كيف نتجاوز الطائفية نحو دولة عصرية حديثة؟

زاهر الخطيب

نائب سابق ووزير الدولة الأسبق للإصلاح الإداري

الأمين العام لرابطة الشغيلة

 

 

نجيب على هذا السؤال بعناوين ستة هي على التوالي: أولاً، ماهية الدولة. ثانياً، وحدانية الدولة، وشمولية دورها. ثالثاً، قناعات طائفية لم تُبرهَن صحتها. رابعاً، طائفية الدولة "شر مطلق". خامساٌ، إجراءاتٌ ضرورية باتجاه الدولة اللاطائفية. سادساً، كيف نبلغ الدولة اللاطائفية العصرية الحديثة.

 

أولاً: ماهية الدولة

الدولة هي سلطات وأجهزة ومؤسسات وقوانين وتشريعات تنظم عمل هذه المؤسسات. وتتكون مؤسسات الدولة حسب تدرج أهميتها من: أولاً، السلطة التشريعية، وهي، في دستورنا السابق والحالي، البرلمان. ثانياً، السلطة التنفيذية، وهي، في دستورنا الحالي، مجلس الوزراء، وتنضوي تحتها: القوى المسلحة (جيش، أمن عام، أمن داخلي)، وأجهزة الوزارات، والمؤسسات العامة ذات الصفة المستقلة نسبياً أو كلياً. ثالثاً، السلطة القضائية.

وهذه المؤسسات جميعها تشكل قوام الدولة، وهي التي تؤدي كافة المهمات التشريعية والتنفيذية والسهر على تطبيقها. وأداءُ هذه المهمات محكومٌ بطبيعة الدستور، والقوانين المنبثقة عنه، إضافة إلى الأعراف السياسية التي قد لا تتطابق مع مضمون الدستور تماماً سواءٌ بهذا الإتجاه أو ذاك.

 

دستورنا الراهن

ودستورنا الراهن، إضافة إلى القوانين الأخرى، ورغم كل التحديث الذي أُدخل عليه في وثيقة الوفاق الوطني، هو دستور طائفي. بمعنى أنه دستور ينطلق في تنظيم أجهزة الدولة من أساس طائفي، ويتجلى ذلك في مستويات ومفاصل حاسمة في الدولة. فالبرلمان مناصفةٌ بين المسلمين والمسيحيين، والرئاسات الثلاث عرفاً من نصيب طوائف ثلاث بعينها من بين 18 طائفة معترف بها. ومجلس الوزراء مناصفةٌ أيضاً بين المسلمين والمسيحيين. ووظائف الفئة الأولى، التي هي رأس الإدارة في الدولة والمُسيرة لها، وهي أيضاً موزعة بالمناصفة.

وهذه التصنيفات الطائفية، موجودة في الدستور (وفي النصوص والأعراف الطائفية) وهي أساس جميع القوانين والأنظمة التي تحكم عمل الدولة. وبدهيٌ القول إن واقع الحال المزمن في الدولة اللبنانية يقوم على أساس التوسُط الطائفي. إن مجرد قبول الطائفية كوسيط إنما يكرس معياراً متخلفاً، ويضع لبنان بين الدول المتخلفة، إذا لم نقل دول القرون الوسطى، شأنه شأن الهند، أو الدول الإفريقية. نقول ذلك من دون تحامل، لأن مقياس المقاييس في تطور الدولة ينطلق من شمولية دور الدولة، ووحدانية المرجعية، وغياب جميع التوسطات مهما كانت كبيعتها ومبرراتها.

 

ثانياً: وحدانية الدولة، وشمولية دورها
كانت الدولة، مذ وجدت، بمثابة الصيغة العامة لاحتواء جميع تراكيب المجتمع، ولمعالجة جميع التناقضات والمشكلات الناجمة عن تداخل هذه التراكيب وتعارض مصالحها. ورغم أن الدولة، تاريخياً، لم تكن طرفاً مباشراً في إدارة عمليات الإنتاج، باستثناء ما كانت عليه في المجتمعات "الآسيوية"، ألا أن دورها كان دائماً حاسماً لجهة التصدي للتناقضات الناجمة عن العمليات المنبثقة عن إدارة الإنتاج. ولا يغير من هذه الحقيقة إطلاقاً، انحياز الدولة أو سقوطها في بعض الأحيان في دائرة الدفاع عن طرف ضد طرف آخر. ولقد كان هذا الدور محكوماً دائماً بمحاولات لتقديم الدولة كمرجعية عامة، ووحيدة، لا كطرف مباشر في النزاع، حتى وإن كانت الحقيقة غير ذلك والواقع مغيراً.

