فلسطين: مرحلة جديدة وآفاق غير واضحة
شهدت الساحة الفلسطينية الشهر الماضي سلسلة من التطورات التي أدخلتها حقبة يصعب التكهن بالآفاق التي تنطوي عليها. فما هي طبيعة هذه التطورات وما هي آفاقها المحتملة؟
أبرز هذه التطورات
أولاً، التمرد الذي نظمه محمد دحلان في مدينة غزة، والذي تقف وراءه إسرائيل والولايات المتحدة ومصر والأردن، وكان الهدف الرئيسي من وراء هذا التمرد إحداث تغيير في داخل السلطة لصالح الجناح اليميني الذي تسعى تلّ أبيب وواشنطن والقاهرة لأن يحلّ محلّ عرفات، ويقوم بضرب الانتفاضة والمقاومة، وقبول جميع التصورات الأمريكية الإسرائيلية حول طبيعة التسوية.
لكن هذا التمرد قد فشل لأن ما عجز عن تحقيقه أبو مازن وحكومته في الظروف النموذجية التي أعقبت احتلال العراق، لن تستطيع شراذم من المرتزقة العملاء تحقيقه في ظروف فشل الغزو الأمريكي للعراق، وفشل محاولات جيش الاحتلال الإسرائيلي القضاء على الانتفاضة والمقاومة. ولهذا ورغم ما حققته محاولة التمرد من تشويش على قرار محكمة العدل الدولية، واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المكرّسة لمتابعة تنفيذ القرار، إلا أنها فشلت في تحقيق هدفها المركزي وهو إطلاق آلية لإحداث تغيير داخل السلطة لحساب الجناح الذي يقوده دحلان ومَن يقفون وراءه ويدعمونه.
ثانياً، جاء هذا التمرد في توقيت لا يمكن عزلـه عن المحاولات التي بذلتها مصر وإسرائيل لترتيب صيغة محدّدة للحلول محلّ جيش الاحتلال في حال التزمت إسرائيل بتنفيذ خطة فكّ الارتباط الأحادي. فإسرائيل ومعها الولايات المتحدة ومصر والأردن يخشون جميعاً من أن انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وبعض مناطق الضفة الغربية يحوّل هذه المناطق إلى قواعد للمقاومة والانتفاضة تساعدها على تطوير نضال الشعب الفلسطيني ضدَّ الاحتلال. وإذا كانت إسرائيل ما تزال متردّدة في تنفيذ خطة الفصل، فإن هذا التردّد يعود إلى خوفها من أن تتحوّل المناطق التي ستجلو عنها إلى مناطق محرّرة تستخدمها المقاومة لتعزيز بنيتها الكفاحية وتوجيه المزيد من الضربات ضدَّ إسرائيل. ولهذا فإن إسرائيل حريصة على أن يترافق جلاؤها عن هذه المناطق مع ترتيبات توفر لها الأمن الذي لم تحصل عليه حتى عند تنفيذ اتفاقات أوسلو، ولهذا فهي تسعى لأن يتولى المسؤولية في قطاع غزة ومناطق من الضفة الغربية جناح في السلطة الفلسطينية برهن على ولائه لإسرائيل، على أن يكون هذا الجناح مدعوماً من مصر في قطاع غزة ومن الأردن في بعض مناطق الضفة الغربية، وعلى أن يكون هذا الدعم فعالاً ولا يقتصر على الدعم السياسي، بل يتعدّاه إلى الدعم الأمني والعسكري.
في هذا السياق جاءت الأزمة بين الأردن وعرفات وبين مصر وعرفات، حيث حاولت كل من القاهرة وعمّان توجيه الضغوط والتهديدات لعرفات لحمله على إحداث تغييرات تضع السلطة بكاملها بيد أنصار إسرائيل داخل السلطة، وبالتالي خلق الشروط الضرورية للسماح بانتشار أمني وحتى عسكري مصري أردني في قطاع غزة والضفة الغربية للحؤول دون تحوّل المناطق التي ستجلو عنها إسرائيل إلى قواعد انطلاق لدعم مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني من أجل تحرير الأرض المحتلة واستعادة كامل الحقوق المسلوبة.
