ستون عاماً على اتفاقيات بريتون وودز*
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي: الدعم المالي للأنظمة الاستبدادية
إيريك توسان(1) ( (1) Eric TOUSSAINT رئيس "لجنة إلغاء دين العالم الثالث"، CADTM (Comité pour l'Annulation de la Dette du Tiers Monde. مؤلف كتاب "التمويل ضد الشعوب، البورصة أو الحياة" La Finance contre les Peuples. La Bourse ou la Vie, CADTM - Syllepse- Cetim, Liège - Paris - Genève, 2004, 640 p.. وضع بالاشتراك مع داميين ميليه "خمسون سؤال وخمسون جواب حول الدين"، Damien Millet 50 Questions/ 50 Réponses sur la dette, le Fmi et la Banque mondiale, CADTM - Syllepse, Bruxelles - Paris, 2002. كما وضع مع أرنو زاكاري مؤلف "الخروج من المأزق، الدين وإعادة الهيكلة"، Arnaud Zacharie Sortir de l'Impasse. Dette et ajustement , CADTM - Syllepse, Bruxelles - Paris, 2002. لمزيد من المعلومات حول "لجنة إلغاء دين العالم الثالث": www.cadtm.org).
* المصدر: نشرة حركة أتاك لمناهضة العولمة (Courriel d'Information ATTAC, no 479, 28-7-2004)
منذ ستين عاماً، في الثاني والعشرين من تموز 1944 اختتمت أعمال مؤتمر بريتون وودز الذي تقرر فيه تأسيس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
بعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت غالبية متنامية من بلدان العالم الثالث سياسات بعيدة الصلة عن البلدان الاستعمارية. ولقد لاقت هذه السياسات معارضة صارمة من حكومات البلدان الرأسمالية المصنعة التي كان لها نفوذ حاسم داخل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولهذا كانت لمشاريع البنك الدولي مضامين سياسية بالغة الخطورة: محاصرة تطور الحركات التي تناهض الهيمنة التي تمارسها الدول العظمى الرأسمالية. وكان يتم الإلتفاف بشكل منتظم حول واحدة من أهم بنود ميثاقه: أن لا تؤثر الاعتبارات "السياسية" و"غير الاقتصادية" في مشاريع البنك الدولي. بيد أن الانحياز السياسي لمؤسسات بريتون وودز تبين بجلاء من خلال الدعم المالي الذي قدمته للديكتاتوريات التي قامت في تشيلي والبرازيل ونيكاراغوا والكونغو-كينشاسا...
موجة معاداة الاستعمار والامبريالية في العالم الثالث
بعد العام 1955، عمّت روح مؤتمر باندونغ(2) ( (2) انعقد مؤتمر باندونغ في إندونيسيا، في العام 1955، بدعوة من الرئيس الإندونيسي سوكارنو. شكل هذا المؤتمر نقطة انطلاق "حركة عدم الانحياز". في حينه كان تيتو ونهرو يجسدان أمل بلدان العالم الثالث في مواجهة الهيمنة الاستعمارية القديمة. وفي افتتاح هذا المؤتمر ألقى الرئيس الإندونيسي خطاباً نقتطف منه الآتي. "إن مجرد التقاء قادة الشعوب الآسيوية والإفريقية في واحد من بلدانهم بالذات لمناقشة قضاياهم المشتركة يشكل انعطافاً جديداً في التاريخ... لا يستطيع أي شعب أن يشعر بحريته طالما هناك جزء من أرضه غير محرر. فالحرية لا تتجزأ، شأنها في ذلك شأن السلام... غالباً ما يُقال لنا لقد انتهى الاستعمار. لذا علينا الحذر من الوقوع في الوهم أو الاستكانة إلى هذا الكلام المخادع. إني أؤكد لكم أن الاستعمار ما يزال حياً. فكيف نستطيع قول العكس طالما هناك