قراءة في مسودة وثيقة "حركة اليسار الديمقراطي" السياسية
حسن ملاط
ناشط من لبنان (القلمون)
في المقدمة علينا الإشارة إلى أن هذه قراءة لما في الوثيقة وليس نقداً لها. ذلك أن النقد لن يكون إلاّ عندما تتحول المسودة التي بين أيدينا إلى وثيقة أساسية موافق عليها من قبل "حركة اليسار الديمقراطي".
مما لا شك فيه أن إصرار الناس على الانخراط في العمل السياسي هو مما يثلج الصدر لأن الضغوط غير المسبوقة التي تمارس على شعبنا تدفعه إلى الاستكانة، ذلك أن عليه قضاء جل يومه في التفتيش على قوت عياله، ومن أين له بعدها أن يهتم بتطورات الوضع السياسي أو الانخراط بالنضال السياسي، بل المطلبي على الأقل؟ فتحية لهؤلاء الذين لم يقبلوا بالإحالة على التقاعد عن الاهتمام بقضايا شعبهم وأمتهم.
1- تقول الوثيقة: "سنواصل البحث وطرح الأسئلة انطلاقاً من قناعتنا بأن العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع هي سبيل تلمس الأجوبة؛ الفكر المتحرك بعيداً عن أي جمود أو قدسية، والنضال من داخل المجتمع ومؤسساته لا إسقاطاً عليه وقسرية في قيادته". وتضيف الوثيقة: "فمهمة قوى اليسار هي أن تغير الواقع لا أن تنتظر لتغييره". وتقول: "نظرتنا اليوم تقوم على فهم التغيير بوصفه عملية مستدامة ومتطورة ومعقدة ومتنوعة المستويات وغير قابلة للإنجاز النهائي، وتشارك في صوغها مكونات المجتمع المعنية بحكم قيمها ومصالحها بها". ثم تنتهي بالقول: "إن شيئاً مما نقول (أي التغيير) لن يتحقق من دون توازن قوى فعلي في المجتمع ومن دون ضغط شعبي سلمي على مراكز القرار لتغييره. وذلك يتطلب حتماً بناءً لحركة نقابية جديدة مستقلة ومستقطبة للعمال والموظفين، وتفعيلاً لتجمعات مهنية ومنظمات اجتماعية ومراكز أبحاث متخصصة. ودورنا كيسار ديمقراطي أن نساهم في كل هذه المهام بفعالية وبجهد وبواقعية".
إن إبرازنا لهذه المقتطفات لا يهدف إلى لفت النظر إلى التناقض الموجود بين كل فقرة وأختها، بل إلى الإشارة إلى أنه إذا أراد البعض أن يقطع بين حاضره وماضيه لا يكفي رصف الكلام.
فإذا كانت الماركسية تقول بأنه "لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية"، علينا أن نقول كلاماً معاكساً ثم نطبق بعكس ما قلناه. فالفقرة الأولى تدلنا على كيفية البحث للوصول إلى نظرية للتغيير، أما الفقرة الثالثة فتبين أن التغيير له ميزات معينة لا بد من توفرها حتى يتم هذا التغيير. وأما الفقرة الرابعة فتعطي موجزاً لبرنامج عمل "حركة اليسار الديمقراطي" من أجل إنجاز هذا التغيير. أليس هذا مناقضاً للفقرة الثانية التي تؤكد "أن مهمة اليسار هي تغيير الواقع لا أن تنتظر تغييره".
من هنا اقتراحنا الأول هو إضافة كلمة "فقط" على نهاية الفقرة حتى يستقيم المعنى. ومن ثم نعدكم بأن لا نتهمكم بالماركسية.
2- يقول أصحاب الوثيقة: "فالإيمان قناعة فردية لا علاقة لليسار بها، كما لا علاقة لها بالخيارات السياسية والاجتماعية للإنسان".
