لبنان وضرورات التغيير

 

غالب أبو مصلح

 

الواقع اللبناني لا يرضي الاكثرية الساحقة من اللبنانيين، فالجميع متذمر ويشكو ويطالب بالتغيير. لا يقتصر طلب التغيير على قوى "المعارضات" اللبنانية، بل يتعدى هؤلاء الى العديد من اهل الحكم واقطابه، فبعض رموز السلطة من ابناء الطبقة الحاكمة واتباعهم يشتركون في التظاهرات المطلبية، وفي المطالبة بالتغيير. فقد اختلط الحابل بالنابل فعلا في الحياة السياسية اللبنانية.

 

والمطالبة بالتغيير تتعدى المستويين الاقتصادي والاجتماعي الى المستويات الفكرية والقانونية، أو الدستورية والسياسية، وخاصة الخارجية منها، بعد الحرب الاهلية واندحار العدوان الصهيوني. وترفع من قبل البعض شعارات الديمقراطية والحرية والسيادة والعيش المشترك والوحدة الوطنية، كطريق لانقاذ لبنان من مأزقه الشامل، مع ملاحظة ان اكثر المتحمسين لهذه الشعارات هم الذين مارسوا الفاشية بأبشع صورها ومارسوا التطهير الطائفي في المناطق التي استطاعوا السيطرة عليها، ومهدوا للأجتياح الاسرائيلي، وقاتلوا بجانبه، وعملوا على تقسيم لبنان الى كيانات او منعزلات طائفية، وذلك دون اعتذار عن تاريخهم الإجرامي ومسلكيتهم المتناقضة مع ما يرفعونه من شعارات.

 

ويعتقد البعض ان اسباب الازمة اللبنانية تتركز على الصعيد السياسي، وخاصة في توجهات السياسة الخارجية، بما يعني موقع لبنان في الصراع الصهيوني، وبالتالي الموقف من المقاومة، والموقف من الهجمة الامبريالية الصهيونية على الوطن العربي، حيث يعتقد بعض اللبنانيين ان هذه الهجمة لا تهدد لبنان بل تحميه وتعيده الى ثوابت سياسته الماضية، وتحصن كيانه ونظامه. ويرفع هؤلاء شعارات عديدة تحت بند السيادة والاستقلال، تطالب بارسال الجيش الى الجنوب وتفكيك المقاومة الاسلامية الوطنية، وتجريدها من اسلحتها وخروج القوات السورية من لبنان، وان تحقيق هذه المطالب يعيد بناء الوحدة الوطنية التي تشكل طريق لبنان الى الخروح من أزماته.

 

آخرون يعتقدون ان السبب الرئيسي للأزمة اللبنانية الشاملة يكمن في الخلل الطارئ على التوازنات الطائفية نتيجة تبدل موازين القوى بين الطوائف، والمتغيرات الديمغرافية الناتجة عن الحرب الاهلية والاجتياح الاسرائيلي، والى الوجود السوري غير المحايد في اطار الصراع بين الطوائف على السلطة. لذلك فأن الخروح السوري الكامل من لبنان، العسكري والامني والسياسي، وبغض النظر عن المتطلبات الاستراتيجية للصراع العربي الصهيوني والامبريالي، ثم العودة الى ميثاق 1943 بنصه وروحه، يمثل طريق الخروج من الازمة الشاملة. اما اتفاقات الطائف فقد ثبت فشلها من ناحية، واستحالة تطبيق بعض بنودها من ناحية ثانية. ان تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتوسيع صلاحيات مجلس الوزراء، شتت مركز القرار وخلق سلطة سياسة متعددة الرؤوس ومشلولة الارادة، مرتبكة الفكر والتوجه، ما خلق خللا في التوازنات بين الطوائف، وعلى حساب الطائفة المارونية التي تمحور الكيان والنظام السياسي حولها منذ انشاء الكيان. كما ان الغاء الطائفية السياسية المنصوص عنه في اتفاق الطائف يتعارض مع "الديمقراطية التوافقية" للنظام اللبناني، ويدفع الى مزيد من تهميش الطوائف المسيحية عموما والطائفة المارونية بشكل خاص.

 

وللالتفاف حول المتغيرات السياسية والديمغرافية، يطالب البعض باعطاء المغتربين اللبنانيين، أو من هم من اصول لبنانية، حق الاقتراع في الانتخابات اللبنانية، وضرورة اخذ مصالحهم في بلدان المهجر بعين الاعتبار عند تحديد سياسة لبنان الخارجية. أي ان يقرر من يعمل ويعيش خارج لبنان، ولا يدفع الضرائب فيه او له، وتختلف مصالحه عن مصالح من يعيش فوق ارض لبنان، ان يقرر هؤلاء، او يشاركوا في اختيار نظام وتوجهات السلطة اللبنانية، وطريقة حياة من يعيش فوق ارض لبنان.

 

فالعودة الى التوازنات الطائفية السابقة، والثوابت السابقة في الحياة السياسية اللبنانية هو الحل. يعني العودة الى الهوية العربية الملتبسة للبنان، لبنان الجسر بين الشرق والغرب، لبنان المحايد ازاء الصراع العربي الصهيوني، لبنان القوي في ضعفه، لبنان المتعالي والمستقوي على محيطه العربي بارتباطاته السياسيـة و"الثقافية" الغربية، لبنان المتمسك باقانيمه الثلاثة: الكيان والنظام والدستور (قبل تعديله طبعا).

 

البعض يعتقد ان الفساد الاداري والسياسي هو المشكلة الاساسية. وبالرغم من ان الفساد سمة ملازمة للنظام اللبناني منذ انشائه، وبالرغم من ان جميع الحكومات التي تم تأليفها منذ الاستقلال وضعت "مكافحة" الفساد بندا اساسيا في برامجها، فان الفساد استمر في التوسع دون كابح على مر السنين وتعاقب الحكومات والعهود. وشهد الفساد اتساعا كبيرا منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، اي منذ وصول الرئيس الحريري الى السلطة، اذ قرر تعطيل معظم اجهزة الرقابة المالية والادارية، والتلزيم بالتراضي، وتجاوز الاطر الادارية في الاعتماد على فريقه الخاص، طلبا للكفاءة الادارية والتنفيذية. ويشير تقرير منظمة الشفافية الدولية الى تزايد الفساد في لبنان، وان لبنان يحتل المرتبة الثامنة والسبعين بين الدول (133 دولة) الاكثر فساداً في العالم، ويقع في اسفل قائمة دول الشرق الاوسط فسادا. فلماذا فشلت كل الجهود السابقة في "مكافحة" الفساد؟ ان الفساد ظاهرة ونتيجة لمسببات اخرى تتعلق ببنية النظام ودوره الاقتصادي وببنية الطبقة الحاكمة المرتبطة بهذا الدور، وبأزمة الكيان والنظام نتيجة متغيرات سياسية واقتصادية وتقنية شهدها العالم والمحيط والداخل اللبناني؛ هذه المتغيرات التي ادخلت النظام اللبناني في أزمته التاريخية البنيوية كما سنرى فيما بعد.

 

ويعتقد آخرون ان الازمة تنحصر في المستوى الاقتصادي، والسياسات المالية والنقدية والاجتماعية المتبعة، هذه السياسات التي سببت ارتفاع معدلات البطالة، ووسعت دائرة الفقر، كما وسعت الهوة بين الاغنياء والفقراء في الثروة والمداخيل، وفي هجرة الشباب واصحاب الكفاءات الانتاجية الى الخارج، وهجرة ابناء الريف الى احزمة الفقر حول المدن، وفي تدهور قطاعات الانتاج السلعي وانخفاض قدرتها التنافسية، وفي الوقوع في فخ المديونية، وكذلك في الخلل الكبير في ميزان المدفوعات وحساب المدفوعات الجاري.

 

ان  شعارات التغيير المتعددة المرفوعة في وجه السلطة، والتي تستند الى خلفيات فكرية ومصالح طبقية متباينة، تفتقد الى الرؤية الشمولية، والى الدراسات العلمية للواقع المعاش، والي البحث الموضوعي بدل الاسقاطات النظرية النابعة من الألم الذي يعاني منه  معظم اللبنانيين، او من التمنيات والاحلام، او التحليلات المستندة الى ايدولوجيات مغلقة.

