مسودة وثيقة للنقاش (3)
لبنان وضرورات التغيير
البدائل الاقتصادية والاجتماعية أو التوجه الاقتصادي البديل
غالب أبو مصلح
يشكل هذا النص (المكمل للنص المنشور في العددين السابقين) القسم الثالث[1] لوثيقة تعمل على بلورتها مجموعة من المهتمين بغية الوصول إلى تصور لمشروع التغيير المطلوب في لبنان، على ضوء المستجدات العالمية والعربية وانعكاساتها اللبنانية. وعليه هذا النص مجرد مسودة للنقاش، نأمل من كل المعنيين المساهمة فيه، على صفحات مجلتنا أو خارجها.
العرب والعولمة
يتضح مما تقدم (الحلقة الأولى والثانية) أن المأزق الاقتصادي الاجتماعي في لبنان ليس تعبيراً عن حالة مرضية يمكن مداواتها وعلاجها ببعض المسكنات والإجراءات والقرارات، وعبر بعض السياسات المالية، مثل زيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق، للوصول إلى تقليص عجز الخزينة ومحاولة احتواء الدين العام.
إن الأزمة هي أزمة بنيوية تتمثل في فقدان الطبقة الحاكمة لدورها التاريخي على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولفقدان دور لبنان الاقتصادي التاريخي في محيطه نتيجة متغيرات الداخل والمحيط العربي والعالمي. وبالتالي فإن العلاج يتمثل في إتباع سياسات اقتصادية واجتماعية مغايرة تماماً، وفي استهدافات نهائية ووسطية مغايرة كلياً للاستهدافات السابقة، ولبناء اقتصاد لبناني متوازن بين قطاعاته، وبالتالي بين المناطق، ولدور اقتصادي وعلاقات اقتصادية جديدة مع المحيط العربي ومع العالم.
ليس المطلوب في هذه المرحلة التاريخية ثورة شعبية بروليتارية أو فلاحية لخلق نظام اشتراكي أو حتى راديكالي في لبنان، وليس هذا ممكناً في هذه المرحلة وفي ظل البنية الاقتصادية الحالية، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعد التحولات الكبيرة في الصين نحو اقتصاد السوق والانفتاح التدريجي على العالم الرأسمالي وبنيته الاقتصادية والنظام العالمي الذي يشكله. فقد انفتحت الصين على تطور بنية رأسمالية محلية، وفتحت الأبواب واسعة أمام الرساميل الأجنبية الوافدة والعلاقات الرأسمالية في الإنتاج والتسويق والإدارة، فلم تعد نموذجاً لتجربة اشتراكية في بلد متخلف أو نامٍ. وبالتالي فإن بنية النظام العالمي والتحولات التي شهدتها معظم الأنظمة الاشتراكية والراديكالية في العالم أسقطت البديل الاشتراكي بالنسبة لبلد صغير شديد الانكشاف على الخارج، سياسياً وثقافياً واقتصادياً.
يهدف التغيير المطلوب في لبنان إلى بناء نظام رأسمالي إنساني حديث (ربما على نمط بعض الأنظمة الأوروبية الغربية)، نظام ديمقراطي حقاً وليس شكلاً وظاهرياً، يمثل تحالف عدة طبقات شعبية: عمال، فلاحين، طلاب، برجوازية صغيرة ومتوسطة، مع برجوازية وطنية غير البرجوازية الكولونيالية الاحتكارية المرتبطة بالخارج الاستعماري والإمبريالي وتابعة له. وهنا تتشابك بل وتتماثل الأهداف السياسية مع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للتغيير.
إن الاستقلال السياسي عن المراكز الإمبريالية، وعودة لبنان إلى عروبة فاعلة لا مستسلمة، وبالتالي إلى تحمل واجبات انتمائه العربي يعني اندماجه في محيطه، ليس فقط على صعيد السياسات الخارجية والتصدي للصهيونية والإمبريالية ومخططاتها في المنطقة، بل أيضاً على صعيد العلاقات الاقتصادية والثقافية. ففي هذا الإطار، ونحو هذه الغاية يجب أن تتوجه مجمل السياسات اللبنانية. بكلام آخر، لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، ولا يمكن استمرار توجه السياسة اللبنانية الحالية ببعديها الدولي والإقليمي في ظل سيطرة الطبقة البرجوازية الكولونيالية وبرامجها السياسية التابعة في حقيقتها لعلاقاتها وولاءاتها الدولية.
لذلك فإن التغيير المطلوب لا يمكن أن يتمثل بإجراءات جزئية تسمى إصلاحاً تدريجياً، وعلى جرعات، أو إصلاحات منتقاة على عدة صعد وفي أكثر من قطاع اقتصادي. إن التغيير المطلوب يتمثل بحزمة متماسكة ومتكاملة من الاستهدافات والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، تشكل بتكاملها خطة إنقاذية للبنان. ولا يمكن إصلاح قطاع اقتصادي بمعزل عن غيره من القطاعات، إذ إن قطاعات الاقتصاد تتداخل وتتساند ويكمل بعضها البعض الآخر. لذلك فإن أي خطة اقتصادية قابلة للنجاح يجب أن تكون خطة مدمجة Integrated.
أما على صعيد الفكر الاقتصادي، فإن العديد من ثوابت ومقدسات الفكر الاقتصادي اللبناني يجب أن تسقط. فقد أصبحت بعض الأفكار من بديهيات هذا الفكر الاقتصادي التابع لبنية النظام ومصالح الطبقة الحاكمة: السرية المصرفية، الحرية الكاملة والانفلات الكامل في السوقين المالية والنقدية (ما يفتخر لبنان كثيراً بالالتزام به حتى أبان الحرب الأهلية)، وتكويم الذهب دعماً لليرة، وأولوية التجارة الخارجية وحريتها المطلقة ولو على حساب بقية قطاعات الاقتصاد، وإلى ما هنالك من ثوابت في الفكر الاقتصادي في لبنان. إن الأفكار والمبادئ الاقتصادية ليست مقدسة، وليس الاقتصاد اللبناني والمجتمع اللبناني في خدمتها، بل العكس هو الصحيح. فليس هناك أفكار اقتصادية جيدة إلاّ بمقدار ما تخدم الإنسان في لبنان وتؤمن له سبل العيش الكريم... وعلى لبنان الاستفادة من تجارب العديد من شعوب العالم التي حققت نهضتها الاقتصادية والاجتماعية بعد حروب مدمرة، أو بعد سيطرة استعمارية طويلة.
إن أوروبا الغربية مثلاً قيدت الكثير من الحريات الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية. وألمانيا وفرنسا الدولتان الرأسماليتان بامتياز اتخذتا بعد الحرب إجراءات ضريبية قاسية، وحدّتا من حرية التحويلات الرأسمالية منها، وحمتا أسواقهما المحلية وما زالتا تفعلان ذلك في بعض القطاعات. وأعطتا للسلطة المركزية دوراً أساسياً في إعادة بناء الاقتصاد وتوجيهه. أما تجربة نمور آسيا فهي أيضاً جديرة بالدراسة، فقد حمت أسواقها بشدة ووجهت اقتصادها وحمته، ولعبت الحكومات المركزية فيها دوراً كبيراً ليس فقط على صعيد تطوير البنية التحتية، بل أيضاً على صعيد الرقابة والدعم والتوجيه والحماية. وأخذت تفتح أسواقها تدريجياً بعد أن بلغت درجة عالية من النضج. ولبنان ليس استثناءً لدول العالم وتجاربه كما تزعم الطبقة الحاكمة اللبنانية. إن ما يصح في العالم يصح أيضاً في لبنان.
إن وضع خطة اقتصادية مدمجة يتعدى مهمة هذه الوثيقة، ويحتاج إلى إحصاءات كثيرة، وإلى تقدير مدخلات ومخرجات كل قطاع في إطار علاقاته مع بقية قطاعات الاقتصاد ومع الخارج، ويحتاج إلى جهود فريق عمل متكامل في شتى الاختصاصات. إن استعمال لوائح المدخلات- المخرجات Input-output Tables ضروري لتفادي خلق اختناقات في بعض المواقع أو في بعض القطاعات، تعطل تنمية قطاعات أخرى تعتمد عليها في بعض المدخلات، أو أن تؤخذ إجراءات وتوضع سياسات لبعض القطاعات دون إدراك ما تلحقه من ضرر بقطاعات أخرى. وكثيراً ما تبرز التناقضات في متطلبات تنمية قطاعات مختلفة، ولا بد بالتالي من الوصول إلى سياسات توفيقية تحافظ على التوازن أو النمو المتوازن بين القطاعات، وبما يتناسب مع تحقيق الأهداف الوسيطة، وبالتالي تحقيق الأهداف النهائية المحددة. فلكل قرار اقتصادي أو اجتماعي إيجابياته وسلبياته، ويجب أن يتم وزن الإيجابيات مع السلبيات لتبيان القيمة الحقيقية لهذه القرارات.
الأهداف النهائية والوسيطة
لا بد لأي سياسة أن يكون لها أهدافها النهائية والوسيطة، المعلنة أو غير المعلنة. وإذا كانت الطبقة الحاكمة في لبنان تخفي هذه الأهداف وتموهها حتى لا تستنفر بقية الطبقات الاجتماعية وتدفعها إلى التمرد أو الثورة، فإن الخطة الإنقاذية يجب أن توضح أهدافها وتطرحها للنقاش العام، وعلى أوسع نطاق ممكن، لحشد الجماهير والقوى الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير خلف هذه الخطة؛ أي أن تساعد في تكتيل هذه القدرات الشعبية والسياسية لفرض برنامجها وحمله وتحقيقه.
الأهداف النهائية: ويمكن تحديد أهم الهداف النهائية بالأهداف التالية:
1- تحقيق أعلى معدل ممكن من العمالة، أو الوصول إلى ما يقارب العمالة الكاملة، وجعل العمل حقاً لكل مواطن قادر عليه؛
2- تحقيق أعلى معدل ممكن من التنمية الشاملة، الاقتصادية والاجتماعية، أي تحقيق نمو اقتصادي ثابت ودائم، مع تنمية كافة قوى الإنتاج، خاصة قوة العمل؛
3- توزيع عادل للناتج المحلي القائم، وتضييق الفروقات الطبقية بين شرائح الدخل؛
4- التأكيد على حقوق الإنسان في العلم والعناية الصحية والتطبيب والسكن اللائق والعمل الملائم للكفاءة والقدرات والحرية الفكرية والسياسية وحق التعبير...
5- توفير أمن المجتمع من أي عدوان أو تهديد خارجي، وتوفير استقرار المجتمع وأمن الفرد في الداخل وحمايته عبر حكم القانون؛
6- دمج لبنان في محيطه العربي للمساعدة في تحقيق أمنه القومي ورخائه الاقتصادي.
