أمركة التغريب وإستراتيجية الديمقراطية الأمنية
د. جورج حجار
كاتب من لبنان
في الذكرى الثالثة لهجمات 11 أيلول توعد الرئيس الأميركي جورج بوش بمطاردة الإرهابيين في كل أنحاء العالم، من دون هوادة، معلناً تصميمه على دعم الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير لكي تتخلى شعوب تلك المنطقة عما سماه الكراهيات ومشاعر الاستياء... "لقد بدأنا هذه الحملة من جبال أفغانستان إلى قلب الشرق الأوسط إلى القرن الإفريقي إلى جزر الفيليبين إلى الخلايا السرية داخل بلادنا... عندما يتم منح شعوب تلك المنطقة أملاً جديداً وحياة فيها كرامة فإنهم سيتخلون عن الكراهيات ومشاعر الاستياء القديمة، ولن يجد الإرهابيون الكثيرين لتجنيدهم" (الصحافة، 12-9-2004).
"إن مصالحنا ومثلنا لا تلزمنا بالتدخل في شؤون العالم وحسب، بل تلزمنا بقيادته" أنتوني لايك، مستشار الأمن القومي في عهد كلنتون.
"إن أحداث 11 أيلول هي فاجعة، لكنها فرصة لإعادة تشكيل العالم" رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي.
"العراق ليس هدفاً بحد ذاته، بل الهدف هو إعادة صياغة المنطقة" وولفوويتز.
"في العديد من دول الشرق الأوسط، الديمقراطية هي في أفضل الحالات ضيف غير مرحب به، وفي أسوأ الحالات ضيف غريب كلياً" كولن باول، وزير الخارجية الأميركي، في كلمة له أمام الكونغرس.
"يجب أن تعي المبادرة أنه من دون الاحترام السياسي النابع من حق تقرير المصير لا يمكن أن تنشأ ديمقراطية. لقد استعاد الألمان احترامهم السياسي في وقت قصير نسبياً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وساعدهم ذلك على إحياء التقاليد الديمقراطية لحقبة ما قبل النازية. سيحظى برنامج الديمقراطية العربية بنجاح أكبر وبقبول أوسع إذا ترافق مع جهود لضمان سيادة العراقيين والفلسطينيين. أما خلاف ذلك فستبدو الديمقراطية بالنسبة إلى الكثيرين في العالم العربي كستارة لاستمرار الهيمنة الخارجية" زبيغنيو بريجنسكي.
"إن ما يؤمن به الأميركيون والبريطانيون على مستوى إدارتي بوش وبلير هو السيطرة على الشعوب باسم العمل لتحريرها ونقلها من مرحلة الخضوع لطاغية الداخل إلى مرحلة الخضوع لطغيان الاحتلال القادم من الخارج" السيد محمد حسي فضل الله.
مقدمة
لتسويغ حرب تدمير العراق وشطبه كعمق إستراتيجي عربي في المعادلة الإقليمية في الصراع العربي الصهيوني وإعادة الاستيلاء الكامل على منابع النفط العربي، ربطت أميركا الغطرسة النيونازية بين نظام العراق البعثي وعملية 11 أيلول التي زلزلت عروش المال والتجارة والسلاح على اليابسة الأميركية للمرة الأولى في التاريخ المعاصر، وأكدت أيضاً على الصلة المباشرة بين "الإرهاب الفلسطيني" المعولم بالإضافة إلى امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي يمكن إطلاقها خلال 45 دقيقة على حد تحديد الملف البريطاني الملفق (12 أيلول 2002) والكلي الدلالة على الكذب الفاضح والتضليل المدروس للشعوب والخداع الذاتي البريطاني الأميركي المشترك.
إستراتيجية الحرية التواقة
بعد فشل الذرائعية الأميركية بالمطلق في تقديم أدلة، ولو باهتة، لتدعيم مزاعمها المخدّرة، لجأت إدارة بوش المتجبرة إلى تبرير شن حربها العدوانية على العراق باسم الإطاحة بنظام الطغيان العراقي ونشر الديمقراطية وتعميمها في الوطن العربي والعالم الإسلامي واتخاذ العراق كقاعدة لبناء نموذج يحتذى للديمقراطية، وبالتالي إحداث تغيير جذري في ربوع الاستبداد العربي المولّد الرئيسي للإرهاب والتحجر الاجتماعي السياسي في المنطقة.
وتحت يافطة نشر الثورة الديمقراطية المعولمة ومكافحة الإرهاب والتحول الاجتماعي، طرح بوش مقولة "إستراتيجية الحرية التواقة في الشرق الأوسط" A Foreword Strategy of Freedom in the Middle East على منبر "الصندوق القومي للديمقراطية" The National Endowment for Democracy (6-11-2003) الذي أسسه الكونغرس الأميركي عام 1984 برعاية ريغان لإسقاط "إمبراطورية الشر" السوفييتية، الأمر الذي تحقق فعلياً في 25-12-1991. ويطمح بوش الريغاني ويتطلع إلى إحداث تحول مماثل في الوطن العربي والعالم الإسلامي في أعقاب حرب احتلال العراق وجعل بغداد عاصمة الديمقراطية ونموذجها في "الثورة الديمقراطية العالمية". وعليه سأتخذ من مقولة "إستراتيجية الحرية التواقة في الشرق الأوسط" منطلقاً ومرجعاً رئيسياً، لا بل ملخصاً لسياسة بوش في ربوعنا ومقدمة لمشاريع الإدارة الأميركية في المنطقة حتى منتصف القرن الآتي؛ وبالتالي المشاريع المصمم تحقيقها حتى نضوب البترول وتجفيف ثروات المنطقة وأهلها.
باختصار، إن المشروع الأميركي "للشرق الأوسط الكبير" الذي نشرته جريدة الحياة، 13-2-2004، شكل تجسيداً عملياً لرؤية بوش وصحبه، وترجمة واقعية لما تخطط له الإدارة الأميركية. ورغم بعض التحفظات الأوروبية والمعارضات الجزئية العربية والخلافات التكتيكية، فقد تشرعن المشروع الأميركي وتعولمت وتأمركت مخططات أميركا في أربع محطات أساسية في المحافل الدولية. وهي، أولاً، الاحتفال في الذكرى الستين (6-6-2004) للإنزال الأميركي في النورماندي، في شمالي فرنسا للمساهمة في تحريرها من الاحتلال النازي؛ ثانياً، انعقاد مؤتمر مجموعة الثمانية الكبار G 8 في سي آيلاند، في جورجيا في الولايات المتحدة (من 8 إلى 10-6-2004) وبقيادة بوش؛ ثالثاً، اللقاء والتفاهم الأوروبي الأميركي في دبلن، ايرلندا، في 26-6-2004 حول القضايا المطروحة عبر الأطلسي؛ رابعاً، انعقاد مؤتمر حلف الأطلسي في اسطنبول، تركيا، في 28 و29-6-2004، وإصدار "مبادرة تعاون اسطنبول" باتجاه الشرق الأوسط الموسع، لا سيما دول الخليج العربية والتي تضمنت عرضاً للتعاون في مجالات الدفاع والأمن، وهي بمثابة الشق الأمني للمشروع الأميركي.
وبالعودة إلى قاعدة الانطلاق "إستراتيجية الحرية التواقة" ما أسميه "أمركة التغريب"، أي اختزال العالم الغربي بأميركا، أقول: في مراجعته للقسم الثاني من القرن العشرين عندما احتلت أميركا المرتبة الأولى في قيادة العالم وتسنمت قيادة "العالم الحر" بدون منازع، أعلن بوش بنبرة تبشيرية غيبية أن التحول إلى الديمقراطية حصل لأن أميركا كانت في موقع القيادة، ولأن أميركا مثلت دور النموذج والمثل الأعلى للديمقراطية الليبرالية، وأكد أن أميركا وفرت الأمن للأمم والعالم والاستلهام للشعوب المقهورة. بكلمة، أصر بوش على أن رسالة أميركا منذ الحرب العالمية الثانية كانت تستهدف تعزيز الحرية في جميع أرجاء الأرض.
وفي هذا السياق توقع بوش أن ينصف المؤرخون أميركا ويشيدون بدورها الحاسم في تطوير اقتصاد السوق والتجارة الحرة التي أنتجت الطبقة الوسطى، كطبقة واثقة من نفسها وأثبتت أنه ليس في مقدورها المطالبة بحقوقها فحسب، بل تجسيد تطلعاتها في المؤسسات وفي كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية؛ وتنبأ كذلك بأن المؤرخين سيتحدثون عن الدور الحاسم الذي لعبته تكنولوجيا أميركا في إحباط الرقابة والسيطرة المركزية التي مارسها المعسكر الاشتراكي، وكيف أن ثورة المعلوماتية، وهي أميركية المنشأ، هي التي نشرت الحقيقة والأخبار الموضوعية وبطولات الشعوب المضطهدة عبر الحدود، وسيتأملون كيف أن الأمم الحرة نهضت باطراد بينما الديكتاتوريات ضعفت وتهاوت باستمرار.
وفي مقارنة بوش للأنظمة، يميز بين أنظمة التجنيد الاجتماعي كطريق للقوة القومية وفشلها والأنظمة الحرة وازدهارها وحيويتها الاجتماعية. ويصدح نشيد الأناشيد "الحرية هي خطة السماء للإنسانية وأفضل أمل للتقدم على الأرض والسماء معاً"، ويهبط من العلياء إلى الأرض معلناً: "إن على كل أمة أن تتعلم درساً مهماً وهو أن الحرية جديرة بالقتال من أجلها والموت في سبيلها والوقوف إلى جانبها لأن تقدم وانتشار الحرية يقودنا إلى السلام". ويضيف: "ولا طريق إلى السلام إلاّ عبر الحرية". وفي ختام الترنيمة الأهزوجة، يبلغنا بوش بأن على كل أمة تحقيق درس هذا الزمن الأخطبوطي للهيمنة الأميركية، ويوضح لمن لا يرى أننا قد وصلنا إلى منعطف آخر وجديد في التاريخ، وهو أن التصميم والعزم الذي يظهره "العظماء"، أمثال بوش، سيحدد شكل ومضمون المرحلة القادمة للحركة الديمقراطية العالمية.
وفي هذا المجال يبدأ بوش بتصنيف المراحل التي تجتازها الأنظمة والخيارات التي على الشعوب اختيارها، فيطلق على أنظمة كوبا وبورما وكوريا الشمالية وزمبابوي صفة "المخافر الأمامية للقهر في العالم". ويندد بالعسكريتاريا والشيوعية والحكم بالنزوات لهذه البلدان وكل البلدان غير الخاضعة للمشيئة الأميركية ويتهمها بالطغيان والفساد. ثم ينتقل إلى الصين حيث الديمقراطية في حالة امتحان ويعترف أن في "الصين شظية، كسرة من الحرية". ويأتي من الصين إلى الشرق الأوسط بدفعة صاروخية حيث يفصح عن نقطة التركيز لموعظته "اليوم وللسياسة الأميركية للعقود الآتية".
ويحيط شعوب المنطقة علماً بأن الديمقراطية لم تتجذر في ربوعهم بعد رغم الأهمية الإستراتيجية الكبرى للمنطقة، فيتعهد بوش بأن يحولها إلى الديمقراطية انطلاقاً من بغداد كقاعدة ونموذج سيتفشى بالعدوى مما سيفضي إلى زلزلة أنظمة رعاة الإرهاب ومموليه، ويتساءل بوش بصوت جهوري ومدوي كأنه جورج واشنطن أو لينين أو ماو تسي تونغ العرب: "هل إن شعوب الشرق الأوسط يقعون في متناول الحرية أو خارج نطاقها؟ هل إن ملايين الرجال والنساء والأطفال قد حُكم عليهم تاريخياً أو حضارياً بأن يعيشوا تحت نير الاستبداد؟ هل هم كأفراد أو جماعات لم، ولن، يعرفوا الحرية أبداً ولا خيار لهم في إقرار المسألة؟". ويجيب بوش كداعية إسلامي محترف، ولكن بلهفة المستشرق العالم الذي يمهد الأجواء لتبرير الغزو باسم الحضارة والإنسانية، مؤكداً إيمانه "بقدرة الإسلام كإيمان يعتنقه خمس البشرية بأنه دين متساوق ومتناغم مع الديمقراطية وأنه يستطيع التكيف مع الحداثة"، والتغريب الذي يدعو إليه بوش بمثله "الصالح" في الحرب والسلام.
ولكي يخفف بوش من ارتياب العرب والمسلمين من أطروحاته، فإنه يذكرهم بأنه يدرك أن التحديث ليس التغريب وأن الحكومات التمثيلية التي يطالب بها ستعكس ثقافات الشرق الأوسط لا الثقافة الأميركية، ويحذر تلك الحكومات من التمظهر الأميركي، ويحثهم على اختيار أي من أشكال الحكم: الملكية الدستورية (اسمعوا يا آل سعود!) أو الجمهورية الفيدرالية أو النظم البرلمانية. ولئلا لم تصل الرسالة إلى أنظمة "العربان"، فإن بوش يعلن بصراحة مطلقة أن لب الديمقراطية يتضمن "محدودية سلطة الدولة والعسكر"، وأن الحكومات الديمقراطية ترضخ "لإرادة الشعب، لا إرادة النخبة"، وأن من واجباتها الرئيسية حماية الحريات العامة، حرية الاجتماع والمعتقد والقلم والانصياع لسيادة القانون والاعتراف بالمجتمع المدني والتعددية السياسية.
وفي هذا السياق يصل بوش إلى صلب الموضوع، ألا وهو قدسية الملكية الخاصة التي تتحقق في البلدان المتخلفة "بخصخصة القطاع العام وممارسة اقتصاد السوق وضمان حقوق الملكية". ويضيف بوش: "على الحكومات الديمقراطية أن تمنع الفساد وتعاقب مرتكبيه". والمضحك المبكي في هذا الصدد أن بوش يطلعنا "أن مبادئ الديمقراطية الحيوية هي في طور التطبيق" في حكومات النضال الديمقراطي التي عينها في أفغانستان والعراق. ودفاعاً عن هذه التجارب الثورية يشن بوش حملة مسعورة على "الإرهاب" الذي يحاول إفشال هذه التجارب التاريخية، ويحذر من احتمال الإخفاق في العراق، لأن الإخفاق، كما يطرحه بوش، "سيشجع الإرهابيين حول العالم، ويزيد الأخطار على الشعب الأميركي، ويطفئ مشاعل الأمل لدى الملايين في العالم".
وعليه، يعمل بوش على طمأنة العالم بأنه ملتزم بالديمقراطية في العراق، وأنها ستنجح و"ستبعث رسالة إلى طهران ودمشق" مفادها أن الحرية هي مستقبل كل الأمم وأن الاستبداد إلى زوال، وأن تأسيس عراق حرّ في قلب المشرق العربي سيشكل مأثرة "الحد الفاصل في الثورة الديمقراطية العالمية". ويستذكر بوش "أن ستين عاماً من الأعذار والتكيف والمجاملة الغربية مع أنظمة الاستبداد لم تصنع لأميركا سلاماً ولا استقراراً للعالم، وأن الاستقرار على المدى البعيد لا يمكن شراؤه على حساب الحرية".
باختصار، يتعهد بوش ببرنامجه أو مشروعه للشرق الأوسط بأن تضع أميركا قوتها في "خدمة المبدأ"، ويعتقد أن المصلحة القومية الأميركية تنسجم مع مبادئ أميركا في التوسع والاحتلال والنهب، ويؤكد أن الأميركيين "يؤمنون بأن الحرية هي من تصميم الطبيعة، وهي اتجاه التاريخ. ويضيف: "إن تحقيق الذات الإنسانية والتميز لا يتحققان إلاّ عبر الاستخدام المسؤول للحرية". ويختم بوش خطبته بتواضع المنافق المشهود له بالمكر والخداع، معلناً هذا العصر "عصراً للحرية"، وملفتاً إلى "أن تثميننا للحرية لا يعني أن الحرية لنا فحسب، بل إنها حق للجميع وأن تطبيقها يشكل طاقة الإنتاج القصوى للبشرية جمعاء".
مشروع الشرق الأوسط: شراكة اللاشريك
يستهل المشروع مقدمته باقتباس تقريري الأمم المتحدة لعامي 2002 و2003 حول التنمية البشرية اللذين أعدهما "علماء عرب"...، من المدرسة الليبرالية المحافظة النزعة، إذا لم نقل المتأمركة...، بشكل انتقائي تأييداً لمفاهيم أميركية للحرية والمعرفة وتمكين المرأة. ويستنتج أصحاب المشروع أن المنطقة "تقف عند مفترق طرق": الاستمرار في مسارات الفاقة والبطالة والفساد والحرمان والاستبداد...، أو الإصلاح والتطور والتقدم... وتختار دولة النازية الجديدة للشرق الأوسط الإصلاح كطريق للتغيير الذي يتمثل في ثلاثة اتجاهات: 1- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح، 2- بناء مجتمع معرفي، 3- توسيع الفرص الاقتصادية.
جماعة "فريدوم هاوس"
يحدثنا دعاة مشاريع الإصلاح الديمقراطي للوطن العربي والعالم الإسلامي (باكستان، أفغانستان، إيران، تركيا) عن الديمقراطية التي يبشر بها ويحدد معانيها جماعة "فريدوم هاوس" Freedom House أو "بيت الحرية". وهذه جماعة يمينية أميركية صهيونية المنحى والتوجه، وتعيش بمفاهيمها في القرن السابع عشر على أفضل تقدير، وتنتمي إلى المدرسة الداروينية الاجتماعية التي انتشرت في نهاية القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة واستمرت حتى أفلست مع رأسماليتها في الانهيار الاقتصادي في تشرين الأول عام 1929. لكن الريغانية التاتشرية أحيت الداروينية الاجتماعية بانقلابها على "دولة الرفاه" الاجتماعي في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين. وما يزال العالم يعاني من "ليبرالية" حروبها العدوانية واحتلالاتها واستباحتها لمقدرات الشعوب ومواردها.
وهذه الجماعة هي المرجعية الفكرية لإدارة بوش التي اعتمدت في تقييمها "لشرقها الأوسط" على دراسة للديمقراطية في العالم لعام 2003، أعدتها الجماعة ووجدت أن إسرائيل أرييل شارون هي "البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير" الذي استطاعت تصنيفه كبلد "حر"، وكذلك تبنت إدارة بوش اكتشافات علمائها العرب (الامتداد العربي لجماعة "فريدوم هاوس") الذين اكتشفوا "أن من بين سبع مناطق في العالم، حصلت البلدان العربية على أدنى درجة من الحرية في أواخر التسعينيات. وأدرجت قواعد البيانات التي تقيس التعبير عن الرأي والمساءلة في المنطقة العربية في المرتبة الأدنى في العالم". وأوضح "علمهم الموضوعي" أن العالم العربي "لا يتقدم... إلاّ على إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على تمكين المرأة"، ولكن ما أثلج قلب بوش في "تقرير التنمية البشرية لعام 2003" أن العرب تصدروا "لائحة من يؤيد، في أرجاء العالم، الرأي القائل بأن الديمقراطية هي أفضل من أي شكل آخر للحكم، وعبروا عن أعلى مستوى لرفض الحكم الاستبدادي"، المر الذي يبرر لبوش احتلاله للعراق ولعب دور المخلص لتحرير الشرق الأوسط باسم "التدخل الإنساني" للتخلص من الأنظمة الاستبدادية.
تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح
إن مشروع بوش لنشر الديمقراطية وتأسيس الحكم الصالح يتضمن الآتي من الإجراءات التي تضمن الهيمنة الأميركية على الداخل وتوجيهه.
أولاً: 1- مبادرة الانتخابات الحرة لإجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية. 2- الزيارات المتبادلة والتدريب على الصعيد البرلماني، وذلك لتعزيز دور البرلمانات في دمقرطة البلدان وتركيز الاهتمام على صوغ التشريعات وتطبيق الإصلاح التشريعي والقانوني وتمثيل الناخبين. 3- معاهد للتدريب على القيادة، خاصة بالنساء، وإنشاء أو تشغيل منظمات غير حكومية. 4- المساعدة القانونية للناس العاديين أي توفير وتمويل مراكز يمكن للأفراد أن يحصلوا فيها على مشورة قانونية بشأن القانون المدني أو الجنائي أو الشريعة، ويمكن لهذه المراكز أن ترتبط بكليات الحقوق في المنطقة. 5- مبادرة وسائل الإعلام المستقلة ترعة زيارات متبادلة للصحافة على أنواعها وتقدم تدريباً لصحافيين مستقلين وزمالات دراسية. 6- الجهود المتعلقة بالشفافية، مكافحة الفساد، أي تبني مبادئ الشفافية التي أقرتها مجموعة الثمانية الكبار G8. 7- المجتمع المدني، أي إنشاء منظمات غير حكومية تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان ووسائل الإعلام والنساء، وتعمل بحرية من دون مضايقة أو تقييد.
بناء مجتمع معرفي
هو الطريق إلى التنمية والانعتاق في عالم يتسم بعولمة مكثفة، وردم الفجوة المعرفية التي تعانيها المنطقة، ووقف نزف الأدمغة المتواصل. ويتم ذلك عبر: 1- مبادرة التعليم الأساسي التي تستهدف محو الأمية وتكوين فرق محو الأمية. 2- مبادرة مدارس الاكتشاف. 3- إصلاح التعليم لغرس القيم الأميركية. 4- مبادرة التعليم على الإنترنت. 5- مبادرة تدريس إدارة الأعمال لكي يتثقف الطلاب بطرق وأساليب الاتجار الأميركي.
توسيع الفرص الاقتصادية
المقصود بذلك تجسير الهوة الاقتصادية للشرق الأوسط، ومفتاح التحول في ذلك "إطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة، خصوصاً مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي تشكل المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل... وسيكون نمو طبقة متمرسة في مجال الأعمال عنصراً مهماً لنمو الديمقراطية والحرية". ويتم ذلك من خلال: 1- مبادرة تمويل النمو، أي إقراض المشاريع الصغيرة، مع التركيز على التمويل بهدف الربح، خصوصاً للمشاريع التي تقوم بها النساء. 2- مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير بهدف التوصل إلى تكامل اقتصادي لمجال الأعمال في المنطقة. 3- بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير. 4- الشراكة من أجل نظام مالي أفضل، وهدف المشاركة يتمثل في إطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها لتنفيذ خطط الإصلاح التي تخفض سيطرة الدولة على الخدمات المالية ورفع الحواجز على التعاملات المالية. 5- تشمل مبادرة التجارة الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وفتح مناطق تجارية ومناطق لرعاية الأعمال. 6- منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير الذي سيجمع المسؤولين الكبار لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي.
مصالحة في النورماندي
عربياً، أطلق المشروع الأميركي "الشرق الأوسط الكبير" (الحياة، 13-2-2004) سلسلة من المقالات الصحفية المؤيدة والمعادية والمتحفظة، وانبرت بعض الأنظمة العربية بقيادة الرئيس المصري مبارك على التحذير "من أن إحلال الديمقراطية بسرعة قد يؤدي إلى تكرار النموذج الجزائري عندما وصل المتطرفون إلى السلطة، ما تسبب بمأساة مستمرة منذ 12 عاماً (السفير، 6-3-2004).
أوروبياً، حافظ الاتحاد الأوروبي على عملية الإصلاح تلك، وقاد الحملة الرئيس الفرنسي شيراك الذي استنفر ألمانيا وإيطاليا وروسيا، وتمحور النقاش عل الفصل الأميركي الاعتباطي بين مسار تغيير الأنظمة العربية ومسار الصراع العربي الصهيوني، وبين مفهوم التغيير من الداخل العربي وفرض الإصلاح من الخارج، ومن أميركا بالذات التي تتربع على عرش الكراهية العربية والإسلامية لها، إن لم نقل العالمية. وتمثل لب الموقف الأوروبي بمنع التفرد الأميركي بمشاريع المنطقة، والإلحاح على ضرورة إشراك دول المنطقة في اتخاذ القرارات المركزية في عملية التحول المتوخاة وإعطائها الفرصة لكي تتبنى "ملكية" المبادرة عوضاً عن القيام بعرقلتها وتعطيلها.
واستمرت النقاشات والمشاورات والتهجمات المتبادلة حتى لقاء النورماندي في 6-6-2004 للاحتفال بالذكرى الستين للإنزال في فرنسا وتحرير غرب أوروبا من النير النازي. وفي يوم التحرير، اتبعت فرنسا سياسة استرضاء بوش، وعبّر شيراك عن امتنانه لدور أميركا في التحرير، وأعلن: "أميركا الصديق والحليف الثابت والمخلص"، واتخذ من الأرضية المشتركة للعلاقات عبر الأطلسية منبراً بأن "لا مستقبل للعالم بدون بوصلة والبقاء أوفياء لدروس التاريخ". واعتبر الاحتفال، بوجود ألمانيا للمرة الأولى منذ الحرب الثانية، احتفالاً بذكرى النصر والديمقراطية والسلام. بينما ربط بوش بين تحرير أوروبا من الفاشية ومحاولة تحرير العالم من "الإرهاب" وإعادة البناء على النموذج الأوروبي ما بعد الفاشية. ولقد لاحظ البروفسور دومينيك ميوسي، أستاذ العلاقات الدولية في المعهد الفرنسي، أن خطبة سيراك شددت على ميثاق الأمم المتحدة كمرجع، بينما ركز بوش على الكتاب المقدس كمرجعية مركزية لأفقه وعالمه.
والخلاصة هي أن احتفال النورماندي مهّد لأجواء أفضل لمؤتمر الثمانية الكبار G8 في جورجيا، من 8 إل 10-6-2004. ولكن بوش لم ينجح في كسر طوق العزلة الأميركية. ولم يرَ القادة العشرون الذين حضروا الاحتفال "وجه شبه على الإطلاق بين حرب تدور في العالم وحرب تشن ضد العالم". وأوروبا لم تتخلَ عن عالم السلام لمصلحة عالم الحرب الأميركية.
مجموعة الثمانية G8 في سي آيلاند
عشية انعقاد مؤتمر الثمانية G8 الكبار قدم "مركز صبان لسياسة الشرق الأوسط"، المنضوي تحت مظلة معهد بروكنز في واشنطن، دراسة شاملة عما طرأ لمسودة مشروع "مبادرة أمريكا للشرق الأوسط الكبير" منذ تسريبه لجريدة الحياة، 13-2-2004، حتى مطلع حزيران.
لخص مركز صبان الموقف الأوروبي بأربعة موضوعات استوعبها المشروع الأمريكي المطلوب البصم عليه في مؤتمر سي آيلاند، 8-10-2004، وهي: 1، يجب أن يتحول مشروع الشرق الأوسط إلى مشروع "شراكة" بين المنطقة ومجموعة الثمانية الكبار، لا أن يُفرض فرضاً بتفرد أميركي؛ 2، على المشروع أن يعكس ويعزز الالتزام طويل الأمد بعملية الإصلاح؛ 3، يجب أن يكون المشروع شاملاً ويأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل بلد في نفس الوقت؛ 4، لا يجوز تبني معيرة (قالباً) واحدة للمنطقة ككل، بل التعاطي مع كل قطر بمقاربة خاصة به.
بكلمة، لقد اتخذ القرار على مأسسة بنود المشروع على قاعدة "الجذور العربية" الداعية للإصلاح، أو بشكل أوضح، إن لغة الإصلاح الطنانة التي اعتمدها بوش وأقرانه الأوروبيون للترويج للمشروع انطلاقاً من لغة "العلماء العرب" الذي أعدوا تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية لعامي 2002 و2003، استبدلت بلغة الدعاة "الليبراليين الواقعيين" وتجسدت في إعلان صنعاء ووثيقة الإسكندرية، وبلاغ مجلس رجال الأعمال العرب، وبالإضافة إلى البنيان الليبرالي المرصع بقيم الحرية والديمقراطية وسيادة القانون وغيرها استلهم بوش "عملية برشلونة" الأوروبية المنشأ والتوجه، وأكد إيمانه بأن التعاون في مجالات التعليم والتجارة وغيرها من بنود التحديث والحداثة هي شروط أساسية للوصول إلى عملية الإصلاح ودعائم لترسيخها. وعليه، إن مكونات "بيان الشرق الأوسط الكبير" ستشمل المؤسسات التالية:
1- منتدى المستقبل ومهمته البحث في أهداف الإصلاح وكيفية تطبيقها وتعزيز التعاون بين الدول المطلوب إصلاحها. ويضم المنتدى قيادات من المجتمع المدني ورجال الأعمال وغيرها لتسهيل قيام ائتلافات بين دعاة الإصلاح على أنواعهم وتنوعاتهم ودعم جهود الإصلاح بشكل عام؛
2- مجموعة المساعدة لنشر الديمقراطية ونشاطها يتمحور حول التنسيق بين الدول الأوروبية وأميركا والأنظمة العربية؛
3- المؤسسة الوقفية للشرق الأوسط وتنظم على نموذج الوقفية الأميركية للديمقراطية حيث أعلن بوش "إستراتجية الحرية التواقة للشرق الأوسط" 6-1-/2003. وعلى هذه المؤسسة لعب دور الإيديولوجي الموجه والمنبر والمنصة الرئيسية لطرح كافة الموضوعات ذات الصلة في الشرق وعالمه؛
4- فيلق الشرق الأوسط لمحو الأمية ولا خلاف على وظيفة هذه المؤسسة بين الأطراف المعنية لأنها ستحاول إزالة العقبات التي يواجهها المواطن العربي لكي يشترك في شكل فعّال في الحاكمية الجيدة؛
5- المشروع التجريبي لمجموعة الثمانية الكبار لتمويل المؤسسات الصغيرة الحجم بغية خلق طبقة وسطى واسعة كحارس أمين للديمقراطية.