ولنا على هذا القول ملاحظتان. الأولى أنه حتى يستقيم المعنى الذي يريده أصحاب الوثيقة لا بد من القول "فالإيمان بالله". وأما الملاحظة الثانية فهي أن أصحاب الوثيقة يجهلون ما يفرضه الإيمان بالله على المؤمنين. لذلك ننصحهم كما قال تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". فالمؤمن يفرض عليه إيمانه الانخراط في العمل النضالي من اجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل. ويندرج تحت هذا العنوان الكثير الكثير مما أورده أصحاب الوثيقة. ونورد على سبيل المثال لا الحصر: تحرير العراق من الاحتلال الأميركي وحلفائه، تحرير فلسطين وحق العودة، منع الظلم عن جميع طبقات وفئات الشعب إلخ... ويعتبر المؤمنون أن قيامهم بهذه المهمات سوف يوصلهم حتماً إلى الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين.
ولا نريد هنا أن نتهم أصحاب الوثيقة بعدم قبولهم للآخر لأنهم لا يريدون بين صفوفهم المؤمنين بالله والذين يفرض عليهم إيمانهم خيارات سياسية واجتماعية تنسجم بشكل أو بآخر مع ما تدعو إليه "حركة اليسار الديمقراطي".
في الديمقراطية
سوف نحصر تعليقنا على الوضع اللبناني في هذا الباب فقط. ذلك أنه لا خلاف حول ضرورة الإصلاح وما إلى ذلك من مطالب شعبية ملحة ومحقة. أما المهم والمفصلي في هذا الموضوع فهو الرؤية السياسية. نحن نعتقد بأن الشرط الأول للعمل السياسي هو الحرية. والمقصود بالحرية هو أن يملك الفرد الجرأة على ممارسة حريته، أي أن يدلي برأيه في جميع القضايا التي تهم شعبه. والشرط الثاني هو أن تكون قضايا الناس ملك أيديهم، اي بصيغة أخرى، أن يكون لدى الناس الاستعداد لإثارة قضاياهم أمام الجهات المخولة حلّها. وهذا الشرط يعني العمل الدؤوب على تأسيس لجان للعمل الأهلي على مستويات عديدة تبدأ من الحي إلى أن تنتهي بالنقابات. والمتبصر هنا يلحظ أنه في حال تحقق ذلك تصبح كل قضايا الوطن ملك لأكثرية الناس انطلاقاً من الحي وصولاً إلى كامل الوطن.
إن تحقق الشرطين السابقين هو المدخل إلى إمكانية قيام حركة سياسية أو تنظيم سياسي أو حزب سياسي لا يسقط آراء نخبة معينة على كافة الناس مدعياً أنه يحقق أو يمثل مصالحها رغم عدم معرفتها وعدم قناعتها بذلك.
ما نريد قوله أنه لا يكفي القول أن "حركة اليسار الديمقراطي" لا تسقط آراءها على الناس حتى يكون ذلك صحيحاً. كما وأنه لا يكفي أن تنبذ المركزية الديمقراطية داخل الحركة حتى تصبح جميع مؤسساتها ديمقراطية. إن ممارسة الديمقراطية تفرض مشاركة الأكثرية الساحقة من الناس بالقول أو بالعمل. صحيح أنه في البلدان الديمقراطية العريقة نرى أن المشاركة في الانتخابات لا تكاد تصل إلى 50 في المئة، ولكن الناس تشارك من خلال الجمعيات والنوادي والنقابات والأحزاب إلخ... فالديمقراطية لا تعني الانتخابات النيابية أو الرئاسية، إنما الانتخابات هي شكل من أشكال الممارسة الديمقراطية.
وحتى يستقيم الكلام مع أهداف الوثيقة يمكننا القول: إن انبثاق "حركة اليسار الديمقراطي" كحركة سياسية "يتطلب حتماً بناءً لحركة نقابية جديدة مستقلة ومستقطبة للعمال والموظفين، وتفعيلاً لتجمعات مهنية ومنظمات اجتماعية ومراكز أبحاث متخصصة".
الوضع في فلسطين
تقول الوثيقة بعد عرضها للوضع الفلسطيني المعروف: "إن وسائل النضال واستراتيجيات العمل والمقاومة لا بد وان تنسجم مع المصالح الحقيقية الراهنة والمستقبلية للشعب الفلسطيني، وعلى الأطراف أن تراجع وسائلها وخططها، وان تنخرط جميعاً في حوار وطني صريح وديمقراطي من أجل بلورة الخيارات ووضع استراتيجية وطنية موحدة بمشاركة الجميع، ويلتزم بها كل الأطراف".