مناطق واسعة من آسيا وإفريفيا غير محررة؟... والاستعمار الحديث يظهر أيضاً بشكل السيطرة الاقتصادية والثقافية والمادية تمارسها جماعة أجنبية داخل أوطاننا. الاستعمار عدو ماهر ومصمم يظهر بأشكال متخفية عديدة، وهو لا يتخلى بسهولة عن غنائمه. الاستعمار، بصرؤف النظر عن الشكل والزمان والمكان الذي يظهر فيه، هو شر يجب استئصاله من العالم..." الموند ديبلوماتيك، الطبعة الفرنسية، "أهداف مؤتمر باندونغ"، أيار 1955، ص 1) على قسم كبير من الكرة الأرضية. لقد جاء هذا المؤتمر بعد الهزيمة الفرنسية في فييتنام (1954) وسبق تأميم قناة السويس من قبل عبد الناصر. ثم توالت الثورتان الكوبية (1959) والجزائرية (1954-1962) واستئناف حركة تحرير فييتنام... وباتت سياسات معظم بلدان العالم الثالث متخلية عن العلاقات مع البلدان الاستعمارية، وشهد هذا العالم اتجاهاً لاستبدال الاستيراد بمحاولات التنمية في السياسات المتجهة نحو السوق الداخلية. لاقت هذه السياسات اعتراضات صارمة من جانب القوى العظمى الرأسمالية المصنعة صاحبة التأثير الحاسم في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولكن ذلك لم يؤثر على موجة تصاعد الأنظمة الوطنية البرجوازية التي اعتمدت سياسات شعبوية (عبد الناصر في مصر، نهرو في الهند، بيرون في الأرجنتين، غولار في البرازيل، سوكارنو في إندونيسيا، نكروما في غانا...) وأنظمة التوجه الاشتراكي بلا لبس (كوبا، الصين الشعبية).
كانت مشاريع البنك الدولي في هذه الظروف على مضمون سياسي عميق: محاصرة نمو الحركات المناهضة للهيمنة التي تمارسها الدول العظمى الرأسمالية.
قدرة تدخل البنك الدولي في الاقتصادات الوطنية
نسج البنك الدولي، منذ الخمسينيات، شبكة من عناصر التأثير عادت عليه بكبير الفائدة لاحقاً. لقد عمد إلى خلق طلب على خدماته في العالم الثالث. والتأثير الذي يمارسه هذا البنك اليوم يعود بشكل أساسي إلى شبكة الوكالات التي أقامها في الدول التي أصبحت من زبائنه، كما صارت في نفس الوقت من مدينيه. لقد مارس البنك الدولي سياسة فعلية لدعم شبكة تسليفه.
كان من أهم أهداف سياسة البنك الدولي، منذ الخمسينيات، "بناء المؤسسات" التي غالباً ما اتخذت شكل وكالات شبه حكومية في البلدان الزبائن للبنك الدولي(3) ((3) يذكر بورس ريتش أمثلة عديدة عن هذه المؤسسات في مؤلفه: Rich, Bruce. 1994. Mortgaging the earth, Earthscan, London : en Thaïlande, la Industrial Finance Corporation of Thailand (IFCT), le Thai Board of Investment (BOI), the National Economic and Social Development Board (NESDB) et la Electrical Generating Authority of Thailand (EGAT) ; en Inde, le National Thermal Power Corporation (NPTC), le Northern Coal Limited (NCL)). وتم عن عمد تأسيس هذه الوكالات بحيث تكون مستقلة نسبياً في تمويلها عن الحكومات، وبالتالي خارج رقابة المؤسسات السياسية المحلية ومنها مجالس النواب. شكلت هذه الوكالات أدوات وصل طبيعية للبنك الدولي الذي تدين له بولادتها، وفي بعض الحالات بتمويلها. وكان تأسيس هذه الوكالات إحدى الاستراتيجيات الأكثر أهمية للبنك الدولي بغية الاندساس في اقتصادات بلدان العالم الثالث.
