المقاومة العربية بين النهج والضرورة
إن المقاومة الفلسطينية هي أنبل ظاهرة في التاريخ الحديث.
"جمال عبد الناصر"
لم أجد قولاً أبلغ، ولا وضعاً أصدق، ولا تعبيراً أكثر دلالة من هذه المقولة الخالدة لقائد تاريخي ولزعيم خالد، لأستهل مقالتي هذه بتلك القاعدة (المقاومة) التي قال فيها عبد الناصر أنها وجدت لتبقى.
فالمقاومة هي قانون تاريخي أزلي تولد من إرادة شعب في مواجهة العدوان والاحتلال, وهي حق الشعوب في الدفاع عن حقوقها, وتعد في ذات الوقت ظاهرة نضالية للدفاع عن الأوطان ومقاومة الاحتلال.
إن هذه القاعدة (المقاومة) قد شرعتها كافة الشرائع والقوانين, واعتبرتها حقا مشروعا لمواجهة الاحتلال واستعادة الحقوق, كما أن الشرعية الدولية أقرت هذا الحق وشرعته ضمن قرارات نافذة، وعليه فالمقاومة ليست رغبة بقدر ما هي ضرورة وطنية.
وللتدليل على ذلك وقبل الولوج في موضوعنا المحدد, لا بد من سياق عدد من الأمثلة للمقاومة كظاهرة في مقاومة الاحتلال. وهنا نأتي على ذكر المقاومة الفرنسية في تصديها للاحتلال النازي، وكذلك نشير إلى المقاومة السوفييتية في مواجهة الاحتلال الألماني النازي, ويمكن الإشارة إلى المقاومة الهندية ضد الاستعمار البريطاني, وإن أخذت أسلوب المقاومة السلمية أي غير العنفية, وكذلك نشير إلى المقاومة الوطنية المصرية إبان العدوان الثلاثي على مصر, وتحديدا المقاومة البطولية التي أبدتها مدينة بور سعيد. وكذلك المقاومة الفييتنامية البطلة في مواجهة الاستعمار الفرنسي والأمريكي، وكذلك لابد من الإشارة إلى مقاومة جنوب أفريقيا التي قوضت نظام الاباريتيد والتميز العنصري وحققت الحرية لشعب جنوب أفريقيا، والمقاومة الجزائرية للاستعمار... وهناك العديد من الأمثلة الحية في التاريخ القديم والحديث والذي لا يتسع المجال للحديث عنها في هذا المقال.
وعلينا أن نفرق ما بين المقاومة كظاهرة نضالية وطنية في مواجهة الاحتلال, والحقوق المشروعة التي كفلتها كل الشرائع, وقرارات الشرعية الدولية، من جهة، والإرهاب، من جهة ثانية، كظاهرة شائنة وطنيا واجتماعيا وتعد عملا من أعمال القرصنة واللصوصية وإشاعة الفوضى والرعب وتخريب النظام العام والسلم العالمي. وهي الظاهرة التي أدانتها كل القوانين والشرائع. وعلينا أن ننتبه إلى الخلط المتعمد والتزوير الفاضح وما تلجأ إليها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في وصف المقاومة واعتبارها أعمالا إرهابية. إن الإرهاب هو ما تمارسه إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في عدوانها على الشعوب, وهو إرهاب الدولة الذي يتخذ بقرار سياسي من أعلى سلطة سياسية في هاتين الدولتين.
إن العدوان على الشعوب لسلب خيراتها ونهب ثرواتها, وخلق حقائق جيو سياسية بحجة محاربة الإرهاب باتت ظاهرة مدونة, وأكذوبة مفضوحة لا تنطلي على أحد في هذا العالم.
إن المقاومة بالإضافة إلى كونها حق للشعوب هي في ذات الوقت واجب وطني تقتضيه المصلحة الوطنية للدفاع عن الأوطان ومقاومة المحتلين واسترداد الحقوق, ولكون المقاومة ظاهرة وطنية اجتماعية, فهي تتخذ لنفسها العديد من الأشكال والوسائل والآليات ارتباطا بالزمان والمكان والظروف المحيطة والإمكانيات المتوفرة, فهناك المقاومة العنيفة أي المقاومة المسلحة, وهذه لها عوامل ومقومات تستند إليها, وكذلك هناك المقاومة غير العنيفة أي المقاومة السلمية وهذه هي التي يمكن أن تشارك فيها غالبية فئات المجتمع وتتخذ أشكالا متعددة.