 

ان ارادة التغيير دون خطة علمية مستندة الى دراسات تفصيلية للبنى التاريخية الاجتماعية والاقتصادية، والى متغيرات العالم والمحيط والداخل، لن تكون فاعلة ومؤثرة في واقع الحال اللبناني. فحكومة "الانقاذ والتغيير" مثلا لم تستطع ان تنهج نهجا مختلفا في الحكم، كأن تضع استهدافات مغايرة وخططا اقتصادية واجتماعية مغايرة، وسياسات مالية ونقدية مختلفة، بل اكتفت بتعديل بعض السياسات الضرائبية والانفاقية، وفي الحدود التي تسمح بها مصالح الطبقة الحاكمة، دون احداث تغييرات جوهرية في استهدافات السياسات السابقة. لذلك لم تستطع حكومة "الانقاذ والتغيير" ان تنقذ لبنان من مأزقه، رغم النوايا الطيبة لرئيسها وبعض وزرائه، وقصر عهد تلك الحكومة لا يفسر فشلها في احدات التغيير المطلوب.

 

ان كثرة الاجتهادات في توصيف الازمة اللبنانية الشاملة لم تخلق حتى الآن حالة حوار فكري داخلي حول طبيعة الأزمة وطرق الخروج منها. واعني بالحوار، الحوار النقدي العلمي الذي لا يقف خاشعا او خائفا امام بعض ما يسمى مسلمات او مقدسات متعارف عليها في الحياة السياسية اللبنانية، الحوار البعيد عن المجاملة والمهاترة، القادر على الارتقاء بالفكر السياسي والاقتصادي الى مستويات جادة ورصينة.

 

ان هذا الفيض من التحليلات والتفسيرات التي يتسم معظمها بالرؤية الجزئية او الجانبية للواقع المعاش، ويتصف بعضه الاخر بالقفز فوق الحقائق التاريخية، ليصل الى نوع من الغنائية الفكرية في تمجيد "الوحدة الوطنية" و"العيش المشترك"، وازلية الكيان، وتفوق النظام اللبناني الديقراطي... ان هذا الفكر التزييني التلفيقي، يصل الى مصالحات كلامية بين متناقضات تاريخية وسياسية وطبقية، والى حلول وهمية غير قابلة للتحقق، تدغدغ اخيلة بعض الطامحين من قيادات الاحزاب ومن الانتلجنسيا اللبنانية الى نعيم السلطة.

 

ويتميز عدد آخر من التحليلات بالخلط  بين اسباب الازمة وظواهرها. فالتركيز على تحليل الظواهر والنتائح لعلاجها بعيدا عن اسبابها الحقيقية ومولداتها، لا يشكل اطارا صالحا للخروج من الأزمة. مثل على ذلك القول ان الأزمة تنحصر في حجم  الدين العام وكلفته وضرورة احتوائه. واذا ما تم احتواء هذا الدين العام، اي تثبيت او خفض نسبته من الناتج المحلي القائم، فان آليات السوق تتكفل بحل بقية المشاكل، في هذه الحال تصبح السياسات الانكماشية التي تركز على زيادة الضرائب وخفض الانفاق المجدي وغير المجدي، واتباع سياسة التخصيص، بغض النظر عن وقع هذه السياسات التي ينصح بها صندوق النقد الدولي على الصعد الاقتصادية والاجتماعية، هي طريق الانقاذ. ولكن نمو الدين العام حتى الوقوع في فخ المديونية، كان متلازما مع هذا النهج المالي والاقتصادي والاجتماعي للسطلة الحاكمة، والذي سبب تدهورا شاملا في مقومات الاقتصاد اللبناني. ان الخلل الكبير في المالية العامة كان نتيجة الاخطاء القاتلة على صعيد التوقعات السياسة والاقتصادية لمتغيرات المحيط ولأداء الاقتصادي اللبناني في ظل استهدافات الطبقة الحاكمة والفكر الاقتصادي "النيو ليبرالي". فالدين العام هو احد مظاهر الأزمة لا سببها الحقيقي.

 

مثل آخر، ظاهرة الفساد الاداري. فالفساد لا يقتصر على رشاوي صغار الموظفين في الادارة العامة او بعض الوزراء والمديرين العاميين. ان الفساد يشمل التركيبة الاحتكارية للبنية الاقتصادية اللبنانية، وما انتجه من نهب للمواطن وللمالية العامة على السواء، ومن هدر كبير في الانفاق الخاص والعام، ومن افساد واسع على الصعيد السياسي، نتيجة اعادة توزيع بعض ريوع الاحتكارات الكبيرة او معظمها على كبار السياسيين، وخاصة من هم في قيادة بعض الطوائف، واعادة توظيف السياسيين لحماية وتطوير البنية الاحتكارية للنظام. كما يشمل الفساد التوظيف السياسي في الادرات العامة، لخلق مراكز نفوذ في الادارة تلبي مطالب السياسيين غير المشروعة، وتخرق استقلالية الادارات العامة. كما يشمل الفساد تعطيل اجهزة المحاسبة والمراقبة وتهميشها، واهم من كل ذلك، تعطيل المحاسبة الشعبية للطبقة الحاكمة وادائها عبر افراغ النظام الديمقراطي من محتواه، وجعل الديمقراطية اللبنانية شكلانية، تخفي الدكتاتورية الحقيقية للطبقة البرجوازية التابعة للمركز الامبريالي، وذلك عبر التمسك بالطائفية السياسية و"بالديمقراطية التوافقية".

 

اعتقد ان الازمة اللبنانية هي ازمة بنيوية وشاملة لكل المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وان لهذه الازمة عمقها التاريخي من حيث البنية البرجوازية الكولونيالية التابعة للطبقة الحاكمة، والبنية الطائفية للنظام السياسي الذي يعيد انتاج الطائفية، وبناء "ذاكرات" تاريخية مغايرة لدى الطوائف، وخاصة لدى الطائفة المارونية؛ مما يفسخ المجتمع اللبناني ويشتت توجهات بعض طوائفه ورؤاها المستقبلية، ويدخل لبنان دوريا في حروب اهلية عند كل المنعطفات التاريخية الاساسية. كما ان للنظام الاقتصادي اللبناني في بعده التاريخي المتكون منذ اواخر القرن التاسع عشر، وبعد سنة 1860 بالتحديد، في ظل استشراء الهجمة الاستعمارية الغربية عل المشرق العربي، وسيطرة فرنسا فعليا على متصرفية جبل لبنان، في ظل نظام "الامتيازات" القنصلية، ونظام "الملل" العثماني، وخاصة بعد احتلال الجيوش الفرنسية للجبل بعد احداث 1860، وبتطورات المحيط والعالم منذ انتهاء الحرب العاليمة الثانية وحتى بداية القرن الواحد والعشرين.

 

كما ان للازمة الراهنة علاقة وثيقة بتناقضات المحيط وصراعاته، وخاصة بالصراع العربي الصهيوني وبالهجمة الامبريالية الاميركية، وما تثيره من ردود فعل ومقاومات، وما تفرزه من "ديناميات" فكرية ونضالية، واهمها في الوقت الراهن بروز التيارات الاسلامية الجهادية كقوى سياسية ونضالية فاعلة ضد العدو المركب الصهيوني الامبريالي والطبقات المحلية الحاكمة التابعة له.

 

وترتبط الازمة ايضا بطبيعة مصالح الطبقة الحاكمة، النابعة من الدور الاقتصادي الذي حدد للكيان منذ انشائه، او على الأصح منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحسب المصالح الكولونيالية الفرنسية في ذلك الحين، وترتبط الازمة بالتالي بفكر هذه الطبقة المرتبط بدور لبنان الاقتصادي في محيطه كما حددته مصالح الكولونيالية الفرنسية بشكل خاص، هذا الدور المركنتيلي، الدور الوسيط في الاقتصاد بين اوروبا الاستعمارية والداخل العربي، وبالتزام هذه الطبقة  بالنظام الاقتصادي الحر التابع دوما للمركز او للمراكز الرأسمالية العالمية ونظامها المتجدد، ولالتزام الحكم اللبناني منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي بالتوجهات الاقتصادية النيوليبرالية لمدرسة شيكاغو الاقتصادية؛ هذا الفكر الذي ساد في اميركا منذ وصول اليمين المتطرف الى السلطة سنة 1980، فاعاد توجيه صندوق النقد والبنك الدوليين تبعا لمصالح الامبريالية الاميركية المتجددة وسياساتها الخارجية والداخلية.