وبعد هذا السرد المقتضب لبنود المشروع يبرز السؤال الفصل، من هو الشريك في الشراكة المطروحة المولج بتنفيذ المشروع؟ هنا يبرز الخلاف في الأولويات بين الأوروبيين والأمريكان، الأمريكان يفضلون توكيل "الليبراليين العرب" على نخبويتهم، بالتنفيذ، وفي نهاية المطاف يرضخون للواقع الذي ينشده الأوروبيون باسم مجموعة الثمانية الكبار التي تبتغي صون التعاون مع الأنظمة العربية لكي تضمن مشاركة الأنظمة في "الحرب على الإرهاب" وتحافظ على استقرار أسعار البترول وقضايا محورية لا يأتي المشروع على ذكرها أو تحديدها، ومنها بالفعل "المصلحة التاريخية" مع إسرائيل الصهيونية وتطبيع العلاقات معها. لذلك يجب تسليم قيادة الإصلاح للأنظمة حسب مجموعة الثمانية، دونما إدراك أن الأنظمة ستتجاهل أو تقوم بتعطيل المشروع، أو في حال أرادت التنفيذ ولو شكلياً، فإن ذلك سيعني نهايتها ونهاية المشروع الأميركي وغيره في المنطقة. وفي النهاية لا يمكن التعويل على أبواق أميركا النشامى لأنهم لم يلعبوا في تاريخنا دور ذبابة الحصان السقراطية، بل لعبوا دور الوكيل وعليه لن ينسخوا السلطة إلا على ظهر الدبابات الأميركية الإسرائيلية وبالتالي ترى أميركا مرحلياً، أن عليهم قبول موقع ثانوي وهامشي يتسق مع قدراتهم وإعدادهم حتى إشعار آخر.
في سي آيلاند اجتمع قادة مجموعة الثمانية مع أعوانهم وإتباعهم الجدد من "جبهة الصمود والتصدي" التاريخية، الجزائر واليمن والعراق، ومن أتباعهم القدامى، الأردن والبحرين. وغاب عن المؤتمر الأركان التقليديون، مصر الساداتية والسعودية والمغرب وتونس الخضراء، علماً أن تونس مع الأردن والبحرين يشكلون الثلاثي البديل لمصر والسعودية وسوريا في هذه الحقبة، لأن هذا المحور الأخير يفتقر إلى الليونة الكافية في التغير المنشود.
وكان من الموضوعات الرئيسة على جدول الأعمال: العراق أولاً وأخيراً ومحاولة أميركا توريط الحلف الأطلسي في حروب أميركا وبالتحديد في العراق، عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، الاقتصاد العلمي، مساعدة أفريقيا ومكافحة الإيدز، وفوق كل الموضوعات مشروع أميركا للشرق الأوسط الكبير الذي استبدلت تسميته باسم: "الشراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك مع الشرق الأوسط الأوسع وشمالي أفريقيا". أي أن أفغانستان وباكستان وإيران وتركيا قد استبعدوا اسمياً من نطاق المشروع وان صرخة الديمقراطية والإصلاح قد خفتت وتحولت إلى مناشدات أخلاقية من أجل التنمية والتحديث وتغيرت النبرة والطموحات لأن الشعب العراقي حمل السلاح ولم يرضخ. وعليه، حلّ الاقتصاد مكان السياسة في قمة الثمانية الكبار. وكما ذكرت سابقاً، لقد تمّ البصم على البنود الأساسية وأبرزها "منتدى المستقبل" ويبقى أن أعطي فكرة مختصرة عما نشر وقيل في أميركا "حول الشراكة من أجل التقدم" واتهام أميركا بأنها تخلت عن مشروع التحول وتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط.
من حيث المواقف، إن محاولة توسيع دائرة الحلف الأطلسي وتجنيده لإنقاذ أميركا في العراق وجعله متراساً أميركياً أخفقت، ولكنها أشعلت الخلافات مجدداً بين "أوروبا القديمة" وأميركا النيونازية. وقد ألهب الرئيس شيراك المشهد عندما قال بشكل قاطع، أن "لا رسالة"(vocation) للحلف الأطلسي في بغداد مما اضطر بوش لتعديل موقفه والاعتراف بالتقييدات والتعقيدات التي ينطوي عليها مشروع تجييش الأطلسي للدفاع عن أميركا، الأمر الذي أفقد الصحافة الأميركية اهتمامها بالمؤتمر. وبالتالي انتقلت عملياً التغطية الصحفية من عناوين الصفحات الأولى إلى صفحات الرأي الداخلية.
وفي صفحات الرأي، كتب أن بوش يفتقر إلى المصداقية وإلى السلطة الأخلاقية والمعنوية لكي يستطيع فرض سلطته على المؤتمرين ويحصل على تجاوب إيجابي من "أوروبا القديمة" التي لا تثق بأميركا ولا بالسيد بوش بعد الحرب التضليلية التي شنتها إدارة بوش على العراق تحت ذرائع كاذبة. وأوضحت بعض الافتتاحيات، أن مسألة الشرق الأوسط حيث تسطع شمس الاستبداد ونقصان الديمقراطية وعجزها democratic deficit تجذر تحت إشراف أميركي على مدى نصف قرن وأكثر باعتراف بوش في خطبه "الإستراتجية التوّاقة" وأن مشكلة الشرق الأوسط لا تختزل بحاجة الشرق إلى خبرات تقنية، وهي متوفرة محلياً، بل إلى إرادة سياسية في التغيير. وهكذا إرادة غير متوفرة لأن النخب الحاكمة قد تحصنت وتخندقت وتجبرت وهي مصممة على البقاء في السلطة وكل ما ستقوم به تحت الضغوطات الأميركية هي عمليات تجميلية لا أكثر. والاستنتاج هو أن "الاختلال الوظيفي" في النظم العربية، لا يمكن معالجته، لأن الأنظمة غير راغبة وليس لديها القابلية للتغيير. لذلك إن محاولة نقل تجربة شرق أوروبا في التغيير بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إلى الشرق الأوسط سيكون مآلها الفشل لأن شروط الإصلاح المتمثلة في وجود حركات سياسية وأحزاب خارج نطاق السلطة وقادرة على الحشد والتحريك وفرض رؤيتها في الصلاح والديمقراطية والتغيير غير متوفرة. وإن الأفراد والمجموعات المتواجدة على الساحات العربية ليس بإمكانها سوى لعب دور هامشي.