ومستويات التعبير عن هذا التوجه بتقديم الدولة كمرجعية عامة كانت تتجلى في تفرع الدولة إلى مؤسسات واختصاصات، تحاول الإيحاء بالإبتعاد عن التصنيف المباشر في خانة هذا الطرف أو ذاك المنبثق عن انشطارات المجتمع، والتي يعتقد علماء الإجتماع ان هذه الإنشطارات وضرورة ضبطها هي في أساس وجود الدولة كفكرة، ومن ثم قيامها ككيان ذي صفة شمولية.

ولا يجوز الإعتقاد أن هذا السياق الراهن للتطور العام، الذي كرس الاتجاه نحو الخصخصة أي نقل وسائل الإنتاج للقطاع الخاص، قد حدَّ في المبدأ من شمولية دور الدولة وأهميتها المطلقة، وهذه حقيقة يمكن التعرف اليها في المجتمعات المتقدمة حيث يتضاعف دور الدولة على جميع المستويات ويصبح كلي التأثير. ففي الولايات المتحدة، كما في فرنسا وبريطانيا واليابان، تزداد أهمية الدولة التي تشكل، إن في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية، مرجعية وحيدة مطلقة، لا غنى أبداً عن دورها، رغم الطابع الخاص لوسائل الإنتاج ولإدارة عمليات الإنتاج.

وللتعرف على مدى أهمية دور الدولة، رغم الطابع الخاص والمطلق لوسائل الإنتاج، يكفي أن نلقي نظرة على ما جرى في إيطاليا حيث أدى الخلل في وظيفة الدولة وتخليها عن دورها كمرجعية وحيدة شاملة ومطلقة، وقبولها بمشاركة فئات في هذا الدور، أدى إلى نشوء أزمة سياسية شاملة هدَّدت الكيان الوطني. إن قبول الدولة الإيطالية، وإن سراً مشاركة المافيا في المرجعية ، قد أدى إلى أزمة وطنية وسياسية خطيرة باتت تهدد الكيان الوطني والمجتمع برمته، ذلك أن الفساد الذي فجر الأزمة في إيطاليا أساسه تحديداً إشراك المافيا في مرجعية الدولة. فالمافيا كجسم منظم حاول أن يكون شريكاً للدولة فأفقدها دورها كمرجعية مطلقة، وفجر الأزمة التي أدت إلى رفع الحصانة عن كبار القادة التاريخيين في إيطاليا وزج البعض منهم في السجن. وغنيٌ عن القول، أنه، بدلاً من الطائفية أو القبلية، كانت المافيا في إيطاليا، شريكة الدولة فكان الإنهيار، الذي أنذر بانعكاسات سلبية في حينه على واقع المجتمع الإيطالي برمته، وهو الأمر الذي كان واحداً من العوامل الملحة التي جهّزت قوى عديدة للعمل من أجل إعادة تفعيل دور الدولة وشموليته ووحدانيته، بعد إعادة النظر في مواطن الخلل سواءً على المستوى الدستوري أو على المستوى السياسي.

وما يعنينا في هذا المثال هو التأكيد على حقيقته أنه، وإن كانت سمة المرحلة في بعض البلدان تشير إلى سيادة مبدأ الخصخصة في إدارة العمليات الإنتاجية، إلاّ أن هذه الحقيقة لم تضعف دور الدولة ولم تحُدّ من شموليته ولم تنتقص من وحدانيته، بل على العكس من ذلك فإن التجارب تؤكد أن هذا الدور وظيفته عامة ومطلقة لا يمكن الإستغناء عنها بأي حالٍ من الأحوال. ويجب أن يكون ذلك حاضراً عند البحث في دور الدولة في أي بلد من البلدان، كائناً ما كانت خصائص هذا البلد الوطنية والتاريخية. وتطورات العصر، في جميع المستويات السياسية والإقتصادية والاجتماعية، لم تحُدّ من شمولية دور الدولة ووحدانيته، بل يمكن القول إن العكس هو الصحيح. فكلما كان المجتمع أكثر تقدماً، كانت الدولة هي المرجعية الوحيدة، وكلما شاركت الدولة في مرجعيتها جهاتٌ ومستوياتٌ أخرى، كان المجتمع أكثر تخلفاً.