 

الكيان النظام والعيش المشترك

جعل البعض من شعار "العيش المشترك" و"الوحدة الوطنية" منطلقا للانقاذ وهدفا تخضع له جميع تناقضات المجتمع اللبناني السياسية والاقتصادية. تنطلق هذه التحليلات من ايمان غيبي بدور الوحدة الوطنية في انقاذ لبنان من مأزقه البنيوي والتاريخي، دون برنامج سياسي اقتصادي شامل تنسج حوله هذه الوحدة الوطنية، ودون بحث علمي يتناول تناقضات المجتمع اللبناني التي يجب اخضاعها لمتطلبات الوحدة الوطنية.

 

ان هذا الفكر السياسي  يستند الى الفكر الطائفي الشيحي (نسبة إلى ميشال شيحا) البرجوازي، الذي عبر عن حقيقة الكيان والنظام اللبنانيين، وحاول تبريرهما وتأييدهما بفكر غنائي مخادع. كما حاول شيحا الربط بين النظام، بشقيه السياسي والاقتصادي، والكيان، بحيث ان سقوط احدهما يؤدي الى سقوط الآخر. لذلك فان الدفاع عن النظام الطائفي، اي النظام السياسي اللبناني الذي يعني التعايش بين البنى الطائفية كوحدات اجتماعية سياسية مستقلة ومتبلورة، مع غلبة للطائفة المارونية منذ انشاء الكيان، في ظل ديقراطية شكلانية تخفي وتموه الطابع الاستبدادي للنظام، وتحمي بنية النظام البرجوازي التابع للمراكز الرأسمالية الامبريالية في العالم.

 

لا ريب ان الصراعات الطائفية، او بالاحرى اعطاء الصراعات اللبنانية الداخلية، المستندة اساسا لاسباب سياسية استعمارية امبريالية واسباب طبقية واقتصادية، غطاءً طائفياً، لا ريب ان هذه الصراعات لعبت دورا كبيرا في بناء ذاكرات  شعبية جمعية  لدى اتباع معظم الطوائف اللبنانية، وافرزت عند الطائفة المارونية بشكل خاص ولاءات وتطلعات سياسة للتماهي مع الغرب الاوروبي في مرحلة تطور الرأسمالية الكولونيالية بالتحديد.

 

فالطائفية ليست قضية ايمان ديني، بل هي قضية سياسية بامتياز. وليست المارونية السياسية المجسدة للفكر الطائفي سوى مزيج هذه الذاكرة الشعبية المصطنع معظمها والمرتكز الى ميثيولوجيا فيها تزوير فاضح للتاريخ.

 

لم يعرف مجتمع جبل لبنان، او امارة الجبل، الطائفية السياسية كقوة فاعلة في المجمتع الا منذ بداية القرن التاسع عشر، ومع انطلاقة الاستعمار الغربي نحو التوسع كتعبير عن مرحلة من مراحل  تطور الرأسمالية الغربية نحو المشرق العربي الذي كان جزءً من الامبراطورية العثمانية المتداعية، بسبب بنيتها الجامدة وازماتها الداخلية. كانت الانقسامات السابقة في مجتمع امارة الجبل، عابرة للطوائف: قيسي يمني، يزبكي جنبلاطي، والى ما هنالك من انقسامات تابعة في ظل نظام اقطاعي درزي باغلبيته.

 

بدأت المتغيرات السياسية التي ادت في النهاية الى تغريب معظم الموارنة عن محيطهم وتراثهم المعاش، عبر ربط الكنيسة المارونية بالبابوية، لبناء رأس جسر للاستعمار الاوروبي في المشرق. ولم تكن هذه السياسة الاستعمارية مقتصرة على المشرق، بل كانت سمة ثابتة من سمات السياسات الاستعمارية الاوروبية، فقد كان المبشرون دائما طليعة الغزوات الاستعمارية في افريقيا كما في آسيا، مثل "كاثوليك الرز" في فيتنام، ومسيحيي جنوب السودان.

 

بدأ الربط الفعلي للكنيسة المارونية بالبابوية في اواخر القرن السادس عشر، مع انشاء معهد روما لتعليم الكهنوت الماروني. وكان من ابرز خريجي هذا المعهد، المطران ابن القلاعي، الذي كتب تاريخا للموارنة لا يستند الى اي مرجع تاريخي بيزنطي او عربي، مبنيا على الاوهام والخرافات، وفي ضوء ما تريده وتعمل له البابوية في ذلك الحين، ونسج البطريرك الدويهي، خريج معهد روما ايضا، على منوال ابن القلاعي، واستمرت هذه المدرسة في التاريخ حتى الاب بطرس ضو في اواخر القرن الماضي.

 

كان الهدف من كتابة هذا التاريخ، بناء ذاكرة تاريخية لدى الموارنة معادية لمحيطهم العربي الاسلامي، وتابع للغرب الاستعماري، وتنظيم ابناء الطائفة المارونية ورصهم وراء قيادة الكنيسة المارونية، بدل القيادات السياسية الاقطاعية المارونية، والتي كانت جزء عضويا من الطبقة الاقطاعية الحاكمة لمجتمع موحد سياسيا وتشريعيا وثقافيا.

 

انضوت الكنيسة في بداية نموها تحت جناح الاقطاع المسيحي، بمساندة ودعم الدول الكاثوليكية الاوروبية، سياسيا وماديا، وعممت فكرها السياسي عبر سلسلة من المعاهد والمدارس التي بنتها في كافة القرى المسيحية وخاصة المارونية منها، وعبر الاديرة والكهنوت. وربما كانت المحاولة الاولى لانقلاب الكنيسة على نظام الامارة في جبل لبنان، وعلى الاقطاع المسيحي، المحاولة التي قام بها البطريرك تيان في بداية القرن التاسع عشر مع الاخوين باز، وفشل هذه المحاولة التي ادت الى عزله ونفيه. وكان البطريك تيان عمل لحشد بعض الموارنة للتطوع في جيش نابوليون الذي كان يحاصر عكا، ومد هذا الجيش بالمؤن، واستطاعت الكنيسة المارونية في النهاية من اخضاع الاقطاع الماروني لسيطرتها في اواسط القرن التاسع عشر.

 

كان بروز التيارات الطائفية، وبداية الصراعات الطائفية على السلطة في امارة الجبل، عند الانقلاب على النظام الاقطاعي الدرزي سنة 1825، بدعم من محمد علي المرتبط بفرنسا، عبر والي عكا، فتم ضرب الاقطاع الدرزي لمصلحة العائلة الشهابية شكلا، ولمصلحة الكنيسة المارونية وفكرها البرجوازي الكولونيالي المعادي للاقطاع، والتي مثلث طليعة الغزو الكولونيالي الاوروبي للمشرق العربي.

 

ان ظهور الطائفية السياسية ارتبط منذ البداية بالكولونيالية الاوروبية ومصالحها. ولكن سنة 1825 لم تمثل انتصارا كاملا ونهائيا للمارونية السياسية وبرنامجها البرجوازي الكولونيالي؛ فقد عاد الصراع إلى اشده بعد هزيمة ابراهيم باشا سنة 1840. واستمرت الحرب الاهلية الطائفية في ظل نظام القائمقاميتين ساخنة حينا وراكدة احيانا حتى سنة 1860 حيث هزم الموارنة ميدانيا. استتبع ذلك اجتياح الجيوش الفرنسية لجبل لبنان ومعاقبة الدروز ونفي زعمائهم، واسقاط الاقطاع الدرزي نهائيا كنظام سياسي مع  انشاء نظام المتصرفية ذي الغلبة المسيحية.