إن المقاومة المسلحة وغير المسلحة يجب ان تكملا بعضهما الأخر, ولا تلغي أي منهما الأخر ولكن قد يتقدم شكل على أخر ارتباطا بالظروف المحيطة والإمكانيات المتاحة واللحظة الحاسمة.
وارتباطا بهذا الحق التاريخي والأزلي والمشروع ولدت المقاومة الفلسطينية كظاهرة نضالية وطنية مستمدة مقوماتها من جذورها التاريخية التي بدأت مع بداية القرن المنصرم. ولقد استطاعت المقاومة الفلسطينية بما مثلته من تجسيد حي لإرادة الأمة العربية في استعادة حقوقها وتحرير أراضيها من الاحتلال من أن تشق طريقها النضالي بالرغم من كل الصعوبات ورغم الهزيمة القاسية التي حلت بالأمة العربية في حزيران 1967.
إن المقاومة الفلسطينية استطاعت من خلال فعلها النضالي, وعدالة قضيتها من أن تفرض نفسها على كل الصعد العربية والدولية, واستطاعت أن تدخل كل المحافل الدولية بقوة الحق وبعدالة القضية التي جسدتها هذه المقاومة.
ولأن صدى المقاومة الفلسطينية وفعلها البطولي وصل إلى كل أصقاع الأرض, ونقل القضية الفلسطينية نقلة نوعية غير مسبوقة, ولما مثلته المقاومة من نموذج يحتذى به في إحقاق الحق والدفاع عن المقدسات ولكنس الاحتلال لهذا السبب جاءت عبارة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر "إن المقاومة الفلسطينية أنبل ظاهرة في التاريخ الحديث". وألحقها عبد الناصر نفسه بعد ذلك بفعل المقاومة, عندما أطلق عمليات المقاومة في حرب الاستنزاف التي كبدت العدو الإسرائيلي خسائر فادحة, وبفضلها استطاع عبد الناصر أن يعيد بناء ما دمرته حرب 1967 على الصعيدين العسكري والنفسي لدى الجيش والشارع المصريين.
ولقد استطاعت المقاومة الفلسطينية أن تنتزع قرارا مؤيدا لممارسة الكفاح المسلح من الأمم المتحدة، أي أن المقاومة استمدت مشروعية نضالها من قرارات الأمم المتحدة عبر قرار يعطي الشعب الفلسطيني الحق في ممارسة الكفاح المسلح لتحرير وطنه. ولهذا لا يمكن القبول بإحلال مقولة الإرهاب محل المقاومة لأن الذي يقبل أن يحل الإرهاب كفعل لا أخلاقي شائن بدلاً من ظاهرة المقاومة عليه أن يقبل إحلال الاستعمار محل الشعوب التي تقاوم المحتل, وهذا لا يقبله ولن يقبله أحد إلا إسرائيل ومعها الإدارة الأمريكية وأعوانهما.
وارتباطاً بظاهرة المقاومة الفلسطينية التي شكلت رافعة للعمل الوطني والقومي حيث غدت المقاومة تتمتع بتأييد الجماهير العربية وأحزابها وقواها التقدمية, وفي هذه الأجواء وفي ظل هذا المناخ ولدت المقاومة الوطنية اللبنانية التي تكاملت مع المقاومة الفلسطينية, وشكلتا ظاهرة نضالية فكان لها أعظم الأثر في دحر الاحتلال عن لبنان. واستطاعت المقاومة اللبنانية الباسلة من أن تحقق أهدافها وتجبر المحتل الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني مقهوراً مهزوماً, بدون أي مفاوضات أو تقديم أي تنازلات. ولم يكن ممكناً تحقيق هذا الانتصار التاريخي بدون تلك العلاقة التكاملية الإيجابية بين المقاومة اللبنانية مع مؤسسة الحكم الرسمية في لبنان, إن هذا التنسيق والتكامل بين فعل المقاومة واحتضانها وتوفير الغطاء السياسي لها وإيجاد شبكة أمان لها من قبل المؤسسة الرسمية اللبنانية لهو مثال يحتذى في رسم العلاقة وتنسيقها بين المقاومة كظاهرة نضالية وطنية تلعب دورا هاما في خلق التوازن الاستراتيجي مع العدو. وهذه الحالة جسدتها المقاومة المصرية في حرب الاستنزاف (1967) وكيف مكنت المقاومة المصرية من بناء مصر لقواتها المسلحة.