ففي المجتمعات المتخلفة تبرز هذه المشاركة على صُعُدٍ عديدة وبأشكال مختلفة. ففي بعض هذه المجتمعات تكون القبلية رديفاً يؤدي إلى إثارة تناقضات إضافية، وبروز مشكلات لم تكن لتبرز لو كانت الدولة هي المرجعية الوحيدة. ويمكن القول إن مثل هذا الواقع موجود الآن في إفريقيا، على نطاق واسع، ومسؤول إلى حدٍ كبيرٍ عن حال الفوضى والتردّي السائد هناك، وذلك لأن التنظيم القبلي هناك رديف للدولة باستثناء دول شمالي لإفريقيا ومصر. وربما كان مثل هذا الواقع موجوداً في مناطق أخرى من العالم، ففي اليمن مثلاً بدأ دور الدولة مؤخراً يقوى على حساب الدور القبلي.

وفي مجتمعات أخرى متخلفة، تكون الطائفية هي الرديف للدولة أو شريكتها أو أداةٌ للتوسّط. وهذه العملية تفضي إلى نتائج مماثلةٍ للنتائج التي لخصناها في المثال القبلي. وفي هذا المجال تتدرج مجتمعات كثيرة، كما في الهند ولبنان. وتؤدي عملية مشاركة الطائفة للدولة في المرجعية إلى نشوء سلسلة من أعمال الفوضى تساهم بدورها، في بعث آليات التخلف وإعادة إنتاجها على نحوٍ يتضارب تماماً مع مسيرة التاريخ. بحيث تكون النتائج مأساوية (الحرب الأهلية في لبنان، ومآسي الحرب الأهلية، والطابع الهمجي للعصبية الطائفية والمذهبية، والذبح على الهوية...).

ويتأكد في عصرنا الراهن أنّ مقياس التطور هو زوال التوسّطات والردائف، ويتأكد بقاء الدولة المرجعية الأولى والأخيرة. واليوم يُقاس تطور المجتمعات باختفاء هذه الردائف والتوسّطات اختفاءً مطلقاً، وبسيادة الدولة كمرجعية وحيدة. فكلما تراجعت شمولية دور الدولة كان المجتمع متخلّفاً، وكلما تكرست وحدانية مرجعية الدولة، كان المجتمع أكثر تقدماً. هذا هو المقياس التاريخي الوحيد، الذي برهنت التجارب أنه المقياس الصحيح والاتجاه الصحيح. وبقدر ما يخطو لبنان بهذا الإتجاه، يكون قد يمّمَ وجهه شطر الدولة العصرية الحديثة.

 

ثالثاً: قناعات طائفية لم تُبَرهن صحتها

في الماضي، جرى تبرير التركيب الطائفي للدولة بحجة المحافظة على فئة من المواطنين، وحمايتها من الذوبان في إطار فئات يمكن أن تُشَكّل الأغلبية الساحقة. وبدهي التأكيد أولاً: أن منطلق هذا التبرير هو التخوُّف من " الإستبدالية الطائفية " وبالتالي فإن  تنظيم الدولة على أسس طائفية، إنما يعيق تطور المجتمع ككل، ويظلُّ تعبيراً عن التخلف أياً كانت الفئة الطائفية صاحبة الامتياز. وبهذا المعنى، ليس المطلوب، على هذا الصعيد، إشراكُ أيُّ طائفةٍ في مرجعية الدولة بل يجب أن تكون الدولة هي المرجعية الوحيدة، إذا أُريد تحديث المجتمع، ومجاراة روح العصر والسير على طريق التطور الذي سلكته المجتمعات الاخرى وخاصة في أوروبا.

