة، وإنما استنكاراً لممارسات الاحتلال وخَدَمِه العراقيين.