لبنان في أزمة تاريخية
لا يفيد فيها تجديد الماضي بل تستلزم كسر التوازن القلق
استعصاء الأزمة والخيارات المتعاكسة أعمق من التمديد ومن القرار 1559
ميخائيل عوض
بيروت، 21-10-2004
أهدر اللبنانيون، من زعماء وكتاب وممثلي كتل اجتماعية وسياسية ومواطنين، الوقت والجهد في "التغميس خارج الصحن" في تعاطيهم مع الجاري في البلاد منذ استحقت الانتخابات البلدية وبعدها الانتخابات الرئاسية.
وتحولت البلاد إلى حفلة صراخ وعويل، مدح وذم، "زجل وقرادي"، في التعاطي مع الشأن الرئاسي، دون أن يسعى المنظرون والمتعاملون في الشأن السياسي والاجتماعي الاقتصادي إلى تكليف أنفسهم عناء التدقيق والبحث خارج دائرة الفعل المباشر وردة الفعل، بما في ذلك نخب وكتل محسوبة على اليسار والعقلانية، أو ما شابه...
أين تكمن الأزمة إذن؟ وما هو توصيفها الموضوعي والتاريخي؟ البلاد في أزمة تاريخية، لم يعد يفيد فيها تجديد الماضي و"رتوشته" وإعادة صياغته، بتجديده شكلاً أو بتأمين حكومات وعهود تدير أزمة مستفحلة لم يعد بالإمكان إدارتها بدون إحداث تغييرات جذرية سلباً أو إيجاباً. فالتوازن القلق يجب أن يُكسر.
أوهام وارتباكات بالجملة والمفرق، وتغيير حاد في اتجاهات المواقف، تصرفات مخجلة "خفيفة" في الكثير من الأحيان، من رفض مطلق للتمديد إلى قبول وتصويت برفع الأيدي، ومن رفض واسترئاس إلى القبول والانكفاء... هذه الحالة "عهرت" الطبقة السياسية وكشفت خفة النواب وتعاطيهم بالأمور الكبرى، وأربكت الشارع وجعلته مشلول الإرادة والفعل، بل جعلته عاجزاً عن التفكير ومتابعة ما يجري، وأثرت على المناخات الشعبية والسياسية في سورية وفي الأوساط الشعبية والنخبوية العربية، في طرح الأسئلة الساذجة والتسطيحيه: أليس من بديل للحود؟ ألم تستطع سورية تخليق حلفاء برغم 30 سنة من وجودها في لبنان؟ من أوقعها بالكمين؟ ولماذا استدرجت إلى الفخ؟ وإلى آخره من الترهات والسخافات المعتادة في الحياة السياسية والإعلامية اللبنانية. لكن هذه المرة "زادت حبتين" وغابت عن الأعين والعقول تلك الحملة الدولية وما يخطط للبنان من مذبحة جديدة لتخديم المشروع الأميركي في العراق والمشروع الصهيوني في فلسطين.
أحداث غير مسبوقة
أشياء غير معتادة حصلت في التطورات، وقطعت السياق، وأوقفت حفلة الزجل، فأربكت الزجيلة والطبال، لأنها أحداث غير مسبوقة على أكثر من صعيد، أو هي جاءت بمثابة إنذار قوي قرع الرؤوس قبل أن يقرع الأجراس.
- في حمأة التعبئة والتعبئة المضادة والتصعيد من دعاة اللاتمديد، وتهديد بعضهم بالسلاح والتبشير باحتمال اغتيال لحود "والمطالبة باستقالته ولا دستورية التمديد"، والحديث المتكرر عن عنف سياسي وأمني آت في الطريق، وقعت محاولة اغتيال الوزير حمادة، فيما ذكرت بعض الإشاعات (لفت إليها الاهتمام النوعي للسفير الفرنسي والأمريكي، وتصريحات سترفيلد، ومندوب أمريكا في مجلس الأمن) أنه كان من بين أربعة لبنانيين كتبوا قرار 1559، أحدهم مقيم في لوس انجلوس، والآخر في باريس والثالث، وزير سابق متنقل بين بغداد والعواصم ومقر الأمم المتحدة.
- تلك الاستفاقة الفرنسية من سبات طويل، والجهد الاستثنائي الذي بذله شيراك شخصيا بغير رغبة الخارجية الفرنسية دافعاً فرنسا إلى مقدمة الدول الساعية إلى توظيف الأمم المتحدة كذراع للدول الكبرى للهيمنة والتدخل في شؤون الدول الصغرى.