أضف إلى ذلك أنه، من الناحية العملية، برهنت التجرية أن تنظيم الدولة على أسس طائفية بحجة "الحماية" لم يكن سبيلاً للحماية، بل كان أساساً لنزاعات متواصلة تَهمد حيناً وتتجدّدُ أحياناً، وكان دائماً وسيلة إجهاض ٍ لإمكانية التطور وبلوغ الدولة الحديثة التي هي شرط الوجود وواجب الوجود لبلوغ الحضارة المعاصرة. وبديهي التأكيد، ثانياً، أنه جرت إعادة إدخال العنصر الطائفي في تنظيم الدولة مرة أخرى. فإذا كان ذلك لصالح طائفة تمثل الأكثرية، فإنّ الدولة تسقط مرة أخرى، ويعاد إنتاج تناقضات جديدة تشكل مصدراً لسلسة نزاعات جديدة تمنع مرة أخرى من تحديث المجتمع، ومسايرة ركب التطور.

وتشهد مجتمعات كثيرة، أن الأقلية، مهما كانت ضئيلة، إذا حرمت من حقوقها، وأخضعت لسيطرة الأكثرية إنطلاقاً من أسس طائفية، فإن نزاعات جديدة سوف تنشب، ولن تتوقف إلاّ بعد تدمير المجتمع تدميراً. وهذا ناموسٌ تاريخي يُخطىء من يعانده أو يتجاهله. وبهذا المعنى فإن مقولة الإمتيازات – الضمانة أو مقولة الديموقراطية العددية تشكلان كلاهما وسيلة "للشرك" بوحدانية مرجعية الدولة، وتؤيدان حكماً إلى عدم قيام الدولة العصرية والحديثة المنشودة. إن مقاييس التقدم والتطور في عصرنا واحدة، فلا تقدم لأي مجتمع تكون الدولة فيه دولةٌ غير حديثة. والدولة العصرية الحديثة وقفٌ على وحدانيتها كمرجعية، لا تقبل ولا تسمح لأحد بمشاطرتها دورها الراعي والحاضن لتطور المجتمع وتنظيم بُناه كلها وما تفرزه هذه البنى من مؤسسات تشكل أعمدة الدولة الثابتة.

 

رابعاً: طائغية الدولة "شر مطلق"

عندما لا تكون الدولة المرجعية الوحيدة، وحين تدخل الطائفة وسيطاً أو رديفاً أو شريكاً، فإن ثغرات كثيرة وأخطاءٌ كبيرةٌ ستُفقِد الدولة خصائصها المكونة لها، ولن تكون التقاليد الإيجابية الأخرى التي ترافق وجود الدولة عوامل إيجابية إلاّ بمقياس نسبي، وفي نطاق محدود جدّاً.

ففي المجال السياسي، تصبح الديموقراطية شكليةً للغاية، ما دامت حرية الناخب في الإختيار محصورة في رموز من طائفة محددة، ولا يمكنه في المطلق اختيار ممثليه في دائرته الإنتخابية بشكلٍ حر... إن الدولة الطائفية ترغم النخب على الإختيار بين أسماء ينتمون حصراً إلى طوائف معينة تحددها الدولة وفقاً للدستور أو القانون. ويقيناً أن هذا الأمر يشكل تقييداً كبيراً للديموقراطية يكاد يصل إلى حدود إلغائها.

وفي المجال الإداري، الإدارة النزيهة والديناميكية والفاعلة والمنتجة هي الأخرى غير ممكنة في ظل الدولة الطائفية، حتى وإن حُصِرت الطائفية في حدود وظائف الفئة الأولى. ذلك أن وظائف الفئة الأولى هي قمة القرار الإداري. فإذا كان رأس الإدارة فاسداً، أو طائفياً، فإنّ من العبث الكلام عن إدارة نزيهة وحرة وذات كفاية وفاعلة ومنتجة.

بمعنى أوضح، ماذا يفيد المسلم أن يكون ممثله في رئاسة الحكومة أو في رئاسة المجلس أقل كفاءة وجدارة من أي مواطن من طائفة أخرى؟ وماذا يفيد المسيحيّ أن يكون رئيس الجمهورية من طائفته حصراً إذا كان في الطوائف الأخرى، من هو أكثر كفاءة وجدارة واستحقاقاً ليشغل هذا المنصب؟ وهل صحيح أن الرموز ألأكفأ والأجدر والأحق للرئاسات الثلاث نجدها حصراً في ثلاث طوائف دون غيرها من الطوائف الأخرى المكونة للمجتع اللبناني؟