 

وتزامنت احداث 1860 مع ثورة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين وبتوجيه ودعم من القنصل الفرنسي والكنيسة المارونية، لاسقاط الاقطاع المسيحي واخضاعه نهائيا لسلطة الكنيسة المارونية وبرنامجها السياسي. فقد مثلت سنة 1860 مفصلا محوريا في تاريخ الجبل، تمثل باسقاط النظام الاقطاعي، مع اضعاف العلاقات الاقتصادية الاقطاعية في الريف اللبناني وتمدد العلاقات البرجوازية في التجارة وحلول الزراعات الرأسمالية المتوجهة للسوق بدل زراعات الاكتفاء الذاتي والمقايضة عند الفلاحين.

 

فمنذ سنة 1860 تركزت توظيفات فرنسا في بيروت التي لم تكن المدينة الاهم والاكبر على الشاطئ اللبناني. فقد تم اختيار بيروت كمركز للتوظيفات الفرنسية لاسباب ديمغرافية وطائفية، اذ يحيط بها الجبل ذو الاكثرية المارونية الموالية لها. وتم تطوير بيروت كمركز للخدمات التجارية والمالية والتعليمية، ليس من اجل مجتمع جبل لبنان، بل من اجل الداخل العربي، لتلعب دور رأس الجسر بالنسبة للاستعمار الفرنسي. وبدأ دور لبنان الاقتصادي يتحدد، ويتغير من منتج لشرانق الحرير للمصانع الفرنسية الى منتج للخدمات التابع للاقتصاد الفرنسي وحاجاته في المشرق العربي. فنمت في بيروت طبقة برجوازية تابعة قوامها التجار والمرابون والعاملون في قطاع الخدمات الاخرى المحيطة بالتجارة.

 

واكب هذا النمو لبيروت افقار الارياف وتقهقر لبقايا الاقطاع الريفي وبنيته الاقتصادية، مع ازدهار المدن وخاصة مدينة بيروت. واصبح الاقطاع كطبقة فيما بعد خاضع لسلطة المتصرفية وفي خدمتها، يسعى الى الوظائف التي تؤمنها بنية السلطة الجديدة، والى الالتحاق بوظائف يؤمنها النمو البرجوازي الكولونيالي في المدن في قطاعات عدة.

 

باختصار يمكننا القول ان الكنيسة المارونية، بتبعيتها للمركز الاوروبي الاستعماري وفي سعيها للتماهي معه سياسا وثقافيا، ولخدمته على الصعيد الاقتصادي، لعبت دورا تحديثيا في التعجيل بانتقال مجتمع جبل لبنان من نظام اقطاعي الى نظام برجوازي تابع للمركز الاوروبي. وان القرن التاسع عشر شهد هجمة استعمارية غربية على المشرق العربي، واكبته حروب اهلية متقطعة ومندرجة في اطار هذا الغزو.

 

ثم كانت الحرب العالمية الاولى حيث تم الغاء نظام المتصرفية، وقامت الثورة العربية الكبرى، ورفعت العلم العربي في بعبدا. ثم هزيمة الثورة العربية على ايدي الجيوش الفرنسية التي اجتاحت لبنان وسوريا حسب اتفاقات سايكس بيكو، وتم تقسيم منطقة الاحتلال الفرنسي الى دويلات عدة منها دولة لبنان الكبير، بغلبة مارونية ومعارضة واسعة من بقية الطوائف التي طالبت بالوحدة مع سوريا حسب مراسلات بعثة "كينغ كراين". وقامت الثورات ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا وانضم اليها العديد من اللبنانيين، وخاصة الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الاطرش. وسقط الاستعمار الفرنسي في اعقاب الحرب العالمية الثانية وجلت الجيوش الفرنسية عن لبنان سنة 1946.

 

كانت موافقة القيادات المارونية على الاستقلال مشروطة ببقاء السلطة السياسية الحقيقية بأيدي الموارنة اولا، وتخلي المسلمين عن المطالبة بالانضمام الى سوريا ثانيا. فقد احتل رئيس الجمهورية الماروني موقع المندوب السامي الفرنسي من حيث  الموقع والسلطات التي تجعل منه الحاكم الفعلي غير المنازع مع حصانة كاملة تبعده عن المساءلة والمحاسبة، كما احتفظ الموارنة بالامساك بالمراكز الاساسية في الادارة وفي السلطة التشريعية، وذلك بناء لاكثريتهم العددية حسب احصاء مطعون في صحته في اوائل الثلاثينيات.

 

ان ميثاق 1943، الذي كان حصيلة هذه الاتفاقات، لم يستطع تأمين نظام سياسي مستقر. فالديمقراطية التوافقية التي تركز على رؤية الطوائف كوحدات سياسية اجتماعية يتكون منها المجتمع اللبناني، والتي تجعل من الطائفة ممرا اجباريا للمواطنية ولعلاقة المواطن بالدولة، والتي لا تؤمن المساواة في الحقوق والواجبات للمواطنين، لم تستطع ان تؤمن الاستقرار السياسي بعد الاستقلال.

 

فقد شهدت منطقة المشرق العربي في اواخر الاربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي تطورات اساسية كان اهمها سقوط فلسطين في ايدي الصهيونية المدعومة من قبل مراكز النظام الرأسمالي الاستعماري والامبريالي. ثم شهد المشرق العربي صراعا سياسيا، وسلسلة من الانقلابات العسكرية الراديكالية، وبروز حركة التحرر العربي كقوة استقطابية فاعلة للجماهير العربية. وكان العدوان الثلاثي على مصر، وفشل هذا العدوان الذي ادى الى انهيار النفوذين البريطاني والفرنسي في المشرق العربي وادى الى طرح مشاريع الاحلاف الاميركية، ومشروع ايزنهاور لملء الفراغ في الشرق الاوسط.

 

ان هذه المتغيرات في المحيط ووقوف الحكم اللبناني برئاسة كميل شمعون مع مبدأ ايزنهاور، انسجاما مع بنية النظام وعلاقات الطبقة الحاكمة مع المركز الامبريالي، فجر ثورة 1958، حيث سارعت اميركا الى انزال مشاة البحرية في بيروت للدفاع عن النظام اللبناني، عند سقوط حكم نوري السعيد في العراق، والذي كان مشاركا في القتال مع نظام شمعون.

 

ثم كانت هزيمة حزيران 1967 التي شكلت هزيمة لحركة التحرر العربي وتطلعاتها التحديثية والاستقلالية والتوحيدية للوطن العربي. فقد شكلت التحولات في المحيط التي نتجت عن هزيمة 1967 الارضية للحرب اللبنانية الجديدة، واعطت دفعا قويا لقوى الطائفية الفاشية للعمل على انشاء وطن قومي للمسيحيين في لبنان، على غرار الوطن القومي لليهود في فلسطين. فقد بدأت معسكرات التدريب الكتائبية في العمل منذ صيف سنة 1967، استعدادا للتغيير المنشود. غير ان انتصارات حرب تشرين أخر انفجار هذه الحرب الداخلية إلى سنة 1975، واستمرت حتى بداية التسعينيات، وتخللها الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982، بالتنسيق الكامل والميداني مع القوات الاميركية، وبالتعاون والتنسيق مع قوى الفاشية اللبنانية وحملت دبابات اسرائيل بشير  الجميل، عميل المخابرات الاميركية، الى سدة الرئاسة، لبناء الوطن القومي الماروني، الحليف الاستراتيجي لاسرائيل والتابع لها.

 

لم يكن انشاء الكيان اللبناني، بعد هزيمة الثورة العربية الكبرى، خدمة للموارنة، كما تتوهم المارونية السياسية، بل من اجل خدمة مصالح فرنسا الاستعماية ومخططاتها في المشرق العربي. لكن الذاكرة الجمعية لمعظم الموارنة، والتي تم بناؤها بدأب خلال  قرون عديدة، جعلت هذا البعض يعتقد ان فرنسا لم تأت الى المشرق الا لخدمتهم وتحقيق احلامهم السياسية، وانها بنت لهم الكيان اللبناني، وان مصالحهم الحقيقية تكمن في تماهيهم، سياسيا وثقافيا، مع الاستعمار الفرنسي ومخططاته.