الأهداف
الوسيطة: أما
الأهداف
الوسيطة
فتتمثل
بسياسات
عديدة ومركبة
على أكثر من
صعيد، وأهمها:
السياسة المالية
إن تصحيح السياسة المالية لا يمكن أن يتم عبر إجراءات فورية ودفعة واحدة، بل من الضروري اتخاذ سلسلة من الإجراءات المتوازنة عبر عدة سنوات حتى يتم تصحيح هذه السياسة. كما أن الإجراءات المطلوب اتخاذها لها إيجابياتها وسلبياتها.
احتواء الدين العام وخفضه
يشكل الدين العام، بحجمه الكبير، استنزافاً كبيراً للخزينة، من حيث كلفته، ويهدد الاستقرار النقدي، ويرفع من معدلات الفوائد، ويشكل مضخة كبيرة لضخ الثروة من الطبقات الشعبية إلى المصارف وأصحاب الثروات الكبيرة، ويبقي بل يوسع الفروقات الطبقية. وبالتالي فإن احتواء الدين العام (بمعنى عدم السماح بنمو الدين كنسبة من الناتج المحلي القائم) ثم خفضه إلى دون معدل 60 بالمئة من الناتج (النسبة المسموح بها أوروبياً لنمو الدين العام) هو الهدف الذي يجب العمل بجدية لتحقيقه.
ويمكن احتواء الدين عبر ثلاث وسائل أساسية: أولاً، رفع نسبة واردات الخزينة من الناتج المحلي القائم؛ ثانياً، تخفيض الإنفاق العام؛ ثالثاً، تحقيق معدلات نمو حقيقية في الناتج المحلي القائم.
أولاً، رفع نسبة واردات الخزينة
بالرغم من أن واردات الخزينة مرتفعة نسبياً في الوقت الراهن، وتشكل أحد العوائق في وجه النمو الاقتصادي، فلا مناص من رفع معدل هذه الواردات على المديين القصير والمتوسط لمعالجة مشكلة الدين العام. أي إنه لا بد من زيادة الضخ الضريبي للمالية العامة إلى معدلات لا تتجاوز في أي حال نسبة 24 بالمئة من الناتج المحلي القائم، وذلك بجانب جبايات مؤسسات الضمان الاجتماعي.
ولكن زيادة الضخ الضريبي يجب أن يكون عبر زيادة الضرائب المباشرة فقط، وربما أيضاً بجانب خفض الضرائب غير المباشرة، وبالتالي زيادة الأعباء الضريبية على أصحاب المداخيل المرتفعة وخاصة الريعية منها، وخفض الأعباء الضريبية عن الطبقات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود. وذلك يتطلب الإجراءات التالية:
1- رفع معدلات الضريبة على أرباح الشركات والمؤسسات إلى حوالي 30 بالمئة (وهو معدل يقل عن معدلات الضريبة المعمول بها في معظم أنحاء العالم وفي دول الجوار). إن فكرة الجنة الضريبية التي تبنتها حكومة الرئيس الحريري الأولى أعطت البرهان الواضح على عدم فعاليتها في استقطاب التوظيفات الخارجية المنتجة. فمصر مثلاً، التي تصل فيها نسبة الضرائب على أرباح الشركات إلى 50 بالمئة، تستقطب نسبياً أضعاف أضعاف ما يستقطبه لبنان من هذه التوظيفات الخارجية، وكذلك دول المغرب العربي مثل تونس والمغرب.
2- رفع الضرائب التصاعدية على شرائح الدخل الفردي الأكثر ارتفاعاً لتصبح الشطور العليا لهذه الضريبة لا تقل عن 50 بالمئة بدل 20 بالمئة حالياً، مع إبقاء نسبة الضريبة على الشطور الدنيا ثابتة.
3- فرض الضريبة التصاعدية على شطور الدخل المجمع للفرد أو العائلة، بدل النظام الحالي الذي يفرض الضريبة التصاعدية على كل مورد مستقل من الدخل، ما يخفض كثيراً من تصاعدية ضريبة الدخل للأفراد.
4- استحداث شرطة مالية للتحري عن المداخيل الحقيقية للعائلات، قياساً لأنماط استهلاكها، وكما هو سائد في دول العالم المتقدم.
5- رفع السرية المصرفية بالنسبة لمدققي الضرائب والشرطة المالية. فهذه السرية هي الستار الأهم الذي يخفي المداخيل الحقيقية والأرباح الخاضعة للضريبة لدى الأفراد والشركات وأصحاب المهن الحرة، وبالتالي يمكنهم من التهرب من الضرائب على نطاق واسع جداً. فهذه السرية المصرفية قد تم رفعها فعلاً، ورغم القوانين السائدة، بطلب أميركي ضاغط، لمكافحة تبييض الأموال، وعملياً لتجفيف مصادر التمويل لمنظمات المقاومة العاملة ضد أميركا وإسرائيل، ومصادرة أموالها. فمن الضروري رفع هذه السرية بالنسبة للقضاء ولمدققي الضرائب ولجنة الرقابة على المصارف.
6- وحتى لا تشكل هذه الزيادات في الضرائب المباشرة عبءً على الادخار (وبالتالي توظيفات القطاع الخاص) يمكن إعفاء أرباح الشركات التي يُعاد توظيفها في الموجودات الثابتة للشركات والتي تؤدي إلى زيادة الإنتاج وفرص العمالة، من الضرائب. كما يمكن حسم مداخيل الأفراد التي يتم توظيفها في السكن العائلي أو في التوظيف المنتج في قطاعات محدودة من الضرائب أيضاً، وذلك تشجيعاً لرفع معدلات الادخار، بدل الاستهلاك عند الأفراد والعائلات.
7- استحداث ضريبة على الثروة، خاصة الثروات العقارية غير المبنية، توازي 2 في الألف سنوياً على هذه الثروات التي تتجاوز قيمتها بضعة ملايين من الدولارات كحد أدنى. وهذه الضريبة توازي في وقعها ضريبة الإرث التي يتهرب منها المالكون الكبار عبر قانون إعفاء تداول أسهم الشركات العقارية من رسوم الانتقال والبيع والشراء.
8- زيادة الضرائب المباشرة على سلع الاستهلاك الكمالية التي يهدف المجتمع إلى كبح استهلاكها، كالتبغ والمشروبات الروحية مثلاً، وعلى السيارات الخاصة الكبيرة والفخمة، والملابس الفاخرة، وإلى ما هنالك من كماليات، كما زيادة الضرائب الجمركية على السلع المستوردة المدعومة خارجياً لحماية الإنتاج المحلي من سياسات الإغراق، وحماية الصناعات الوليدة في الداخل.
9- تخفيض الرسوم والضرائب على مدخلات الإنتاج المستوردة التي لا بدائل لها في الداخل، وكذلك على سلع الاستهلاك الشعبي المستورد ولا بدائل محلية لها.
إن هذه السياسات الضريبية المقترحة تعيد تصحيح السياسات الضريبة المعمول بها، والتي تقوم الحكومات المتتالية على تطويرها تدريجياً منذ بداية التسعينيات لنقل الأعباء الضريبة عن كاهل الطبقات الموسرة والشركات إلى كاهل أصحاب الدخل المحدود والطبقات الشعبية. والهدف من هذا التصحيح الضريبي رفع معدل الضرائب المباشرة لتمثل حوالي 70 بالمئة من الضخ الضريبي بدل 20 بالمئة في الوقت الراهن.
ثانياً، تخفيض الإنفاق العام
من الضروري خفض إنفاق الخزينة غير المنتج أو غير المجدي، وخفض عجز الخزينة إلى ما دون معدل نمو الناتج المحلي القائم، وذلك خلال ثلاث سنوات كحد أقصى. ويكون خفض الإنفاق متوازياً مع سياسات اقتصادية واجتماعية أخرى تنتج فرص عمل جديدة وتصنع شبكة أمان اجتماعي. فالإنفاق الذي يجب خفضه هو ما يتعلق بالهدر في الإنفاق الاجتماعي، وبكلفة السلطة وتخفيض هذه الكلفة إلى المستويات المتعارف عليها عالمياً.
كلفة السلطة
تصل كلفة السلطة في لبنان الآن إلى أكثر من 16.5 بالمئة من الناتج المحلي القائم. فمن الضروري خفض هذه الكلفة إلى حوالي 8.5 بالمئة من هذا الناتج. وذلك يكون عبر السياسات التالية:
1- إصلاح إداري شامل (سيأتي بحثه لاحقاً) بحيث تتخلص الإدارات من البطالة الخفية فيها، وعبر تحديث الإدارة تنظيمياً، وتحديث الهيكلية والقوانين الإدارية، وعبر الاستفادة القصوى من تقنيات الاتصالات والحواسيب، وتطهير الإدارة ومنع تسييسها.
2- خفض الهدر في الإنفاق الاجتماعي الضخم، مع توسيع الخدمات الاجتماعية وتحسين نوعيتها، خاصة في حقلي التعليم والصحة (سيأتي بحثهما لا حقاً).
3- خفض الإنفاق على القوى المسلحة كافة، مع زيادة فعاليتها وتوسيع مهامها، وذلك عبر إلغاء ازدواجية الأجهزة العسكرية وشبه العسكرية، وعبر الوصول إلى عقيدة عسكرية جديدة تتناسب مع إمكانات الخزينة اللبنانية وضرورات الأمن الوطني في التصدي للعدوان الإسرائيلي والإمبريالي، تسليحاً وتنظيماً وأسلوب قتال.
4- خفض كلفة الدين العام عبر خفض معدلات الفوائد إذا سمحت التطورات العالمية والمحلية بذلك، وعبر إطفاء جزء من الدين عن طريق تخصيص بعض القطاعات غير الحيوية (مثل كازينو لبنان وإدارة حصر التبغ والتنباك، مع إبقاء الرقابة الحكومية الصارمة عليهما) وعبر التخلي عن الذهب كتغطية للعملة اللبنانية، هذه التغطية التي لم يعد لها أي فائدة على الإطلاق، وتمثل وهماً لدى الجماهير وبعض السياسيين، وخداعاً للذات حول قوة الليرة اللبنانية.
5- زيادة الإنفاق التوظيفي في البنية التحتية ولبعض الوزارات والمؤسسات والمرافق العامة الداعمة للإنتاج السلعي والخدماتي، مثل المدارس المهنية والإحصاء المركزي والسدود المائية وقنوات الري والطرق الزراعية والبحوث الصناعية ومؤسسة المواصفات والمقاييس ووزارتي الصناعة والزراعة ووزارة البيئة وغيرها.