- انشغال مجلس الأمن على عجل، وبحمية وتسرع غير معتاد، بملف لبنان والعلاقات السورية اللبنانية، بل بشأن لبناني بحت وتفصيلي لم يسبق قط أن انشغل مجلس الأمن بملف مثله، بل والإصرار المنقطع النظير على مسابقة موعد جلسة التمديد واصدرا قرار 1559 قبيل ساعات من انعقاد جلسة مجلس النواب بحسب نصوص الدستور وآليات تعديله.
- خطاب الرئيس بشار الأسد أمام مؤتمر المغتربين (هناك قصد بالمناسبة، والمكان والزمان) وما جاء فيه من وضوح قاطع، ووضع النقاط على الحروف، بل إعادة تعريف موقف سورية من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومن حزم قاطع (اعتبره الكثيرون أنه خطاب حرب، وآخرون ذكّروا بخطاب حافظ الأسد عام 1976 عشية دخول سورية إلى لبنان، تلك اللحظة الإستراتيجية التي مازالت حاكمة فيما أدت إليه) وما قاله من توصيف لا يرقى له أدنى شك لمحسوبين على سورية، وتذكير بما كان يعد للمسيحيين من الداخل وكيف تعاطت فرنسا وأمريكا مع اللبنانيين في اللحظات التاريخية الحاسمة، ملوحاً بصورة صريحة لا تحمل التباس بتحميل مسؤولية انفجار البركان للجميع، الذين سيتضررون حكما "لان لبنان وسورية المستقرين نسبيا في بيئة متفجرة".
- الانعطافة التي أحدثها خطاب الأسد على البيئة المحلية، وإعادة صياغة موازين القوى الداخلية، وتحجيم الكثير من القوى والفعاليات التي كانت ("تعربش" على التحالف الاستراتيجي وتستجير بالدور السوري لصالحها الفئوي على حساب البلاد والعباد).
- الإصرار الفرنسي الأمريكي على إبقاء ملف العلاقات السورية اللبنانية تحت نظر مجلس الأمن، مرفقاً ذلك بعجز فرنسا وأمريكا عن تمرير قرار ثان، والعجز عن تمرير تقرير رئاسي بحسب الصياغات الفرنسية الأمريكية، ما عكس تحولاً في مجلس الأمن وكرس حقائق جديدة في التوازنات الدولية، والتغييرات في المنطقة والبيئة الإقليمية.
- التغييرات الجارية بسرعة في المنطقة العربية وملفاتها المتفجرة (عجز شارون في غزة واستعجال الانسحاب والانفتاح على عرفات وسلطته، وظهور مقدمات اشتباك إسرائيلي أوروبي على أساس المبادرة الأوروبية الجديدة، والعجز الأمريكي المتفاقم في العراق، واضطرار واشنطن لمحاورة سورية والبحث عن مشتركات لتمرير عقد المؤتمر الدولي الإقليمي في مصر بمشاركة البلدان المجاورة للعراق).
- الاشتباك الداخلي الصامت حول الخدمات والإصلاح وتشكيل الحكومة، ومن ثم إعلان الحريري رفض التكليف، والانسحاب إلى المعارضة بعد أن اسقط بيده وذهبت جهوده عبثاً في تمرير حكومة حريرية، أو مصغرة (انقلابية تجهض التمديد وتعطب خيار الإصلاح) بسب إصرار لحود على حكومة الإصلاح والبرنامج، وإعلان سورية رسمياً أنها لن تتدخل ما لم يُطلب منها ذلك علناً ورسمياً لقطع الطريق على المصطادين في المياه العكرة أو الساعين للاستفادة من الدور السوري في صالحهم والمحرضين عليه سراً ومع باريس وواشنطن وقوى داخلية انقلابية واهمة، والحرب الاجتماعية التي تفرضها قوى الطبقة السياسية ومفاصلها في الدولة (قطع الكهرباء والماء، التحضير لرفع أسعار الخبز والمشتقات النفطية، العبث بموعد افتتاح العام الدراسي في المدارس الرسمية...).
