التبدل في الموقف الفرنسي وخلفياته

ردة فعل عابرة أم توجه استعماري؟

حسين عطوي

 

 

فسر كثيرون التبدل والانقلاب الذي حصل في الموقف الفرنسي إزاء سورية ولبنان وتماهيه مع الموقف الأميركي في مجلس الأمن من خلال القرار 1559 باعتباره ردة فعل فرنسية إزاء أمرين.

الأول، عدم التزام لبنان بقرارات مؤتمر باريس2 خاصة لناحية السير في نهج تخصيص قطاع الهاتف الخلوي حيث كان طموح فرنسا أن يرسو عطاء إحدى الشركات على شركة تلكوم الفرنسية انطلاقاً من العلاقات الوطيدة على أكثر من صعيد التي تربط الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، غير أن الرئيس اللبناني أميل لحود عارض تخصيص الخلوي وتمسك بنهج تملك الدولة لهذا القطاع الحيوي وكانت النتيجة أن انتصرت وجهة نظر الرئيس لحود وجرى تلزيم إدارة القطاع لصالح الدولة اللبنانية والتي رست المناقصة الأخيرة على شركات غير تلك التي كانت تتولى إدارته ومنها شركة تلكوم الفرنسية.

وكان من نتيجة ذلك أن تضاعفت عائدات الدولة اللبنانية من قطاع الخليوي مما عاد بالفائدة على الخزينة.

الثاني، حصول شركات أميركية وبريطانية وكندية على عقود نفط وغاز في سورية بدلاً من شركة فرنسية في إطار مناقصة تقدمت بها هذه الشركات.

 

غير أن هذا التفسير للتبدل في الموقف الفرنسي ليس إلا الجانب الظاهري منه، ذلك أن حالات التعارض أو التمايز في المواقف الفرنسية والأميركية تجاه العديد من القضايا بدأت منذ فترة بالاختفاء والتراجع لصالح التوافق، وهو ما برز أيضا في العديد من القضايا.

ـ في الملف النووي الإيراني عاد الموقف الأوروبي ليصطف إلى جانب الموقف الأميركي في الضغط على إيران وبالتالي تنكر الدول الأوروبية لالتزاماتها، وفي مقدمتها الدولة الفرنسية، تجاه إيران.

ـ إقدام باريس على إيقاف اتفاق الشراكة الأورومتوسطية مع سورية وربطه بإزالة أسلحة الدمار الشامل في سورية.

ـ في قضية إقليم دارفور السوداني تراصف الموقف الأوروبي مع الموقف الأميركي في مجلس الأمن.

 

إن مثل هذه المؤشرات وغيرها يجعل من الضرورة التبحر في خلفيات هذا التحول في الموقف الفرنسي ومراميه الحقيقية.

أولاً: بداية يجب توضيح أمر هام وهو أن التناقض الفرنسي الأميركي يندرج في سياق التنافس بين إمبرياليتين ودولتين استعماريتين تسعى كل واحدة منهما إلى ضمان مصالحها وتعزيز نفوذها في المناطق الحساسة والهامة من العالم وخصوصاً منطقة الشرق الوسط التي تشكل ساحة صراع عبر التاريخ بين الدول الاستعمارية بسبب موقعها الجغرافي الذي يتوسط العالم ومهد الديانات السماوية والحضارات الإنسانية عبر التاريخ إلى جانب ما تتمتع به من مخزون هائل من النفط والغاز.

ولهذا ليس من الفراغ أن عمدت الولايات المتحدة إلى وراثة فرنسا وبريطانيا في رعاية دولة إسرائيل التي كانت منذ البدء مشروعاً استعمارياً غربياً يستهدف منع توحيد المنطقة وحماية المصالح الغربية فيها وضمان استمرارها.

وإذا كانت المرحلة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية قد رست على قسمة وتعايش بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، فان هذه المرحلة قد انتهت مع انهيار الاتحاد السوفيتي وخروج الولايات المتحدة من الحرب الباردة منتصرة، وسعيها إلى تثمير ذلك من اجل إعادة النظر بالنظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية على نوع من التوازن لصالح نظام دولي جديد يكرس سيطرة الولايات المتحدة الأحادية القطبية على العالم .