6- زيادة الإنفاق على التعليم الرسمي مع رفع مستواه وحصر الهدر فيه بكل مراحله وزيادة نسب استيعابه للطلاب. زيادة الإنفاق على المستشفيات الحكومية وتفعيلها وزيادة عددها وعدد الأسرة فيها، ومن ثم حصر معظم الاستشفاء المعان بهذه المستشفيات العامة. زيادة الإنفاق على الضمان الاجتماعي وتعميمه وربطه بمستشفيات القطاع العام خاصة، واستيراد الدواء عبر إعادة إحياء مكتب الدواء في وزارة الصحة لخفض الإنفاق عليه.
7- استحداث شبكة أمان اجتماعي للحماية من البطالة، تبدأ بضمان من يخرجهم الإصلاح الإداري من موظفي القطاع العام وأجرائه.
إن
الإجراءات
المقترحة
أعلاه تغير
وقع السياسة
المالية على
توسيع
الفروقات
الطبقية إلى
نقيضها، أي
تضييق هذه
الفروقات. ومن
الملاحظ
عالمياً أن
تضييق
الفروقات
الطبقية يرفع
من معدلات نمو
الناتج
المحلي،
ويزيد وتائر
التنمية
الشاملة،
ويرسخ السلم
الاجتماعي.
وهذا هو أحد
الأهداف
الأساسية
للسياسات
المالية في جميع
دول العالم،
حتى أكثرها
تشبثاً
بالنظام الرأسمالي،
مثل بريطانيا
وأميركا. ففي
بريطانيا إن
دخل الشريحة
العليا (20
بالمئة من
السكان) تصل
إلى حوالي 27
ضعف دخل
الشريحة
الدنيا قبل وقع
Impact
السياسة
المالية التي
قلصت هذه
الفوارق إلى حوالي
سبعة أضعاف
فقط. إن
التركيز في
الضخ الضريبي
على الضرائب
المباشرة
التي تطال
فئات الدخل
العليا،
والتركيز في
الإنفاق على
دعم بعض السلع
والخدمات
الضرورية مثل
التعليم
والطبابة
والسكن وبعض
السلع الأساسية
مثل القمح
والمياه
والكهرباء،
والتي ترفع من
الدخل
الحقيقي
للطبقات
الشعبية... هذه
السياسة
المالية تضخ
الثروة من
الأغنياء إلى الفقراء
وتقلص
الفروقات
الطبقة.
ثم إن الإنفاق المتوازن للخزينة يهدف إلى إعادة توزيع اعتمادات الوزارات بحيث تأخذ وزارات الإنتاج السلعي و الخدماتي، مثل وزارة الزراعة والصناعة والسياحة، أضعاف الاعتمادات المخصصة لهذه الوزارات في موازنات الحكومة في السنوات الماضية، لتتمكن هذه الوزارات من القيام بمهامها في تنمية هذه القطاعات.
فالإنماء المتوازن بين المناطق يعني إلى حد بعيد تحقيق الإنماء المتوازن بين قطاعات الإنتاج، ولا يقوم على توزيع الخدمات على المناطق بشكل شبه متوازن، أو القيام بمشاريع البنية التحتية التابعة لقطاعات الخدمات والتي لا ترفع من إنتاجية هذه المناطق، وبالتالي لا تساهم في خلق فرص عمل جديدة ودائمة، ولا ترفع من إنتاجية الفرد فيها. إن الإنفاق، مثلاً، على مدينة رياضية في الهرمل أو عكار، وبالرغم من فائدته المحدودة، يختلف كلياً في وقعه عن بناء سد وأقنية للري أو بناء المدارس المهنية الخاصة بالزراعة، وبالتالي لا يشكل هذا الإنفاق (بناء مدينة رياضية) إنفاقاً متوازناً بين المناطق.
السياسة النقدية
التمويل
يلعب التمويل دوراً أساسيا في الاقتصاد ويشكل عصب التنمية الاقتصادية. وتشكل المؤسسات المالية، من بنوك وصناديق ادخار وسوق مالية ومؤسسات الوساطة المالية، أدوات الأسواق المالية والنقدية. ويتمثل دور هذه المؤسسات بالوساطة المالية بين المدخِر والموظِف، وتلعب بالتالي دوراً محورياً في جمع المدخرات وتوجيه التمويل. ويشكل تطوير وتنمية الأسواق المالية ومؤسساتها شرطاً أساسياً للتنمية الاقتصادية.
تمثل المصارف التجارية عماد السوق المالية اللبنانية، الاحتكارية ببنيتها والمتخلفة وغير الكفؤة، ولا بد بالتالي من تطوير مؤسسات هذه السوق وشروط العمل فيها. فالمطلوب بإلحاح تطوير أدوار مؤسسات الوساطة لتلبي طلب التمويل لقطاعات الاقتصاد كافة بالشروط الأكثر ملاءمة لهذه القطاعات، خاصة في الإقراض المتوسط والطويل الأجل. كانت التجربة الماضية في هذا الإطار تتمثل بالترخيص للمصارف المتخصصة التي أثبتت فشلها، ضمن شروط إنشائها وظروف صعبة مرّت بها، وأساليب إدارة الإقراض فيها. والطريقة الأكثر صواباً واتساقاً مع تطور الأسواق المالية عامة والمصارف بشكل خاص، ربما تتمثل في العمل على تحويل المصارف التجارية إلى مصارف شاملة تقوم بمهمات المصارف التجارية وبنوك التمويل ومؤسسات الوساطة المالية في السوقين الأولية والثانوية، والتأمين كما أسلفنا سابقاً. إن تحويل المصارف التجارية إلى مصارف شاملة يفرض إجراء تغيير كبير في تنظيمها وتنوع ثقافات العاملين فيها وخلق لجان اختصاص عديدة، وبالتالي تطوير دور الإدارة وثقافتها، وذلك ليس بالأمر السهل. إن محاولات دفع المصارف التجارية اللبنانية للتحول إلى مصارف شاملة، من قبل مصرف لبنان، أظهرت فشلها أيضاً. لذلك لا بد من سلسلة من الإجراءات والسياسات الكفيلة بتطوير الأسواق المالية اللبنانية عبر بعض من (أو كل) الإجراءات التالية:
1- الترخيص
لمصارف
متخصصة في
الإقراض
المتوسط والطويل
الأجل بشروط
تمكنها من
منافسة المصارف
التجارية على
اجتذاب
الودائع
قصيرة الأجل،
واستعمالها (بسبب
تراكمها و
ثباتها و
نموها الدائم)
في الإقراض
المتوسط
وطويل الأجل، وذلك
مع تسهيلات
خاصة لحسم
السندات من
مصرف لبنان.
ويجب ألاّ
تكون هذه
المصارف
المتخصصة تابعة
للمصارف
التجارية كي
لا تستعمل
لكسب التسهيلات
التي تعطى
للمصارف
المتخصصة
وتحويلها إلى
التمويل
القصير الأجل
في المصارف التجارية.
إن إنشاء
مصارف متخصصة
لقطاعات الزراعة
والصناعة
والسياحة،
بمشاركة
القطاع العام وبتسهيلات
ائتمانية من
مصرف لبنان،
يساعد على دفع
المصارف
التجارية في
التحول إلى
مصارف شاملة،
كما يلبي
حاجات هذه
القطاعات
للتمويل
المتخصص ولو
جزئياً،
وبالشروط
المرافقة لهذا
النوع من
التمويل
المبني على
دراسات جدوى
اقتصادية،
ولمتابعة
القروض وأداء
المؤسسات
المقترضة
بحيث تشكل
المصارف
المتخصصة
مراكز استشارات
اقتصادية
ومؤسسات
ضابطة لعمل
الشركات
والمؤسسات
المقترضة.
وبالتالي فإن
على البنوك
الشاملة أو
المصارف
المتخصصة أن
تنشأ لديها
لجان متخصصة
بكل نوع من
الإقراض في
كافة قطاعات الاقتصاد،
حتى تستطيع
القيام
بعملها على
الوجه الصحيح.
2- الترخيص لمصرف جديد يشارك فيه القطاع العام أو يملكه كلياً، وينال دعماً خاصاً من مصرف لبنان، يمثل في بنيته وأدائه مصرفاً شاملاً قائداً ورائداً في مجال التحول المصرفي إلى مصارف شاملة في السوق اللبنانية.
3- تفكيك البنية الاحتكارية للمصارف التجارية في لبنان، لتحل المنافسة مكان التواطؤ في تحديد معدلات الفائدة وشروط الإقراض بينها، وعبر تطبيق القوانين والأنظمة المعمول بها لمنع قيام السوق المالية الاحتكارية في الأسواق الناضجة والشفافة في العالم.
4- إقامة سوق مالية رسمية (بورصة) تدفع المصارف، أو تساهم في دفعها، إلى التحول إلى مصارف شاملة، عبر المنافسة الحرة في مجال الوساطة المالية، وكلفة هذه الوساطة.
5- تعميق السوق الثانوية اللبنانية وتوسيعها، عبر البورصة بشكل أساسي، وعبر تطوير مؤسسات الوساطة المالية، وزيادة رأسمالها، ومراقبتها.
6- وضع القوانين والتشريعات الجديدة التي تزيل العوائق من وجه تطوير الأسواق المالية، وتقييد حركة رؤوس الأموال الساخنة، أي المضاربة (كما فعل العديد من دول العالم الثالث مثل ماليزيا وتشيلي)، ووضع القيود على التعامل بأوراق النقد الأجنبي والعملات الأجنبية في السوق الداخلية اللبنانية، كما هي الحال عند الأكثرية الساحقة من دول العالم، وفرض ضرائب ورسوم على تحويل العملات، ووضع ضريبة على إخراج العملات من السوق اللبنانية للمقيمين فيها على الأقل، ولغير غايات الاستيراد، وضمن هوامش معقولة وفوق مبالغ محددة، كما هي الحال في السوق الأميركية مثلاً. بكلام آخر، العمل لتقليص حرية حركة رؤوس الأموال وتقليص الدولرة في الودائع والتسليفات والمبادلات الداخلية.
سعر الصرف
يأخذ سعر صرف الليرة أهمية متزايدة في لبنان بسبب مستوى الدولرة، والحرية المطلقة في تحويل المدخرات والعملات دون أي عائق، وبكلفة بسيطة ومتواضعة جداً، من لبنان وإليه. هذه الحرية التي أتت بفوائد كبيرة للبنان في الماضي، وبسبب متغيرات المحيط منذ الاستقلال وحتى منتصف السبعينيات. ولكن هذه الحرية بدأت، منذ فترة طويلة تعطي نتائج مختلفة، وتلحق أضراراً بالاقتصاد اللبناني أكثر مما تعطيه من منافع. وبالتالي فلا بد من خلال التوجهات الإنقاذية المقترحة أن توضع القيود على هذه الحريات، دون الوصول إلى الانغلاق الاقتصادي.
إن استقرار سعر الصرف ضروري للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، خاصة بسبب انكشاف الاقتصاد اللبناني على الخارج بدرجة مرتفعة جداً. إن تغيير سعر الصرف ينعكس بشكل شبه كامل على معدل التضخم، وبالتالي على مستوى الدخل الحقيقي لأصحاب الدخل المحدود، وينعكس في ارتفاع أسعار معظم سلع الاستهلاك وبعض الخدمات (في حال انهيار سعر صرف الليرة) بأكثر من أثر انخفاض سعر الصرف، وذلك تحوطاً من قبل البائعين، خشية المزيد من تراجع سعر الصرف، في سوق تنتفي فيها الرقابة على أسعار معظم السلع والخدمات. كما أن تقلبات سعر الصرف تنعكس مباشرة على مستوى الدولرة في الاقتصاد، أي على الطلب على العملات الأجنبية، والتعامل بها في الداخل.
ولكن سعر الصرف ينعكس أيضاً على القدرة التنافسية للاقتصاد اللبناني وبنسبة عكسية لمستوى الدولرة، وينعكس بالتالي على أداء الميزان التجاري وميزان المدفوعات الجاري في لبنان.
إن النظام الاقتصادي العالمي الذي وُضع في أعقاب الحرب العالمية الثانية ترك مجالاً محدوداً لتعديلات سعر صرف العملات في العالم بالنسبة للدولار الأميركي الذي ثبت سعر صرفه بالنسبة للذهب، وذلك للتمكن من تصحيح الخلل في الموازين التجارية وموازين المدفوعات للدول. فهذا النظام يسمح بخفض أسعار الصرف الحقيقية لعملات الدول التي تعاني موازين مدفوعاتها من عجوزات متراكمة، ويضغط على تلك الدول التي تحقق موازين مدفوعاتها فوائض كبيرة، لرفع أسعار الصرف الحقيقية لعملاتها، كما حصل في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات للين الياباني والمارك الألماني.
ثم إن استقرار سعر الصرف لعملة ما يعني استقرار سعر مجمل مستورداتها بالنسبة لسعر صرف عملتها، وبالنسبة لأسعار إنتاجها، وذلك يعني تساوي ناتج متغيرات سعر الصرف مضافاً إليه معدلات التضخم بالنسبة للسلة المثقلة لعملات شركائنا التجاريين. إذ يمكن أن يتغير سعر الصرف بنسب مختلفة عن تغيير مؤشر الأسعار بين الدول. إن سعر الصرف الحقيقي بالتالي يقيس مدى تغير سعر صرف العملات مضافاً إليه فروقات التضخم.
لذلك، وبما أن الميزان التجاري اللبناني وميزان المدفوعات الجاري يحققان عجوزات كبيرة جداً، وعلى مدى العديد من السنوات الماضية، وبما أن سعر الصرف الحقيقي لليرة اللبنانية قد ارتفع بمعدلات غير مقبولة في التسعينيات من القرن الماضي، فإن خفض سعر الصرف الحقيقي لليرة يصبح هدفاً أساسياً لأية سياسة نقدية رشيدة. أما سلبيات هذه السياسة فيمكن الحد منها، خاصة فيما يتعلق بتأثيراتها على المداخيل الحقيقية لأصحاب الدخل المحدود، وبالنسبة للضغوطات التي يمكن أن تتعرض لها الليرة في السوق المحلية، وتنعكس على ارتفاع معدل الدولرة. وبالتالي فمن الضروري فك ربط سعر صرف الليرة بالدولار الأميركي وتثقيف الجمهور وتعويده على مراقبة سعر صرف العملة اللبنانية لسلة من العملات، وتوسيع الهوامش المسموح بها لتغيير سعر الصرف دون تدخل المصرف المركزي، وتغير هذا الهامش من حين لآخر للسماح بانزلاق تدريجي لسعر الصرف الحقيقي لليرة. و يمكن تصحيح سعر الصرف الحقيقي لليرة عبر إجراء فوري و غير متوقع من مصرف لبنان يحدد فيه أسعار صرف جديدة في تدخله في السوق, مما يقطع الطريق على المضاربة أمام المضاربين.
معدلات الفائدة والتضخم
يؤخذ الجمهور عادة بمعدل الفائدة على الودائع كما على التسليف. وللفائدة الاسمية أثرها الكبير على معدلات الادخار عامة وعلى الادخار بالليرة اللبنانية خاصة. لذلك من الضروري في المرحلة المقبلة إبقاء الفائدة الاسمية على الليرة مرتفعة نسبياً. بيد أنه من الضروري إبقاء الفائدة الحقيقية منخفضة نسبياً، وذلك من أجل رفع الطلب الحقيقي على الأموال من قبل رجال الأعمال، وزيادة التوظيفات المنتجة في الاقتصاد، وبالليرة اللبنانية بالتحديد. يعني ذلك إبقاء معدلات التضخم دون معدلات الفائدة الاسمية، أو بالأحرى إبقاء معدلات الفائدة المدينة أكثر ارتفاعاً من معدلات التضخم بقليل، وكذلك إبقاء كلفة الوساطة المالية منخفضة ولا تزيد عن 100 نقطة أساسية أو أكثر من ذلك بقليل، حتى تبقى الفائدة الاسمية على الودائع بالليرة مرتفعة نسبياً، وقادرة على زيادة الطلب على الليرة. فمعدلات تضخم لا تزيد عن 6 أو 7 بالمئة هي عادة معدلات مرغوب بها، وحتى معدلات تضخم دون العشرة بالمئة يمكن للاقتصاد الاستفادة منها وذلك لإبقاء الفوائد الحقيقية على الليرة ملائمة للتوظيف المنتج بالعملة المحلية، وبالتالي لرفع الطلب على الليرة من قبل القطاع الخاص، وخفض معدلات الدولرة. وهذا المستوى المتواضع من التضخم يبدو ضرورياً لتصحيح التفاوت الكبير في الرواتب والأجور في القطاع العام بشكل خاص. فتصحيح الأجور والرواتب بمعدلات التضخم وبمعدلات متناقضة مع تصاعد شرائح الأجر، ووضع سقوف لزيادات الرواتب تصحيحاً لها، بحيث يتم الحفاظ على القيمة الحقيقية للأجور المتدنية، واقتطاع أجزاء متصاعدة من الأجور الحقيقية الكبيرة وغير المبررة في كثير من الأحيان والتي نمت وتضخمت خلال الحرب الأهلية والسنوات الأولى التي تلتها.
والقول أن معدلات التضخم في الحدود المقترحة تقضي على فرص النمو وتخلق قلقاً كبيراً في الأسواق، هو قول غير صحيح في المطلق، ويعتمد ذلك على الأنظمة والقوانين الاقتصادية المعمول بها. وحتى معدلات مرتفعة جداً من التضخم لم تمنع النمو الاقتصادي في التجربتين الإسرائيلية والتركية ولسنوات عديدة. إن معدلات تضخم تقل عن عشرة بالمئة لا تعد معدلات مرتفعة جداً، وهي أفضل بكثير من معدلات منخفضة جداً أو سلبية، إذ إنها تعطي للسياسة النقدية مرونة أكثر، ولتعديل الرواتب المرتفعة مخرجاً مقبولاً، وتمكن السياسة النقدية من السعي لتحقيق أهدافها النهائية بشكل أفضل.
ولكن لا بد من إبقاء الفائدة على الليرة أعلى من الفائدة على العملات الأجنبية، مثل الدولار و اليورو على وجه الخصوص، وذلك بسبب تفاوت المخاطر بين الليرة وتلك العملات، وربما أيضاً لاستقطاب ودائع خارجية بالعملات الأجنبية وتحويلها إلى الليرة. ولكن يجب ألاّ نبالغ في توسيع الهوة في الفوائد بين الليرة والعملات الأجنبية حتى إخراج الليرة من سوق الإقراض، كما هي الحال في الوقت الراهن، وحتى لا نجتذب الأموال الساخنة من الخارج والهادفة إلى المضاربة على العملات أو اقتناص الفوائد المرتفعة على الليرة، دون أن تدخل في توظيفات إنتاجية ثابتة. فلا بد، كما أشرنا سابقاً، من وضع العراقيل بوجه تدفق هذه الأموال الساخنة التي تزعزع الاستقرار النقدي والاقتصادي الداخلي، كما حدث في العديد من دول العالم الثالث في أواخر القرن الماضي، خاصة دول جنوب شرق آسيا سنة 1997.
خفض مستوى الدولرة
إن ارتفاع مستوى دولرة الاقتصاد يلحق به أضراراً كبيرة جداً، ويخفف أو يقلص من تأثيرات السياسات النقدية على الاقتصاد، ويجعل القرارات النقدية الحيوية للتنمية خارج متناول السلطة النقدية اللبنانية (مصرف لبنان) وتابعة لتقلبات السوق ومصالح الدول الرأسمالية المركزية التي تشكل عملاتها جزءاً أساسياً وطاغياً من الكتلة النقدية في لبنان. إن الدول الرأسمالية المركزية، كبقية الدول الناضجة، تغير معدلات الفائدة على عملاتها تبعاً للدورة الاقتصادية فيها، وحاجات الاقتصاد. ففي مراحل الركود الاقتصادي، أو للخروج من الركود الاقتصادي وتلافيه، تعمل تلك الدول على خفض معدلات الفائدة الحقيقية لديها إلى الصفر أو دون الصفر في كثير من الأحيان، وترفع معدلات الفائدة الحقيقية لكبح التوظيفات عندما ينمو الاقتصاد بمعدلات تسبب التضخم وترفع معدلاته إلى نسب غير مرغوب فيها وتنذر بالسقوط في الركود الاقتصادي. ويتعرض الاقتصاد اللبناني إلى متغيرات الفوائد هذه في كلفة الأموال بغض النظر عن حاجاته الاقتصادية، وتطابقها مع الدورة الاقتصادية في تلك البلدان، كان ترتفع الفوائد على الدولار في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد اللبناني ركوداً حاداً وتراجعاً في الناتج المحلي القائم.
إن التحرر من هذه التبعية النقدية يقتضي خلق موانع قانونية وتنظيمية ترفع من كلفة تحويل العملات بفرض رسوم على ذلك، ورسوم أكثر ارتفاعاً بكثير على إخراج المدخرات المحلية، ومنع استعمال العملات الأجنبية في المدفوعات الداخلية والعقود بشتى أشكالها. وللتحوط ضد مخاطر اختلالات كبيرة في أسعار صرف العملة المحلية على المديين المتوسط والطويل بالنسبة للاتفاقات، فيمكن اعتماد السعر الثابت الحقيقي لليرة في هذه العقود، أو اعتماد سعر فائدة عائم مرتبط بمعدلات التضخم، ولو كان في ذلك بعض التعقيدات، إذ إنه لا بد من إصدار إحصاءات علمية دورية تبين معدلات التضخم في السوق اللبنانية.