 

ان المارونية السياسية هي نتاج الاطماع الاستعمارية والغزو الاستعماري الاوروبي للمشرق العربي ولخدمته و"صعود الموارنة  كجماعة، وازدياد نفوذهم السياسي والاقتصادي والثقافي" كما يقول المجمع البطريركي، والذي تلازم مع المسيرة الانحدارية للامبراطورية العثمانية، والمسيرة الصاعدة للاستعمار الغربي، ثم احتلال فرنسا للبنان، لم يكن هذا الصعود نتيجة تميز الموارنة الطبيعي، اثنيا او ثقافيا، اذ انهم كانوا وما يزالون جزء من هذا الشعب وهذه الثقافة العربية الاسلامية؛  بل للامتيازات الكبيرة التي حصلوا عليها نتيجة التحاقهم بالاستعمار الفرنسي ثم بالامبريالية الاميركية.

 

ان هذا الوضع التاريخي ولد لدى قسم من الموارنة، حتى بعض المتنورين منهم، نزعة استعلائية بل شوفينية وعنصرية، مثلتها الكتائب والقوات اللبنانية ميدانيا وفكريا، عبر التطهير الطائفي والمجازر الجماعية ضد من خالفهم الرأي حتى من المسيحيين والموارنة، ابان الحرب الاهلية والاجتياح الاسرائيلي؛ هذه الفاشية الاستعلائية التي عبر عنها اخيرا المجمع البطريركي الماروني حين يقول: "اذا انكفأ الموارنة ( سياسيا )... يكونون كمن يعاقب نفسه ويترك الساحة لاشخاص اقل كفاءة واخلاقا وفضائل، يستولون على قضاياهم العامة". وذلك كما ورد في جريدة السفير بتاريخ 10 تموز 2004.

 

فبجانب شوفينية هذا النص وعنصريته، فان المجمع البطريركي على ما يبدو لا يعتبر من شاركوا ويشاركون في السلطة من الموارنة، ممثلين حقيقيين لهم، او بالأحرى للمارونية السياسية التي تحتكر تمثيل الموارنة.

 

 

الاقتصاد اللبناني ومتغيرات العالم والمحيط

منذ إنشاء الكيان كان هناك ترابط بين الكيان والنظام السياسي الطائفي والدور الاقتصادي للبنان في محيطه وفي العالم، مما أعطى الطبقة السياسية الحاكمة إيديولوجيتها السياسية المتناسقة مع دورها الاقتصادي الخدماتي التابع للرأسمالية العالمية في مرحلتها الكولونيالية. وقد ترابطت المستويات الثلاثة، الكيان والنظام السياسي والنظام الاقتصادي، في أذهان ومفكري  البرجوازية اللبنانية هذه، واهمهم ميشال شيحا المؤسس لفلسفة "الوجود اللبناني المميز" اذا صح التعبير.

 

بالنسبة لشيحا ومن تبعه من منظري التيار اللبناني الانعزالي الطائفي، لا فرق بين نظام لبنان وكيانه "كأنه من بين بلدان العالم جميعاً، الأوحد الذي اذا تغير نظامه هوى كيانه، وفي هذا فرادته"، كما يعلق مهدي عامل.

 

 بني هذا الكيان حول دور بيروت الاقتصادي الخدماتي، بيروت كمركز مالي وتجاري، كمرفأ يرتبط مع الداخل العربي بشبكة طرق وسكك حديدية، وكمركز للتعليم الثانوي والجامعي الحديث، وللاستشفاء، كما للتسوق والترفيه والسياحة. وتطور هذا الدور مع الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان وحتى الاستقلال.

 

في عهد الاستقلال، ومع متغيرات العالم والمحيط، تعزز هذا الدور الخدماتي للنظام اللبناني، وخاصة بعد سقوط فلسطين في ايدي الصهاينة، وتحول معظم التجارة الخارجية للداخل العربي من مرفأ حيفا الى مرفأ بيروت، واقفال خطوط نقل النفط المارة في فلسطين المحتلة، وتحويلها الى الشواطئ اللبنانية من الجزيرة العربية والعراق. كما استفاد لبنان ونمت قدراته على تأمين الخدمات من هجرة الكفاءات الفلسطينية اليه، في حقلي الخدمات المالية والمحاسبة، التابعة للمدرسة المالية البريطانية المتطورة، كما في زراعة الحمضيات.

 

واستفاد لبنان بعد ذلك من التحولات السياسية والانقلابات العسكرية الراديكالية في دول المحيط العربي، والتي دفعت بقسم كبير من برجوازيات تلك الدول (سوريا، مصر، العراق) واموالها المهربة الى لبنان. فقد شكل لبنان باستقراره النسبي ونظامه الليبرالي المنفتح ملجأ آمنا لهذه الطبقات البرجوازية العربية واموالها، مما عزز الدور الوسيط للاقتصاد اللبناني، والمنتج لرزمة من الخدمات التي يحتاجها المحيط.

 

وبقي لبنان، منذ سنة 1948 وحتى اواخر السبعينيات من القرن الماضي، بعيدا عن المشاركة الفعلية في الصراع العربي الصهيوني، حجته في ذلك ضعفه العسكري المتعمد. كان هذا الموقف في حقيقته منسجما مع رؤيته السياسية وفهم الطبقة الحاكمة لهوية لبنان العربية الملتبسة التابعة لدورها الوسيط بين الغرب الاوروبي والمشرق العربي.

 

واستفاد الاقتصاد اللبناني من كل الانتصارات والهزائم، من سقوط فلسطين والانقلابات العسكرية في دول الجوار، من العدوان الثلاثي على مصر واغلاق قناة السويس، من هزمية 5 حزيران 1967، واعادة اغلاق قناة السويس في حرب تشرين وارتفاع اسعار النفط، وما نتج عن ذلك من تدفقات مالية ضخمة احدثت فورة كبيرة في التجارة الخارجية للدول النفطية المشرقية، كما من التوظيفات الضخمة في البنى التحتية، كما في الادارات العامة وما تقدمه من خدمات، وفي القطاعات العقارية والانتاج السلعي. كل ذلك رفع الطلب العربي على المنتجات الخدماتية والسلعية، وعلى خدمات شركات المقاولات، وعلى العمالة اللبنانية  الماهرة، وعلى خدمات مرفأ بيروت ومطارها وسوقها المالية الحرة المنفتحة على الاسواق العالمية وبدأ لبنان يفقد دوره المتميز كواحة سياسية واقتصادية وثقافية متقدمة عن محيطها، نتيجة تطورات كبيرة وعميقة في المحيط والعالم، كما نتيجة الحرب الاهلية المديدة والاجتياح الاسرائيلي له.

 

شهد العالم تطورات كبيرة وعميقة منذ انتهاء الحرب العاليمة الثانية. فقد شكلت هذه الحرب نهاية عصر الاستعمار للامبراطوريات القومية، وخاصة الاوروبية واليابانية، وبداية عصر الامبريالية الاميركية المهيمنة المتجاوزة في بنيتها الداخلية كما في وسائل سيطرتها واهدافها الاستعمار الاوروبي الكولونيالي.

 

كما شهدت مرحلة الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب التحرر، ظهور المعسكر الاشتراكي، وظهور كتلة عدم الانحياز التي نمت وتوسعت رقعتها مع الانتصارات التي حققتها حركات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا. ودخل العالم مرحلة الحرب الباردة، وصدام دول عدم الانحياز مع الامبريالية الاميركية.

 

خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية اكثر قوة ونفوذا وثروة مما كانت عليه قبل الحرب. فقد انتشلتها الحرب (انضمت اليها في وقت متأخر) من الركود الذي سقطت فيه سنة 1929، واصبحت القوة المهيمنة والطامحة الى وراثة الامبراطوريات الاستعمارية المنهارة. كان ناتج الولايات المتحدة القومي حوالي نصف الناتج العالمي، وجيوشها المنتصرة تتمركز في العديد من دول العالم وفي جميع القارات  لدعم سيطرتها وشبكة علاقاتها الامبريالية الآخذة في الانتشار والتوسع، والمغايرة للعلاقات الاستعمارية في عصر الكولونيالية.