ثالثاً، التمرد الذي قام به دحلان والضغوط التي مارستها كل من مصر والأردن لم ينجحا في تحقيق الأهداف التي سعوا إلى تحقيقها، وبالتحديد إحداث انقلاب داخل السلطة لصالح خط دحلان، بل إن الإصلاحات التي أقرّت في ضوء هذه الأزمة، وهي على كل حال إصلاحات محدودة ذهبت باتجاه تحقيق ما يطالب به الجناح الوطني داخل حركة فتح وداخل السلطة الفلسطينية، بعد أن تم تعيين قدورة موسى محافظاً لجنين، وهذا الأخير عُرفَ عنه دعمه لخيار المقاومة ومناهضته لخيار الاستسلام داخل فتح وداخل السلطة الفلسطينية، كما أن كتائب الأقصى التي جرت محاولة استخدام اسمها ومطالبها العادلة في التمرد نأت بنفسها عن تحرك دحلان، وأصرّت على تطبيق القوانين بحرفيّتها ومكافحة الفساد. وبديهي أن تنفيذ كل ذلك لا يمسّ فقط بأنصار ياسر عرفات، بل وأيضاً بأنصار محمد دحلان ومَن يؤيّد خطه، لأن هؤلاء منخرطون في أعمال الفساد ومخالفة القوانين، والتعامل مع قوات الاحتلال على نحو أوسع وأوضح من الرموز المحسوبة على ياسر عرفات. وبهذا المعنى انتهت الأزمة التي أثارها تمرد دحلان إلى الفشل، بعد أن عجزت عن تحقيق أي هدف من الأهداف التي أطلق التمرد من أجلها، بل تبيّن للذين يقفون وراء التمرد أن لعب هذه الورقة ربما ينعكس سلباً على السلطة بكامل أجنحتها لصالح التيار الوطني المقاوم داخل فتح وداخل الساحة الفلسطينية.
رابعاً، عندما أيقنت الدول والقوى التي تقف وراء تمرد دحلان بفشل محاولاتها لجأت إلى أسلوب جديد، وهو الحوار مع فصائل المقاومة، وفي هذا السياق تأتي اللقاءات التي دشّنتها زيارة وفد من حماس برئاسة خالد مشعل إلى القاهرة بدعوة من السلطات المصرية، في محاولة لاستكشاف إمكانية الاتفاق على ترتيبات تحقق المطالب الإسرائيلية، فيما إذا انسحبت إسرائيل من قطاع غزة، ومعرفة مدى استعداد فصائل المقاومة للموافقة على أمرين أساسيين:
الأمر الأول، وقف كل أشكال المقاومة من قطاع غزة، وعدم توفير أي دعم وعلى أي نحو كان للفلسطينيين في المناطق التي لا تزال تخضع لسيطرة الاحتلال، سواءً في القطاع أو في الضفة الغربية.
الأمر الثاني، مدى موافقة فصائل المقاومة على انتشار قوات أمنية وربما عسكرية مصرية في قطاع غزة للحفاظ على الأمن والاستقرار هناك، وقمع كل مَن يحاول أن يحوّل القطاع إلى قاعدة للعمليات ضدَّ إسرائيل، أي السعي لتحقيق ما عجز عن تحقيقه الجيش الإسرائيلي منذ عام 1967 حتى الآن، وهو الأمر الذي دفع إسرائيل للتفكير بالانسحاب الأحادي.
وتأتي هذه المحادثات التي تجري في القاهرة بين المسؤولين المصريين وفصائل المقاومة، وخاصةً التي لا تشارك في السلطة، للتعويض عن الفشل في الاستيلاء على كامل السلطة بعد أن وصل تمرد دحلان إلى طريق مسدود، وانقلب السحر على الساحر في ضوء المكاسب الجزئية التي حصل عليها التيار الوطني داخل حركة فتح في إطار التسوية التي أعقبت هذا التمرد.