إن هذه المؤسسات التي تعمل وفق قواعدها الخاصة (الموضوعة غالباً بايحاء من البنك الدولي) والتي يغمرها تكنوقراطيون يدفعهم ويشجعهم البنك الدولي كانت وظيفتها أن تكون مصدراً مستقراً وموثوقاً لما يحتاجه هذا البنك: تقديم اقتراحات بالقروض الجيدة. كما قدمت له قواعد سلطة موازية من خلالها كان البنك قادراً على تحويل الاقتصادات الوطنية (شركات بكاملها)، دون ضرورة اللجوء إلى إجراءات المراقبة الديمقراطية ونقاشاتها المتناقضة.
أسس البنك الدولي، في العام 1956، بدعم مالي هام من مؤسسة فورد وروكفلر، "معهد التنمية الاقتصادية" الذي يعطي دورات إعداد من ستة أشهر للمندوبين الرسميين للبلدان الأعضاء فيه. وعليه تخرج، ما بين العام 1956 والعام 1971، أكثر من 1300 مندوب رسمي، وبعضهم تبوأ رئاسة الحكومة أو وزارة التخطيط أو وزارة المالية في بلده(4) ((4) المرجع السابق، راجع أيضاً: STERN Nicholas et FERREIRA Francisco. 1997. « The World Bank as 'intellectual actor' » in Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 2, p.583-585).
إن مضاعفات هذه السياسة جاءت مثيرة للقلق: فالدراسة التي قام بها "مركز القانون الدولي" في نيويورك حول عمل البنك الدولي في كولومبيا من 1949 إلى 1972 استنتجت أن الوكالات المستقلة التي أقامها البنك أثرت تأثيراً عميقاً على البنية السياسية وعلى التطور الاجتماعي في كل المنطقة، وذلك بإضعافها "نظام الأحزاب السياسية ودور المجالس التشريعية والقضائية".
ويمكن القول أن البنك الدولي وضع، منذ الستينيات، آليات جديدة وفريدة بغية التدخل باستمرار في الشؤون الداخلية للبلدان المقترضة. ومع ذلك ينفي البنك، نفياً قاطعاً، أن يكون لهذا التدخل صفة ومضمون الطابع السياسي: إنه يصر، بالعكس، أن لا علاقة لسياسته مع بنية السلطات وأن لا خلط بين القضايا السياسية والاقتصادية.
تتأثر سياسة القروض المتبعة من البنك الدولي باعتبارت سياسية وجيواستراتيجية.
تنص المادة الرابعة (من ميثاق البنك) في قسمها العاشر: "لا يتدخل البنك الدولي ومسؤولوه في القضايا السياسية لأي بلد عضو فيه، ويمنع عليهم التأثر في قراراتهم بالطابع السياسي للعضو أو الأعضاء المعنيين. وحدها الاعتبارات الاقتصادية يمكنها التأثير على القرارات، وهذه الاعتبارات تقدر بدون انحياز، وذلك بغية الوصول إلى الأهداف المنصوص عنها في المادة الأولى".
لقد تم الالتفاف بانتظام على منع أخذ الاعتبارات "السياسية" و"غير الاقتصادية" بالاعتبار (من أهم بنود ميثاق البنك) في مشاريع البنك. لقد رفض البنك إقراض فرنسا بعد تحريرها طالما كان الشيوعيون في الحكومة، وعندما غادروها في أيار 1947 تم منحها القرض المطلوب بعد رفضه حتى ذلك الحين(5). ((5) راجع: Eric Toussaint, «Soixantième anniversaire de Bretton Woods: une Banque sous influence», juillet 2004).