أليس من المعقول أن ترى غالبية ما من الشعب، وفي دائرة انتخابية ما، أنّ رموزاً من دين واحد ربما، كانت أكثر ثقة، وأكثر أهلية، لتمثيلها في البرلمان من سواها، فلماذا تُحرم هذه الغالبية من هذا الحق؟ وهل تستقيم الديموقراطية، وهل تقوم دولة حديثة بمثل هذه التشريعات؟ لقد برهنت التجربة السابقة أن الدولة الطائفية "شرٌ مطلق"، فالتقسيم الطائفي كان في أساس النزاعات والحروب المستمرة، والأساس الطائفي كان وراء فساد الإدارة وتخلفها، وسائر الآفات في المجالات التربوية والإجتماعية والثقافية والنفسية وسواها. الدولة الطائفية كانت دائماً العقبة الأساسية في وجه الدولة الحديثة التي هي الشرط الأول لتحديث المجتمع وعصرنته.

 

خامساً: إجراءات ضرورية باتجاه الدولة اللاطائفية

ولأن طائفية الدولة تمثل كل هذه الشرور وسواها، مما يضيق المجال لتعدادها، وتحمل المخاطر التي تطال المجتمع برمه، فإنّ العمل من أجل الدولة اللاطائفية، هو حقٌ وواجبٌ على جميع الفئات، ويصب في مصلحة الشعب اللبناني بكل فئاته. وتحقيق هذا الهدف يتطلب إعادة النظر في الدستور وفي القوانين والأعراف الطائفية كما يتطلب تغييراً جذرياً في بنية الدولة بمستوياتها كافة. والدولة اللاطائفية لا يمكن أن تتحقق من دون إجراءات ضرورية عديدة في مقدمتها الأربعة الآتية أدناه.

 

أولاً، تحرير الدستور من الطائفية السياسية بدءاً بتطبيق المادة 95 من الدستور، وعلى طريق إلغائها إلغاءً تاماً في كل مؤسسات الدولة وعلى جميع مستوياتها.

 

ثانياً: انتخاب برلمان جديد، بعد وضع نظام انتخابي جديد يستند إلى دستور لا طائفي جديد يجعل المؤسسة التشريعية الأولى في البلاد خالية من أي شكل من أشكال الوجود الطائفي.

 

ثالثاً: إعادة النظر في تركيب أجهزة الدولة الأخرى وإعادة صياغتها من جديد على أسسٍ عصرية متحررة من كل صيغة طائفية، مهما كانت حيثيات هذه الصيغة ومبرراتها.

 

رابعاً: قوانين وتشريعات حديثة تكرس الفصل بين أداء الطوائف وممارستها الدينية الحقة والمشروعة من جهة، وبين عمل مؤسسات الدولة من جهة ثانية، ما دام الدستور اللبناني يستند بالأساس إلى تشريعات تطال تنظيم المجتمع المدني، بحيث تكون الدولة مرجعاً أيضاً للطوائف، ولا تكون الطوائف شريكاً للدولة في المرجعية.

 