- جاءت تصريحات السفير الأمريكي والناطق باسم البيت الأبيض وهرولة سفير أمريكا وفرنسا للتباحث مع الحريري فور عودته من القصر بعد الاستقالة بمثابة إشارات هامة على حجم التفاعل بين معارضة الداخل والتدخل الدولي، ومع الحريري نفسه.
تلك مؤشرات وتطورات تصنف، في علم السياسة والاجتماع، على أنها خطوات نوعية في ظرف سياسي واقتصادي داخلي نوعي، وفي بيئة إقليمية ودولية نوعية بامتياز، ومتحولة بتسارع.
بذلك تدخل الأزمة اللبنانية عنق الزجاجة، ويقف لبنان على المفترق الأكثر خطورة منذ عام 1973 ساعة تأسس لانفجار حرب أهلية لم تنتهِ بدون إحداث قفزة نوعية تجسدت في إصلاحات الطائف التي اقتصرت على الإصلاح السياسي والتغيير في التوازنات الطائفية، وفتحت ثغرة في جدار النظام الأصم، لكنها تعطلت في البنود التي كان تحقيقها سيعني التأسيس المادي لتغييرات جوهرية في النظام اللبناني.
طبيعة الأزمة
أين تكمن الأزمة إذن؟ وما هو توصيفها الموضوعي والتاريخي؟ البلاد في أزمة تاريخية، لم يعد يفيد فيها تجديد الماضي و"رتوشته" وإعادة صياغته، بتجديده شكلاً أو بتأمين حكومات وعهود تدير أزمة مستفحلة لم يعد بالإمكان إدارتها بدون إحداث تغييرات جذرية سلباً أو إيجاباً. فالتوازن القلق يجب أن يُكسر.
الأزمة في مرحلة 1995-1998
تبدت مظاهر الأزمة التاريخية في المرحلة الممتدة بين عام 1995 وعام 1998، وانتهت بعدها بمنع الإصلاح اللحودي الموعود. كيف حصل ذلك، وما كانت عليه عناصر تلك الأزمة وتجلياتها؟
بدأت مظاهر الأزمة بالبروز بعد أن استنفذ الطائف ببنوده المحققة مشروعيته التاريخية، وأنجز مهمته الممكنة في: إحداث الإصلاح الدستوري وتغيير وظيفة لبنان الإقليمية في الصراع العربي الصهيوني، وتعديل التوازنات الطائفية في بنية النظام والدولة، وتحقيق المصالحة الممكنة بين شتى فئات الطبقة الحاكمة (السائدة اقتصادياً واجتماعياً).
ومن الضروري هنا تعيين طبيعة تركيب هذه الطبقة الحاكمة على حقيقتها المتكونة من ثلاث فئات أساسية: الأولى، وهي الطبقة السائدة (اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً) القديمة (منذ نظام 1943 حتى انفجار الحرب الأهلية)؛ الثانية، وهي الناشئة بفعل الحرب وسيطرة المليشيات (أمراء وأثرياء الحرب) والتي حاولت إقامة "حكوماتها" المناطقية على ما أمكنها من بسط نفوذها على امتداد طوائفها؛ الثالثة، وهي المتشكلة من أصحاب رؤوس الأموال اللبنانية المهاجرين، وقد عادوا إلى البلاد محمولين على (وحاملي) تيار الليبرالية الاقتصادية التي سادت العالم وتسعى لاستكمال سيادتها على المنطقة، ومدفوعين بحماس لانجاز "تسوية" تاريخية مع العدو الصهيوني كانت أجواؤها تملأ المنطقة، ويقع على عاتقهم الترويج لها.
ولكن انهيار مشروع التسوية "السلمية" وصعود المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان، من جهة، والإخفاق المتتالي لوعود الليبرالية الاقتصادية في معالجة الوضع اللبناني (الوعود الحريرية الربيعية)، من جهة ثانية، أديا إلى وتأزيم الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد. لقد استنفذت المدخرات وفوائض الموازنات المحققة بزيادة الضرائب والجبايات والمديونية. وكان ذلك نتيجة الإنفاق على رشوة قطاعات سياسية واجتماعية (الزعامات التقليدية الطائفية والمناطقية، الأحزاب المشاركة في الحكومات، المجالس كمجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب والمهجرين والإخلاءات...)، وخاصة في "خطة الأفق 2000" التي اعدتها دار الهندسة وصندوق النقد الدولي واطلقتها الحريرية.