غير أن التفرد الأميركي بالسيطرة على القرار الدولي لا يمكن بلوغه إلا إذا تمكنت واشنطن من السيطرة على موارد العالم الأساسية التي تشكل عصب الاقتصاد العالمي، فكان "مشروع القرن الأميركي" ومن ثم الحرب على أفغانستان والعراق من أجل السيطرة على منابع النفط للإمساك بعنق العالم.

إلا أن مثل هذا التوجه الأميركي سرعان ما لاقى معارضة ومقاومة فرنسية بالدرجة الأولى مدعومة من ألمانيا وروسيا تمثلت في رفض تغطية الحرب على العراق وحالت دون صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يشرع هذه الحرب.

وبالقدر الذي كانت فيه فرنسا تعارض الحرب على العراق بشدة وترفض تقديم أي شكل من أشكال الدعم المادي والعسكري للولايات المتحدة، بقدر ما كانت تبقي على خطوط رجعة للولايات المتحدة في اللحظة التي تتخلى فيها الأخيرة عن سياسة التفرد وتجاهل مصالح الدول الكبرى وفي مقدمها فرنسا.

ولذلك فان الموقف الفرنسي من الحرب على العراق لم يكن ينطلق من رفض مبدأ الاستعمار والسيطرة على شعوب العالم وثرواتها، بقدر ما كان ينطلق من رفض شكل السيطرة الأميركية الأحادية، ذلك أن فرنسا طالما كانت ولا تزال تسعى إلى استعادة دورها الاستعماري في المنطقة بعد أن تمكنت واشنطن من وراثته.

 

ثانياً: كان من الواضح إن احتلال القوات الأميركية للعراق قد كرس الانقسام الدولي وعمق الخلاف الفرنسي الأميركي، غير إنه في ذات الوقت كان هناك ترقب لمسار الوضع في العراق بعد الاحتلال، ففيما كانت الإدارة الأميركية تراهن على نجاح خططها للسيطرة عليه وتحويله إلى منصة لإحكام قبضتها على المنطقة وإعادة تشكيلها وفق منظور المصالح الأميركية كما صرح بذلك وزير الخارجية الأميركية كولن باول، فان فرنسا والدول المعارضة للحرب كانت تراهن على فشل الولايات المتحدة واضطررها للعودة لطلب نجدتها ومساعدتها للخروج من ورطتها في العراق.

اليوم وبعد سنة ونصف على احتلال العراق حصلت تطورات دراماتيكية متسارعة أدخلت أميركا في مستنقع العراق وجعلت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش في ورطة حقيقية خصوصاً بعد فشل كل خططها للسيطرة على الوضع العراقي وإنهاء المقاومة العراقية وبالتالي ارتفاع التكلفة البشرية والمادية للحرب إلى مستويات كبيرة بدا معها أن واشنطن غير قادرة على الاستمرار في تحملها، ولذلك بدأ الحديث عن الهزيمة الأميركية وسنياريوهات هذه الهزيمة واستطرادا انعكاساتها وتداعياتها على الوضع في المنطقة والمصالح الاستعمارية فيها.

من هنا تحركت فرنسا وبدأت تقترب من الموقف الأميركي بغية الحيلولة دون خروج أميركا مهزومة في العراق على الطريقة الفيتنامية، وبما يضمن ترتيب الوضع في العراق على قاعدة تجعل فرنسا قادرة على وراثة الاستعمار الأميركي والحيلولة دون حصول انتصار لخط المقاومة العراقية وبالتالي سيادة نظام متحرر من السيطرة الاستعمارية في قلب إقليم النفط مما سيؤدي بالضرورة إلى حصول ثلاث نتائج محتملة.

الأولى: إطلاق مد وطني وقومي متحرر يعزز الخط التحرري المستقل الذي تنتهجه سورية ولبنان وما يعنيه من احتمالات تداعي بعض الأنظمة المرتبطة بوشائج التبعية العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية وفتح الطريق أمام إمكانية استعادة العرب لوحدتهم وتضامنهم لتعزيز استقلالهم.