سادساً: كيف نبلغ الدولة اللاطائفية العصرية الحديثة؟

لا شك أن بلوغ الدولة العصرية الحديثة مهمة تاريخية. وطريق الخلاص الفعلي، لأن الدولة العصرية، ومن ثَمّ الدولة الحديثة، وهي الدولة المتحررة من جميع المشاركات، والتي تمثل وحدها مرجعية المجتمع بكل مستوياته ومكوناته وهي الضابط والحاوي لجميع نزاعات المجتمع وتناقضاته. وكي تتمكن الدولة من أن تكون هذه المرجعية المطلقة، ينبغي أن تتوافر فيها عدة شروط أبرزها: أولاً، سعة تمثيلها وشمولية هذا التمثيل لكل فئات المجتمع، أو على الأقل، الغالبية الساحقة من هذه الفئات. ثانياً، أن تكون المجسد للقوى التي تشكل محرك عملية التطور التاريخي، بحيث يكون أداؤها منسجماً مع إيقاع هذه القوى ورغبتها، كي لا يحصل التصادم الذي يؤدي إلى الخراب والدمار وتعطيل نمو المجتمع. ثالثاً، أن تكون القوة العادلة التي تفصل في النزاعات، وتتبنى التسويات التي تنعقد عند محطة لا تعاكس مسيرة التاريخ، بل تحافظ وترعى استمرار مسيرة التطور والإرتقاء. ذلك أنّ قانون تحلل الدولة وتفككها، يحصل في العادة، عندما تعجز الدولة عن القيام بدورها الإيجابي على هذا الصعيد سواءً أكان ذلك بانحيازها إلى فريق بائد، أم بعجزها عن المبادرة لوضع المعالجات الكفيلة بإخماد بؤر الصراع والتوتر وإيجاد الحلول الناجعة لها (لو أن الدولة سنة 1975 قامت، قياماً إيجابياً، بمثل هذا الدور، لجنبتنا ويلات الحرب ومآسيها ونتائجها). رابعاً، أن تكون ديموقراطية فعلاً، وأن تقف بحزم في وجه الضغوط ومحاولات تقييد الحياة الديموقراطية أو تزيينها. لأن انتصار مثل هذه المحاولات سيطلق نزاعات لن تكون الدولة بعيدة عنها، الأمر الذي يشلُّ عملها ويؤثر على دورها الإيجابي. خامساً، إرتكازها على إدارة نزيهة مبنية على أسسٍ عصرية. فلا دولة حديثة[1] من دون إدارة حديثة وعصرية. والإدارة الحديثة والعصرية، تعني الكثير الكثير. وأهم ما تعنيه: سياسة اختيار الموظف على أساس النزاهة والاختصاص والكفاءة وتأهيله إعداداً وتدريباً، وتأمين الفرص أمام الكفاءات وإلغاء المحسوبيات، كما تعني أيضاً إعادة النظر في عمق هيكلية الدولة ومؤسساتها لا سيما المؤسسات القيادية والتنموية لكي تواكب روح العصر ومتطلبات التطور العلمي والتكنولوجي كما تعني، أخيراً لا آخراً، إدخال المكننة التي باتت سمة من سمات وجود الدولة الحديثة العصرية.

إن الدولة العصرية الحديثة التي تحمل هذه السمات، ليس من السهل بلوغها في لبنان، لأن الدولة الحالية في هذا البلد إنما تنتمي إلى القرون الوسطى دون أن يكون في هذا الوصف أو التقدير أيُّ مبالغة. ذلك أن الدولة التي تُدخلُ القبيلة أو الطائفة، (وفي حالة لبنان تًدخلُ الطائفة)، وسيطاً أو رديفاً أو شريكاً مع الدولة، فهي دولة القرون الوسطى، وليست الدولة العصرية ولا الحديثة. إن تطور الدول وعصريتها وحداثتها تقاس كلها بهذا المقياس. ولأن هوة تاريخية شاسعة تفصل بين المُراد والمًتحقق على هذا الصعيد، فإن العمل المطلوب كبير وصعب ومعقد، ولكن لا بُدّ من القيام به إذا أُريد للبنان الخروج من التخلف ومن دائرة الحروب والكوارث. ولأن المهمة صعبة ومركبة ومعقدة للغاية، فإنه لا يمكن التصدي لها بوسائل عادية. لقد حدد الدستور الذي انبثق عن وثيقة الوفاق الوطني، آلية لبلوغ الدولة اللاطائفية. إلا أنه لم يفعل أكثر من ذلك. ولكن تحقيق هذه الغاية التاريخية يفترض تحديد مراحل العمل وكيفيته وتحديد القوى صاحبة المصلحة فيه، ومن ثم تعبئة هذه القوى ورسم استراتيجية كفيلة بالوصول إلى الدولة اللاطائفية الحديثة.

نقطة الانطلاق في رفع هذا  التحدي التاريخي يطرح مهام مركبة فكرية وسياسية ودستورية وتشريعية وتربوية على المستويين الرسمي والشعبي، وتفترض التحرك الرامي إلى تنظيم حملة وطنية واسعة، تبدأ بتشريح الطائفية وشرح شروطها وآفاقها وآثارها السلبية على كافة الصعد الوطنية والسياسية والدستورية التشريعية والإدارية والإجتماعية والإعلانية والتربوية والثقافية والروحية والحضارية والإنمائية الخ...

على المستوى الرسمي، ينبغي أن تواكب الحملة الوطنية الواسعة إجراءات على مستوى الدولة، لخلق تيار كبير يعمل باتجاه إلغاء الطائفية في كل مفاصل الدولة، باعتبار ذلك الإلغاء الوسيلة الوحيدة لتحديث الدولة والمجتمع. 