أما صحافة اليمين فقد اتهمت الولايات المتحدة بالتخلي عن مشروع "التحول الاجتماعي" ورأت أن ما توصلت إليه مع مجموعة الثمانية الكبار لا يشكل سوى "مسكنات" anodyne. واعتبرت "الشراكة من أجل التقدم" انقلاباً على القيم الغربية كالعدالة الاجتماعية وتمكين المرأة والمساءلة والشفافية وسيادة القانون واقتصاد السوق والخ... ودحضت مقولة "عملية هلسنكي" Helsinki Process المطروحة كأداة ونموذج للتحول في الشرق، العملية التي أطلقت عام 1975 وآلت إلى الإطاحة بالاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية بين 1889 و1991. وأوضحت تلك الصحافة أن هلسنكي كانت نقلة نوعية سبقتها ومهدت لها انتفاضات شعبية في ألمانيا الشرقية 1953 والمجر 1956 وربيع براغ 1968 وميثاق مجموعة77 الذي رافقها وحركة التضامن البولندية التي تلتها وأوصلت فاليسا إلى السلطة والذي انتصرت له أميركا الريغانية، وسألت: هل من مثيل في البلدان العربية المليئة بالاستبداد والفساد ومعاداة الديمقراطية وأين؟ وذكّرت بوش بأن "الحرية الشخصية" ليست مطلباً جماهيرياً في البلدان العربية، وبالتالي عليه، في التعاطي مع هذه البلدان، انتهاج سياسة التفرد والتحلل أو التحرر من العهود التي قطعها unilateral disengagement. ولأن لا سياسة المواجهة ولا سياسة التعاون تجدي نفعاً، فإن ما قد ينفع ويدفع الأنظمة العربية للتحرك هو الحد من حركة الناس والبضاعة والمال أي العقوبات الاقتصادية والمقاطعة التجارية. وألمحت صحافة اليمين أن بوش لن يلعب ببارود النفط ولا يريد المجابهة الفعلية مع أصدقاء أميركا التقليديين الطغاة. وفي النهاية، اعتبرت الصحافة الأميركية، بشكل عام، أن سي آيلاند عكست انبثاق شرق أوسط كأن شيئا لم يحدث وأن جدول الأعمال في الشرق الأوسط على حاله Business as usual.
قمة دبلن الأوروبية الأميركية
لم تستقبل ايرلندا بوش بالرياحين والزغاريد كعادتها عند استقبال الرؤساء الأميركيين، بل استقبلته بالتظاهرات الصاخبة وبهتافات الاستنكار والتنديد لاحتلاله العراق، وذلك في جو من الغضب والرعب حوّل ايرلندا إلى ثكنة عسكرية لحماية المستر بوش. وأشارت الصحافة إلى أن السبب هو أفعال بوش وسياساته العدوانية والخرقاء التي استفزت الشعب الايرلندي الذي حقق بعض الثأر للشعب العراقي ولأحرار العالم الذين يعادون الإمبريالية الأميركية، الأمر الذي دفع أبرز مقدمة برامج سياسية، كارول كولمان، أن تسأل بوش في برنامج تلفزيوني يذاع مباشرة: "ماذا شعرت وأنت قادم إلى ايرلندا وتدرك تماما أن أكثرية الايرلنديين لا يريدون أن تأتي إلى بلادهم؟". وبعد نظرة بلهاء باتجاه كولمان، قال بوش: "إن العالم أصبح أكثر خطراً". لكن السؤال أحدث ضجة عالمية بالإضافة لما أسماه المتظاهرون "زيارة من الشيطان المجسم" Devil incarnate تمشياً علمانياً مع تسمية الخميني لأميركا "الشيطان الأكبر".
أما بعد، وعلى الرغم من أن "سبع قضايا كبرى" وُضعت على جدول أعمال القمة الأوروبية الأميركية، 26-6-2004، وتصدرها العراق وقضايا الشرق الأوسط والاقتصاد العالمي، نشر برتي أهيرن، المضيف للقمة، رئيس وزراء ايرلندا ورئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، مقالا في إنترناشيونال هيرالد تريبيون، 25-6-2004، تجنب فيه حتى الإشارة إلى الشرق الأوسط وتحدث حصرا عن العلاقات عبر الأطلسية، وركز على المحتوى الاقتصادي لتلك العلاقات مستندا إلى تقارير "مركز العلاقات عبر الأطلسية" حول العلاقات التجارية المتينة والاستثمارات الضخمة المتبادلة واليد العاملة وفرص العمل المتوفرة والأبحاث والتنمية المتصاعدة، متجاهلا القضايا الخلافية بين أوروبا وأميركا وملفتاً النظر إلى أن العلاقات الاقتصادية- المجتمعية تزداد تداخلاً واعتماداً متبادلاً. والحقيقة الموضوعية هي أن هناك ما يفرق وما يجمع ويوحد في العلاقات الأوروبية الأميركية. ومن الانقسامات الرئيسية نظرة أوروبا إلى التعددية القطبية كحالة عالمية متوخاة، وتصميم أميركا على أحادية قطبية بقيادتها، مما يعني في الحالة الأولى، اعتماد أوروبا على قيادة المحور الفرنسي الألماني لموازنة القوة الأميركية وتسريع عملية الاندماج الأوروبي لكي يستطيع المحور مواجهة الأحادية الأميركية على قدم المساواة ويدافع عن المصالح الأوروبية، بينما أميركا تركز على تقوية التحالف الأطلسي حرصاً على مكانتها المرموقة في قمة الهرم الدولي وتدعو إلى التقليل من الاندماج الأوروبي انطلاقاً من نظرتها لسرمدية الدولة الأمة الأوروبية كقاعدة لفرض هيمنتها واعتبار تلك الدول أدوات أميركية تحركها أميركا حسب مشيئتها الداعية إلى: التفرد حيث يمكن، والتحالف حيث ينبغي! وبلغة وولفويتز الفجة، أميركا تعد المائدة وأوروبا تغسل الصحون، بما معناه أن دور أوروبا يكمن في مجال تمويل تبعات المشاريع الأميركية لا دور القيادة والتوجيه أو حتى الشراكة المتساوية. أما بالنسبة لما يجمع ويوحد دعاة الأطلسية كقاعدة لسيادة العالم فإنهم يركزون على ثلاثة عوامل: 1، المصلحة المشتركة في اقتصاد عالمي مزدهر؛ 2، العامل الثقافي الذي تكبسله الصحافة في النيات الثلاث: السفر، التلفزة، التكنولوجيا The three Ts Travel, T.V., Technology، وفحواه الشعور المشترك بالتساكن في فضاء مشترك في ظل قيم غربية، والإحساس أن أوروبا وأميركا يحتلان كوناً ثقافياً واحداً من حيث الجوهر، وأن الخلافات الطارئة لا تشكل تناقضات غير قابلة للحل؛ 3، الحاجة إلى الاتحاد في مواجهة القوى الفوضوية التي تجتاح العالم.