لقد تصرف البنك الدولي مراراً بما يناقض المادة الرابعة من ميثاقه. وفي الحقيقة، فإنه كان يتصرف بانتظام تبعاً للاعتبارات السياسية، ولم تكن طبيعة السياسات الاقتصادية هي المحددة في خياراته. وكان على الدوام يمنح القروض لبلدان لم تكن سياساتها الاقتصادية صالحة، وكانت مشهورة بفساد سلطاتها، كما كانت عليه الحال في إندونيسيا وزائير. وبتحديد أدق، فإن مواقف البنك الدولي من البلدان التي كانت سياساتها موضع اهتمام أهم المساهمين فيه، كانت مرتبطة بانتظام بتوجهات هؤلاء المساهمين، وخاصة الولايات المتحدة.
كانت خيارات البنك الدولي وشقيقه التوأم صندوق النقد الدولي، منذ العام 1947 حتى انهيار الكتلة السوفييتية، محكومة لحد كبير بالمعايير الآتية.
تحاشي دعم البلدان ذات الاقتصاد الموجه إلى داخلها؛
الدعم المالي للمشاريع الكبيرة (البنك الدولي) أو للسياسات (صندوق النقد الدولي) التي تسمح بزيادة صادرات البلدان الصناعية الكبرى؛
رفض مساعدة الأنظمة التي تم اعتبارها كتهديد للولايات المتحدة ولغيرها من كبار المساهمين؛
محاولة تعديل سياسة بعض الحكومات في البلدان "الاشتراكية" من أجل إضعاف الكتلة السوفييتية. وفي هذا السياق تم دعم يوغوسلافيا التي انسحبت من معسكر موسكو منذ العام 1948، أو دعم رومانيا منذ السبعينيات، عندما أبدى تشاوشيسكو رغبته بالابتعاد عن الكوميكون وحلف فرصوفيا؛
دعم الحلفاء الاستراتيجيين للمعسكر الرأسمالي الغربي، وللولايات المتحدة خاصة (إندونيسيا من العام 1965 حتى اليوم، زائير في ظل موبوتو، نيكاراغوا في ظل سوموزا، إفريقيا الجنوبية في ظل حكم التمييز العنصري)؛
محاولة منع أو الحد ما أمكن من التقارب بين البلدان النامية والمعسكر السوفييتي أو الصين: محاولة إبعاد الهند وإندونيسيا (سوكارنو) عن الاتحاد السوفييتي.
اعتمد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ممارسة هذه السياسة تكتيكاً معمماً: المرونة الكبيرة مع حكومات اليمين (عدم التطلب بخصوص تقشف الحكومات وهو موقف غير شعبي) التي تعترضها معارضة يسارية قوية، بعكس الموقف من حكومات اليسار التي تواجهها معارضة من قوى اليمين. يعني ذلك عملياً أن المؤسسات المالية الدولية كانت تتصرف بحيث تزيد الضغط على الحكومات اليسارية وهي في مواجهة اليمين لإضعافها وتسهيل صعود الحكومات اليمينية إلى السلطة. وبنفس المنطق، كانت هذه المؤسسات تتساهل مع الحكومات اليمينية وهي في السلطة لإفشال المعارضة اليسارية. إن لهذه المؤسسات معايير مزدوجة، وازدواج المعايير يرتبط بالعوامل السياسية والجيواستراتيجية.
إن حالة تشيلي والبرازيل ونيكاراغوا وزائير ورومانيا تؤكد بجلاء حقيقة ما تقدم: ففي هذه الحالات نلحظ خيارات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المتماثلة على العموم بخضوعها لنفس المؤثرات. لم يتردد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في دعم الديكتاتوريات عندما كانا يجدان (ومعهما الدول الرأسمالية العظمى) من المناسب القيام به. وفي هذا الصدد يقول تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الذي وضعه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: "وفي الحقيقة، فإن الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة، طيلة الثمانينيات، كان متناسباً عكسياً مع احترام حقوق الإنسان. ولا يبدو أن المانحين الدوليين يهتمون بمثل هذه الاعتبارات. فهم يفضلون في الواقع الأنظمة الاستبدادية، ويعتبرونها بلا تردد أنظمة تشجع الاستقرار السياسي وأكفأ من غيرها في إدارة الاقتصاد. وعندما ألغت بنغلادش والفيليبين قانون الطوارئ مثلاً، تعرضت حصة كل منهما من قروض البنك الدولي إلى الانخفاض"(6). ((6) برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 1994، ص 81).
