إستراتيجية الإمبريالية الفرنسية والقرار 1559

جوزف عبدالله

 

 

ننطلق في فهمنا لموقف الإدارة الفرنسية وحركتها الدبلوماسية في محاولة محاصرة سورية ولبنان والضغط عليهما عبر قرار مجلس الأمن 1559، وبالتنسيق مع الإدارة الأميركية، من مبدأ اعتبار أن السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد، ومن اعتبار أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى (كلاوزفيتز). كما ننطلق من اعتبار أن الدبلوماسية الفرنسية إنما تعبر عن حاجات وطموحات الرأسمالية الفرنسية وهي بطبيعة الحال رأسمالية إمبريالية تسعى إلى تأمين مصالحها (أسواقها وموادها الأولية، مصادر ربحها ومراكمته) عبر سياسة فرنسية داخلية صفتها الشائعة أنها ليبرالية جديدة، وعبر سياسة خارجية جوهرها الاستعمار الجديد سواء تم ذلك بالأساليب الاقتصادية السلمية (الشراكة الأورومتوسطية واتفاقيات التبادل الحر مع البلدان مجتمعة أو منفردة)، أو بأساليب الاستعمار القديم والتقليدي، الغزو والفتح والحروب والمؤامرات... ونقصد بعبارة إمبريالية هنا توصيفاً للرأسمالية الفرنسية على اعتبار "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" (لينين).

 

ومن هنا يجب أن ننطلق بالضرورة من فهم إستراتيجية الإمبريالية (الرأسمالية) الفرنسية لتفسير التناقض الفرنسي الأميركي حول غزو العراق وتداعياته المحلية والعالمية وتفسير التحول في الموقف الفرنسي من الممانعة بوجه الولايات المتحدة إلى المسايرة وصولاً إلى مشاركة الإدارة الأميركية في "قانون محاسبة سورية" وإخراجه بوجه أممي عبر قرار مجلس الأمن 1559... فما هي هذه الإستراتيجية؟

 

تندرج الإمبريالية الفرنسية في سياق التطور العام للإمبريالية العالمية في عصر الشركات العملاقة المتعددة الجنسية، عصر العولمة الرأسمالية النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة)، وذلك في إطار صياغة "النظام العالمي الجديد" الذي بدأ صيرورته مع انهيار جدار برلين وسقوط الكتلة السوفييتية، هذا النظام العالمي الذي تهيمن (لحد الآن) عليه إمبريالية الولايات المتحدة بوصفها القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم.

 

إن محاولة فهم موقع ودور الإمبريالية الفرنسية، وبالتالي إستراتيجيتها، في الظروف العالمية الراهنة يستلزم تعيين وضع هذه الإمبريالية بالنسبة لمجالات ثلاثة. أولاً، بالنسبة للإمبريالية الألمانية، في إطار عملية بناء وحدة أوروبا الرأسمالية على قاعدة اتفاقية ماستريخت (قيام الاتحاد الأوروبي، بعملته الموحدة اليورو). ثانياً، بالنسبة للإمبريالية الأميركية ولسياسة المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) التي تهيمن عليها الإمبريالية الأميركية، وذلك في سياق محاولة بناء "النظام العالمي الجديد" الذي تسعى إمبريالية الولايات المتحدة إلى الهيمنة عليه. ثالثاً، بالنسبة لهذا "النظام العالمي الجديد" الذي يرغب مهندسوه الإمبرياليون بجعله إخضاعاً للعالم الثالث إلى سيطرة الأسواق المالية العالمية وترسيخ القدرة الجماعية للقوى الإمبريالية العظمى باستعمارها، استعماراً جديداً، لمجمل بلدان العالم الثالث.

 

مرحلة جديدة في التمركز الرأسمالي

نشأت الإمبريالية الفرنسية، شأنها في نشأتها شأن شتى الإمبرياليات الأخرى الأميركية وسواها، على قاعدة التمركز الرأسمالي المتزايد للرأسمال الصناعي والمالي بين أيدي عدد من المجمعات المالية المتناقصة باستمرار. بدأ هذا التمركز مع نشوء الجماعة الاقتصادية الأوروبية، وفق معاهدة روما (1957). افترض هذا النشوء بالمجموعات الرأسمالية الفرنسية أن تعد نفسها لتكون قادرة على مواجهة منافسيها الأوروبيين في الأفق المفتوح لبناء السوق الأوروبية المشتركة.

 

ومنذ ذلك الحين، وفي الستينيات، دخلت كثرة من الشركات الفرنسية في عقود في ما بينها مكنتها من عقلنة وتحسين طرق إنتاجها وزيادة إنتاجيتها. ولم يمضِ عقد من الزمن حتى حصل أكثر من ألفي حالة اندماج بين كبرى المؤسسات والمجموعات المالية ما أدى إلى نشوء شركات رأسمالية فرنسية صارت في طليعة الشركات الموجودة في أوروبا. من هذه الشركات الناشئة من حالات الاندماج نذكر على سبيل المثال: سان غوبان- بونتاموسون، بشيني- أوجين كولمان، فندل- سيدلورت مارين فيرميني، بي إس إن- جيرفي دانون، أمبين شنايدر، ملليه- نوفليز شلومبرغر، تومسون براند- سي إس إف... وكذلك ترسيخ المجموعتين الماليتين سويز وباريبا.

 

وفي نفس الوقت، فإن نمو منطقة للتوسع الاقتصادي في واحدة من أكثر مناطق العالم تصنيعاً شجع تمركز الاحتكارات الأوروبية البينية، وحوّل بنية كل الصناعة الثقيلة في أوروبا الغربية. ونشأت صلات وثيقة بين احتكارات كل من البلدان المعنية، هذه الاحتكارات التي توسعت إلى باقي بلدان السوق الأوروبية المشتركة. وهكذا نشأت مجمعات اقتصادية متعددة الجنسية، خاصة في المجال المصرفي حيث تشكلت شبكات من الاتفاقات أو المشاركات التي ربطت بين مجموعة من المصارف، مع بروز اتحادات متزامنة أو متتابعة بين مصارف من قوميات أوروبية مختلفة. ففي السبعينيات نشأت روابط وثيقة بين عدة مجموعات، مثل الشركة المالية لباريس والبلدان المنخفضة ومجموعة مصرفية ألمانية وأخرى بريطانية، أو أيضاً بين كريدي ليونيه وبانكو دي روما ولُويدز بنك البريطاني.

 

وعليه، يمكن الكلام بالتأكيد على أممية رأسمالية، أو على تداخل متعدد الجنسية للرساميل الفرنسية وغيرها من الرساميل الأوروبية في شركات عملاقة، دون أن يلغي ذلك الروابط القومية المؤسِسَة لهذه الرأسمالية الإمبريالية المتنافسة.

وفي إطار هذا التطور يجب النظر إلى خصائص الإمبريالية الفرنسية وإستراتيجيتها إزاء الإمبرياليات الأخرى المنافسة لها، وكذلك النظر إلى الدور الطليعي الذي استمرت الإمبريالية الفرنسية تلعبه في نهب واستغلال شعوب بلدان العالم الثالث وفي القمع الحاد للنضالات التحررية والثورية.

 

برنامج "ستار 21"، SRAR 21

أو التناقضات الإمبريالية البينية

دخل بناء الاتحاد الأوروبي مع مطلع القرن الواحد والعشرين مرحلة حرجة ودقيقة لجهة علاقاته مع الولايات المتحدة. فالتناقضات مع الأخ الأميركي الكبير تدفع ببعض دول الاتحاد إلى تسريع الخطى وتعميقها في وجهة من شأنها تسعير الصراعات الإمبريالية البينية بين حلفاء الأمس في الحرب الباردة بقيادة الولايات المتحدة. ففي القمة الأوروبية في آذار من العام 2000، في العاصمة البرتغالية ليشبونة، تم استخلاص برنامج إستراتيجي طموح يجعل من أوروبا في العام 2010 نداً يبزّ الولايات المتحدة في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

 

ولعل مشروع "ستار 21" أفضل ما يعبر عن ارتسام آفاق تعميق التناقضات الإمبريالية البينية، خاصة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ما هو مشروع "ستار 21"؟ ومن وضعه؟ "ستار 21" هو مختصر الحروف الأولى بالإنكليزية "لتحليل استراتيجي للصناعة الفضائية في القرن الواحد والعشرين" Strategic Aerospace Review for the 21st Century. ولقد وضع هذا المشروع، بشكل مشترك، مجموعة من المديرين العامين لست أكبر شركات أوروبية في مجال الصناعات الفضائية والاتصالات، مع خمسة من المفوضين الأوروبيين ( البحث، التجارة، النقل، العلاقات الخارجية، المعلوماتية) بالإضافة إلى خافيير سولانا، الأمين العام السابق لحلف الأطلسي والمسؤول الأول عن السياسة الخارجية والأمن المشترك في الاتحاد الأوروبي.

 

جوهر هذا المشروع يقوم عل جعل أوروبا قاعدة للاقتصاد المعرفي تنافسية ودينامية، من خلال تعزيز وتطوير شركاتها العملاقة لتصبح قادرة على تجاوز الاقتصاد الأميركي بالتحديد، وعلى اعتبار أن النجاح في منافسة هذا الاقتصاد هو الهدف الأساسي للاتحاد الأوروبي. ويؤكد المشروع أن هذه المنافسة المعرفية الاقتصادية تتحول إلى منافسة سياسية، خاصة متى انطلق التحليل من مجال المنافسة للسيطرة على الفضاء. وفي هذا السياق طرح المشروع ضرورة تطوير نظام غاليليو Galileo الأوروبي بوجه نظام جي بي إس GPS الأميركي، في مجال الأقمار الاصطناعية والمراقبة الفضائية. إن نظام المراقبة الفضائية ومحطات الأقمار الاصطناعية يتعدى مجرد المنافسة الاقتصادية إلى: جمع المعلومات والبحث العلمي ومعرفة الأرض ومساعدة التنمية والعمليات العسكرية...

 

ويستخلص المشروع أن محافظة أوروبا على تنمية قدراتها الاقتصادية واستقلالها السياسي عن الولايات المتحدة يستلزم تنمية قدرتها الصناعية والتقنية، خاصة في مجال الفضاء. وهذا يستلزم بدوره، طبقاً لمشروع "ستار 21"، تعزيز القدرات الأوروبية الأمنية والدفاعية، ما يصب في سياق التوسع العسكري: "إذا شاءت أوروبا أن تكون على مصداقية في سياستها الخارجية وفي الأمن فإن ذلك يستلزم قدرات دفاعية أوروبية مناسبة"، ومن ذلك تأمين الأقمار الاصطناعية الأوروبية للاستخدام العسكري لتستقل عن الولايات المتحدة في أعمالها العسكرية.

 

ولكن ثمة انقسام داخل أوروبا حول هذا المشروع الطموح، بين معسكرين. الأول تقوده بريطانيا، ويرى مصلحة أوروبا في البقاء تحت راية الولايات المتحدة، وبذلك يمكن التأثير على سياساتها وضبطها. والثاني تقوده فرنسا وألمانيا وبلجيكا، يطرح التحرر من الولايات المتحدة والدخول معها في منافسة على كل المستويات.

 

بالطبع لا تزال الولايات المتحدة المهيمن عالمياً، وليس من السهل على الطموحات الإمبريالية الأوروبية تجاوزها في الظرف الراهن، ولكن ذلك لا يخفي حقيقة التناقضات الإمبريالية البينية في أكثر من مناسبة ومجال.

 

التنافس الإمبريالي البيني على الأسواق

مناطق التبادل الحر

تنخرط الإمبرياليات في صراع على اقتسام العالم نرى ترجمته السلمية بالسباق إلى توقيع اتفاقيات التبادل الحر، لأن كل اتفاقية يعقدها هذا الطرف الإمبريالي تفتح أمامه آفاقاً وتقفلها، أو تضعفها على الأقل، أمام خصمه. هذا ما حصل مثلاً مع توقيع اتفاقية التبادل الحر في أميركا الشمالية بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك (نافتا، ألكا) حيث تدنت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى المكسيك من 17 بالمئة عام 1994 إلى 9 بالمئة عام 1999.

 

هذا التنافس يشمل بالطبع الوطن العربي. ففي تقرير حول مستقبل الشراكة الأورومتوسطية وضعه جان كلود غيبال Jean-Claude Guibal في 16 كانون الأول 2003، يقول: "للولايات المتحدة رؤية خاصة حول المتوسط... تخدم إستراتيجية هدفها استبعاد كل منافس جدي لها في المنطقة... وهي تعتبر الشراكة الأورومتوسطية منافسة لهيمنتها سواء على الأوروبيين أو على البلدان العربية... ولهذا لم تتردد واشنطن عن طرح مشاريع منافسة"، مثل منطقة التجارة الحرة الأميركية الشرق أوسطية، وقبلها المغرب الثلاثي (المغرب والجزائر وتونس) ليدخل في شراكة مع "نافتا".

 

وفضلاً عن الهجوم الأميركي لغزو الأسواق سلمياً، حتى أسواق حلفائها الإمبرياليين التاريخيين، فإنها تشن هجومها للحصول على الأسواق بالقوة، في بلدان العالم الثالث، تحت ذرائع وحجج تتنوع من التدخل الإنساني إلى حقوق الإنسان والأقليات إلى مواجهة الدول المارقة وصولاً إلى الحرب المستمرة على الإرهاب والحرب الإستباقية. وهي بحروبها هذه تتجاوز المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتجبر حلفائها الإمبرياليين على السير بركابها والقبول بفتات ما تقدمه لهم، هذا إذا حصلت منهم على شيء من الشرعية لعدوانها، وإلاَ فليس لهم سوى ما قالته غوندوليزا رايس بعد غزو العراق، في الثالث من نيسان 2003: "لسنا مستعدين لنتقاسم مع الآخرين ما حررناه بدمائنا".

 

الإمبريالية الفرنسية في أوروبا

إن العلاقات الفرنسية الألمانية تشكل المحور الأساسي الذي ينعقد حوله بناء الاتحاد الأوروبي كوحدة عظمى فاعلة على المستوى الكوني، لا سيما في التناقضات الإمبريالية البينية على مستوى النظام العالمي الجديد، وهذا ما وصفته إدارة بوش بعبارة "أوروبا القديمة". إن العلاقات بين الإمبريالية الفرنسية والإمبريالية الألمانية معقدة وتناقضيه، وذلك خاصة استناداً للخصوصيات الناشئة عن نتائج الحرب العالمية الثانية. ولكل من الإمبرياليتين نقاط ضعفها وقوتها إزاء الأخرى.

 

فعلى الصعيد الاقتصادي، الاقتصاد الفرنسي أقل كفاءة من نظيره الألماني. والعلاقات التجارية بين البلدين تكشف عجز فرنسا الشديد مقابل ألمانيا، وقد بلغ هذا العجز بين العام 1970 والعام 1996 حوالي 450 مليار فرنك فرنسي. ولقد كان الفرنك الفرنسي على الدوام أضعف من المارك الألماني الذي استمر العملة الأوروبية الأقوى حتى اعتماد اليورو كعملة موحدة.