إن قدسية النظام الحر في لبنان لا بد وأن تسقط، وذلك حفاظاً على المصلحة الوطنية الاقتصادية والاجتماعية. إن الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا وغيرهما، لم تحرر أسواقها المالية بعد الحرب العالمية الثانية إلاّ بعد أن أتمت إعادة إعمارها وإعادة بناء اقتصادها عند بدايات السبعينيات، أي بعد أكثر من 25 سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية. وما زالت أميركا حتى الآن، وهي مركز النظام الرأسمالي العالمي، تفرض الضرائب المرتفعة جداً على التحويلات الرأسمالية منها لغير دواعي الاستيراد والتوظيفات الاستثمارية للشركات الأميركية. ولا تسمح بإخراج أكثر من 10 آلاف دولار نقداً للمغادرين. وكانت أميركا قد تبنت إجراءات حمائية كبيرة لحماية مدخراتها الوطنية مما خلق سوقاً أوروبية للدولار. فحري بلبنان أن يُسقط قدسية أنظمته الحرة، وان يتبع نظاماً اقتصادياً ونقدياً يتلاءم مع حاجات خروجه من فخ المديونية، وحاجات إعادة بنائه وتنميته، بدل الالتزام بمصالح المصارف وطبقة قليلة العدد من الأثرياء والتجار والمضاربين.
تحرير الأسواق المالية
إن تحرير الأسواق المالية اللبنانية من الاحتكار شرط أساسي لتطويرها وتحديثها وخفض كلفة الوساطة فيها. إن المنافسة في سوق حرة هي ركيزة النظام الرأسمالي، ولا بد من إزالة كل العقبات التي تعيق المنافسة الحرة القادرة على دفع المصارف نحو التطور ونحو اكتساب كفاءة عالية كما تبين لنا في السابق. ولفتح المجال واسعاً أمام المنافسة الحرة في الأسواق المالية لا بد من الخطوات التالية:
1- إلغاء جمعية المصارف التي تشكل احتكاراً علنياً، ووقف المساومات الجماعية مع ممثلي المصارف التجارية.
2- إلغاء حصر التراخيص للمصارف وعدم إعطاء تراخيص جديدة. يستطيع مصرف لبنان أن يحد من عدد المصارف، خاصة الصغيرة منها وغير الكفؤة، عبر فرض شروط أكثر صرامة تشدداً، من حيث الرساميل الخاصة، ومعدلات الملاءة، والخبرات والكفاءات المطلوبة في الإدارة، وما إليها من شروط، تدفع المصارف الصغيرة إلى الاندماج في مصارف أكبر وأكفأ، وتبعدها بالتالي عن الانهيار وتهديد سلامة السوق. ولكن في الوقت ذاته، يمكن لمصرف لبنان الترخيص لنشوء مصارف حديثة ومليئة تتجاوز في بنيتها وفكرها، وبالتالي في أدائها جميع المصارف القائمة، وتكون رائدة لتحديث الجهاز المصرفي والأسواق المالية اللبنانية.
3- إفساح المجال بشكل واسع لدخول المصارف العربية أولاً، ثم الأجنبية، للعمل بحرية وضمن القوانين في السوق المالية اللبنانية، مع التأكيد على أن يكون دورها عدم ضخ المدخرات اللبنانية إلى الخارج، بل أن يُفرض عليها حداً مرتفعاً من الإقراض في الداخل كنسبة للودائع. إن دخول الخبرات والقدرات العربية المالية يفتح المجال واسعاً أمام الوصول إلى مصادر تمويل جديدة لقطاعات الاقتصاد، وأمام خبرات جديدة متطورة وأكثر كفاءة.
4- تطوير السوق المالية الثانوية، نظماً ومؤسسات، مع مراقبتها وجعلها أكثر شفافية.
5- الإسراع في إقامة سوق رأسمالية حديثة ومتطورة وشفافة/ مع كل المؤسسات الرقابية الملازمة لها، والنشرات الدورية التابعة، لاجتذاب أصحاب المدخرات والموظفين للعمل عبرها. فإن كلفة الوساطة المالية فيها لا تزيد عن واحد في المئة لسنوات عديدة، مما يدفع المصارف التجارية إلى رفع كفاءتها وخفض كلفة الوساطة المالية لديها، وتحولها إلى مصارف شاملة تعتاش من خارج فوارق الفائدتين: الدائنة والمدينة. أي أن توسع هذه المصارف شبكة أعمالها والخدمات التي تؤديها إلى زبائنها. لذلك يجب الإفراج من قبل وزارة المالية عن قانون إقامة سوق رأسمالية (الموجود في أدراجها منذ عشر سنوات على الأقل) وتحديث هذا المشروع. كما أن إقامة هذه السوق سوف يدفع المصارف إلى الاندماج فيما بينها، لاكتساب كفاءة أعلى وقدرة أكبر على المنافسة والصمود في سوق تنافسية.
6- العمل على دمج السوق المالية اللبنانية والسوق النقدية أيضاً مع الأسواق العربية القريبة منها، خاصة السوق السورية، بحيث تتقارب الأنظمة الاقتصادية والمالية المعمول بها في هذه الدول، وتتعمق بالتالي هذه الأسواق الأولية والثانوية، وترتفع قدراتها وكفاءاتها، وبالتالي أيضاً استقرارها وقدراتها التمويلية اللازمة لكافة قطاعات الإنتاج.
في نطاق الاقتصاد الكلي أيضا
الإنماء المتوازن
منذ
إنشاء دولة
لبنان
الكبير،
تميزت بنيته الاقتصادية
بطغيان قطاع
الخدمات على
بقية القطاعات
الاقتصادية،
وبالتالي
إنماء مدينة
بيروت كقاعدة
لإنتاج الخدمات
على حساب
الأرياف
اللبنانية
كما تبين لنا
في السابق.
صحيح أن بعض
منافع هذا
النمو قد أصاب
أو تساقط إلى
بقية المدن
والأرياف،
غير أن هجرات
سكانية كثيفة
من الأرياف
إلى بيروت، وتشكيل
حزام فقر
حولها، كان
احد نتائج هذا
الإنماء غير
المتوازن
للاقتصاد
اللبناني. فقد
تم إهمال
قطاعي
الزراعة
والصناعة،
لمصلحة
التجارة
الخارجية،
خاصة الاستيراد،
وتحت شعار
النظام
الاقتصادي
الحر الذي كان
يعني إخضاع
مصالح قطاعات
الإنتاج السلعي
إلى مصالح
وكلاء
الشركات
الأجنبية من
كبار التجار
الاحتكاريين،
وإلى مصالح
المرابين
الذين تحول
بعضهم إلى مصرفيين
كبار، ولكنهم
احتفظوا
بعقلية المرابين.
إن طبقة وكلاء الشركات الأجنبية من التجار والمرابين تتناقض مصالحها مع تنمية قطاعات الإنتاج السلعي الوطنية، إذ إن ذلك يقلص من حجم التجارة الخارجية. فهذه السياسة التي أنتجت عجوزات كبيرة في الميزان التجاري استطاعت، وفي ظروف معينة خاصة، أن تبقي ميزان المدفوعات سليماً ويحقق فوائض كبيرة نسبياً خلال بعض الحقبات. ولكن قطاع الخدمات لم يستطع أن يؤمن فرص عمل متزايدة باضطراد، ومواكبة للزيادة في عدد السكان، فكانت الهجرات المؤقتة أو الدائمة تشكل متنفساً للزيادة السكانية. ومع تطور دول الجوار خاصة، أصبحت فرص العمل المتاحة للعمالة الماهرة اللبنانية أكثر ضيقاً، وتكاد تقفل فرص الهجرة أمام الشباب اللبناني إلى معظم دول العالم الثالث أو الدول المتقدمة. وبالتالي يأخذ الإنماء غير المتوازن في لبنان أبعاداً اجتماعية واقتصادية حادة، تتمثل بارتفاع حاد في معدلات البطالة الظاهرة والخفية وغير المعترف بها رسمياً.
إن نمو سكان المدن على حساب سكان الريف، ظاهرة مواكبة للتنمية على صعيد العالم، ولكنها ليست مؤشراً للتنمية في جميع الأحوال. إن الهجرة الريفية نتيجة تدهور قطاع الزراعة وانخفاض إنتاجيته، كما تخلف البنية الخدماتية في الريف وبالتالي هروب بعض سكانه إلى أحزمة الفقر حول المدن شيء، وتنمية الإنتاج الزراعي ومكننته التي تخلق فائضاً في القوى العاملة تجتذبها فرص العمل المتاحة وذات المردود الأعلى والمتوفرة في المدن في قطاعات الخدمات والصناعة شيء آخر تماماً. فالإنماء المتوازن يعني عدم السماح لأي قطاع اقتصادي بالطغيان على قطاعات أخرى والنمو على حسابها، ويعني أيضاً أن يتولى القطاع العام تأمين البنية التحتية الضرورية لنمو هذه القطاعات وحمايتها من الإغراق الخارجي والمنافسة الخارجية غير العادلة والمشروعة، وأن يبني أو يساعد في بناء أقنية التسويق والتصريف الداخلي والخارجي للسلع الزراعية والصناعية المنتجة محلياً.
تطور سكان الحضر والريف في لبنان كنسبة مئوية من مجموع السكان
السنة |
1970 |
1980 |
2001 |
حضر/ريف |
حضر ريف |
حضر ريف |
حضر ريف |
النسبة المئوية |
59 41 |
74 26 |
90 10 |
الميزان التجاري وميزان المدفوعات
شكلت التجارة الخارجية منذ القدم نسبة مرتفعة جداً من الناتج المحلي القائم في لبنان. وكان الميزان التجاري يحقق عجوزات كبيرة، يُعوض عنها تصدير الخدمات وتحويلات اللبنانيين من الخارج، وتدفقات رؤوس الأموال الهاربة من دول الجوار، أو بعض الفوائض النفطية الآتية من الدول النفطية العربية، وذلك حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
كانت الصادرات اللبنانية تغطي أكثر من 60 بالمئة من الواردات في السبعينات، ثم انخفضت هذه النسبة إلى أقل من 13 بالمئة خلال التسعينيات، كما يبين الجدول التالي:
تطور الصادرات والواردات اللبنانية بالسعر الجاري للدولار الأميركي (مليون دولار)
والنسبة المئوية للصادرات إلى الواردات
السنة |
74 |
93 |
94 |
95 |
96 |
97 |
98 |
99 |
2000 |
2001 |
2002 |
صادرات |
1487 |
631 |
737 |
982 |
1066 |
649 |
668 |
695 |
714 |
889 |
1045 |
واردات |
2399 |
4436 |
5541 |
6722 |
6992 |
6923 |
6897 |
6531 |
6228 |
7291 |
6445 |
% للصادرات على الواردات |
62.0 |
14.2 |
13.3 |
14.6 |
15.2 |
9.4 |
9.7 |
10.6 |
11.5 |
12.2 |
16.2 |
المصدر: التقارير السنوية لمصرف لبنان
إن تردي الميزان التجاري يعود إلى انخفاض حاد في نسبة الصادرات إلى الواردات عن سنوات ما قبل الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي. إن تراجع الصادرات يعود إلى تآكل البنيتين التحتية والإنتاجية، وإلى تراجع القدرة التنافسية لمعظم القطاعات المصدرة الصناعية والزراعية. ويعود هذا التردي لأسباب عدة أهمها:
1- ارتفاع سعر الصرف الحقيقي لليرة اللبنانية.