نماذج في دعم الديكتاتوريات
تكشف انحياز المؤسسات المالية الدولية
1- دعم دكتاتورية الجنرال أوغستو بينوشيه في تشيلي
لم تنل تشيلي، في ظل حكومة أللاندي المنتخبة ديموقراطياً (1970 – 1973) قروضاً من البنك الدولي إنما في ظل حكومة بينوشي، وبعد الانقلاب العسكري سنة 1973، أصبح للبلد فجأةً قدراً من المصداقية. غير أنه لم يكن باستطاعة أي مسؤول في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تجاهل سمة الإستبدادية والديكتاتورية المتجذرة في حكم بينوشيه. إن العلاقة بين سياسة القروض والمضمون الجيوسياسي في هذه الحالة واضحة للعيان.
2- دعم المجلس العسكري في البرازيل بعد الإطاحة بالرئيس جوان غولار
أطاح الجيش بالنظام الديموقراطي للرئيس جوان غولار في نيسان 1964. وبعد فترة زمنية قصيرة، أُعيد العمل بقروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي عُلقت لمدة ثلاث سنوات(7).((7) نجد تحليلاً للأحداث الموجزة فيما يلي : Payer, Cheryl, 1974, The Debt Trap : the international Monctary Fund and the Third World, Monthly review Press, New York and London, p.143-165).
ملخص وجيز للأحداث: صيف 1958، بدأ الرئيس البرازيلي كوبيتشيك مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على قرضٍ بقيمة 300 مليون دولار من الولايات المتحدة. لكن في النهاية رفض كوبيتشيك الشروط التي فرضها صندوق التقد الدولي وتخلى بذلك عن القرض من الولايات المتحدة مما أكسبه شعبية كبيرة.
أعلن خلفه، غولار، أنه سيضع قيد التنفيذ خطة جذرية للاصلاحٍ الزراعي وأنه سيباشر تأميم مصافي البترول؛ فأطاح به الجيش نتيجة هذا القرار. وفي اليوم الذي تلا الإنقلاب، اعترفت الولايات المتحدة بالنظام العسكري الجديد. وبعد ذلك بفترةٍ وجيزة، أعاد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي سياسة القروض المعلقة. وبالمقابل، ألغى الحكم العسكري كل التدابير الإقتصادية التي انتقدها كل من الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي. وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسات المالية الدولية اعتبرت أن الحكم العسكري قد اتخذ اجراءات اقتصادية صحيحة(8) ((8) سنة 1965, وقع البرازيل اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وحصل على قروضٍ جديدة وقامت كل من الولايات المتحدة واليابان وبعض الدول الُدائنة الأوروبية بإعادة جدولة دين البرازيل الخارجي. وبعد الانقلاب العسكري، إرتفعت القروض من صفر إلى قيمة 73 مليون دولار أميريكي في السنة وبلغت حوالي نصف مليار دولار أميريكي في منتصف السبعينيات.). غير أن الناتج المحلي الخام انخفض بقدار 7% سنة 1965 مما أدى إلى إفلاس الآلاف من المؤسسات. عندها لجأ النظام إلى سياسة القمع الجذري، فمنع الإضرابات، وسبب تدنٍ مريع للأجور الفعلية، وألغى الإنتخابات المباشرة، وأصدر قرارات بحل النقابات ولجأ بانتظام إلى التعذيب.
3- نيكاراغوا: دعم سوموزا، محاصرة الساندينيين
بعدما كان البنك الدولي يدعم نظام اناستازيو سوموزا وضع حداً للقروض عند انتخاب دانييل أورتيغا كرئيس لنيكاراغوا.