 

ولكن للإمبريالية الفرنسية بالمقابل مزاياها الناجمة عن أنها كانت في صفوف المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، مع احتفاظها بعلاقات اقتصادية متينة مع مستعمراتها السابقة، وتمتعها بقوة تدخل عسكري غير متوفرة للرأسمالية الألمانية، منها امتلاك السلاح النووي. كما أنها على صعيد تصدير الرساميل، وهو الميزة الأساسية للإمبريالية عامة، المستثمر الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة. ولهذا وجدت الإمبرياليتان، الفرنسية والألمانية، ضرورة في سعيهما إلى التكامل بدل التنافس. وعليه فإن الاحتكارات في البلدين هي على مصلحة مشتركة في التوحيد الاقتصادي والسياسي لأوروبا، بغية تأمين أمرين.

الأول، تعزيز الاستغلال الرأسمالي في كل بلد منهما، وفي أوروبا، عبر تشديد المنافسة بين العمال، وتوحيد التخفيض في سياسات الحماية الاجتماعية، وعقلنة الاقتصاد، أي اللجوء إلى الليبرالية الجديدة.

الثاني، ترتيب موقعهما المشترك، في إطار المنافسة العالمية بين الإمبرياليات، داخل أوروبا وفي العالم أجمع، وخلق قطب رأسمالي كبير قادر على الصمود بوجه هيمنة الإمبريالية الأميركية (خاصة أميركا الشمالية)، وكذلك بوجه القطب الناشئ في الشرق الأقصى، وخاصة اليابان.

 

وفي هذا السياق تتجلى إستراتيجية الإمبريالية الفرنسية، مثلاً، في حقيقة أن لها مصلحة بربط الفرنك الفرنسي بالمارك الألماني، تبعاً للقرار المتخذ في فرنسا في العام 1983. يشكل هذا الربط رافعة هامة لتوفير الريع المالي للإمبريالية الفرنسية، وذلك أن الفرنك الفرنسي، بحكم الدونية النسبية للاقتصاد الفرنسي إزاء الاقتصاد الألماني، وعبر هذا الربط، كان يمتاز دوماً بقيمة تبادلية أكبر من قيمته الحقيقية. كما أن هدف العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، ذهب في نفس الاتجاه. فهو مطابق للمصالح المشتركة للمجموعات الاحتكارية الأوروبية، والفرنسية والألمانية على حد سواء، لأنه يشكل عنصر تسوية للسوق الأوروبية الواسعة، ويعزز من استغلال عمال كل أوروبا الموضوعين في سياق منافسة شاملة في الإطار النقدي الموحد، فضلاً عن أن اليورو يشكل عملة قوية قادرة على أن تكون عملة مبادلة عالمية إزاء الدولار الأميركي والين الياباني. يهدف اليورو إلى توفير سلاح نقدي جديد بيد الشركات المتعددة الجنسية المتموضعة في أوروبا، وسياق الحرب على الأسواق.

 

وفي الوضع الراهن للأمور، فإن الاحتكارات الاقتصادية والمالية في فرنسا وألمانيا تشكل النواة الصلبة لبناء أوروبا موحدة وأكثر اتساعاً تميل إلى تشكيل نوع من دولة عظمى عملاقة وإمبريالية، وحيث كل فرع مهيمن من هذه الاحتكارات يقدم نفسه على قاعدة أواليات هيمنته التاريخية.

 

وهكذا، باسم القدرة الأوروبية الصاعدة تنخرط الإمبريالية الفرنسية في أمكنة باتت موضع مواجهة بين الإمبرياليات. من هذه الأمكنة المشرق العربي، والشرق الأوسط، ما تعتبره الولايات المتحدة موضع تصرفها المطلق، في حين عادت إليه الإمبريالية الفرنسية باسم الدعوة إلى الدور الأوروبي المطلوب لتسوية نزاعاته المزمنة.

 

السياسة العسكرية للإمبريالية الفرنسية

تلعب فرنسا الدور المركزي في سياسة التوحيد العسكري لكل أوروبا. فهي تقدم نفسها بوصفها القوة الأساسية في حلف الأطلسي، وبوصفها القوة العسكرية الأكبر في أوروبا الغربية، والشريك الأساسي للولايات المتحدة بمواجهة وبريطانيا، وذلك لتأمين مشاركة فعالة، ومن الدرجة الأولى، في بناء "النظام العالمي الجديد". هذا هو معنى التجارب النووية التي قامت بها حكومة شيراك-جوبيه، برضى حكومة ألمانيا.