 

بنت أميركا النظام الاقتصادي العالمي الجديد حسب مصالحها، على انقاض النظام العالمي السابق. فأصبح الدولار هو العملة العالمية الجديدة بدل الذهب، ترتبط به عملات الدول، ويرتبط بدوره بالذهب بسعر ثابت، وهو قابل للتحويل الى ذهب غب الطلب. وبنت النظام الاقتصادي الدولي على ثلاث مؤسسات رئيسية: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، ومنظمة الغات GATT  لتنمية التجارة الدولية. واعطت نفسها حق النقض في الصندوق والبنك الدوليين، وهيمنت بشكل كامل على المؤسسات الثلاث التي اصبحت في حقيقة الامر مؤسسات تابعة لها وفي خدمة مصالحها الامبريالية.

 

لم تعد الامبريالية في مرحلتها الجديدة بحاجة الى رأس جسر لها تعبر فوقه الى الداخل العربي، تحميه وتحتكر سوقه. كانت تدعو الى فتح الاسواق جميعا، التجارية والمالية والخدماتية، وتنشيط حركة رؤوس الاموال وحرية عبورها بين الدول دون عائق، وفتحها امام التوظيفات الخارجية.

 

استطاع النظام اللبناني ان يتكيف نسبيا مع هذه المرحلة الجديدة، وان ينقل ارتباطاته وبسرعة من التبعية للاستعمار الفرنسي الى التبعية السياسية للمركز الامبريالي الجديد. ظهر ذلك جليا ابان حكم كميل شمعون في الخمسينيات من القرن الماضي.

 

مع بداية السبعينيات بدأت الامبريالية الاميركية تدخل في ازمة بنيوية جديدة، نتيجة تطور اقتصادات بعض الدول الرأسمالية، ونتيجة تطورات الرأسمالية الاميركية وبنيتها الداخلية، فقد تم اعادة بناء اوروبا الغربية، وعادت المانيا الغربية دولة صناعية محورية، كما اليابان، تحقق فيهما موازين المدفوعات وموازين حساب المدفوعات الجاري فوائضا كبيرة بعلاقتهما مع السوق الاميركية. خلق ذلك ضغوطات كبيرة على الاقتصاد الاميركي وعلى الدولار. ولم تجدِ كثيرا ضغوطات الولايات المتحدة على هاتين الدولتين لرفع سعر صرف عملتيهما بمعدلات كبيرة في تحسين اداء الاقتصادي الاميركي، وتخفيف الضغوطات على الدولار. نتيجة ذلك عمدت الولايات المتحدة الى الغاء سعر الصرف الثابت  للدولار بالنسبة للذهب، والغت حق ابداله بالذهب، بعد ان استنزف معظم الذهب الذي كومته في  فورت- نوكس  بعد الحرب العالمية وخلالها.

 

قوضت الولايات المتحدة بذلك نظام النقد العالمي الذي بنته بعد الحرب العالمية الثانية، وادخلت العالم في مرحلة الفوضى واللانظام النقدي.

 

واكب هذه المتغيرات ثورة في الاتصالات والحواسيب والمعلوماتية، وتبع ذلك تحولات في بنية المؤسسات المالية الاميركية، حيث دخلت المصارف في منافسة الاسواق المالية على الوساطة وكلفتها، مما ادى الى متغيرات بنيوية في الاسواق المالية. وأدى كل ذلك الى بروز اضطرابات مالية ونقدية كبيرة في العديد من دول العالم الثالث بشكل خاص، وغيَر في بنية الاسواق المالية وعولمتها. وكان من اهم نتائج هذه المتغيرات الامور التالية:

 

1- نمو هائل لحركة رؤوس الاموال على الصعيد العالمي، ليس لتمويل التجارة الدولية والتوظيفات الخارجية المنتجة كما في المراحل السابقة، بل للمضاربة واصطياد الفرص. فقد اصبحت العملات سلعا تتم المتجارة بها والمضاربة عليها.

 

2- تحويل المصارف والمؤسسات المالية الكبرى من مصارف ومؤسسات محلية بطابعها وارتباطاتها الاقتصادية الى مؤسسات عابرة للحدود الدولية. وكذلك تحول الشركات الكبرى المنتجة للسلع والخدمات، من شركات محلية او قومية الى شركات عالمية ذات طابع دولي.

 

3- بروز مؤسسات مالية عملاقة ذات طابع شامل في مهماتها، توحد بين عمل المصارف التجارية، وبنوك التوظيف ومؤسسات الوساطة المالية وشركات التأمين.

 

4- بروز سوق عالمية للاسهم والسندات التي يتم التعامل بها في الاسواق المالية للدول الرأسمالية الناضجة، وخاصة السوق المالية الاميركية؛ مع سهولة الولوج اليها والخروج منها من قبل المؤسسات والافراد في انحاء العالم.

 

5- اشتداد المنافسة بين المصارف والاسواق المالية، مما ادى الى خفض كلفة الوساطة المالية لدى المصارف، واجبرها على التحول الى مؤسسات مالية شاملة، والاعتماد في تحقيق أرباحها على الخدمات التي تقدمها للزبائن, بدل الاعتماد على الفروقات بين الفائدتين الدائنة والمدينة.

 

6- سعي المصارف المركزية في العالم الى مراكمة كميات اكبر من النقد الاجنبي للتحوط ضد ضغوطات اسواق المال العالمية على سعر صرف عملتها، مما خلق طلبا متزايدا على الدولار الاميركي كعملة عالمية، ومكن ذلك الولايات المتحدة من تمويل عجز ميزان مدفوعاتها بعملتها المحلية، وفي ذلك ابتزاز لكافة دول العالم.

 

واكب هذه التحولات ايضا ظهور منطقة جنوب شرق آسيا كأحد المراكز الاساسية، المالية والتجارية، الاكثر نموا وحيوية في العالم. لم تعد الاسواق الاوروبية او الاميركية محاور التجارة العالمية فقط، تتحكم بالتجارة وشروطها مع دول المشرق العربي، بل اخذت تجارة المشرق العربي تتحول تدريجيا نحو جنوب وجنوب شرق اسيا.

 

أصبحت منطقة الخليج العربي هي بوابة المشرق العربي، على منطقة حوض المحيط الهادي، ونمت اسواق الخليج، وخاصة دبي، بسوقها المفتوحة ونظامها الاداري الحديث، وشبكة مواصلاتها واتصالاتها الجوية والبحرية، وسوقها المالية الحديثة والغنية والعميقة، المترابطة مع اسواق السعودية والبحرين.

 

شهدت دول المشرق العربي تحولات كبيرة  ايضا. فبين سنة 1970 وسنة 1980 تضاعف سعر برميل النفط 7.4 أضعاف، مما ولد دفقا ماليا كبيرا على الدول النفطية العربية، فاض بعضه الى دول الجوار عبر آليات السوق، وسرع في تحديث هذه الدول وتطوير بنيتها التحتية والخدماتية. فقد ظهر العديد من المرافئ الحديثة والعميقة في مناطق البحر الاحمر والخليج لتستوعب النمو الهائل في حركة التجارة الخارجية كما تم تطوير مرفأي اللاذقية وطرطوس في سوريا، ومرفأ العقبة في الاردن، وبذلك فان مرفأ بيروت فقد الكثير من دوره السابق، وخاصة بعد فتح قناة السويس.

 

وفقد مطار بيروت دوره كعقدة للمواصلات الجوية، نتيجة متغيرات عديدة في حركة المسافرين وخطوط النقل بين دول المشرق العربي والعالم. ونمت  المصارف العربية كماً ونوعاً في السعودية والخليح والعراق كما في مصر، واصبحت البحرين احد اهم مراكز المال الخارجية (Off Shore) العالمية المستقطبة للفوائض المالية النفطية بدل سوق بيروت ومصارفها. فمصارف لبنان حافظت على بنيتها التجارية التقليدية التي تخطاها الزمن، مقتنعة ببنيتها الاحتكارية للسوق المحلية عبر جمعية المصارف. اما تمدد بعضها الى الدول الاوروبية ابان الحرب الاهلية، فلم يكن بهدف التطور والمنافسة في اسواق المال الاوروبية بل لتأمين خدمات تقليدية لزبائن لبنانيين تقليديين نزحوا الى باريس ولندن وغيرها من المدن الاوروبية طلبا للامن من الحرب اللبنانية.