رغم وجود حزب مناصري سوموزا في الحكم منذ سنة 1930 بفضل تدخلٍ عسكري أميركي(9)،( (9) راجع: Eric Toussaint, Soixantième anniversaire de Bretton Woods : une banque sous influence, )فقد أطاح تحركٌ شعبيٌ قوي بالنظام الديكتاتوري في 19 توز 1979 مما أدى إلى هروب الديكتاتور أنستازيو سوموزا. فقد كان الشعب يكره اتباع سوموزا لإستئثارهم بقسمٍ كبيرٍ من ثروات البلاد ولتشجيعهم انشاء شركات أجنبية كبرى، خصوصاً الأميركية منها. بالإضاغة إلى أن الديكتاتور سوموزا قد استفاد من قروضٍ عدة من البنك الدولي. وبعد انهيار الديكتاتورية، قامت حكومة إئتلافية جمعت المعارضة الديموقراطية التقليدية والثوريين الساندينيين الذين لا يخجلون لا بالمجاهرة بتعاطفهم مع كوبا ولا باستعدادهم للشروع ببعض الإصلاحات الإقتصادية (إصلاح زراعي، تأميم بعض الشركات الأجنبية، مصادرة الاراضي التي يملكها أتباع سوموزا، برنامج محو الأمية). اعتبرت واشنطن التي دعمت أناستازيو سوموزا حتى النهاية، أن الحكومة الجديدة تشكل تهديداً بالعدوى الشيوعية في أميركا الوسطى. غير أن إدارة كارتر، الذي كان في سدة الحكم عند الإطاحة بالديكتاتورية، لم تتخذ موقفاً عدائياً. إلاّ أن الامور تغيرت في الحال عند دخول ريغن البيت الأبيض. فقد أعلن رغبته (1981) في إسقاط الساندينيين ولذا دعم مالياً وعسكرياً تمرداً مؤلفاً من عناصر سابقة في الحرس الوطني (كونترا). فقد فجرت القوى الجوية الأميركية عدة مرافىْ في نيكاراغوا. ورداً على هذه العدائية، تطرفت الحكومة بغالبيتها الساندينية في سياستها. فخلال الإنتخابات سنة 1984، والتي جرت بشكلٍ ديموقراطي للمرة الأولى منذ نصف قرن، تم انتخاب السانديني دانييل أورتيغا بنسبة 67% من عدد المقترعين. وفي السنة التالية، أصدرت الولايات المتحدة قراراً يقضي بحصار نيكاراغوا تجارياً، الأمر الذي أدى إلى عزل البلد عن المستثمرين الأجانب. وأوقف البنك الدولي قروضه فور انتصار الساندينيين في الإنتخابات الرئاسية. وحاول الساندينييون بقوة إقناع البنك الدولي بإعادة القروض. كانوا على أتم الإستعداد لتطبيق برنامج إصلاحي عملاق. غير أن البنك كان قد قرر عدم الإذعان ولم يسمح بالقروض إلا بعد هزيمة الساندينيين في إنتخابات شباط 1990 التي شهدت انتصار فيوليتا باريوس دو شامورو المرشحة المحافظة التي دعمتها الولايات المتحدة.
4- دعم ديكتاتورية موبوتو
لقد سبق وورد في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أن موبوتو قد اختلس عدة ملايين دولار كانت مخصصة لتمويل قواته المسلحة. وفي سنة 1982، أصدر أحد مدراء البنك الدولي، إروين بلومنتال، وهو أيضاً مدير بنكٍ ألماني، تقريراً يدين فيه إدارة زائير برئيسها موبوتو ويحذر فيه المُدينين الأجانب من أن عليهم توقع عدم استيفاء ديونهم ما دام موبوتو في الحكم. فبين سنتي 1965 و1981، استدانت الحكومة الزائيرية حوالي 5 مليارات دولار من الأجانب وبين سنتي 1976 و1981، ولأربع مرات على التوالي، تمت إعادة جدولة دينها الخارجي في منتدى باريس بقيمة 2.25 مليار دولار.