على المستوى الشعبي، ينبغي تنظيم حملة وطنية، بطرح المسألة من زاويتين. الزاوية الأولى، تحديد القوى المعنية بتنظيم هذه الحملة، وكيفية تنفيذها. وبدهي القول إن معالجة هذا الأمر يجب أن تكون مبادرة من القوى الراغبة والجادة في تحديث الدولة والمجتمع، والتخلص من دولة القرون الوسطى. الزاوية الثانية، تحديد إطار الحل من خلال الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عام، يناقش المسألة المطروحة، ويستكشف العقبات ويرسم استراتيجية تذليلها، ويحدد المسؤوليات، وينظم المراحل المتعاقبة سواء على صعيد تعبئة الرأي العام أو على صعيد اتخاذ الإجراءات الضرورية لخلق شروط وموازين قوى تسمح بإلغاء الطائفية والتخلص نهائياً من هذه التركة المشؤومة التي ورثناها في النفوس وفي النصوص.

إن السلطة اليوم لن تكون قادرة على القيام بهذه المهمة لأن الدولة هي تعبير عن تسوية طائفية مجملة انبعثت عن الطائف، لأن فئة بعينها لا تستطيع انجاز هذه المهمة التاريخية التي تقف في وجهها عقبات كثيرة، تتواطأ بها المصالح الطائفية مع غياب الوعي الوطني، للتضليل ونضج التعبئة الطائفية والمذهبية المشؤومة، والعمل على تعزيزها ونشرها ومحاربة الدولة العصرية ونفيها. وإذا لم ندرك هذا الواقع، واقع تواطؤ المصالح الطائفية في ظل غياب الوعي الوطني، ولم نعمل على مجابهته، فإن جميع المحاولات ستظل في النطاق الطلائعي والتبشيري.

 

علينا الإعتراف

بأن الظروف لم تعد في صالح الدولة الطائفية، لأن شروط الإزدهار السهل التي ساعدت على تكريس الدولة الطائفية، دولة القرون الوسطى، قد انتهت إلى غير رجعة.

بأن التنمية المكونة في أعقاب الحرب، وتحت عبء تركتها الثقيلة، وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية ومستويات التطورات التي بلغتها الجتمعات الأخرى، تشترط كلها وجود الدولة العصرية والحديثة. إن أمام لبنان اليوم طريقين لا ثالث لهما: إما عصرنة دولته وتحديثها، ومن ثُمّ تحديث مجتمعه للحفاظ على مكانته بين المجتمعات. وإما إهمال العصرية والتحديث والقبوع، بالتالي، في المستنقع الطائفي المتخلف، وهذا يعني سلوك الطريق الآخر، طريق التآكل والحروب الذي لن يؤدي إلاّ إلى زعزعة المجتمع وربما تؤدي إلى تقويضه برمته، وإسقاط الدولة بكليتها.

وبديهي القول، أن مسألة الإختيار واضحة على هذا الصعيد ولكن الإختيار وحده لا يكفي، بل لا بد من رفع التحدي النظري والعملي، بالإنخراط الفعلي في المهمة الوطنية، والإسهام، منذ اللحظة الأولى في بناء الوطن، بعد أن حُسِمَ إقرار مبدأ إلغاء الطائفية، بإنضاج ظروف الإلغاء وتوفير شروطه. إننا، في توجهنا إلى غاية الغايات، إنما نقيم لأنفسنا ورشة عملاقة، فنرسم الخطط والإستراتيجيات، ليشُقَ الخيار الوطني الصحيح طريقه إلى الدولة اللاطائفية العصرية الحديثة.

فهل نحن فاعلون؟


[1]    الدولة الحديثة هي دولة المؤسسات، وكما يقول فقهاء علم الإدارة، إنها الدولة الإدارية أي أن كثيراً من أعمال الدولة، لا سيما عمليات اتخاذ القرار، إنما تقوم بها المؤسسات الإدارية عبر المتخصصين فيها. ومن هنا تبرز أهمية الإدارة، وبالتالي دور الإصلاح الإداري كوسيلة عملية لتحسين أداء الدولة بشكل عام. لذلك يشمل نطاق الإصلاح الإداري جميع أنشطة الدولة ومؤسساتها إن لم يتجاوزها ليشمل القطاع الخاص بمؤسساته المدنية. راجع: الدكتور اسكندر بشير "إلغاء الطائفية" الصفحة  62. وراجع أيضاً: زاهر الخطيب، "مشروع وثيقة الإصلاح الإداري".