الثانية: تحرير الثروات النفطية العربية من براثن السيطرة الأجنبية ووضع حد للاستغلال الأميركي الغربي لهذه الثروات مما يتيح المجال لاستخدام العائدات الكبيرة للنفط لتحقيق التنمية والتقدم والتطور للأمة العربية في كافة المجالات .

الثالثة: تعزيز انتفاضة ومقاومة الشعب الفلسطيني وتعميق مأزق إسرائيل ومشروعها الاستعماري على نحو غير مسبوق باعتبار أن هزيمة أميركا في العراق سوف تضعف إسرائيل بالقدر ذاته الذي كانت تراهن فيه إسرائيل على تحويل الاحتلال الأميركي إلى مصدر قوة لها من أجل خنق الانتفاضة والنيل من الدول الداعمة لها، وهي سورية ولبنان وإيران.

وبالتالي فان إسرائيل التي فشلت في القضاء على المقاومة الفلسطينية في ظل الاحتلال الأميركي للعراق سوف تكون في خطر حقيقي يهددها بهزيمة كبيرة أكبر من هزيمتها في لبنان مما يجعل كل المشروع الغربي في المنطقة في مهب الريح.

 

ولذلك فان أهداف التحرك الفرنسي تبغي تحقيقاً لما يلي:

1 ـ أيجاد مخرج لائق للخروج الأميركي من العراق يضمن الإبقاء على المصالح الغربية وفي الطليعة الفرنسية منها.

2 ـ الدخول على خط الصراع العربي الإسرائيلي عبر الضغط على سورية من اجل تطويع موقفها لصالح تحقيق تسوية للصراع العربي الإسرائيلي تستند إلى القرار 242 وتقضي بفرض التوطين وإلغاء حق العودة وبالتالي ضمان أمن واستمرارية وجود دولة إسرائيل بعيداً عن أي خطر.

ولهذا فان القرار 1559 جاء منسجما مع هذا التوجه الفرنسي حيث ركز على نزع سلاح المقاومة وسلاح المخيمات الفلسطينية وخروج القوات السورية من لبنان، فيما كشفت المعلومات عن استعداد فرنسا لإرسال قوات إلى لبنان تنتشر حول المخيمات الفلسطينية في إطار سعيها لاستعادة نفوذها الاستعماري في المنقطة عبر البوابة اللبنانية.

 

 ثالثا: ما تقدم يظهر أن فرنسا في الحالتين، حالة ردة الفعل على عدم رسو عطاء عقود النفط والغاز في سورية على شركاتها، ورفض لبنان السير في روزنامة باريس2 لناحية تخصيص الهاتف الخلوي، وحالة التحسب لتداعيات الهزيمة الأميركية في العراق، تصرفت كدولة استعمارية أرادت فرض سياستها على سورية ولبنان والسعي إلى منع سيادة النزعة التحررية المستقلة في المنطقة.

من هنا فأن رفض سورية ولبنان الاستجابة إلى المنطق الفرنسي الاستعماري إنما ينطلق من مصالحهما وليس مراعاة لأحد. فمقاومة سورية ولبنان للهيمنة الأميركية الاستعمارية لا يعني انهما ستقبلان الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، بل هما على استعداد لعلاقات صداقة وتعاون وتفاعل بعيداً عن علاقات الهيمنة والاستعمار. وفرنسا تدرك قبل غيرها أنها لا تستطيع لعب أي دور في المنطقة وبالتالي أن يكون لها حضور عبر الالتحاق بالموقف الأميركي أو ممارسة سياسات استعمارية مشابهة للسياسات الأميركية، وهي تمكنت من العودة إلى المنطقة من خلال سورية ولبنان اللتان فرضتا على الولايات المتحدة وإسرائيل مشاركة فرنسا في الإشراف على تطبيق تفاهم نيسان عام 1996.

 

حسين عطوي