خامساً، جاءت كل هذه التطورات على خلفية تعمق الأزمة السياسية في إسرائيل، سواءً الأزمة داخل الحكومة، أو الأزمة التي تعصف بحزب ليكود، وهو أكبر الأحزاب في إسرائيل. وتدور هذه الأزمة حول قضايا أساسية كثيرة مرتبطة بالصراع بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل، ففي حين يريد شارون تنفيذ الانسحاب الأحادي مدعوماً بقيادة الجيش والأجهزة الأمنية التي باتت مرهقة في ضوء الصراع المستمر منذ عشرات السنين، وفي ضوء عجزها عن القضاء على الانتفاضة والمقاومة، ترفض الأحزاب اليمينية وجناح كبير في ليكود هذا الخيار، ويصرّون أولاً على رفض أي خيار للتسوية، كما يصرّون ثانياً على الاحتفاظ بكامل الأرض المحتلة غير آبهين بالخسائر التي يُمنى بها جيش الاحتلال والاستنزاف الاقتصادي والبشري المترتب على هذه المواجهة المرشحة للتصاعُد بصورة دائمة ما بقي الاحتلال.
والأزمة القائمة في إسرائيل التي تعطّل إمكانية السّير في خيار التسوية أو خيار فكّ الارتباط الأحادي، تزيد البلبلة في الساحة الفلسطينية، وتخلق مناخاً ملائماً للقوى التي تنادي بمواصلة المقاومة أكثر ما تخدم الداعين إلى التسوية. ولهذا لم يجد التمرد الذي قاده دحلان، ولا الدعوات المصرية والأردنية، لدعمه أية آذان صاغية لدى غالبية الفلسطينيين.
آفاق المستقبل
في ظلّ هذا الوضع العام، حيث لا وضوح للخيارات الكبرى، وحيث مسيرة التسوية معطلة، وحركة المقاومة محاصَرَة بضغوط السلطة ومصر والأردن، فإن الصراع العربي الإسرائيلي على الجبهة الفلسطينية دخل مرحلة شديدة البلبلة والتعقيد، ومن الصعب التكهن بآفاق المستقبل. ولكن من السهل الاتفاق على ثلاث خلاصات:
الخلاصة الأولى، لقد فشلت كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية وفرض الحلول على الشعب الفلسطيني، كما فشلت كل محاولات استيلاد سلطة موالية للاحتلال والدول العربية الداعمة لخيار التصفية.
الخلاصة الثانية، أن الانتفاضة والمقاومة رغم الصعوبات التي واجهتها، ورغم تراجع وتيرتها، إلا أنها أثبتت أنها عصيّة على التصفية، وأكّدت قانوناً عاماً كان ملازماً لكل حركات التحرر من الاستعمار: طالما أن هناك احتلالاً سوف تستمر المقاومة، وإن تغيّرت أشكالها تبعاً لموازين القوى والمعادلات التي تتأثر بالظروف الدولية والإقليمية.
الخلاصة الثالثة، أي قيادة فلسطينية مهما بلغ شأنها غير مخوّلة بالبتّ بمصير الشعب الفلسطيني، إذا لم تكن قادرة على انتزاع حقوقه كاملة، ولقد ولّى العصر الذي تستطيع فيه الدول العربية فرض إملاءاتها على الشعب الفلسطيني، حتى وإن وجدت بعض القيادات المستعدّة لذلك. فالشعب الفلسطيني أخذ مصيره بيده، وقد ساعدته على ذلك إسرائيل عندما قامت باحتلال كامل الأرض الفلسطينية، وبالتالي لن يسمح لأي دولة أو حكومة عربية تقرير مصيره بالنيابة عنه. وبهذا المعنى فإن المحاولات المصرية والأردنية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة فرض الوصاية المصرية على قطاع غزة، والأردنية على الضفة الغربية، أسوةً بما كان عليه الوضع بعد عام 1948، ستبوء بالفشل، ولن يقبل الشعب الفلسطيني الذي قدّم كل هذه التضحيات بتسليم مصيره إلى حكومات أضاعت أرضه، وفشلت في حمايته.