وفي هذا المضمار، إن الخلاف بين الفريقين لا يتجاوز التكتيك في إطار إستراتيجية ينظر إليها ككل متكامل لا يجوز اختراقه. ونتيجة لهذه الإستراتيجية المشتركة يعتبر الفريقان أن الخطر الأول والأخير هو "الراديكالية الإسلامية". لذلك توقفت واشنطن مرحلياً عن التهديد بالزحف على دمشق وطهران حسب التايمز اللندنية، 7-6-2004، التي تنادي باستقرار الفلك اليوروأميركي. وفي هذا السياق تزعم الحياة، 22-6-2004، "أن الولايات المتحدة اقتنعت بوجهات نظر الاتحاد الأوروبي المتعلقة بأولوية حل النزاع العربي الإسرائيلي، وأن يكون الإصلاح نابعاً من صلب المجتمعات المعنية"، حسب مصادرها. لكن الواقع الموضوعي يقول إن أميركا وافقت فحسب على تفعيل "الرباعية" في مسألة الصراع العربي الصهيوني لا في إطلاق جولة مفاوضات جديدة أو طرح الانسحاب من الأراضي المحتلة، ومن الواضح أن عملية التنازل الكلامي هو عملة فاسدة في التعاطي مع شارون الذي يمارس يومياً سياسة الضم والإلحاق والتدمير والتشريد والقتل والتعسف في فلسطين المحتلة.
باختصار، إن ما نجم عن قمة دبلن هو محاولة تغطية على الخلافات والتوترات في العلاقات الأوروبية الأميركية ودعوة بكلمات منمقة تأييداً لدعم مساعي الحكومات العربية على طريق التحديث وحثها على "المضي بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبناء الديمقراطية وتشجيع حقوق الإنسان"، النهار، 27-6-2004، دونما وضع آليات متخصصة لترجمة المشاريع المقترحة وتوفير تمويل لتحقيقها، وكل ما أقرّ هو الطلب من بعض الدول الأوروبية غير المشاركة في احتلال العراق، تدريب الشرطة العراقية لحماية أمن موظفي أميركا بقيادة طاغية أميركا الجديد في العراق، السيد أياد علاوي.
قمة اسطنبول: إستراتيجية أمنية للديمقراطية
"نحن أمام مجتمع مدني يلتقي في ظلال حلف شمال الأطلسي ويستقوي به ليطالبه بأن يكرر في الشرق الأوسط دوره الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية: الاشتراك في القتال ولكن، أيضاً توفير مظلة للتغيير الديمقراطي! لقد قال الخبراء بصوت عال ما لا يقله المسؤولون وما لم تقله أوراق الإصلاح الرسمية: لا "تغيير" من دون أن يمد التحالف العسكري الغربي ظلاله فوق المنطقة، إنها "البوابة الأطلسية" للعبور نحو الديمقراطية".
جوزف سماحة في تعليقه على اجتماع لمثقفي الأطلسي للتداول في المهمات الجديدة للحلف في ظلال قمة اسطنبول بعنوان "الشرق الأوسط الكبير: المظلة الأطلسية شرط "الإصلاح" العربي"، السفير، 7-7-2004. ويستنتج سماحة "أن لا ديمقراطية بدون إستراتيجية أمنية".
على مدى عقدٍ من الزمن وأكثر، يخرج الحلف الأطلسي على قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم ويقترف جرائم حرب استناداً إلى طموحات انكلوسكسونية من البوسنة إلى كوسوفو إلى أفغانستان إلى العراق وبقيادة أمريكية متغطرسة لا فرق بين ديمقراطي وجمهوري لأن كليهما إمبراطوري النزعة والتوجه والتطلع، بغض النظر عن الأساليب والتكتيكات المتنوعة التي يتميز بها كل منهما. وصحافة أميركا بالتحديد، تتهم كل معارضي المآرب الأميركية، وعلى رأسهم فرنسا، باللامنطق الحُربائي الديغولي، أي باشتداد مفاجئ من حين إلى آخر لمرض العظمة Paroxysm of Gaullist illogic، ويستمر التوسع باتجاه أوروبا الشرقية وجنوب شرق أوروبا، أو مرحلياً بانتقال مركز الجاذبية إلى الشرق الأوسط وما خلفه، وبالتحديد ثانية، من شمال إفريقيا مروراً بالشرق الأوسط، إلى آسيا الوسطى والقوقاز، كمسرح لعمليات الحلف وملعب لتجارب أسلحته المتطورة. وبالضبط، هذا ما أُقر في قمة اسطنبول وما ينذر بالآتي في العقود القادمة، ما لم تنتفض شعوب تلك المناطق وتطيح بالحاكمين المحكومين وأسيادهم الأنكلوسكسون.
وبالعودة إلى ميدان العمل، اجتمع سفراء دول الحلف الأطلسي، وعددهم 26، في 25-6-2004، في بروكسل، واتفقوا على مسودة المخطط الذي سيطرحونه على قمة اسطنبول، 28 و29-6-2004، انطلاقاً من إستراتيجية عبر أطلسية، تتطلع إلى قيام شق أمني هدفه حراسة النظم "الديمقراطية" التي تعتزم أميركا إنشاءها على قياس ديمقراطية قرضاي أفغانستان، وعلاوي العراق! والتقى الرؤساء بقيادة بوش، في جو من التظاهرات والانفجارات وإجراءات أمنية لا مثيل لها في تاريخ تركيا، وعلى صدى الهتافات المدوية والداعية إلى طرد أميركا وصحبها من الشرق الأوسط ومنها: "قتلة الولايات المتحدة أخرجوا من الشرق الأوسط! ولتسقط الامبريالية الأميركية! أيها النوويون أخرجوا من الأطلسي!"
وعلى وقع والانفجارات، تقرر تدريب قوات الأمن العراقية في العراق وخارجه ولم يذعن "القادة" إلى توريط الحلف كمؤسسة في العراق، كما ابتغت الولايات المتحدة علماً أن بيرنز سفير أميركا إلى الحلف، بدبلوماسية مخففة، أعلن "إن دعوتنا أن يقوم الحلف بالمزيد في أفغانستان، وفي اقتراحنا أن يفكر الحلف في ما يمكن أن يقوم به في إطار واجباته في العراق". وكانت فرنسا شيراك بالمرصاد لهذا المخطط وجاهرت بقلقها وتحفظاتها حيال تدخل الحلف كمؤسسة. وبالتالي ما صدر عن الحلف كمؤسسة هو حسب البلاغ الرسمي المكون من 46 بنداً، منها:
1- البند السادس والعشرون يؤكد على "إستراتيجية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي" ويتعهد الفريقان بممارسة "روح الشفافية بما يتعلق في استقلالية التنظيمين" اللذين تجمعهما معاً القيم المشتركة والمصالح الاستراتيجية ويوجبهما التشارك في الدفاع والأمن وإدارة الأزمات ومحاربة الإرهاب؛
2- البند السادس والثلاثون، الارتقاء بالحوار المتوسطي الذي تأسس عام 1994، من مرتبة الحوار إلى مرتبة "الشراكة"، وتضم "الشراكة" موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وإسرائيل والأردن؛
3- البند السابع والثلاثون، وعنوانه "مبادرة تعاون اسطنبول" التي تضمنت عرضاً للتعاون في مجالات الدفاع والأمن واتجهت كبداية، نحو دول الخليج العربي، وعلى قاعدة ثنائية، إذا شاءت الأطراف المعنية؛
4- البند الحادي والثلاثون، تتعهد الشراكة اليورو أطلسية بارتقاء التركيز على الحلفاء، جورجيا، أذربيجان وأوزباكستان في القوقاز وآسيا الوسطى، المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية، وتتطلع الشراكة إلى "تنمية الشراكة الفردية على قاعدة خطط عمل مع الأطلسي".