 

هذا التكامل العسكري الأوروبي الذي تقوده فرنسا يهدف إلى خلق وضع يمكنها، ومعها كل أوروبا الموحدة، أن تلعب داخل حلف الأطلسي دور الند للند مع الولايات المتحدة التي تنسب لنفسها حق الاحتفاظ بدور المشرف والمراقب العام على جميع الأعمال العسكرية التي يمكن للحكومات الأوروبية القيام بها من تلقاء ذاتها. ولقد أكدت الحكومة الفرنسية أن قوة التدخل العسكرية الأوروبية ستنشأ "لتتصرف بطريقة مستقلة أو بالتنسيق مع قوات الولايات المتحدة في إطار حلف الأطلسي". وثمة مفاوضات  مكثفة ومستمرة تجري حول طبيعة العلاقات العسكرية بين حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، بهدف أن تكون بنيات هذا الحلف قابلة لاستخدام مزدوج في عمليات تتقرر داخله أو داخل الاتحاد الأوروبي.

 

 وغني عن البيان أن الهيمنة الأميركية في المجال العسكري وداخل الحلف هي بلا منازع حتى الآن. ولكن ميزان القوى ليس ثابتاً بالضرورة، ومن هنا التناقض والصراع السلمي حتى الآن على هذا الأمر. ولقد سعت الإمبريالية الفرنسية، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، إلى تشكيل قوة عسكرية محترفة تكون قادرة، منذ مطلع الألفية الأخيرة، على إرسال 60 ألف جندي خارج حدود أوروبا، لتشكل قوة تدخل سريع في أي مكان من العالم. وهناك قوة عسكرية فرنسية محترفة للعمل في ظروف الحرب الأهلية، وذلك للمرة الأولى في التاريخ الفرنسي. وهذه القوة لا يمكن تبريرها تحت عنوان "الدفاع الوطني" لإخفاء أغراضها الاستعمارية. مع العلم أن هذا التدخل لن يقتصر مجاله على خارج أوروبا، بل سيشمل بالذات الأمكنة الأوروبية التي تتعرض فيها الليبرالية الجديد لأي تهديد جدي.

 

موقع الإمبريالية الفرنسية

إن العلاقات الإمبريالية البينية، في الظروف الراهنة لعولمة الرأسمال ولسيطرة الشركات العملاقة المتعددة الجنسية ونهبها المشترك لمصادر وثروات العالم الثالث تتخذ منحيين: منحى التعاون والاندماج، من جهة، ومنحى المنافسة الحادة في إطار حرب اقتصادية حقيقية، من جهة أخرى. ولهذا يجب علينا بذل الجهد لتعيين المنحى المهيمن في كل حالة من الحالات موضع الدرس والتحليل.

 

تحتل الإمبريالية الفرنسية، من حيث قدرتها الاقتصادية، المرتبة الثالثة في العالم خلف الولايات المتحدة وألمانيا. وإذا انطلقنا من الناتج الوطني الخام وحصة الفرد منه فإن فرنسا تأتي، في أوروبا، مباشرة بعد ألمانيا وقبل إيطاليا وبريطانيا. إن التمركز الرأسمالي الفرنسي، تبعاً لسياقه في العقود الثلاثة الأخيرة، يجعلنا نلاحظ أن جوهر النظام الرأسمالي الفرنسي يتمحور حول قطبين ماليين أساسيين يستقطبان الرساميل. يتكون الأول من (UAP) وبنك ناسيونال دي باري BNP وسويز Suez وإلف Elf ولييونيز ديزو Lyonnaise des Eaux. ويتكون الثاني من سوسييتيه جنرال Société Générale و(AGF) وباريبا Paribas وألكاتيل- ألستوم Alcatel-Alsthom وجنرال ديزو Générale des Eaux، مع الإشارة إلى أن هذه الشركة الأخيرة تستثمر في مجال الاتصالات أيضاً. يجب التذكير أنه ثمة قطب لتجمع الرساميل هو في طريقه إلى التكون على المستوى الأوروبي في مجال الاتصالات، ويضم فرانس تليكوم (في طريقها إلى الخصخصة) ودوتش تليكوم الألمانية والمجموعة الأميركية سبرينت (Sprint) وشركة أوليفيتي الإيطالية.

