حرية الإعلام في ظل العولمة
د. نبيلة هاشم (لبنان)
علاقات دولية ودبلوماسية
مخطط البحث: مقدمةالقسم الأول: بين التعدد والوحدانية 1- الإعلام والسلطة السياسية والتعددية 2- الإعلام والوحدانية: نحو مزيد من التبعية لرأس المال القسم الثاني: أي وظيفة للإعلام في العالم المعاصر؟ 1- تحقيق الريعية 2- صناعة الرأي العام 3- الإعلام والمعنى 4- العولمة الإعلامية والحجب الإيديولوجي 5- العولمة الإعلامية: حضور الفرد غير المنتمي استنتاجاتخاتمة |
مقدمة |
إذا كان عالم اليوم يشهد تحولات متسارعة على المستوى التقني من طراز ما تحقق من جراء ثورة المعلومات؛ وإذا كان هذا العالم يشهد تحولات متسارعة في البنى الاقتصادية متمثلة بتغير نمط الإنتاج السابق باتجاه شركات عالمية عابرة للقارات تسعى للهيمنة من خلال تشكيل تحالفات احتكارية في حركة رؤوس الأموال وتحويل العالم إلى سوق موحدة على مستوى الإنتاج والاستهلاك؛ وإذا كان العالم يشهد تحولات عميقة على مستوى القانون والمؤسسات الدولية وتراتبية هذه المؤسسات في علاقاتها يبعضها البعض بحيث تحتل المنظمات العالمية ذات الطابع الاقتصادي، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية دورا مهيمنا قياسا بسائر المنظمات الدولية؛ وإذا كان العالم يشهد تحولات على المستوى السياسي بحيث تختفي تدريجيا ظاهرة التعددية القطبية وترسي مكانها وحدانية عالمية بزعامة الولايات المتحدة... إذا كان العالم يشهد مثل هذه التحولات التاريخية إلاّ أن ما لا يقل أهمية عن ذلك هو ما يشهده كذلك على مستوى الإعلام.
قد لا نبالغ لو اعتبرنا ما يحصل على مستوى الإعلام ثورة ً بكل معنى الكلمة وهذه الثورة تطاول تقنياته كما تطاول الوظيفة المعهودة إليه على المستوى العالمي. إلا أن هذه الثورة، كما التحولات الآنفة الذكر، هي موضع سجال كبير: فإذا كان البعض يعتبر هذه الثورة خالقة وموّسعة لمجال الحريات وأداة تسمح للبشرية بالتعبير عن آرائها وطموحاتها المستقبلية، فإن البعض الآخر يعتبر أن ما يحصل كارثة بكل معنى الكلمة، كما عبر عن ذلك الصحافي الفرنسي إنياسيو رامونيهIGNACIO RAMONET عندما عنون مقالته في الموند ديبلوماتيك LE MONDE DIPLOMATIQUE "وداعا أيتها الحرية".
فهل نحن فعلا ً في ظل ثورة إعلامية تحقق الحلم الجميل بالتعبير عن الرأي العام أم أننا تجاه استبداد من نوع أخر حيث تحتكر الكلمة والخبر بين أيدي قلة من الإعلاميين والوسائل الإعلامية المرتهنة لجهات اقتصادية محددة؟ وهل نحن تجاه إعلام يعكس حركة الرأي العام بكل حساسياتها وتنوعاتها أم نحن تجاه إعلام يختزل هذه الحساسيات والتعدديات في سياق وحداني؟ أو بكلام آخر، تجاه إعلام يصنع الرأي العام بدلاً من أن يعكس الرأي العام؟
القسم الأول بين التعدد والوحدانية |
1- الإعلام والسلطة السياسية والتعددية
لا شك أن الإعلام ملازم لظهور السلطة السياسية، لقد كان تاريخياً حتى زمن القبائل ما يوحي بأن أية سلطة قبلية بحاجة لمن يجيّش أبناء هذه القبيلة ويحشّدهم من أجل مهام محددة. فشاعر القبيلة كان ظاهرة مميزة في التعبئة القبلية بحيث أن العرب على حد ما يروى خلال المرحلة السابقة للإسلام كانوا يحتفلون بظاهرتين: ولادة الفرس وشاعر القبيلة.