أما بعد، إن الصراع الديغولي الإمبراطوري الأميركي قد تمظهر في قصفٍ كلامي في المؤتمرات الصحفية التي عقدها كل من بوش وشيراك وملخصه كالآتي:
أولاً، أعلن بوش "إن عراقاً جديداً ديمقراطيا يبزغ في قلب الشرق الأوسط الواسع... وإن شعوب المنطقة متلهفة إلى الإصلاح ونحن نستمع إلى أصواتها... وإن العراق هو أحدث ديمقراطية في العالم وهو الآن ساحة معركة بين التطرف السياسي والقيم المتحضرة... إن التغييرات في العراق تشجع الإصلاحيين في كافة الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا وإيران التي يحاول فيها الأوتوقراطيون المتعبون وفاقدو المصداقية كبح الإرادية الديمقراطية للجيل الناشئ... إن عراقاً حراً وسيادياً يشكل كذلك هزيمة حاسمة للمتطرفين والإرهابيين لأن إيديولوجيتهم المكروهة ستفقد جاذبيها في بلدٍ حرٍ ومتسامحٍ وناجح"، السفير، 30-6-2004، والحياة والنهار.
ثانياً، إن شيراك الديغولي المنحى، لا ترهبه أميركا كثيراً، وفي الواقع، هو من حيث المبدأ، يدافع عن مصالح أوروبية بقيادة المحور الفرنسي الألماني، وينزع أحيانا، نحو المبدئية المندمجة بالمصالح، إذ بشكل صاروخي يطرح: إن جورج بوش تخطى حدوده بدعمه جهاراً انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ويضيف "إن بوش غير معني بهذا الموضوع، وليس من شأنه، أن يملي توجهاً على الإتحاد، ما يمكن أن أشبهه بمبادرتي إلى شرح كيف يتحتم على الولايات المتحدة أن تدير علاقاتها مع المكسيك"، الحياة، 29-6-2004. وبالنسبة إلى أطروحات أميركا حول إرسال قوات أطلسية إلى العراق، فإن شيراك يشدد: "من جانبي إني أعارض تماماً أي وجودٍ أطلسي في العراق. أعتقد أن ذلك أمر خطير وسيأتي بنتائج عكسية وسيسيء الشعب العراقي فهمه... إن أحد الشروط لاستقرار العراق هو أن يتأكد العراقيون من أن حكومتهم حرة تمتماً ومستقلة وقادرة على اتخاذ القرارات... إن تدخلاً إضافياً للحلف الأطلسي في العراق لن يساهم بالتأكيد في تحقيق ذلك... إن هناك تقديراً وصداقة عميقين بين شعبينا نحن أصدقاء وحلفاء ولسنا خدماً للولايات المتحدة. عندما لا نكون متفقين نقول ذلك لكن لا نقوله بشكلٍ عدائي، بل نقوله بشكلٍ حازم"، السفير، 30-6-2004.
وبالنتيجة استخلص من الصراع بين أوروبا عبر أطلسية وأوروبا سيادية، أن الأوروبيين بدأوا تصاعدياً يستاءون من الهيمنة الأميركية وتسلطها، وإنهم كمجتمعات عانت الكثير من الحروب، أخذوا من السلام منحى لهم ومصيراً وإنهم يتطلعون ويعملون من أجل أوروبا موحدة ومندمجة وذات هوية جامعة ومتسامحة، وأنظمة اجتماعية الطابع يحكمها اقتصاد مختلط لا داروينية اجتماعية وأوليغارشية جامحة وجانحة نحو الحرب، على منوال الطبقة الحاكمة الأميركية. ويرى الأوروبيون أن من واجبهم الإنساني والأخلاقي والعمراني لجم الجموح الأميركي وتأطيره في أقنية الأمم المتحدة والمحافل الدولية لا السماح لها بالانفلات والتفرد وإلزام أوروبا بتوفير الجند والمال والمساعدات الاجتماعية المجانية. إن أوروبا السلام والازدهار والحرية هي بالفعل "أوروبا القديمة"، والمشكلة هي أن أميركا الريغانية البوشية لا تستطيع أن تعيش بدون حرب وتوسع واحتلال واستغلال لأن الحرب مسألة بنيوية في طبيعتها ومسارها وتاريخها. المسألة إذن، كيف على أوروبا أن توازن كقوة صاعدة بين الحرب والسلام وكيف تحوّل الحرب الأميركية العالمية على الإرهاب إلى حرب ذات طابعٍ بوليسيٍ أمني لا حرب دمار وإلغاء لا حدود لها وتُستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة الفتاكة بدون رادعٍ إنساني. إن على أوروبا، قديمة أو ديغولية، أن تحمي البشرية من حُمى الغلواء الأميركي ومن جنون العظمة ومن الاستهتار بالقوانين والأعراف الدولية ومنع استباحة الشعوب ومقدراتها وأوطانها، وإلاّ نحن على شفير هاويةٍ لا نعرف أين قعرها، وجحيمٍ لا ندرك اتساع وعمق لهيبه. والسؤال في هذا المجال: هل يمكن في هذا العصر المفتوح على كافة الاحتمالات أن نفتش عن أعجوبة يتحول بموجبها شاوول وهو في طريقه إلى دمشق إلى بولس الرسول مؤسس الكنيسة المسيحية الإنسانية وقاعدتها إنطاكيا المسلوبة؟ أنا لا أؤمن بالعجائب، لكني أؤمن بالإنسان، بالعقلانية، بالعلم، بالثورة! فهل ستنتصر الثورة، أم سينتصر هانز ويكسل الذي يبيع الثورة المضادة، وفي هذه البرهة يفتش عن عملاء محليين لكي ينتصروا لديمقراطية في المجد والكرامة؛ وهاكم الإعلان غير المدفوع لأميركا وكل ليبرالييها "العظماء، الشرفاء، المحررين":
"أود تبديد هذا الخوف من أننا هنا إلى حد ما للعمل سراً على تقوية شوكة جماعات المعارضة التي تريد أن تتسبب بمشكلات لحكومات المنطقة... إننا نعمل من أجل إحداث تغييرات هيكلية محضة وليس من أجل تغييرات سياسية. إنها ليست بأي حال وصفة سحرية ولكننا نريد المساعدة على خلق بيئة تزيد من صعوبة ترويج الأفكار التي تدعو إلى الكراهية... إننا بحاجة إلى العثور على أشخاصٍ في المنطقة يريدون مواجهة هذه الأفكار وتقويض عمليات الاستغلال والتوجيه الذي يخلق إرهابيين وتوسيع نطاق الحرية السياسية والفرص الاقتصادية التي ستساعد على ذلك".
هانز ويكسل، مدير مكتب "الشراكة مع الشرق الأوسط" في أبو ظبي، الذي أعلن أن المشروع أنفق منذ بدايته نحو 190 مليون دولار على مساعدة الجماعات المناصرة للإصلاح، وطلب 150 مليون دولار أخرى للعام المالي القادم الذي يبدأ في تشرين الأول، الصحافة، 13-9-2004.
د. جورج حجار
كاتب من لبنان