ورغم السياسة الإقتصادية السيئة جداً ورغم تحويل موبوتو لجزء من هذه القروض لحسابه الخاص بشكلٍ منتظم، فإن ذلك لم يدفع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى إيقاف المساعدة لنظام موبوتو الديكتاتوري. ومن المذهل الإستنتاج، بعد وضع تقرير بلومنتال، أن قيمة المبالغ التي صرفها البنك الدولي قد ارتفعت. كذلك الأمر بالنسبة لصندوق النقد الدولي. فبالواقع، لا يعتمد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بشكلٍ أساسي في عملية الإختيار على معيار السياسة الإقتصادية الجيدة. ذلك إن نظام موبوتو يعتبر حليفاً استراتيحياً للولايات المتحدة ولقوى مؤثرة في مؤسسات بروتن وودز (وهذا يشمل فرنسا وبلجيكا) ما دامت الحرب الباردة قائمة. وبدءاً من 1981 و1991، ومع سقوط جدار برلين الذي تلاه لاحقاً انهيار الإتحاد السوفياتي، خسر نظام موبوتو من أهميته. خصوصاً وانه في بلادٍ عدة في إفريقيا (ومنها زائير) بدأت تُقام مؤتمرات وطنية تطالب بالدرجة الأولى بالديموقراطية. وهكذا بدأت قروض البنك الدولي بالإنخفاض حتى توقفت كلياً في منتصف التسعينيات.
5- دعم البنك لديكتاتورية تشاوشيسكو في رومانيا
اندمجت رومانيا في الكتلة السوفياتية منذ العام 1947. وفي سنة 1972، كانت رومانيا أول بلدٍ من الجهة السوفياتية يلتحق بالبنك الدولي. فسنة 1965، كان تشاوشيسكو الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم. وفي سنة 1968، إنتقد التدخل الروسي في تشيكوسلوفاكيا، فالقوات الرومانية لم تتدخل مع فرق حلف فرصوفيا. وعلى ما يبدو ظاهرياً، فإن اتخاذ موقفٍ مماثلٍ بالنسبة لموسكو، شجع واشنطن، بواسطة البنك الدولي، على التفكير ببناء علاقات محدودة مع النظام الروماني.
ومنذ سنة 1973، بدأ البنك مفاوضات مع بوخارست حول بداية سياسة القروض التي بلغت بسرعة حجماً لافتاً. واصبحت رومانيا سنة 1980 في المرتبة الثامنة على لائحة الدول المستدينة من البنك. وقد روى أحد مؤرخي البنك، آرت فان دو لآر، طرفةً ذات مغزى تعود إلى العام 1973. في بداية سنة 1973، وعندما كان يحضر اجتماعاً لمجلس إدارة البنك الذي أدرج على جدول أعماله موضوع منح قروض لرومانيا، وأمام دهشة بعض المدراء الذين انتقدوا غياب أي تقريرٍ مفصلٍ عن رومانيا، أعلن روبرت ماكنامارا أن لديه ثقة كبيرة في القيم الأخلاقية المالية للدول الإشتراكية من حيث موضوع تسديد الدين، مما دفع بأحد نائبي مدراء البنك الحاضر في الإجتماع إلى الرد بأن "تشيلي وحاكمها أللاندي لم تصبح اشتراكية بشكل كاف"(10) ((10) Van de laar, Aart, 1980, The world Bank and the Poor, Martimus Nijhoff Publishing, Boston/the Hague/London, p.40). لم يرد ماكنامارا على هذا التعليق.