وقد تطورت وسائل الإعلام بتطور المجتمعات، فظهور الدولة الحديثة الأوروبية التي تزامنت مع الثورات الصناعية التي عرفتها أوروبا خلال القرنين السابع والثامن عشر قلبت كل ما سبقها من مفاهيم لترسي مكانها مفاهيم أخرى، من مثل المساواة والحرية والإخاء والسيادة القومية ومفهوم الأمة. هذا بالإضافة إلى تكريس لإعلانات عالمية كالإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن التي أعطت لمفاهيم الحرية أشكالها القانونية وأبعادها الفلسفية. وإذا كان هؤلاء الفلاسفة قد ركّزوا على أن السلطة السياسية هي فعل عقد اجتماعي وأنه لا يمكن التسليم بما كان سائداً خلال العصور الوسطى من شرعية دينية لهذه السلطة، إلا أنهم ركزوا في الآن ذاته على ما سمي بالحريات العامة وبضرورة احترام الوسائل التي تعبر عن هذه الحريات. هكذا كانت الديمقراطية التي نشأت تعتمد من جهة على الانتخاب كوسيلة لتجسيد السيادة القومية وعلى حرية التعبير كوسيلة لعكس الرأي العام ولتوعية الناس بما يسمح للانتخاب من أن يكون انتخاباً فعلياً قائماً على وعي المواطن بما يدور حوله، من جهة أخرى.
إن الحديث عن الإعلام كما شهدته المجتمعات الغربية خلال ثوراتها الصناعية الأولى، متلازم مع الحديث عن التعددية بكل أشكالها: التعددية الاقتصادية، كما عبر عنها آدم سميث، والتعددية الثقافية والتعددية في السلطات الدستورية (روسو، منوتسكيو) والتعددية في الأمم والتعددية في الأسواق... ما ميّز المجتمعات الغربية هو من جهة التعددية، ومن جهة أخرى أن الحرية تتمثل بعدم تدخل الدولة في شؤون المواطن، أي الحرية اللاتدخلية. ينتج عن ذلك أن على الإعلام أن يكون إعلاماً تعددياً وأن يكون إعلاماً تنافسياً وأن لا تتدخل الدولة في شؤون الإعلام. لقد حافظت المجتمعات الغربية على كل هذه السمات أو على الأقل على معظمها خلال القرن العشرين.
حتى أن السلطات العامة تدخلت في النصف الثاني من القرن العشرين بوسائل متعددة لحماية هذه التعددية ولإعطاء من يمارسها القدرة على ممارستها. وكل ذلك من خلال تشريعات تحمي هذه الصحافة وأجهزة الإعلام المرئي والمسموع، كما تحمي الإعلاميين من خلال وجود قضاء يختص بمحاكمة جرائم المطبوعات. فما هي إذن مستجدّات المرحلة الحالية التي نشهد فيها تخلي الدولة عن حماية التعددية الإعلامية؟
(هكذا وفي أثر هجوم أو حملة معادية قامت بها اللوبيات الصناعية الممسكة بوسائل الإعلام، اضطرت الولايات المتحدة عام 1996 إلى إصدار قانون يتعلق بالاتصالات Telecommunication Act هذا القانون ألغى ما كان معمولاً به من ضوابط قانونية تحدّ من احتكار ملكية محطات الراديو، بين عام 1995 وعام 2001 انخفض عدد المالكين بنسبة 25 بالمئة. وفي العام 1996 كانت المجموعة الأساسية المتعلقة بالبث الإذاعي أي مجموعة وستنغهاوس Westinghouse تملك 85 محطة. وعام 2001 كانت مجموعة كلير تشانيل Clear channel تقبض على 1202 محطة راديو.(1)).
2- الإعلام والوحدانية: نحو مزيد من التبعية لرأس المال
ما يشهده العالم حالياً هو خلاف ذلك. إن ثمة تحولاً كبيراً سواء على مستوى التقنيات العلمية الإعلامية أم على مستوى المهام التي تقوم بها الوسائل الإعلامية. لقد أنتجت الرأسمالية خلال الثورة الصناعية الثالثة احتكارات عالمية ألحقت بها معظم الوسائل الإعلامية، وليس أدل على ذلك ما جاء في إحدى المقالات: حيث يكتب الكاتب تحت عنوان: "الشركات وانتقاء الكلمة والخبر"(2) ما يلي: "من هذه الخدمات ما هو قديم جداً إلا أنه يكتسب حالياً سمة العالمية هذه هي حال وكالات الإنباء إذ أن هناك ست شركات عالمية تراقب 477 مكتباً في الخارج (عام 1979)، آخر الإنباء تقدّم لنا إذن بواسطة الشركات المتعددة الجنسيات. وتقوم بهذه المهمة في العالم الثالث وكالة رويترز وأ إف بي ووكالتان أميركيتان أخريان. يعني ذلك أن أخبارنا منتقاة ضمن إستراتيجية محددة من قبل هذه الشركات، مع ما يعنيه من انتقائية أو تضخيم الحدث أو تناسي حدث آخر".
ويضيف الكاتب: "ومن الشركات من يهتم فقط بالعمل الدعاوي كما هي الحال مع ولتر تومسون في الولايات المتحدة الأميركية. والشركات الدعاوية ذات صلة وطيدة مع الشركات المتعددة الجنسيات الصناعية. لهذا فإن شركة ولتر تومسون المذكورة هي ذات صلة وطيدة مع شركة جنرال موتورز، ومن بين الخمسة عشر شركة دعاوية الأولى في العالم واحدة فقط ليست أميركية إنها وكالة داينسو اليابانية. هذا ويضيف أن الخمسة عشر شركة أولى المتعددة الجنسيات تراقب 50 بالمئة من سوق الدعاية في الدول المتطورة و60 بالمئة من سوق الدعاية في الدول المتخلفة. في أميركا اللاتينية تقوم بالعمل الدعاوي شركة واحدة هي شركة جنرال موتورز.
وتشكل الشركات التجارية العالمية رأس جسر للشركات الدعاوية في بسط نفوذها العالمي وينسب سوغوسوشا الدور الأول في الدعاية للإنتاج الياباني. ويبلغ عدد هذه الشركات 9500 وهي تحقق 80 بالمئة من تجارة اليابان الخارجية. إنها الحال كذلك مع شركات التجارة الألمانية Handlgsellschafter التي يبلغ عددها 3600 شركة والتي تتركز بشكل أساسي في هامبرغ وبرين وتؤمن 30 بالمئة من صادرات ألمانيا الفدرالية. إن هذا النوع من الشركات تجده كذلك في البلدان المتخلفة، فبيوت التجارة في كوريا الجنوبية تملك 300 فرعاً في الخارج".
تبين الدراسات كذلك إن اندراج وسائل الإعلام والدعاية في سياق سيطرة الشركات المهيمنة اقتصادياً على العالم ليس اندراجاً متوازناً. بمعنى أن الغلبة هي للرساميل الأميركية والأوروبية وليس لدول الجنوب أو دول العالم الثالث.
يتبين على سبيل المثال أن الولايات المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة واليابان تمثل حوالي 70 بالمئة من الإنتاج الداخلي الخام العالمي وأن حصة هذه الدول في إنتاج الخيرات والخدمات الإعلامية يقارب 90 بالمئة(3).
يتبين كذلك أنه من أصل 300 شركة أولى في الإعلام والاتصال هناك 144 شركة أميركية و80 شركة من أوروبا الغربية و49 شركة يابانية. ويتبين لنا أيضا ً أنه من أصل الخمس وسبعين شركة أولى عالمياً من شركات وسائل الإعلام 39 أميركية و25 شركة من أوروبا الغربية و8 يابانية.
وفي قطاع الخدمات Telecommunication , Informatique يتبين لنا أنه من أصل 88 شركة أولى في العالم هناك 39 شركة أميركية و19 من أوروبا الغربية و17 شركة يابانية أما فيما يتعلق بالتجهيزات فمن أصل 158 شركة أولى في العالم هناك 75 شركة أميركية و16 شركة من أوروبا الغربية و33 شركة يابانية والباقي يتموضع لجهة بلدان الشمال ومنها أستراليا وكندا(4).
هكذا يتبين أن أهم وكالات الإنباء والشركات المتعلقة بالإعلان والدعاية مرتبطة بشكل أو بآخر بالشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات التي تنتقي فعلاً الخبر الذي تصدّره للصحف العالمية والتي تسوّق وتروّج للسلع التجارية لتغيير أذواق الناس باتجاه ما تنتجه هذه الشركات المتعددة الجنسيات.
نحن هنا إذاً أمام تعطيل لمفهوم التعددية الإعلامية، ويؤكد هذا الواقع ما جاء في مقالة لجريدة الموند ديبلوماتيك في عددها الصادر في 2 حزيران 2002 حيث نقرأ: "في حقول وسائل الإعلام شكل ظهور الإنترنت والثورة الرقمية اضطراباً لا سابق له. إن العمالقة الصناعيين المنجذبين بطموحات السلطة وإمكانيات تحقيق أرباح سهلة والقادمين من قطاع الكهرباء والمعلوماتية والتسلح والبناء والهاتف والماء، اتجهوا بشكل كبير نحو قطاع الإعلام. وقد بنوا بسرعة إمبراطوريات ضخمة وداسوا في عبورهم هذا البعض من القيم الأساسية، منها في المقام الأول قيمة ضرورة إعلام ذي نوعية جيدة.