2- السياسات الجمركية والضرائب والرسوم على كافة مدخلات الإنتاج.
3- انخفاض الضرائب على العديد من السلع المستوردة والمدعومة خارجياً، إلى ما دون مستوى الدعم لهذه السلع، مما يعني استيراداً إغراقياً للسلع الزراعية أولاً، ثم الصناعية.
4- ارتفاع معدلات الفائدة الحقيقية، وصعوبة الوصول إلى التمويل الملائم لقطاعات الإنتاج السلعي، وبالتالي ارتفاع كلفة الأموال إلى فوق معدل المردود المتوقع من التوظيف.
5- تخلف البنية التحتية بمعناها الواسع لقطاعات الإنتاج السلعي، مثل المدارس المهنية ومراكز الأبحاث الزراعية والصناعية ونقص حاد في الإحصاءات وانعدام مؤسسات التمويل المتخصصة وضعف مؤسسات التسويق الخارجي.
6- عدم استقرار التشريعات والقوانين والرسوم والضرائب.
7- ارتفاع كلفة النقل والتخزين وعبور المرافئ البرية والبحرية والجوية.
8- انعدام الدعم للقطاعات المصدرة بالمستوى المطلوب، إن على صعيد الإنتاج أو التصدير.
من الملاحظ أن قيمة الصادرات اللبنانية بالسعر الجاري للدولار انخفضت بين سنتي 1974و 2002 بحوالي 30% تقريبا. أما بالسعر الثابت للدولار فقد انخفضت من 1487 مليون دولار في سنة 1974 إلى حوالي 230 مليون دولار لسنة 2002, و بمعدل 84.5%. و إذا تجاوزنا مرحلة ما قبل الحرب, فإن قيمة الصادرات بالسعر الجاري لليرة اللبنانية قد ارتفع من 1099 مليار ليرة سنة 1993 إلى 1575 مليار ليرة لسنة 2002 و بمعدل حوالي 43%. أما بالسعر الثابت لليرة (سعر 1993 ) فإن الصادرات لسنة 2002تقدر بنحو 1039 مليار ليرة, و تكون القيمة الحقيقية للصادرات قد انخفضت فعلا بمعدل 5.5%, وبالرغم من برامج التنمية الحريرية و إنفاق المليارات من الدولارات على إعادة بناء البنية التحتية.
ارتفعت الواردات اللبنانية بالسعر الجاري لليرة من 7725 مليار ليرة في سنة 1993 إلى 9716 مليار ليرة لسنة 2002 وبمعدل 18.8%. أما بالقيمة الثابتة, فإن الواردات قد انخفضت إلى 6407 مليار ليرة لسنة 2002, و بمعدل حوالي 17%.
إن انخفاض القيمة الحقيقية للواردات يعود إلى سببين أساسيين. الأول، انخفاض معدلات الاستثمار المنتج التي تشكل السلع المستوردة جزءاً أساسياً منه. ثانياً، تغييرات عميقة في توزيع الناتج المحلي القائم لمصلحة الطبقة الأكثر ثراءً، مما قلص الدخل الحقيقي للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وبالتالي قلص قدراتهم الاستهلاكية، وذلك بالرغم من ارتفاع الناتج المحلي القائم بالقيمة الثابتة للنقد خلال التسعينيات. فمعدل ادخار الطبقات الثرية ازداد بشكل كبير نتيجة نمو مداخيلها الحقيقية بمعدلات مرتفعة، مما ظهر جلياً بالارتفاع الحاد في قيمة الودائع لدى المصارف. فقد ارتفعت ودائع المقيمين في لبنان من 8.275 مليار دولار إلى 36.53 مليار دولار، وبنسبة 341 بالمئة، خلال هذه الفترة 1993-2002.
إن إصلاح الميزان التجاري لا يكون بإفقار الطبقات الشعبية والمتوسطة، بل بزيادة إنتاجيتها ومداخيلها الحقيقية، وبارتفاع قدرتها الاستهلاكية. وفي الوقت ذاته، بزيادة القدرات التصديرية لقطاعات الاقتصاد بأضعاف نسب زيادة الواردات، وبإحلال السلع المنتجة محلياً مكان بعض سلع الاستيراد.
تصحيح الميزان التجاري
إن برنامج تصحيح الميزان التجاري يفرض استهداف عودة نسبة الصادرات إلى الواردات، خلال ست سنوات تقريباً، إلى ما كانت عليه في بداية السبعينيات، أي أن تغطي الصادرات أكثر من 60 بالمئة من الواردات، وذلك عبر السياسات التالية:
أولاً، على صعيد الصادرات
1- زيادة القدرات التنافسية لقطاعات الإنتاج السلعي عن طريق برنامج تنمية حقيقية لقطاعي الزراعة والصناعة (كما سيرد لاحقاً).
2- دعم الصادرات الصناعية والزراعية بمعدلات الدعم المعمول بها في معظم دول العالم المنافسة للصادرات اللبنانية.
3- عقد اتفاقات تجارية مع شركائنا التجاريين بهدف الوصول إلى علاقات تجارية متوازنة نسبياً معها.
4- دفع البعثات الدبلوماسية اللبنانية في الخارج للعمل على استكشاف الأسواق الخارجية، والعمل على المساعدة في تسويق الإنتاج اللبناني، وفتح ملحقية تجارية في كل سفارات لبنان لدى شركائنا التجاريين.
5- تعديل اتفاق الشراكة اللبنانية مع السوق الأوروبية المشتركة بما يتلاءم مع مصالح لبنان الاقتصادية بدل المصالح الأوروبية ومصالح وكلاء الشركات الأوروبية في لبنان.
ثانياً، على صعيد الواردات
1- تقليص واردات سلع الاستهلاك الكمالية، خاصة الفخمة منها، عبر زيادات كبيرة في الضرائب على استيرادها واستعمالها، أم منع استيراد بعضها كلياً، ولو لسنوات معدودة، مثل السيارات السياحية الفخمة وذات الاستهلاك المرتفع للوقود.
2- حماية الإنتاج المحلي ومنع إغراق السوق المحلية بسلع مستوردة مدعومة، ودعم الصناعات والزراعات التي تنتج بدائل للسلع المستوردة.
3- خفض استهلاك بعض السلع المستوردة عبر ترشيد استعمالها، وتقليص الهدر فيها، وتخفيض كلفة صيانتها. مثال على ذلك: خفض استهلاك المشتقات النفطية عبر تنشيط النقل العام، تحسين حالة الطرق وتسهيل السير، استعمال البدائل للطاقة الكهربائية في تسخين المياه، عزل أفضل للمنازل... مما يخفض من استهلاك المشتقات النفطية. وكذلك إصلاح النظام الصحي ما يخفض استيراد الأدوية، وإلخ.
معدلات الادخار
لتحقيق تنمية اقتصادية بمعدلات معقولة، لا بد من رفع معدلات الادخار إلى ما فوق 18 بالمئة من الناتج المحلي القائم. كانت معدلات الادخار، وما زالت، سلبية وإلى حد بعيد منذ بداية التسعينيات حتى الآن. فقد بلغ معدل الاستهلاك من الناتج المحلي خلال التسعينيات 121 بالمئة، أي أن معدل الادخار الوطني كان سلبياً جداً، ومن أسوأ المعدلات لدول العالم قاطبة. ويعتمد على ردم الهوة بين الإنتاج والاستهلاك على الاستدانة الخارجية، وعلى تحويلات المغتربين والتحويلات الرأسمالية، وعلى بيع الموجودات غير المنقولة إلى الخارج، مثل العقارات والأراضي، والتي فتح النظام إمكانية تملكها من قبل غير اللبنانيين دون حدود.
أدى هذا الواقع إلى عجز كبير في ميزان المدفوعات الجاري، قدّر عند أواخر التسعينيات بحوالي 21 بالمئة من الناتج المحلي القائم. لا بد من تصحيح هذا الخلل الكبير في هذه المؤشرات. فبجانب الإجراءات المفترض اتخاذها في إطار تحسين ميزان المدفوعات الجاري، فإن سياسات عديدة مطلوبة لتصحيح الخلل في معدلات الاستهلاك.
جزء من هذا الخلل ينبع من الثقافة الشعبية الاستهلاكية السائدة، وهي انعكاس لثقافة الطبقة الحاكمة اللبنانية، ولطغيان قيم الاستهلاك الظهوري Conspicuous Consumption في مجتمع تسيطر فيه طبقة التجار، ويطغى على اقتصاده قطاع الخدمات. فالطبقة الحاكمة عادة تفرض قيمها على المجتمع، ليس بالقسر، بل بقوة المثال الأعلى الذي تمثله بالنسبة لبقية الطبقات الاجتماعية. ويحث النظام اللبناني أبناء المجتمع على الاستهلاك، خاصة الاستهلاك الظهوري، عبر الإعلانات والدعايات المركزة، وتيسير سبل الاستهلاك عبر البيع بالتقسيط، والاستدانة الشخصية من المصارف. فقد بلغت القروض الشخصية لدى المصارف التجارية اللبنانية عند نهاية سنة 2002 ما يوازي تقريباً تسليف المصارف لقطاعي الزراعة والصناعة مجتمعين. ففي نهاية سنة 2002 بلغت تسليفات المصارف لقطاع الزراعة 1.4 بالمئة من مجمل التسليفات وللصناعة 12.57 بالمئة من مجمل التسليفات، بينما بلغت تسليفات الأفراد 13.33 بالمئة من مجمل تسليفات المصارف.
وإذا كان الاستهلاك في معظم دول العالم مرتبطاً بالإنتاج ومحفزاً له، أي أن مزيداً من الاستهلاك يرفع الطلب على الإنتاج وينميه، فإن الانكشاف الكبير للاقتصاد اللبناني على الخارج، وارتفاع نسبة الاستيراد في الاستهلاك السلعي يجعل الاستهلاك أكثر ارتباطاً بالاستيراد ومحفزاً له أكثر من ارتباطه بتحفيز الإنتاج بنسب عالية. فزيادة الطلب على سلع الاستهلاك التي يمولها البيع بالتقسيط والقروض المصرفية تعني رفع الطلب على سلع الاستهلاك المعمرة والمستوردة بشكل خاص، مثل السيارات والمعدات الكهربائية والإلكترونية والحواسيب وما شابه. وفي ذلك خدمة لقطاع التجارة الخارجية بشكل أساسي، وهو ذو تأثير سلبي كبير على مستوى الادخار الوطني.
إن معدلات الادخار الوطني الضرورية لتحقيق نمو اقتصادي ثابت ودائم، يجب أن تغطي معدل اهتلاك البنية التحتية واهتلاك أدوات الإنتاج، وفوق ذلك إن توفر معدلاً في التوظيف الصافي الجديد القادر على زيادة الإنتاجية الوطنية وزيادة فرص العمل. ونسبة النمو في الناتج المحلي إلى التوظيف تكون عادة في دولة مثل لبنان واحد إلى ثلاثة، حيث الادخار يساوي التوظيف على المديين المتوسط والطويل.
ترتبط نسبة الادخار الوطني بمصادره الثلاثة (القطاع العام أي الفائض في الموازنة، القطاع المنزلي، قطاع رجال الأعمال) بمؤشرات عديدة أهمها: معدل الدخل الفردي، توزيع الناتج المحلي القائم، السياسات المالية والنقدية المتبعة والتي تنعكس على تحفيز الادخار والإنفاق. ولبنان لا يستطيع الاستمرار في تحمل معدلات الادخار السلبية على المدى الطويل. وتشكل سلبية معدلات الادخار أحد الأسباب الأساسية في تباطؤ الاقتصاد، بل تراجعه الفعلي على صعيد الناتج المحلي القائم بالأسعار الثابتة، خاصة إنتاجية قطاعات الإنتاج السلعي، وتردي إنتاجية العامل في هذه القطاعات، بسبب تقادم أدوات الإنتاج والبنية التحتية وعدم القدرة على تجديدها وتطويرها، كما سنرى لاحقاً.
الإصلاح الإداري
يعتمد هذا النص على حلقة دراسية حول الإصلاح الإداري تم عقد جلساتها المتكررة في مصرف لبنان( مديرية الإعداد والتدريب) وشارك فيها من خارج مصرف لبنان كل من: زاهر الخطيب – نائب ووزير سابق للإصلاح الإداري، عدنان اسكندر – نائب رئيس الجامعة الأميركية ومدير قسم العلوم السياسية والإدارة العامة سابقا وأستاذ محاضر، رندة أنطون – أستاذة في العلوم الإدارية في الجامعة الأميركية، رهيف الحاج علي – مستشار في وزارة الإصلاح الإداري. وشارك فيها عن مصرف لبنان كل من: غالب أبو مصلح وفوزي دياب ورانيا عكاري وذلك في سنة 2000.
يتحمل واضعو "مسودة وثيقة للنقاش"، لوحدهم مسؤولية، ما يمكن أن يرد في هذا النص من أخطاء.
منذ الخمسينيات من القرن الماضي، كان الإصلاح الإداري يحتل موقعاً دائماً في برامج الحكومات المتتالية. وكان الإصلاح، وما زال، يعني بشكل أساسي التخفيف من فساد الإدارة وتعميم الرشاوى فيها، وذلك بالنسبة للحكومات المتتالية. غير أن مفهوم الإصلاح يتطلب رؤية أشمل وأوسع بكثير من هذا المفهوم الضيق.
تحتل الإدارة موقعاً مهماً جداً في الحياة السياسية والاقتصادية في الدول الحديثة. فبالرغم من أطروحات الليبرالية الجديدة الداعية إلى تصغير حجم الدولة وتحويل قطاعات الإنتاج كافة إلى ملكية القطاع الخاص، فإن دور الدولة أو الحكومات في التوجيه والإشراف الاقتصادي والاجتماعي أخذ يتزايد مع عولمة الاقتصاد وتطوير الأسواق وتشابكها وتعقيداتها، خاصة مع ما بينه هذا التطور من مخاطر جديدة وتحديات لأجهزة الإشراف والمراقبة الرسمية، وتطوير وسائل الإنتاج ونوعية المنتجات الجديدة، والتي ربما تحمل مخاطر بيئية وبيولوجية على صحة الإنسان، ومتطلبات مواصفات الإنتاج القادر على ولوج الأسواق الناضجة. وبذلك فإن حجم الإدارات العامة في الدول ومدى مراقبتها وتدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ما زال آخذاً في التزايد والتوسع.
إن أداء الإدارة ينعكس سلباً أو إيجاباً على أداء الاقتصاد بشكل عام، وتحديد قدراته التنافسية. فيمكن للإدارة الجيدة أن تساهم كثيرا في خفض كلفة الإنتاج وزيادة القدرة التنافسية لقطاعاته، وتشجيع الدراسات والبحوث وتبني التقنيات الحديثة، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي يرفع من مستوى معيشة الأفراد. كما أن الإدارة السيئة يمكن أن تقعد الاقتصاد وترهق المجتمع وتعيق نموه.
وكلفة الإدارة على الاقتصاد تتعدى الرواتب والأجور وملحقاتها، ومستلزمات الإدارة المادية الأخرى، وكلفة الرشاوى، إلى ما تسببه من هدر كبير للأموال في المشاريع العامة، وما تسببه من كلفة عالية من حيث هدر وقت المواطنين ورجال الأعمال (وللوقت ثمنه الاقتصادي) كما في تطويل دورة الإنتاج.
إن الهدف من الإصلاح الإداري بالتالي يتجاوز القضاء أو التخفيف من الرشوة والفساد، إلى خلق إدارة منخفضة الكلفة نسبيا، وعالية الكفاءة، كما أن الإدارة في خدمة المواطنين كافة، وفي خدمة الاقتصاد، وليس للتسلط على المواطنين وعرقلة سير الاقتصاد. ويمكن تحديد أهداف الإصلاح الإداري بالعناوين التالية:
1- معالجة الخلل ومحاربة الفساد باستئصال أسباب المفاسد، وتحقيق المزيد من الفعالية والإنتاجية.
2- مكافحة البيروقراطية المتسلطة والمتحجرة.
3- تبسيط الإجراءات والتسريع في إنجاز المعاملات.
4- تحديث الوسائل وتحقيق المرونة في أساليب العمل لجعلها قابلة للتطور المستمر.
5- حسن انتقاء العنصر البشري وتأهيله الدائم لمواكبة التطورات الإدارية والعلمية والتقنية.
6- المراقبة والمحاسبة الدائمة للعاملين في الإدارة العامة والتقييم الدوري لأدائهم.
ومن أجل القيام بإصلاح إداري شامل، لا بد من معالجة العديد من الثغرات على الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية، نذكر منها الآتي:
المشاكل ذات البعد السياسي
1-إن الحكومات المتتالية لم تضع تصوراً شاملاً وواضحاً لأهداف الإصلاح الإداري، وبالتالي لم يكن هناك في أي وقت برنامج واضح للإصلاح الإداري، يحدد الأهداف النهائية والوسيطة وأساليب الإصلاح، بما يشكل برنامجاً إصلاحياً يمكن محاسبة الحكومة على أساسه. بل إن الحكومات المتتالية اكتفت بطرح العنوان الإصلاحي، امتصاصاً للنقمة الشعبية وليس من أجل تطبيق الإصلاح.
2-التدخل السياسي في عملية الإدارة، وهذا ما يفسد الإدارة ويعيق عملها في مجالات عديدة. فقد نشأ تحالف بين الإدارة والسياسيين بحيث يحمي السياسيون أزلامهم في الإدارة، ويضعونهم في مفاصل الإدارة الأكثر حساسية وقدرة على تقديم الخدمات، ويقوم هؤلاء بتنفيذ أوامر السياسيين ويحتمون بهم من إمكانيات المساءلة والمحاسبة، فيؤدون لهم الكثير من الخدمات الخاصة. وبذلك فإن الإدارة تتحول إلى مراكز خدمات لبعض السياسيين، ليس فقط في مجال "تسهيل" أعمالهم وأعمال أتباعهم والموالين لهم، بل أيضا في عرقلة أعمال منافسيهم. فقد تحول العديد من النواب إلى "معقبي" معاملات طلباً لكسب الأنصار والموالين.
3-الطائفية في الإدارة، خلافا للدستور الذي يقر قاعدة التمثيل الطائفي في الإدارة على صعيد وظائف الفئة الأولى فقط، فإن التعيين في جميع الإدارات العامة يجري حسب المحاصة الطائفية، ويعطي حق التعيين الفعلي لأمراء الطوائف من السياسيين وبعض رجال الدين. وبالتالي يصبح ولاء الموظفين لطوائفهم ولمن عينهم في مناصبهم. حتى أن زعماء الطوائف قد تقاسموا بعض الإدارات العامة كإقطاعات لهم تعطيهم السطوة والسلطة، وتعيد إنتاج الطائفية كما الطبقة السياسية الحاكمة.
إن إلغاء طائفية الوظيفة، أو إلغاء الطائفية في الإدارة هو الحل لهذه المشكلة. فالتعيين يجب أن يتم دون أي قيد طائفي وعبر مباريات يجريها مجلس الخدمة المدنية فقط، دون السماح للسياسيين بالتدخل فيها، وأن تطلق أيدي هيئات الرقابة والمحاسبة لضبط عمل الموظفين وترقيتهم وتنقيلهم في الإدارة.
4-الفساد السياسي والإداري
تبين لنا سابقا أن لبنان أصبح أكثر بلدان الشرق الأوسط فساداً. لم يعد الفساد ظاهرة فردية واستثنائية، بل أصبح فساداً منظماً وبنيوياً، متداخلاً مع الدورة السياسية وبنية الطبقة الحاكمة. بل إن الإفساد أصبح إحدى وسائل إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية. ولا بد بالتالي من الإصلاح السياسي كمقدمة ضرورية للإصلاح الإداري. ففي ظل هذا النظام الطائفي، وهذه الطبقة الحاكمة يصبح الإصلاح الإداري مستحيلاً، وطرحه خداعاً للجماهير.
5-العلاقة بين الشعب والإدارة
إن الشعب، وعبر قرون من الحكم الاستبدادي، ينظر إلى الإدارة كقوة قهرية مفروضة عليه لإذلاله واستنزافه وعرقلة أعماله، وليس كأداة منبثقة عن إرادته لخدمته وتيسير أموره. إن عهداً طويلاً من الحكم العثماني والاستعمار الفرنسي قد رسخ في اللاوعي لديه هذه الرؤية للسلطة والإدارة، فيتضرع لله ليحميه من شرّين المرض والحكومة، فالمثل الشعبي يقول: "الله يبعد عنا الحُكَما والحكومة". ولم تغير عهود الاستقلال هذه الرؤية، وذلك لكون الديمقراطية اللبنانية شكلانية تفتقر إلى محتوى حقيقي، ولأن الإدارة اللبنانية كانت امتداداً للإدارة الاستعمارية بمحتواها الفوقي والقهري. وبالتالي فإن الموظف لا يشعر إنه معين في وظيفته لخدمة المواطنين، بل للتسلط عليهم، وعرقلة أعمالهم لتأكيد سلطاته، وطلباً للرشوة. والانتقال من الإدارة الحاكمة إلى الإدارة الخادمة يحتاج أيضاً إلى إصلاح سياسي ولتغيير ثقافة الجماهير والإدارة.