لم يعتمد البنك في اختياره على معايير اقتصادية مقنعة. فبالواقع، أولاً، مع أن البنك كان يرفض بشكلٍ منتظم تقديم قرضٍ لبلدٍ لم يسدد بعد ديونه القديمة المستحقة، بدأ يقدم إلى رومانيا قروضاً دون أن تكون هذه الأخيرة قد وضعت حداً للخلاف حول الديون السابقة. وثانياً، إن القسم الأكبر من عمليات التبادل الإقتصادي الرومانية كانت تتم داخل مجموعة كوميكون بعملات غير قابلة للصرف؛ فكيف سيمكنها سداد القروض بالعملات الصعبة؟ وثالثاً، كانت رومانيا ترفض منذ البداية إعطاء معلومات تتعلق بوضعها الاقتصادي كان قد طلبها البنك. إنها اعتبارات سياسية تلك التي دفعت عملياً البنك لإنشاء علاقات مماثلة مع رومانيا. الهدف منها تفكيك الإتحاد السوفياتي والكتلة التابعة له في مضمار الحرب الباردة وذلك بانشاء علاقات مع رومانيا. وفي هذه الحالة كما في أي حالة أخرى، يبدو أن عدم وجود ديموقراطية داخلية وسياسة القمع التي تمارسها الشرطة بشكلٍ منهجي لم تؤثر على سياسة البنك.
أصبحت رومانيا من أهم زبائن البنك الذي موَّل مشاريعاً ضخمةً (مناجم الفحم الحجري في الهواء الطلق، شركات كهرباء حرارية) كانت ذات تأثير سلبي واضح للعيان بالنسبة للتلوث البيئي. وفيما يتعلق بإستغلال موارد مناجم الفحم في الهواء الطلق، فقد استقدمت السلطات الرومانية أعداداً هائلة من السكان كانت حتى هذا الوقت تعمل في الزراعة. وفي مجالٍ أخر، شجع البنك سياسة تخطيط النسل بهدف رفع معدل الولادات.
وعند انفجار أزمة الدين على المستوى العالمي سنة 1982، قرر النظام الروماني فرض المعالجة بالصدمة على الشعب. فخفضت رومانيا وارداتها بشكلٍ قوي بهدف توفير فائض في العملات بحيث تفي دينها الخارجي بمعدلٍ عالٍ. وذلك حسب ما ذكره مؤلفو الكتاب الذي وضعه البنك في احتفاله بالذكرى الخمسين لتأسيسه: "إن رومانيا، بمعنى ما، تعتبر مَديناً "يحتذى به"، على الأقل من وجهة نظر الُدائنين."(11). ((11) Romania was, in a sense, a model debtor, at least from the creditors, point of view Kapur Devesh, lewis, johnP., Webb, Richard. 1977. The World bank, its First Half Century, Volume 1 : History, brookings Institution Press, Washington, D.C., p.1061)
الخلاصة
خلافاً للبند العاشر من المادة الرابعة في ميثاق البنك الدولي فإن هذا الأخير قدم، مع صندوق النقد الدولي، دون تردد قروضاً لدولٍ بهدف التأثير على سياستها. تدل الأمثلة الواردة في هذه الدراسة على إن المصالح السياسية والإستراتيجية للقوى الرأسمالية العظمى هي التي تحدد القروض. فقد تمت مساعدة بعض الأنظمة التي تدعمها قوى رأسمالية عظمى رغم أن سياستها الإقتصادية لا تتوافق مع المعايير الرسمية للمؤسسات المالية الدولية ورغم عدم احترامها لحقوق الإنسان. ومن جهة أخرى، حُرمت بعض الأنظمة التي اعتبرت معارضة لمصالح القوى العظمى من القروض التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية بحجة عدم تطابقها مع المعايير الإقتصادية التي حددتها هذه المؤسسات. ولم تتخلّ مؤسسات بروتن وودز عن سياستها رغم انتهاء الحرب الباردة، بل استمرت بها حتى أيامنا هذه: قروض ليلتسين في روسيا، ولسوهارتو في أندونيسيا حتى سقوطه في سنة 1998، ولأدريس ديبي في التشاد، وللصين الشعبية، وللعراق الرازح تحت الإحتلال الأجنبي.
ترجمة تطوعية، فريق العرب والعولمة