ويضيف الكاتب: "كل هذه التمركزات (الاحتكارات) تهدد تعددية الصحافة والديمقراطية وتؤدي إلى إعطاء الامتياز للريعية، تنصيب إداريين في سدة القيادة لا همّ لهم سوى الاستجابة لمتطلبات الرساميل المستثمرة التي تمسك بجزء من رأس المال.
إن هذه الرساميل تركز على نسب أرباح تتراوح بين 20 و50 بالمئة تبعاً لمخاطر العاملين، معتبرة أن الصحافة قد تكون قطاعاً معرّضاً للخطر. وبالتالي فهي لا تتردد بالمطالبة بإحداث تخفيض عدد العاملين في الصحافة (5) .
هذه الظاهرة، أي ظاهرة المركزة والهيمنة، تتجلى كذلك داخل كل دولة من الدول، ففي إيطاليا مثلاً نلاحظ أن الثري الأول في هذا البلد متمثلاً ببرلسكوني هو صاحب 3 شركات تلفزيونية خاصة مهدت لوصوله إلى سدة رئاسة مجلس الوزراء. وكذلك الأمر في البرازيل حيث عائلة مارينو التي تسيطر على وسائل الإعلام استطاعت أن تهيمن على كتلة برلمانية بشكل غير رسمي، وهذه الكتلة تتجاوز قوتها قوة الحزب، والأمر نفسه يتكرر في فرنسا مع Francis Bouygues الذي استطاع من خلال سيطرته على محطة التلفزيون TF1 أن يتمتع بسلطة تأثير هائلة على السياسة والثقافة، بحيث أنه لم يعد ملزماً بأن يتوسل إلى السياسيين لتحقيق مطالبه بل أصبح هو المرجع الذي يتجه صوبه هؤلاء السياسيون لتحقيق مطالبه(6).
لا تؤدي هذه الهيمنة فقط إلى احتكار الخبر وإلى تسهيل عملية وصول رجال المال إلى السلطة السياسية بل كذلك إلى استبعاد كل ما من شأنه الإساءة إلى الإيديولوجية الليبرالية بشكلها الفج. هكذا يبدو الأمر في معظم الدول وبشكل خاص في الولايات المتحدة؛ عام 1996 عندما أقدم الكونغرس الأميركي على إلغاء المساعدة الفيدرالية التي كانت معدة للفقراء وأعطى بالمقابل وبشكل مجاني محطات بث برامج مقدرة بقيمة 70 مليار دولار إلى VIACAN و Disney و GE أي المالكين للشبكات CBS و ABC و NBC لم يحدث قط أن أثيرت هذه المسألة على محطات التلفزة أو في الراديو كما يقول السيناتور John Malain لسبب بسيط هو أن هذه الوسائل بدأت تتستّر على ما تمارسه السلطة السياسية من سياسة بشعة تجاه الفقراء.
مما يعني من جهة سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على القطاع الإعلامي ومن جهة ثانية سيطرة الشركات الأميركية والأوروبية واليابانية على نفس هذا القطاع؛ أي أن الغلبة هي لدول الشمال بالنسبة لدول الجنوب مما يؤدي بدوره كما يكتب سرج لاتوش إلى أن الغربنة تمثل الاقتلاع الكوني (7).
القسم الثانيأي وظيفة للإعلام في العالم المعاصر |
كنا قد لاحظنا أن المؤسسات الإعلامية والإعلانية هي من المؤسسات أو الشركات الضخمة الملتحمة بشكل أو بآخر بمؤسسات اقتصادية في قطاع صناعي أو تجاري. وهذا ما عبر عنه الأونيسكو في تقريره الصادر عام 1991 حول الاتصالات في العالم حيث نقرأ: "إن العامل الذي أثر أكثر من غيره في تغيير الأساس الاقتصادي لوسائل الإعلام تمثل في الربط الذي حدث بين مؤسسات الإعلام مع قطاعات أخرى من الصناعة الإعلامية، وذلك من خلال صيرورة عقلنة ومركزة انخرطت فيها بشكل واسع المؤسسات الكبرى والتجمعات والشركات المتعددة الجنسيات"(8).
إن هذه الوضعية تغيّر جذرياً من الوظيفة التي تقوم بها هذه المؤسسات والشركات بحيث يصبح الربح هو الغاية الأولى من صناعتها، وبحيث يتم السعي دائماً إلى تحقيق أعلى معدل من الريعية. يتبين لنا أن قطاع الإعلام والاتصالات كان قد حقق عام 1986 رقماً عالمياً من الأرباح بقيمة 1185 مليار$ يرجع منها 515 مليار$ للولايات المتحدة و267 مليار$ للسوق الأوروبية المشتركة و253 مليار$ لليابان و150 مليار$ للدول الأخرى. عام 1991 تبين أن الأرباح التي حققتها CNN على سبيل المثال قد ارتفعت إلى 135 مليون$ وقد كان رقم حسابها حوالي 405 مليون$ وكانت مصادر مداخيلها متوازنة بمعنى أن 55 بالمئة من هذه المداخيل تتأتى من الدعاية و 45 بالمئة من الاشتراكات التي تدفعها الشبكات المرتبطة بها بواسطة الكابلات. وفي البلدان الأجنبية كانت النتائج مشجعة(9).
وتندرج في هذه الأرقام المتعلقة بالمعطيات ذات الصلة بالمؤسسات الإعلانية التي هي (القوام الأساس للإعلام)؛ مما يعني بدوره أن على المؤسسة الإعلامية أن تطال أكبر عدد ممكن من البلدان وأكبر عدد ممكن من المستهلكين وهذا ما نلاحظه في CNN التي خلقها تيد تورنر والتي تشكل إمبراطورية من إمبراطوريات الإعلام الأميركية. يتبين انه خلال عشرة سنوات أي من عام 1980 وحتى عام 1990 استطاع تيد تورنر ومع بقائه في أتلنتا أن يبني إمبراطورية إعلامية تقدر قيمتها ببضعة مليارات من الدولارات، وتغطي محطاتها التلفزيونية الأربع من جهة الولايات المتحدة ومعظم الدول الأخرى.
ويتشكل نظام CNN من محطتين هما CNN1 و Head Line News CNN اللتين يتم استقبالهما تباعاً من قبل 53 مليون بيت أميركي. هذا بالإضافة إلى أن مجموعة من صورها المختارة يتم نقلها من قبل 200 محطة مستقلة كم أنها تستخدم من أجل القيام بالعمل أكثر من 1800 صحافي وتقني، أكثر من نصفهم في CNN center Atlanta هذا بالإضافة إلى أن Atlanta مرتبطة بواسطة الأقمار الصناعية، كما هي مرتبطة بتسعة مكاتب إقليمية (أميركية) و15 مكتباً في الدول الأجنبية موزعة على كل القارات. نضيف إلى ذلك أن CNN1 تبث أخباراً كل ساعتين أو 3 ساعات كما تبث ريبورتاجات والسجالات وما يتأتى في المجالات الرياضية قضايا تجارية ومالية، مشاهد طريقة الحياة أو فن الحياة، سباحة، علوم الخ... إن برنامج head lines `news CNN يختصر نشرة أخبار متلفزة دائماً. وهكذا يتبين أن برنامجها يتضمن كمّاً هائلاً من الكلام المستعجل وكمّاً هائلاً من الصور التي تترابط على إيقاع جهنمي والتي تعطي المشاهد الانطباع العام بالحالة الطارئة أو المستعجلة.
منذ البدء بالعمل بها تغطي CNN مهرجانات انتخابية وجلسات الكونغرس ولم يمض زمن قصير حتى بدأت بالعبور إلى أحداث استثنائية مثل انفجار المكوك تشالنجر أو نشر دعوى اغتصاب أو عملية إنقاذ غرق طويلة ومكلفة لطفل وقع في بئر، أو أحداث دولية من مثل اختطاف طائرة TWA عام 1985 وذلك انطلاقاً من مطار بيروت الدولي، والذي استمر البث فيها مدة 17 ساعة غير منقطعة من خلال ملاحق محددة.
عام 1987 أعطاها الرئيس ريغان حصرية بث خطاب مهم. بالإضافة إلى هذا وذلك بدأت CNN منذ عام 1982 بخلق الحدث من خلال مقابلة أجرتها بشكل مباشر من كوبا مع الرئيس كاسترو وسرعان ما اتجهت إلى إجراء مقابلة مع القياديين السوفييت الذين كانوا يجيبون بشكل مباشر على المقترحات الأميركية يشأن الصواريخ أو الذين يعطون تصورهم بشان قضية طائرة لكوريا الجنوبية التي تم إسقاطها فوق الاتحاد السوفيتي.
عام 1991 استطاعت CNN على سبيل المثال أن تصل إلى الملايين من البيوت وإلى الآلاف من الفنادق فيما يتعدى المئة بلد بحيث انه كان هناك العشرات من المحطات التلفزيونية والآسيوية والأوروبية التي كانت تنقل عنها مختارات من برامجها؛ فالبرنامج الاسباني الذي كان معداً في الأساس لإسبانيي الولايات المتحدة أعيد بثه في معظم دول أميركا اللاتينية. وبالنسبة لأوروبا فإن مركز اطلنطا كان قد أعد برنامجاً على قياس CNN الدولية أي مزيجاً من CNN1 , CNN Head Line News حيث كانت تجري فيه عدة ريبورتاجات حول الأحداث ذات السمة الدولية. وبالإضافة إلى ذلك وبشكل عامودي استطاعتCNN خارج الولايات المتحدة أن تطال رجال الأعمال والنخب الثقافية وبالتأكيد النخب السياسية.
الوظيفة الثانية: صناعة الرأي العام
تتمثل الوظيفة الثانية للإعلام والإعلان بصيغتها الراهنة في قلب المعادلات التاريخية بمعنى أن وسائل الإعلام الجديدة تتجه ليس إلى عكس حساسيات الرأي العام في تنوعها بل إلى صناعة الرأي العام. وهذه لا تتجلى فقط في التنميط السياسي أو الثقافي وإنما أيضاً في التنميط الاستهلاكي.
فوسائل الإعلام تجهد في تسويق السلع قبل أن تقدم الشركات أحياناً إلى بيع هذه السلع إنما تخلق المستهلك الممكن. ويتم ذلك الخلق من خلال الإعلانات الكثيفة التي يجري تسويقها في البيوت وفي المقاهي وقاعات السينما وهذا التسويق الإعلاني يأخذ في أحيان كثيرة بخصوصيات المناطق الحضارية والثقافية أي أن وسائل الإعلام المعاصرة التي تركز على الصورة لتوفر المعنى والتكامل تعدّ المواطن إلى استهلاك قد لا يكون في أحيانا كثيرة جزءاً من اهتماماته اليومية.
وهذا التعميم بنمط استهلاكي غير مرتبط بالحاجات ولا يعكس هذه الحاجات وخلاف ما كان عليه الأمر خلال الثورة الصناعية الأولى حيث كانت الصلة وثيقة بين الإنتاج المادي والرمزي من جهة وحاجات الناس والبشر من جهة أخرى. والأمر نفسه يتكرّر في تسويق رجال السياسة وليس فقط السلع المادية بحيث انه لم يعد من الضروري أن يعكس السياسي قدرة تمثيلية لناخبيه من أجل بلوغه سدة الحكم. فوسائل الإعلام كفيلة بما تملكه من قدرة تأثير ومرافقة هذه الشخصية وملازمتها الدائمة لها وإثارة إعمالها المجيدة أن تسوقها لدى الناخبين وإعطاءها بالتالي مثل هذه الصفة التمثيلية وفي ذلك كما نعرف ما يهدد الديمقراطية التي يجري تحديدها تقليدياً بمشاركة الشعب في اختيار الحاكم والسياسة التي تحكمه.
الوظيفة الثالثة: الإعلام والمعنى
إن ما يثير الانتباه في مضمون الإعلام المعاصر هو التركيز الدائم على القيم الرأسمالية بحيث تصبح هذه القيم نهاية التاريخ، وكذلك تجاوز المعنى. لم يعد التاريخ ذي معنى ولم تعد الاستمرارية ذات معنى فلم يعد من المهم أن اسأل من أنا كشعب أو فرد، أي ما هي هويتي ولم يعد من المهم بالنسبة للإعلام السؤال عما يجب أن افعل في المستقبل.
أصبح السؤال بالنسبة لوسائل الإعلام أين أنا في هذه اللحظة أين أنا خارج التاريخ وخارج المستقبل. بكلام آخر الإعلام المعاصر والثقافة المعاصرة أي ثقافة العولمة لم تعد تعبأ لقراءة الحدث، والإنسان والشعوب في سياق تطورهما التاريخي أي في سياق ما كان الفلاسفة يطلقون عليه المعنى. الحدث أصبح مجتزأً من ماضيه ومستقبله. ليس المهم لماذا يفعل الفلسطيني ما يفعله من استشهاد أو موت في سبيل قضيته؟ المهم هو توصيف أو وصف ما يفعله في الآني. إذ ذاك أي بعد أن ينزع عمله من كونه نتاجاً للاستيلاء على وطنه ولكونه نتاجاً لإهمال مراكز القرار الدولي لوضعيته يصبح من السهل توصيف فعل المقاوم بالعمل الإرهابي وتلتقي الحدود بينه وبين المجرم الذي يقتل موظف المصرف للاستيلاء على ودائع المصرف لأنهما معزولين عن التاريخ يقومان بنفس العمل أي القتل.
الإعلام بشكل مختصر، الإعلام الراهن، يفكك الزمن ويلغي الهوية انطلاقا ً من تفكيكه للزمن.
رابعاً: العولمة الإعلامية والحجب الإيديولوجي
يتبين لنا أن العولمة الإعلامية، وانطلاقاً من ارتباطها بالقوى المسيطرة اقتصادياً، محكومة بمعايير وقيم هذه السلطات أو تلك القوى. فإذا كان المجمّع العسكري أو البترولي هو المسيطر حالياً في الولايات المتحدة وإذا كان هذا المجمّع هو من يفرض على المستويات الأميركية خوض المعارك في أصقاع الدنيا ومنها العراق فإن هذا الإعلام مضطر بحكم ارتباطه العضوي بهذه القوى النافذة أن يشوّه الحقيقة أو على الأقل أن يحجبها نسبياً لأن خوض الحرب يعني تسويق البضاعة العسكرية. هكذا تركز وسائل الإعلام على "دقة الأسلحة" وعلى ذكائها وعلى قدرتها التدميرية. ومن اجل إبراز أهمية هذه السلع عسكريا، لا بد من حجب المقاومة التي تواجهها وكذلك لا بد من حجب الدمار الذي تخلقه والتركيز على الوجه الإنساني لهذه الحرب أي التركيز على حقوق الإنسان وعلى تحرير الشعوب من الحكام الديكتاتوريين والتركيز على الحرية وعلى المساعدات الإنسانية.
يصبح عندها التماثل قائماً في ذهن المشاهد بين الحرب والبعد الإنساني. أو التماثل بين الأسلحة المتطورة والحرية: لأن هناك أسلحة متطورة استطاع الشعب العراقي الخلاص من النظام الديكتاتوري.
خامساً: العولمة الإعلامية، حضور الفرد غير المنتمي
العولمة الإعلامية، كالعولمة الاقتصادية، تقفز على الدولة القومية وعلى الثقافة القومية وعلى الحضارة القومية (10). وهذا التجاوز هو من المسائل الضرورية لتوسّع رأس المال وتسهيل حركته وتبادله بشكل كوني وتسويق نموذج أو نمط من السلع ومن القيم ذات الصفة العالمية. ما تريده هو الإنسان الفرد المستهلك وغير المنتمي إلى حضارة أو ثقافة بعينها، إنه إنسان كوني لا ينتمي إلى هوية باستثناء ما تعرض عليه من وسائل الإعلام هذه من هوية وقناعات.
بهذا المعنى، أي بمعنى تدمير الهوية، فإن العولمة الإعلامية والإعلانية تزيل الحواجز أمام الشعوب والثقافات والسلع الثقافية كما يقول مكللاهون صاحب أول محاولة مهمة عن العولمة: "إن كل ما يحصل في بقعة ينشر خبره في البقعة المجاورة وكل ما يحدث في جزء يظهر أثره في الجزء الآخر"(11). يغدو مجتمع المعلومات يعاني أزمة الهوية وانعدام الجدوى والمصداقية والقيمة والاستلاب واليأس(12).
استنتاج |
إن ما يحدث في العالم على مستوى التقنيات الإعلامية والإعلانية يشكل ثورة هائلة لا مثيل لها في التاريخ. لأول مرة يتحول العالم فعلاً إلى قرية كونية بحيث يستطيع الياباني أن يشاهد الحدث نفسه في اللحظة نفسها الذي يشاهده بها الانكليزي أو الإفريقي. وكل ذلك بفضل تكنولوجية الاتصالات والمعلومات والأقمار الصناعية. هذه الثورة تلغي المسافة الزمنية وتجعل العالم قادراً على التفاعل مع الحدث نفسه. وهذا ما يؤثر بدوره على ردود الفعل التي تقوم بها شعوب مختلفة تجاه هذا الحدث. لا غرابة أن نشهد لأول مرة في التاريخ ردود فعل شعبية تستنكر الاعتداء على الطرف الأخر في كل دول العالم تقريباً ولا نظن أنفسنا مغالين إن قلنا أن هذا التضامن العالمي هو من الثمرات الايجابية للعولمة الإعلامية.
وهذا لن يقتصر على العراق، إذ يمكنه أن يطال مسائل عالمية أخرى من طراز ما يتهدد العالم من كوارث بيئية أو من كوارث صحية. العولمة بهذا المعنى الايجابي تغذي ردود الفعل المشتركة والتضامن العالمي وتجعل هموم الناس ومشاكلهم هموماً مشتركة ومشاغل مشتركة.
كان يمكن للعولمة أن تكون أكثر ثراءً لو أن الإعلام العالمي لم يحكم بالشركات العابرة القارات ولو أن الإعلام العالمي حافظ بشكل أو بآخر على تنوعه وتعدديته، إلا أن ما حصل للإعلام كما كان يحصل دائماً للعلم والمعرفة هو سيطرة القوة السياسية والاقتصادية المهيمنة على هذه المعرفة أو ذاك العلم لاستخدامها من أجل مصالح الشركات والسلطات السياسية المسيطرة. إن ما نعرفه من العولمة الراهنة ومن وسائل الإعلام الراهنة هو أنها أصبحت أدوات في خدمة رأس المال المسيطر وفي خدمة القوى السياسية المسيطرة عالمياً. وفي ذلك ما يؤدي إلى استخدام هذه الوسائل في غايات بعيدة كل البعد عن هموم الشعوب ومشاغلها وقضاياها المصيرية.
كان بالإمكان، لو استخدمت تقنيات الإعلام الراهنة معطوفة على الثورة في عالم الاتصالات أن تحقق بناء مجتمع إنساني فاضل ينشد غايات إنسانية لا غايات ريعية.
خاتمة |
إن وسائل الإعلام والحركة الإعلامية والإعلانية عالمياً لا تنمّ على أننا نتجه في طريق ديمقراطية. وكما استعرضنا يتبين لنا أنه رغم الثورة التقنية فإن وسائل الإعلام بكل أشكالها تمارس إرهاباً لم نعرفه في المجتمعات السابقة نظراً لتشويهها الحقائق بما يخدم حماية بيوت المال العالمية والسلطات المهيمنة سياسيا.
إننا نشهد على عصر تتقلص فيه دائرة الديمقراطية بشكل تدريجي سواءً على مستوى الدولة القومية أم على المستوى العالمي ويمثل الاقتصادي دور الأولوية بالنسبة للسياسي كما بالنسبة للثقافي والإعلامي.
المراجع:
1- (برهان) غليون و(سمير) الزين: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دمشق دار الفكر عام 1999.
2- (أحمد) ثابت: "العولمة والخيارات المستقلة" المستقبل العربي.
4- La tyrannie de la communication , folio actuel no 92 Paris 2001
(1) - من أجل مزيد من التفاصيل راجع: WWW. Medias . org/ programs/ diversity /index / htm
(2) – عن الدكتور محمد وطفة ، جريدة الشام، 22آب 1990 "انتقاء الكلمة والخبر"
(3) – Leur part dans la production des biens et services d’information à voisine 90% voir le monde diplomatique Mai 1991 p 12
(4) – Voir le monde diplomatique Mai 1991 p 12
(5) – in “ la tyrannie de la communication – “ folio ACTUEL no 92 Paris 2001
(6) – Voir le monde diplomatique article écrit par Christian Bahier Aout 2002 p 13
(7) – comme l’écrit serge latouche : “ occidentalisation , comme déracinement planétaire” le monde diplomatique Mai 1999 p 13
(8) ) Voir le monde déplomatique Mai 1991 p 12
(9) ) Voir le monde déplomatique Mai 1991 p 13
(10) – عن أحمد ثابت " العولمة والخيارات المستقلة" في المستقبل العربي السنة 21 ص 161
(11) - برهان غليون وسمير الزين في " ثقافة العولمة وعولمة الثقافة " دمشق دار الفكر عام 1999 ص 21
(12) – راجع هانس بيتر مارتن ، هار الدشومان " فخ العولمة " ترجمة عدنان عباس الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب تشرين الأول 1988 ص 85