وتضيف الوثيقة: "لبنان وشعبه وقواه السياسية معنيون بنجاح الشعب الفلسطيني في الصمود وتثبيت ما انتزعه من اعتراف بحقوقه الوطنية المشروعة في بناء الدولة المستقلة وحق العودة، وذلك بحكم التلازم المشترك في المسار النضالي في مقاومة الاحتلال، وبحكم التأثر المشترك بنتائج نجاح الخطط الإسرائيلية والهيمنة الأميركية. كما وأنه معني بشكل مضاعف بحكم وجود اللاجئين الفلسطينيين على ارضه، وضرورة صياغة موقف وطني رسمي وشعبي سليم يحترم الحقوق السياسية والحقوق المدنية والإنسانية لهؤلاء الفلسطينيين، ويصيغ موقفاً مشتركاً من احتمالات التوطين وانعكاسات المخططات الإسرائيلية على لبنان وسبل مواجهتها".
نحن نوافق على ما تقدم، بل نحبذه وندعو إليه جهاراً نهاراً، ولكن مع تحفظ واحد. وهذا التحفظ لأنه يصادر نتائج الحوار الذي سوف تقوم به جميع الأطراف الفلسطينية من أجل تحديد استراتيجية للنضال الفلسطيني مجمع عليها من قبل هذه الطراف.
التحفظ هو إضافة عبارة "بناء الدولة المستقلة". ذلك أن هذه العبارة قد تعني عند البعض القبول بأن يختصر الفلسطينيون وطنهم إلى قطاع غزة و42 بالمئة من أراضي الضفة الغربية بعد 1967. وهذه العبارة قد تعني عند البعض حرمانهم من حق المواطنة في وطنهم فلسطين التاريخية...
إن حركة النضال الفلسطيني في مأزق. وهذا المأزق لا يحلّه إلاّ الفلسطينيون أنفسهم، وذلك بابتكار شعار يتوحد المناضلون حوله كما كافة أطراف الشعب الفلسطيني، ونخص بالذكر منهم فلسطنيي الشتات المعنيين الأوائل بحق العودة وحق المواطنة. إن المراوحة هي نوع من أنواع التراجع، ونرى كيف أن العدو الصهيوني يستغلها. كما وأنه من المفيد في هذا المقام الإشارة إلى ان هناك دعوات في الكيان الإسرائيلي لطرد فلسطينيي 1948 من أراضيهم مع أنهم مواطنون إسرائيليون. إن الشعب الفلسطيني شعب حي ومبدع، ولا بد أن يبتكر شعاراً يوحد أوصاله.
وفي هذا الباب لا بد من التنويه بما جاء في هذه الوثيقة. إذ أنه للمرة الأولى تطرح حركة سياسية ضرورة اتفاق اللبنانيين والفلسطينيين على استراتيجية عمل واحدة من أجل الانتصار على العدو الإسرائيلي. فتحية لأصحاب الوثيقة.
وأخيراً لن نناقش إلى ما لا نهاية، ولكن لنا إشارة إلى العلاقات اللبنانية السورية، ولكن بصيغة مختلفة عما جاء في الوثيقة.
إن تحول الشعب اللبناني من شعب مستهلك إلى شعب منتج يتطلب من الدولة أن تنفتح على محيطها. والانفتاح مع بعض الشوائب خير من عدم الانفتاح من غير شوائب. من هنا نحن نرى ضرورة انفتاح لبنان على جميع الدول العربية كما هو منفتح على سورية، حتى وإن وجدت الشوائب. ولتساهم جميع الدول العربية في ابتكار القوانين والاتفاقات التي تؤمن لها التعاون فيما بينها حتى تتمكن من التفلت من أخطبوط البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وجميع الانعكاسات المدمرة للعولمة الليبرالية على مجتمعاتنا. إن الحكم على إيجابية ظاهرة ما لا يعني عدم وجود سلبيات فيها، ولكنه يعني أن الجوانب الإيجابية تطغى على تلك السلبية منها. ونريد أن ننوه هنا في هذا الجانب أن الدعوة إلتي تطلقها "حركة اليسار الديمقراطي" لتصحيح العلاقة مع سورية لا تنحى منحى العداء للجانب السوري مطلقاً.
هذه قراءة أولى لهذه الوثيقة (المسودة)، نتمنى إعادة القراءة عندما تصبح رسمية.