 

وظهرت العشرات من الجامعات والمعاهد الغربية الحديثة في المحيط العربي كمنافسة لمعاهد وجامعات بيروت، مواكبة التوسع في مراحل  التعليم العام في تلك الدول. وتوجه عشرات الآلاف من الطلبة العرب الى ارقى الجامعات الاميركية والاوروبية، ولم تعد المعاهد والجامعات اللبنانية مراكز استقطاب للطلاب من دول الجوار.

 

وتطور تقنيات الاتصالات والحواسيب، خاصة الانترنت، مكّن اي تاجر او فرد عادي من الاطلاع على كافة الاسواق العالمية وبضائعها، و مواصفات هذه البضائع واسعارها، ومن عقد الصفقات التجارية، وهو في منزله او مكتبه او حتى في سيارته، دون الاستعانة بخبرات تجارية تقليدية مثل تلك التي كانت تؤمنها سوق بيروت للداخل العربي. فانهارت بالتالي التجارة  المثلثة، وضمرت سوق لبنان التجارية ودورها بالنسبة لدول الجوار.

 

كما شهدت سوق الاعلان والاعلام ودور النشر اللبنانية منافسة قوية ومتصاعدة من مؤسسات عربية ضخمة وغنية اوسع انتشارا وتأثيرا من المؤسسات الاعلامية اللبنانية. ولم يعد لبنان ملجأ المثقفين العرب وواحتهم الفكرية والديمقراطية، وأخذت مدن اوروبية مثل لندن وباريس مكان بيروت في الثقافة والاعلام العربي.

 

 

ولم يعد لبنان المقصد الاول للسياح والمصطافين العرب، فقد نمت السياحة، مع تنمية بنيتها التحتية، في العديد من دول الجوار العربي ومن غير دول الجوار، مثل الاردن وسوريا ومصر وتونس والمغرب وحتى في الامارات العربية، متوجهة في معظمها نحو سياحة الطبقات المتوسطة كما الطبقات الميسورة، مستقطبة اضعاف ما يستقطبه لبنان من السياح والمصطافين، وذلك بجانب الفروقات الكبيرة في ثمن الخدمات السياحية بين لبنان ودول الجوار العربي.

 

أما بالنسبة لقطاعي الزراعة والصناعة، فان انقطاع اقنية التجارة مع دول المحيط واضطرابها ابان الحرب الاهلية، وتخلف الانتاج اللبناني الزراعي والصناعي عن مواكبة التطورات الحديثة في نوعية النصوب والشتول، وتطورات معدات الانتاج الصناعي، وسياسات النظام المعادية لقطاعات الانتاج السلعي المحلي المنافسة للتجارة الخارجية... كل ذلك قلص صادرات تلك السلع اللبنانية الى دول الجوار.

 

ما الذي يمكننا استنتاجه من هذه القراءة السريعة لتاريخ لبنان والتحولات في العالم والمحيط والداخل اللبناني وخاصة منذ الاستقلال؟

 

أولاً: ان هذا الكيان السياسي بنظامه الاقتصادي والسياسي، غير مستقر وغير مقنع للعديد من اللبنانيين وهو قابل للانفجار عند  كل منعطف سياسي في منطقة المشرق العربي. وان سنوات الحروب والنزاعات والاجتياحات الخارجية في تاريخه اطول من سنوات الاستقرار والاستقلال و"الوحدة الوطنية" و"العيش المشترك". ويخيل للمرء ان سنوات  الاستقرار والسلام فيه، هي استراحات بين معارك في حرب اهلية متواصلة، رغم تغني البعض بالوحدة الوطنية التاريخية والعيش المشترك بين الطوائف الذي اصبح مثالا للعالم.

 

ان هذا القلق المستمر يكمن في تركيبة النظام الطائفي الذي يُقنع الاستبداد تحت شعار الديمقراطية التوافقية والذي انتج سلسلة من الحروب الاهلية.

 

ان التعدد الديني والمذهبي ليس سمة لبنانية خاصة، بل هو ظاهرة عالمية الى حد بعيد، وظاهرة عربية في معظم دول المشرق العربي. ولكن هذا التعدد الديني والمذهبي لم يفسر على انه تعدد ثقافي كما في لبنان، ولم ينتج طائفية سياسية وحروبا اهلية، ولم يخلق نظاما طائفيا استبداديا تحت قناع الديمقراطية التوافقية. فالمواطنون في تلك الدول المتعددة  الطوائف متساوون في الحقوق والواجبات، ولو في ظل حكومات استبدادية، وليس كما في لبنان حيث يحدد الانتماء الطائفي حدود حقوق المواطن في وطنه.

 

ثانيا: ان الحروب الاهلية لم تكن في حقيقتها حروب الغرباء على لبنان، او حروبا عبثية تفتقد الى محتوى سياسي واجتماعي، يتساوى في "جرائمها" جميع من خاضوا غمارها من جميع اطياف الصراع واطرافه.

         

هناك من قاتل ضد الغزو الاستعماري او الامبريالي او الصهيوني، وهناك من قاتل الى جانب هؤلاء الغزاة  او من خلفهم. هناك من قاتل من اجل لبنان ديمقراطي تقدمي وعربي، وحافظ على الآخر (الآخر من حيث الانتماء السياسي او الديني او المذهبي)، وهناك من قاتل من اجل وطن فاشي عنصري ينفي الآخر ويلغيه. فهل يتساوى هؤلاء جميعا وبأي مقايسس؟

 

والغزوات والاحتلالات الاجنبية لم تكن نتيجة الحروب الاهلية التي اجتذبت هذه القوى الخارجية، بل ان الحروب الاهلية كانت نتيجة تحريض وتخطيط استعماري امبريالي او صهيوني، ولخدمة اهداف قوى العدوان، وان بعض الداخل كان اداة ومطية للمعتدين، واعطى مبررا شكليا للغزو الخارجي، وشارك فيه، عن وعي او دون وعي، وتحت غطاء الدفاع عن الطائفة وحقوقها وامتيازاتها وتفردها الموهوم.

           

ثالثا: ان الوحدة الوطنية لا يمكن ان تتحقق عبر المساومات الطائفية وحول قضايا الانتماء المصيري بشكل خاص، وعبر محاولات التوفيق بين اتجاهات سياسية متناقضة، وبالتنازل عن الثوابت الوطنية والمساومة عليها، او عبر ملاقات الاخر الى منتصف الطريق او ثلاثة ارباعه، مثل التنازل عن عروبة لبنان، والالتزامات القومية والانسانية الناتجة عن هذا الانتماء، مقابل تنازل الآخر عن التحالف مع العدو الصهيوني والامبريالي.

 

ان المساومة على الثوابت القومية والوطنية والانسانية لا تنتج قناعات عند الجماهير الصانعة وحدها للتاريخ، ولو اقتنع بها تجار الطائفية من ابناء الطبقة الحاكمة. كل ما يمكن ان تنتجه هذه المساومات، استقرارا مؤقتا في ظل توازنات خارجية لا تسمح بالتغيير.

 

ان الوحدة الوطنية الحقيقية تبنى عبر تجاوز نظام الطائفية السياسية، وعبر انشاء علاقة مباشرة بين المواطن والدولة، وعبر انظمة وقوانين يتساوى فيها جميع المواطنين بالحقوق والواجبات، وحيث يتم تفكيك البنى الطائفية ككيانات حقوقية واقتصادية وسياسية، وعبر محو الذاكرات الجمعية للطوائف، والتوقف عن اعادة انتاجها وتعزيزها من قبل النظام السياسي والدورة الانتخابية، والمؤسسات التربوية والتبشيرية منها بشكل خاص.