6-عدم تطبيق القوانين والأنظمة بشكل صحيح وعدم تطويرها
إن تراكم الأنظمة والقوانين، وإضافة تعديلات على تعديلات سابقة، جعل من الالتزام الكامل بالقوانين والأنظمة أمراً في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا في بعض الأحيان. كما أن قوانين عديدة قد سنت مع العلم المسبق باستحالة تطبيقها، أو عدم القدرة على تطبيقها، مثل قوانين الصيد والأحراج وغيرها.
إن العديد من القوانين يترك للموظفين مساحة استثنائية في تطبيقها أيضا، وذلك يعطي الموظف سلطات فعلية غير محدودة على المواطنين، ويفتح المجال واسعاً أمام الاستبداد والفساد. كما أن العديد من القوانين والأنظمة أصبحت معيقة لتطور الإدارة واستفادتها من التقنيات الحديثة والمكننة. فإنجاز أكثر المعاملات يتطلب من صاحب المعاملة الحصول على أوراق وشهادات شتى من عدد كبير من المؤسسات والدوائر الحكومية، وذلك يتطلب الكثير من التكاليف المادية والوقت المهدور. ويمكن إلغاء كل هذه العقبات عبر المكننة وتحديث القوانين، وربط سائر الدوائر الحكومية بشبكة معلوماتية واحدة. بالتالي لا بد من تحديث شامل للقوانين للاستفادة من التقنيات وشبكات المعلومات الحديثة والتخفيف من احتكاك المواطن المباشر مع الإدارات، واستعمال وسائل الاتصال عن بعد لإنجاز المعاملات الإدارية، أو معظمها على الأقل.
7-الحصانة المفرطة للموظفين
يتمتع موظفو الإدارات العامة في لبنان بحصانة تجعل إمكانية محاسبتهم ومعاقبتهم جد محدودة. يضاف إلى ذلك ما يتمتعون به من حماية سياسية وطائفية. إن الهدف من وراء الحصانة التي أعطيت لهم كان لحمايتهم من الضغوط السياسية، وتأمين استقلالية الإدارة. ولكن هذه الحماية القانونية أصبحت في حقيقتها لحماية الإدارة من المحاسبة والمساءلة، إن على صعيد الفساد أو على صعيد الكفاءة الإنتاجية، وأدت بالتالي إلى مزيد من ترهل الإدارة وفسادها وتخلفها. فلا بد من تخفيف الحصانة وتطهير الإدارة من الفاسدين وممن تم توظيفهم سياسياً، خارج حاجة الإدارة، وخارج الكفاءات المناسبة وجعل الترقية وزيادة الراتب مرتبطين بتنمية قدرات الموظفين عبر التدريب الدائم، وبالكفاءة الإنتاجية وبالانضباط، وعبر التقييم الدوري للموظفين.
8-عدم وجود رأي عام ضاغط باتجاه الإصلاح الإداري الشامل، ووجود هيئات مدنية تراقب وتحاسب الإدارة، وتهتم بتطويرها والحد من فسادها.
المشاكل ذات البعد الإداري
1-عدم وجود جهاز دائم وفعال للإصلاح الإداري يمكنه أن يؤمن استمرارية عملية الإصلاح، حسب برنامج إصلاحي شامل له أولويات واضحة. فكل حكومة جديدة تأتي بوزير جديد للإصلاح الإداري، يضع برنامجه حسب معلوماته ورؤيته الخاصة، ويسقط هذا البرنامج مع تغيير الوزارة. فلا بد من إعطاء وزارة الإصلاح الإداري إمكانات وطاقات علمية وسلطات أوسع، تمكنها من إجراء تقييم علمي وشامل للإدارة العامة، ويشكل برنامج عمل دائم ومستمر، ويمكن الوزارة من مراقبة عمل الإدارات العامة والخلل في كل منها، ووضع الحلول المناسبة التنظيمية والإدارية. وبالتالي فمن الضروري إلحاق إدارة الأبحاث والتوجيه بوزارة الإصلاح الإداري، وبناء معهد للتدريب والتطوير الإداري تابع للوزارة، وبناء شبكة علاقات وثيقة بين التفتيش المالي والإداري، ومجلس الخدمة المدنية، وديوان المحاسبة، ووزارة الإصلاح الإداري.
2-غياب الرقابة والمحاسبة في النظام اللبناني السياسي والإداري. فالنظام اللبناني مبني إلى حد بعيد على حصانة القيادات السياسية، منعا للمحاسبة. فرئيس الجمهورية ورؤساء الوزارات والوزراء والنواب، وحاكمية مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، والمناصب العليا في القضاء، كلها خارج إطار المساءلة والمحاسبة. كما أن الرقابة البرلمانية على الإدارة محدودة جداً إن لم تكن معدومة، وكذلك الرقابة القضائية شبه معدومة، وذلك لعدم وجود قضاء مستقل فعلياً، وبعد أن تم تسييس القضاء، كما الإدارة، من قبل القيادات الطائفية والسياسية.
3-عدم قدرة هيئات الرقابة التي أوكلت إليها عملية الإصلاح الإداري على القيام بمهامها، بسبب تعطيل دورها ومنعها من العمل في بعض الأحيان، أو إهمال تقاريرها كلياً من قبل السلطات مما يحبط هذه الإدارات ويدخل موظفيها في دائرة اليأس وعدم الإنتاجية، أو بسبب أوضاعها المتردية أصلاً، والتي لا تختلف كثيراً عن بقية الإدارات التي تحاول إصلاحها. إن تطهير هيئات الرقابة كافة، ومحاسبتها من قبل السلطات التشريعية والقضائية، وتأكيد استقلاليتها، وانتشالها من المحاصة الطائفية والسياسية شرط لتطويرها وتمكينها من القيام بالدور المنوط بها على صعيد الإدارة.
4-هناك حاجة ملحة لإعادة النظر بشكل جذري بالهيكل التنظيمي على مستوى الإدارة لجميع الوزارات والمؤسسات العامة، والذي خضع لفترة طويلة لتغييرات عشوائية تحت ضغط الاعتبارات الآنية، ودون الاستناد إلى أية خطة متكاملة. ويجب أن تشمل هذه التغييرات الحصرية في الإدارة وتفويضها، مع التشديد على أن التنظيم السليم يعتبر شرطا لمعالجة عدد كبير من المشاكل الإدارية الأخرى. ويكمن الحل في إعادة النظر بالهيكل التنظيمي الخاص بالوزارات والمؤسسات العامة، والذي يعود إلى سنة 1959. فمنذ ذلك التاريخ حدثت متغيرات عميقة على صعيد الفكر الإداري وعلى صعيد التنظيم، مواكبة ظهور التقنيات الحديثة والتطورات الكبيرة في إدخال المعلوماتية على الإدارة مما أحدث ثورة كبيرة على صعد القوانين المرعية والهياكل التنظيمية، وقلص حجم الإدارات ورفع من كفاءتها.
5-الازدواجية غير المبررة في الرقابة المالية بين وزارة المالية وديوان المحاسبة، والذي يعيق العمل الإداري في الكثير من الأحيان. حالياً، توجد رقابة مسبقة على حسابات الدولة دون مبرر، مما يخلق جواً ضاغطاً على الموظفين يشل عملهم في كثير من الأحيان.
6-الإجراءات والأساليب الإدارية المعقدة والمرهقة، والتي تعتبر بالإضافة إلى قضية الفساد، من أهم أسباب شكوى المواطنين وإحباطهم. فاهتمام الإدارة يذهب بالدرجة الأولى إلى تطبيق الإجراءات بحرفيتها دون الاهتمام بالأهداف أو النتائج المطلوبة.
7-عدم وجود أي نظام لتقييم أداء الإدارات العامة (غير نظام تقييم أداء الموظفين). فمن المهم جدا تقييم الإدارات العامة ككل، من حيث أدائها وكفاءتها، وليس تقييم الموظفين فقط.
8-الحاجة إلى تطوير وتعزيز معهد الإدارة العامة، وإعادة النظر بشكل جذري في برامج التدريب والإعداد الموجودة الآن وهي على المستوى المتدني، ولا تتناسب مع المتغيرات والمستجدات، كما مع التطوير المطلوب للإدارة.
9-تدني مستوى الموظفين في مجالات عديدة خاصة في المجالات التخصصية، والتراجع في نظام الجدارة، بسبب تعيين أعداد كبيرة من الأجراء والمتعاقدين خلال سنوات الحرب وما تلاها.
10-وجود فائض كبير في عدد الموظفين في أكثر المؤسسات (بطالة مقنعة)، ونقص في مجالات متخصصة عديدة، وفي العناصر الشابة ذات الاختصاصات الجديدة والعلمية، وخاصة في المراتب العليا في الإدارة.
11-إعادة النظر في برامج المباريات والامتحانات، والتي لا تساعد في وضعها الحالي على اكتشاف القدرات المطلوبة في مختلف الوظائف، وقياسها بشكل صحيح. وكذلك ربط هذه المباريات ببرامج توصيف الوظائف المطلوب إشغالها.
12-عدم وجود نظام للحوافز يستند إلى نظام لتقييم الأداء على أسس صحيحة.
13-تدني رواتب موظفي القطاع العام خاصة في الفئات العليا في الإدارة.
وفي النهاية لا بد من التأكيد على أن الإصلاح الإداري مرتبط أشد الارتباط بالإصلاح السياسي، أي بإدخال تعديلات جذرية على النظام اللبناني، يسقط النظام الطائفي ويفتح المجال واسعاً أمام إقامة نظام ديمقراطي فعلاً بدل نظام دكتاتورية الطبقة الحاكمة تحت شعار "الديمقراطية التوافقية" التي لا علاقة لها بالديمقراطية الحقيقية، بل تخفي استبداد أمراء الطوائف اللبنانية.
[1] ورد سهواً في العدد السابق أن النص المنشور تحت عنوان "السياسات الاقتصادية والاجتماعية من بداية التسعينيات" هو الحلقة الثانية والأخيرة. ولما كان الأمر بخلاف ذلك، أي أن لهذا النص حلقات أخرى (حلقة ثالثة في هذا العدد وحلقة رابعة في العدد الذي سيليه تناقش البدائل في القطاعات الاقتصادية)، اقتضى التنويه والاعتذار من واضعي الوثيقة ومن القراء (العرب والعولمة).
غالب أبو مصلح