 

إن الإمبريالية الفرنسية المندرجة في الإمبريالية العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة تبذل الجهد باستمرار لتحافظ على موقع في الصفوف الأولى لهرمية الدول التي تساهم في بناء هذا النظام العالمي. وهي تحاول تطوير قدرتها الخاصة على التأثير والتدخل في العالم أجمع، مع احتفاظها بالموقع الذي تتيحه لها القوى الإمبريالية العظمى بإشراف الولايات المتحدة. وهذا ما يمكننا ملاحظته في السياسة الخاصة التي تعتمدها الإمبريالية الفرنسية في الشرق الأوسط، هذه المنطقة البالغة الأهمية بموقعها الإستراتيجي.

 

لقد أبرمت الحكومة الفرنسية في 20 كانون الأول عقوداً عسكرية كبيرة مع الإمارات العربية المتحدة تتعهد فيها بإرسال 70 ألف جندي ومئات الطائرات والمروحيات العسكرية إذا ما تعرضت الإمارات إلى التهديد. وتشتمل هذه العقود على إجراءات سرية يتم اللجوء إليها في حالات "التهديد الداخلي"، وعلى إقامة فرع للمخابرات الفرنسية (DGSE) في أبو ظبي. وبالمقابل فإن الإمارات العربية المتحدة هي زبون كبير للصناعة العسكرية الفرنسية المطلوب منها توفير عتاد عسكري تبلغ قيمته، حتى العام 1994، 21 مليار فرنك فرنسي. وعلى العموم ثمة أكثر من 10 آلاف جندي فرنسي يشاركون في عمليات "حفظ" السلام في العالم. ولقد شارك الجنود الفرنسيون فعلياً في حرب الخليج الثانية على العراق، كما شارك الجيش الفرنسي في التدخل العسكري المخجل في الصومال باسم "التدخل الإنساني"، كما شارك في تفتيت يوغوسلافيا حيث يرابط هناك منذ 1992 حوالي 4800 جندي فرنسي. هذا إذا صرفنا النظر عن الدور العسكري الذي تلعبه الإمبريالية الفرنسية في إفريقيا، وهو مجال تتجاوز فيه باقي الإمبرياليات.

 

إن تجارة الأسلحة من أهم القطاعات الاقتصادية في فرنسا وتلعب دوراً كبيراً في المحافظة على ميزانها التجاري، وهي مدعومة من الدولة الفرنسية. ولفرنسا تقليد عريق في تجارة السلاح، بحيث يمكن الكلام عن وجود مجمع فعلي للصناعة العسكرية الفرنسية، نتبين أهميته مما تحققه مجموعة مثل داسو ولاغاردير DASSAULT et LAGARDERE.

 

الإمبريالية الفرنسية ولبنان والمشرق العربي

إن المواقف المتميزة للحكومة الفرنسية من العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1996 تعود إلى نفس السياسة (إذا صرفنا النظر عن دور المقاومة الوطنية اللبنانية ودور سوريا في استقدام الفاعلية الفرنسية). فلطالما اعتبرت الإمبريالية الفرنسية لبنان كنقطة ارتكاز لمصالحها الخاصة في المنطقة. ولقد سبق لها وأرسلت 500 جندي إلى لبنان في آذار 1973 في إطار قوات الأمم المتحدة. وتعمل الإمبريالية الفرنسية اليوم على تعزيز سيطرتها الاقتصادية والمالية على لبنان، ولقد أصبحت المصدِّر الثاني إليه. ففي ثلاث سنوات فقط، من 1992 حتى 1995، تضاعفت عقود الاستثمار الفرنسية في لبنان 25 مرة، وبلغت في العام 1996 حوالي ملياري فرنك فرنسي. وفرنسا هي أول مستثمر أجنبي في لبنان والأردن، والاتحاد الأوروبي أول شريك تجاري مع لبنان ومصر وسورية.