إن المقاومة العراقية التي ولدت في ظل حالة من الانكسار العربي بعد احتلال أمريكا وحلفائها للعراق وما خلفته من تأثيرات نفسية سلبية على المواطن العربي, ما لبثت أن أعلنت عن نفسها كظاهرة وطنية في محاربة المحتل الأمريكي وأعوانه, وفرضت نفسها في المعادلة العراقية باعتبارها قضية شعب, ومن حق هذا الشعب أن يقاوم المحتل وأعوانه ولذلك فقد إلتفت حول المقاومة العراقية مختلف شرائح الشعب العراقي, وغدت المقاومة العراقية ظاهرة وطنية في مقاومة الاحتلال الأمريكي على مساحة العراق بأكمله. لقد أصبحت المقاومة العراقية، من خلال فعلها النضالي وإفشال المخطط الأمريكي المعد للمنطقة والعراق، تجسيدا حيا لإرادة الشعب العراقي وجماهير الأمة العربية، وقلبت حسابات المحتل الأمريكي رأسا على عقب وباتت رقما يصعب تجاوزه في المعادلة الأمريكية.
وعليه فإن للمقاومة حق على الدول العربية، ويتجسد هذا الحق في فتح الحدود أمام المقاومة, وتقديم كافة أشكال الدعم والإسناد لها, وإزاحة كل العوائق من أمامها. وفي الوقت ذاته يجب أن يترافق فعل المقاومة وعملها النضالي بخطاب سياسي يتكامل مع فعلها النضالي المشروع ويعزز من دورها, ويساعدها على النمو الذي تكون فيه المقاومة فعل مجتمعي ذات أهداف وطنية.
ولتحقيق هذه الأهداف ولكي تنجز المقاومة أهدافها
الوطنية المشروعة يجب العمل على:
1- أن تكون المقاومة هي الخيار الأكثر فاعلية لإجبار المحتل على الرحيل وتحرير
الأرض المحتلة واستعادة الحقوق.
2- على المقاومة باعتبارها تجسيدا حيا لإرادة الجماهير أن تضع برنامجاً ذا أبعاد
مجتمعية لمشاركة كل فئات الشعب في المقاومة.
3- فتح كافة الحدود العربية أمام المقاومة, وتقديم الدعم والإسناد لها, وإزالة كل
العوائق من أمامها وحمايتها سياسياً.
4- عدم إرسال أي قوات عربية إلى العراق تكون شريكة مع المحتل الأمريكي في قمع الشعب
العراقي ومقاومته الباسلة.
5- مطالبة المثقفين العرب بحماية المقاومة, والوقوف إلى جانبها, ودعمها بالكلمة
والقصيدة والمقال... الخ.
في مرحلة مقاومة الاحتلال لا بد من تحشيد كافة طاقات الجماهير بمختلف فئاتها وطبقاتها وعدم تركيز الجهد على التناقضات الثانوية أو السماح لها بالتقدم على التناقض الرئيسي مهما كانت المبررات والأسباب.
إن البرنامج السياسي الواضح يشكل ضمانة لاستمرار المقاومة وتحقيق أهداف الشعب.
كذلك فإن وجود الجبهة الوطنية المتحدة القائمة على أساس برنامج الحد الأدنى هو الكفيل في توحيد الجهود والطاقات على قاعدة وحدة الأداة, والخطة والهدف, وتحقيق النصر.
أبو أحمد فؤاد
عضو المكتب السياسي
للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين