العراق: محاولات الاحتلال الأمريكي إسقاط المدن وآفاق المواجهة المحتملة

 حميدي العبد الله

كاتب وباحث عربي في الشؤون السياسية

Hamidi_a@hotmail.com

 

ركزت التقارير الإعلامية الواردة من العراق في الأسابيع الأخيرة على المكاسب التي حققتها قوات الاحتلال في بعض مناطق العراق. وجرى التركيز بصورة أساسية على سقوط مدينة سامراء بيد قوات الاحتلال بعد أن نكثت الحكومة المؤقتة وقوات الاحتلال بالوعود التي قطعتها لوفد الأهالي الذين أبرموا اتفاقاً، جرى بموجبه تسهيل دخول قوات من «الحرس الوطني» العراقي وقوات الاحتلال إلى المدينة. واعتبرت قوات الاحتلال سقوط سامراء سابقة يمكن الارتكاز إليها من أجل تعميم العملية في مناطق أخرى من العراق، وأحصي على هذا الصعيد أكثر من ثلاثين مدينة خاضعة لسيطرة المقاومة العراقية كلياً أو جزئياً. وجاء تصاعد القصف على الفلوجة، واعتقال وفدها المفاوض لبضعة أيام، وإصدار إياد علاوي رئيس الحكومة تهديدات صريحة باجتياحها في هذا السياق بالذات. وقد ولّد كل ذلك انطباعاً بأن قوات الاحتلال والحكومة المؤقتة استعادا زمام المبادرة، بل ظهرت تقارير صحافية تتحدث عن انقلاب شعبي في العراق ضد المقاومة. فهل هذه التقارير الواردة صحيحة ومطابقة لحقائق الوضع الفعلي ميدانياً؟

 

الوقائع وحدها التي تحمل الجواب على هذا السؤال، فماذا تقول الوقائع؟

أولاً، تؤكد الوقائع أن العمليات التي تقوم بها المقاومة العراقية تصاعدت بوتيرة غير مسبوقة في هذه الفترة التي تتحدث عنها التقارير. وإذا كان لا بد من توصيف لتحديد من الذي يمتلك زمام المبادرة، فإن الوقائع تؤكد أن حجم العمليات كماً ونوعاً، والخسائر التي تلحقها بقوات الاحتلال والحرس الوطني، هي أكبر بكثير مما كانت عليه في الفترات السابقة. وهذه الوقائع تؤكدها تقارير أمريكية لا يمكن الطعن بصدقيتها. ففي تقرير نشرته مجلة نيوزويك بتاريخ 19/10/2004 كتبه «كريستوفر ديكي» وهو من كبار المحللين في المجلة، بعد استعراضه لزيف بعض المعلومات التي تحدثت عنها الحكومة المؤقتة وقيادة القوات الأمريكية يقول إنه في «بغداد نفسها، فإن أحد أهم شوارع المدينة، شارع حيفا، شهد الكثير من المعارك والاشتباكات، وهو ينتهي أمام المنطقة الخضراء الشاسعة، حيث يوجد علاوي والأمريكيون وبعض السفارات الأجنبية في قلعة أباشي القرن 21 ومنذ نيسان سقطت نحو ثلاثة آلاف قذيفة مورتر في بغداد وحدها. وسقط الكثير منها في المنطقة الخضراء. وبالأمس القريب فقط تم العثور على عبوة ناسفة، تسمى آي زي دي محلية الصنع بالقرب من مقهى المنطقة الخضراء الذي يرتاده كثير من الجنود والدبلوماسيين والمقاولين. وكانت العبوة الناسفة، حسبما أفادت مصادر عسكرية، عبارة عن كيس تم حشوه للتفجير عن بعد. ومن حسن الحظ تم اكتشافها وإبطال مفعولها في الوقت المناسب».

ولكن بعد أقل من يومين على نشر هذا التقرير في نيوزويك انفجرت عبوة ناسفة مماثلة في المنطقة ذاتها، وسقط من جرائها عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف قوات الاحتلال وأعوانها الأجانب والعراقيين الذين يقيمون في المنطقة أو يرتادونها لتقديم الخدمات. لكن الأمر الهام في تقرير «نيوزويك» ليس ما مر ذكره حتى الآن، بل إن الأمر الهام هو ذلك المتعلق بالوضع القائم في العراق منذ 28 حزيران الماضي، أي تاريخ نقل السلطة المزعوم إلى الحكومة المؤقتة وحتى الآن. على هذا الصعيد يقول التحقيق: «منذ تسليم السلطة (ويضع كلمة تسليم بين هلالين) إلى حكومة علاوي في 28 حزيران ازداد الوضع سوءاً بصورة ملموسة. وقد أصدر معهد الدراسات السياسية في واشنطن إحصائية مدمرة الأسبوع الماضي. ففي الحروب جميعها التي قرأنا عنها تتضمن أرقام الضحايا، القتلى والجرحى على السواء. وفي هذه الحرب حاولت وزارة الدفاع إخفاء الحجم الحقيقي لخسائر الأمريكيين بعدم ذكر أعداد الجرحى في تقاريرها المعلنة عن الضحايا. ولكن من الممكن الحصول على تلك الأرقام، وقد حصل عليها المعهد بالفعل. تشير إحصائيات المعهد إلى أن عدد الضحايا بين العسكريين الأمريكيين الجرحى والقتلى يبلغ في المتوسط 747 شهرياً منذ أن تولى علاوي السلطة. وبالمقابل كان المتوسط الشهري 482 ضحية خلال فترة الغزو العام الماضي، كما كان المتوسط الشهري خلال فترة الاحتلال حتى 28 حزيران 415». ومن خلال التقرير يمكن الإشارة إلى الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى، إن المقاومة العراقية في الأشهر الأولى التي تلت احتلال العراق استطاعت أن ترتقي في قدرتها على المواجهة إلى المستوى الذي كان عليه الوضع أثناء الغزو عندما كان الجيش العراقي متماسكاً ولم تحتل المدن، إذ أن الخسائر أثناء الغزو، في صفوف الاحتلال كانت 482 إصابة وبعده أصبحت 415 إصابة، أي أقل بقليل مما لو كانت الحرب وكأنها لا تزال مستمرة.

الحقيقة الثانية، أنه بعد تسلم علاوي السلطة ضاعفت المقاومة نشاطها وأصبح هذا النشاط يوازي الضعف تقريباً لما كان عليه الوضع في اللحظات الأولى لبدء غزو العراق، وهذا يعني من حيث نتائج الخسائر التي منيت بها القوات الأمريكية وكأن الحرب مستمرة، بل ازدادت القدرة الدفاعية لدى العراقيين، ولهذا ارتفع مستوى الخسائر في صفوف قوات الاحتلال.

 

بعد هذه الوقائع هل فعلاً استعادت قوات الاحتلال والحكومة المؤقتة زمام المبادرة كما تروج بعض وسائل الإعلام؟ قطعاً لا.

ثانياً، برهنت التجربة في الأسبوعين الماضيين على استحالة إخضاع المدن المتمردة والقضاء على المقاومة فيها. فبعدما دخلت قوات الاحتلال إلى سامراء عبر حيلة، ونفذت مجزرة هناك حيث قتلت حوالي مئة وعشرين مواطناً، وبعدما ادعت أن الأوضاع استتبت لها في المدينة، عادت المقاومة بعد أقل من أسبوعين على احتلال القوات الأمريكية وأعوانها من الحرس الوطني للمدينة، لتضرب من جديد، ولا يكاد يمر يوم واحد لا تنفذ فيه عشرات العمليات داخل المدينة، وقد اعترف الأمريكيون بسقوط عدد كبير من الضحايا في صفوفهم، حيث أعلن الجيش الأمريكي عن إصابة 11 جندياً في يوم واحد داخل المدينة. وإذا كان مصير احتلال سامراء انقلب إلى مقاومة أكثر شراسة مما كان عليه الوضع عندما أخلتها القوات المحتلة، فإن الإصرار على احتلال الفلوجة سيلاقي المصير ذاته. وعلى هذا الصعيد لحظ تقرير مجلة نيوزويك أموراً على جانب كبير من الأهمية ترتبط بهذه القضية. فقد شكك التقرير بجدوى احتلال المدن، وتنبأ بمصير مشابه للمصير الذي حلّ بالقوات الأمريكية في فيتنام. يقول التقرير: «في فيتنام، كانت مذبحة مايلاي هي التي ساهمت في كسر عزيمة أميركا. وقد أوشكنا أن نصل إلى تلك المرحلة مع فضيحة أبو غريب، والبقية آتية».

ثالثاً، تحولت العمليات في الآونة الأخيرة من هجمات يتراوح عددها في اليوم من 30 إلى 70 هجوماً حسب الإحصائيات الأمريكية، إلى معارك متواصلة ليلاً نهاراً في مدن عديدة، هذا إضافة إلى تواتر سرعة العمليات والهجمات الأخرى.

وهكذا فإن الوقائع المشار إليها تدحض الادعاءات بأن قوات الاحتلال والحكومة المؤقتة قد استعادوا زمام المبادرة، ولكن إذا كانت قوات الاحتلال وأعوانها العراقيون لم يستعيدوا زمام المبادرة، وإذا كانت خسائر الولايات المتحدة قد تضاعفت منذ انتقال السلطة وحتى الآن، فما هي الخيارات التي يمكن اللجوء إليها في المستقبل القريب من قبل الإدارة الأمريكية سواء أعيد انتخاب بوش أم تم انتخاب كيري؟

 

يبدو أن الولايات المتحدة لا تزال تعقد الرهان على حدثين مقبلين:

الحدث الأول انعقاد المؤتمر الدولي في القاهرة الذي سينظر في اقتراحات لتحسين الوضع في العراق. الحدث الثاني إجراء الانتخابات في العراق لعل هذه الانتخابات تؤدي إلى تحسن الوضع السياسي، وتفك العزلة المضروبة على الحكومة المؤقتة.

ولكن من الصعب الاعتقاد أن المؤتمر الدولي سوف يسفر عن نتائج عملية. فمواقف الدول المعنية التي سوف تشارك في المؤتمر هي على حالها، فليست أوروبا مستعدة لإرسال قوات إلى العراق، كما أنه مرفوض أي دور لقوات من دول جوار العراق، ولا تستطيع أية قرارات سياسية تخرج عن المؤتمر تحسين الوضع إذا لم تتضمن جدولاً زمنياً محدداً لجلاء القوات المحتلة عن العراق، وهذا غير وارد على الأقل في الدورة الأولى للمؤتمر الدولي الذي سيعقد في القاهرة في نهاية تشرين الثاني المقبل.

 

أما الانتخابات في العراق، فمن غير المنتظر أن تؤدي إلى تحسن الوضع، وعلى هذا الصعيد هناك احتمالان:

الاحتمال الأول، تعذر إجراء الانتخابات بفعل التدهور الأمني، وإجراؤها جزئياً في مناطق دون مناطق أخرى، وهذا من شأنه أن يخلق مشاكل أكثر من المشاكل التي يحلها. فإجراء انتخابات جزئية يعمق الانشقاق داخل العراق من جهة، ويسفر عن تشكيل سلطات في مناطق معينة غير خاضعة بشكل مطلق لسلطات الاحتلال من جهة أخرى، خاصة إذا جرت انتخابات نزيهة، وهذا يعقد عمل قوات الاحتلال في ظل وجود قوى في السلطة غير متعاونة وترفض الانصياع الأعمى للإملاءات الأمريكية.

الاحتمال الثاني، إجراء الانتخابات، فالأرجح إذا جرت انتخابات نزيهة فإنه باستثناء المناطق الشمالية، فلن يكون غالبية الذين يصلون إلى سدة المسؤولية من بين العناصر التي جرى انتقاؤها بعناية من قبل قوات الاحتلال، والتي عرفت بامتثالها لكل الأوامر الإملاءات التي تصدرها القيادة الأمريكية، وهذه العناصر ستكون أقل استعداداً للتعاون، وهذا يخلق لقوات الاحتلال الكثير من المشاكل، ويضعف تغطيتها السياسية.

وهكذا يتضح أن الرهان الأمريكي سواء كان على المؤتمر الدولي، أو على الانتخابات التي ستجري في العراق، هو رهان لن يساعد على تحسين الوضع الذي يواجه قوات الاحتلال، تماماً مثلما أن انتقال السلطة الذي راهنت عليه كثيراً الولايات المتحدة، أدى إلى نتائج عكسية، وارتفع معدل العمليات ضد قوات الاحتلال من 415 إصابة بين قتيل وجريح قبل نقل السلطة إلى 747 إصابة بعد نقل السلطة إلى حكومة علاوي.

 

حميدي العبد الله

كاتب وباحث عربي في الشؤون السياسية

Hamidi_a@hotmail.com