 

ان الوحدة الوطنية الحقيقية لا يمكن ان تبنى الا حول التناقض الاساسي في لبنان والمشرق العربي، وهو التناقض والتصادم مع الامبريالية والصهيونية. فلبنان جزء من احد طرفي الصراع المصيري في المشرق العربي. ومحاولة بناء وحدة وطنية في هذه المرحلة التاريخية، عبر تهميش هذا  التناقض الاساسي وما يفرضه من تحالفات خارجية، خاصة في المحيط العربي، وما يفرضه من تحمل للتضحيات، وتعرض للمخاطر، هو مجرد وهم وخداع للذات، يؤسس لحروب اهلية جديدة.

 

رابعا: ان لبنان قد اعيد توحيده فعلا عبر القضاء على الكانتونات الطائفية التي انبنت ابان الحرب الاهلية والاجتياح الاسرائيلي. وتحرر لبنان من الاجتياح الصهيوني والعدوان الامبريالي الاميركـي (الا مزارع شبعا). والوحدة الوطنية فيه، وهي نسبية دائما، متحققة الى حد بعيد، وكما لم تتحقق في الماضي، وخاصة بعد الحروب الاهلية والغزوات الخارجية. وخروج فئة قليلة العدد كثيرة الضوضاء، يقتلها الحنين المرضي الى عهود الاحتلال والاستبداد والامتيازات الطائفية في ظل  الحراب الاجنبية، ان ذلك لا يقلل من حجم هذه الوحدة الوطنية وشموليتها النسبية في الوقت الراهن.

 

ان جميع الحروب السابقة الحقت اضرارا كبيرة باقتصاد لبنان. لكن بعد كل حرب اوعدوان خارجي كان الاقتصاد اللبناني يستعيد عافيته وزخمه، محققا نموا ثابتا ودائما في ظل ظروف ملائمة في محيطه. لكنه  هذه المرة، ورغم الانفاق الضخم على بنيته التحتية، لم يستعد عافيته، بل غرق في الركود ووقع في فخ المديونية، وتدهورت مقومات اقتصاده الاساسية بشكل غير مسبوق، وبالتالي فليس للوحدة الوطنية ونسبيتها علاقة اساسية بالمأزق البنيوي للبنان حتى ترفع شعار الوحدة الوطنية كهدف اول تخضع له كل تناقضات المجتمع اللبناني، السياسية والاجتماعية والطبقية.

 

 

خامسا : ان فكرة تأبيد الكيان والنظام السياسي والاقتصادي والربط الوثيق بينهما بحيث يسقط الاول اذا سقط الثاني، وبالعكس،  وما ينتج عن هذا الربط من رفع شعارات شوفينية وعدائية... ان هذا الفكر الذي يلهب حماس البعض، قد مضى عليه الزمن، ومات مع انقضاء عصره ولن يعود الى الحياة.

 

ليس هناك في العالم كله نظام سياسي او اقتصادي مقدس، بل ان الكيانات والانظمة تتبدل وتتغير عبر العصور وعبر تطور وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج وتبادل السلع والخدمات عبر العالم. فكل ما  هو جامد و ثابت لا يتغير يتخطاه التاريخ، فينحسر ويسقط. 

 

الكيان كما النظام يجب ان يكون في خدمة الانسان، وليس العكس، والا وقعنا في الفاشية والاستبداد والغربة عن العالم. فالعالم يتغير، وكذلك الانظمة، مع متغيرات الداخل والمحيط والعالم. وفي عصر العولمة والتكتلات السياسية والاقتصادية العملاقة، ليس هناك مكان للكيانات الصغيرة والانظمة المنغلقة على ذاتها، وحتى للكيانات الكبيرة المتقوقعة.

 

مع العولمة الجارفة لكل دول العالم، تسلم الدول القومية الكبيرة منها والصغيرة اجزاء متنامية ومتزايدة من سيادتها الوطنية، على صعد الامن والاقتصاد والسياسات الاجتماعية، ومن استقلاليتها بالتالي، للتجمعات الاكبر والاوسع التي دخلتها بخيارها وللمؤسسات الدولية الجامعة.لم يعد هناك شأن داخلي بحت تقريبا لدولة في العالم، في هذا العالم المترابط اعلاميا واقتصاديا بل وثقافيا الى حد بعيد.

 

ان فكرة الوحدة العربية لم تسقط، بل اصبحت اكثر الحاحا، وربما اضيق مما يتطلبه هذا العصر؛ وبالتالي فمن الممكن تجاوزها الى وحدة الدول الاسلامية، التي تجمعها الى حد بعيد المصالح  الاقتصادية والهويات الثقافية المتقاربة بغض النظر عن تعدد الاديان والمذاهب والاثنيات.

 

وربما يتجه العالم كله نحو عولمة جامعة شاملة اكثر انسانية وعدالة ومساواة من العولمة المتوحشة التي تقودها اميركا في عصر الامبريالية الجديد.

 

سادسا: ان الدور الاقتصادي للكيان اللبناني والذي تبلور ابان عصر الكولونيالية الاوروبية، قد انتهى وسقط، ومحاولة استعادة هذا الدور ضمن متغيرات العالم والمحيط والداخل، قد باءت بالفشل الذريع، رغم كل الجهود التي بذلتها قيادة الطبقة الحاكمة الاكثر دينامية، أي الرئيس الحريري.

 

ان الدور الاقتصادي للكيان حدد سمة الطبقة البرجوازية الحاكمة وتركيبتها وارتباطاتها الخارجية كما حدد محتوى النظام الاحتكاري في سوق صغيرة لا تتسع كثيرا للمنافسة. وتزداد احتكارات هذه الطبقة وتتوسع مع اشتداد ازمتها وفقدان دورها الاقتصادي السابق في محيطها. كما يزداد خوف هذه الطبقة على مواقعها السلطوية مع انفضاض القوى الخارجية عن حمايتها ودعم احلامها السياسية، واتهام الدول والقوى الكولونيالية  السابقة خاصة بخيانتها وخيانة مبادئها، تلك المبادئ الكولونيالية التي تستمر بعض القوى المحلية في الدفاع عنها.

 

ان الحرب الاهلية المديدة في لبنان، وما انتجته من ديناميات سياسية ونضالية هزمت الغزوة الامبريالية الصهيونية وقوى الداخل المتحالفة معها، فرضت على الطبقة الحاكمة اللبنانية توجهات سياسية جديدة ليست من طبيعتها، بل وتتناقض مع ارتباطاتها السياسية والاقتصادية الخارجية.

        

ان عملية التغيير السياسي لم تستكمل بعد بشقها الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيد تحديد دور لبنان الاقتصادي في محيطه وتجاه الاكثرية الساحقة من بنيه، وذلك بناء للمتغيرات السابق ذكرها؛ ويعيد تحديد دور الدولة والسلطة على الصعيدين الاقتصادي والخدماتي التي يتطلبها قيام مجتمع عادل ومستقر.

 

ان هذه الازدواجية او هذا التناقض بين التوجهات السياسية الناتجة عن اعادة زرع لبنان في محيطه وتحمله التزامات انتمائه العربي، وبين نظامه السياسي والاقتصادي المناقض والتابع لعصر الكولونيالية، هذا التناقض لا بد من حسمه عبر تغيير النظامين السياسي والاقتصادي للكيان، والا فإما ان ترتد سياسة لبنان الخارجية الى توجهاتها السابقة وإما ان يسقط الكيان والنظام ببعديه السياسي والاقتصادي.

 

 

سابعا: ان الطبقة الحاكمة في لبنان ببنيتها التاريخية – السياسية الاستبدادية، وفكرها الاقتصادي الاحتكاري المنغلق والرافض للتحديث، وعلاقاتها الخارجية المركنتيلية التابعة للمركز الامبريالي تشكل العقبة الاساسية المانعة لتطور قوى الانتاج اللبناني في كافة القطاعات الخدماتية والسلعية، وتقود لبنان الى مأزق تاريخي هو في حقيقة الامر مأزقها الخاص. وخروج لبنان من مأزقه الشامل يمر بالضرورة في اسقاط هذه الطبقة الحاكمة من السلطة.

 

غالب أبو مصلح