 

فلماذا تضرب فرنسا عرض الحائط بمصالحها وتلتحق تدريجياً بالسياسة الأميركية العدوانية، سواء بالنسبة للعراق أو للبنان وسورية؟ لن نكرر ما جاء في المقالات الأخرى التي تتناول نفس السؤال حول الموقف الفرنسي والقرار 1559. ولكننا نحصر كلامنا في جدل العلاقة التنافسية والتوافقية بين الإمبرياليات: الأميركية والأوروبية.

 

يدور التناقض بين الإمبرياليات حول كيفيات استغلال بلدان العالم الثالث، ومنها وطننا العربي. والتنافس بين هذه الإمبرياليات هو حول من ينهب ثروات شعبنا وحصته من هذا النهب. لقد غاب عن بال الإمبرياليات، في غمرة تنافسها وتسابقها في حملات الغزو وحول الضغوط لعقد اتفاقيات الشراكة أو التبادل الحر، مقاومة شعوبنا لكل المشاريع الإمبريالية. وعندما كان يتبادر إلى ذهنها شيء من هذه المقاومة لم تكن تخفي حقيقة رفضها لمنطق هذه المقاومة. لقد أعلن المستشار الألماني، مع بدايات المقاومة العراقية، أنه لا يقبل بهزيمة الولايات المتحدة في العراق. وما لبثت "أوروبا القديمة"، على حد عبارات رامسفيلد، أن تحولت تدريجياً إلى عامل يبرر الغزو الأميركي في المؤسسات الدولية التي داستها الولايات المتحدة بالذات. ألم يقل ريتشارد بيرل، أحد أهم مهندسي الغزو الأميركي للعراق، وأبرز مسؤول مقرب من وزير الدفاع رامسفيلد: "انهار نظام صدام حسين المرعب. ومن سخرية القدر أن هذا الحكم البعثي أخذ معه في انهياره منظمة الأمم المتحدة" (الفيغارو الفرنسية، 11-3-2003)؟ فلماذا عودة "أوروبا القديمة" إلى الأمم المتحدة لتشريع الاحتلال؟! طبعاً لأنها ترفض الهزيمة الفعلية للإمبريالية الأميركية على يد شعوب الوطن العربي.

 

إن مواقف الإمبريالية الفرنسية المتميزة عن مواقف الإمبريالية الأميركية تهدف إلى تحقيق أمر واحد: أن تكون بديلة عن الإمبريالية الأميركية في استغلال شعوبنا. ولكن إذا تعلق الأمر بهزيمة فعلية للإمبريالية الأميركية على يد المقاومات العربية (من فلسطين إلى العراق، مروراً بلبنان وسورية) وإلى جانبها إيران وتعاطف الجمهور العربي والإسلامي وأحرار العالم المناهضين للحرب والعولمة النيوليبرالية (المظاهرات المليونية)، فإن ذلك لممّا يقلقها أشد القلق، لأنه ينذر بنشوء وضع إقليمي ودولي من شأنه محاصرة كل الإمبرياليات ويقيد حركتها. فهو يشكل بادرة على انبعاث حركة تحرر عالمي لن توفر الدور الاستعماري الذي تلعبه فرنسا في إفريقيا خاصة وفي الكثير من بلدان العالم الثالث عامة. ولهذا فإن الدور الإنقاذي الذي تحاول القيام به الإمبريالية الفرنسية يجد تفسيره الجوهري في عجزها عن وراثة الموقع الإمبريالي الأميركي (والصهيوني)، في العراق وفلسطين وسورية.

 

جوزف عبدالله