على قاعدة كل ذلك تقدمت أزمات سياسية واجتماعية عاصفة، تواكبت مع الاستحقاق الدستوري لانتخاب رئيس الجمهورية، وقطعت مساراتها التدخلات الإقليمية وحاجات المنطقة والتوازن مع العدو الصهيوني وضرورات حماية المقاومة. فكان التمديد للهراوي ثلاث سنوات باتفاق الطبقة السياسية وكتلها مع سورية وبرضا وتغطية دولية وعربية تامة.
تخللت السنوات الثلاث الممددة تغييرات وتوترات بين المجتمع وقيادة الجيش وبعض الأجهزة مع الحكومة والعهد. وتكثفت التناقضات والأزمات، بما فيها التي هددت التوازن بين أركان الطبقة السياسية (انتفاضة الوزراء، الخلافات على رفع أسعار المحروقات، مشاكل الرمل العالي، الإضراب العام وإعلان حالة الطوارئ ومنع التجول...). وبذلك تشكلت أرضية خصبة لصعود خيار لحود (خطاب القسم وخيار الإصلاح) حيث جاءت انتخابات 1998 الرئاسية بمثابة خطوة من فوق مدعومة من سورية، ومغطاة بصمت الطبقة السياسية واستنكافها، وقبول عربي ودولي.
وسرعان ما انفجر التوافق بمبادرة من الحريري بافتعال أزمة دستورية (الاستشارات الملزمة) والاعتذار عن التشكيل، والانتقال إلى صفوف المعارضة الصلبة وبذل الجهد وتجنيد الإعلام واللعب على المذهبية والطائفية في محاولة لإحراج وإضعاف حكومة الحص (حكومة العهد الأولى) التي كشفت في طبيعتها وبرنامجها عن نهج مختلف يرغب في التأسيس لمرحلة اقتصادية اجتماعية تتحقق فيها للبلاد فرصة السيطرة على الأزمات والمديونية وإعادة هيكلة الدين والتنقية المالية، وإضعاف الطبقة السياسية ومراكزها المحاصة والنهابة في بنية الدولة والمؤسسات. وللرد على ذلك انتظم تحالف قوي بين أركان الطبقة السياسية والمراكز الدينية والطائفية، وقوى الرهان على الخارج، ووظف الإعلام المملوك والمسيطر عليه من تلك المراكز في معركة شرسة أدت إلى نكوص خطير لخيار الإصلاح، عبر عن نفسه بانقلاب الطبقة السياسية وإمساكها بالمجلس النيابي مستفيدة من اضطراب المركز القومي (سورية عشية وفاة الأسد) وصعود "التطرف" في كل من فلسطين وأمريكا.
ونجح هذا التحالف في توظيف الوجود السوري في لبنان وقيادته في تنظيم الانقلاب الذي لم يعلق خيار الإصلاح ويعطله تماماً فحسب، بل أدى إلى استيلاء الطبقة السائدة (على تنوعها) على النظام برمته ومحاصرة موقع رئاسة الجمهورية (آميل لحود) الذي لم يحمه سوى التحالف مع سورية وحزب الله، وقدرته على المناورة والعمل مستفيداً من موازين القوى وليس من الصلاحيات الدستورية.
الأزمة في مرحلة 2000-2004
بين عامي 2000-2004 أصبح التعايش صعباً، وبات موقع الرئاسة (آميل لحود) في جو إدارة الأزمة لتحقيق اختراقات جزئية. فطيلة الفترة التي أعقبت الانتخابات النيابية (2000)، وما تم من إقصاء لقوى اليسار، ومنها و"يسار" الطبقة السياسية، أمسكت الطبقة السائدة الملتفة حول الحريرية المتحالفة مع جنبلاط والمراكز الطائفية والمذهبية وقوى الرهان على الخارج بالإعلام والمفاصل الأساسية في الدورة الاقتصادية (المصرف المركزي، وزارة مالية، المجالس، وزارات الخدمات، الاتحاد العمالي العام، النقابات المهنية، جمعية المصارف، جمعيات التجار والصناعيين...).
وجاءت التطورات الإقليمية والدولية في صالحها (صعود شارون، التحالف بين بوش وشارون، أحداث 11 أيلول، الحرب على الإرهاب، سقوط أفغانستان، سقوط بغداد، التحرشات والضغوط على سورية والمقاومة اللبنانية). فسعت جاهدة في استثمار المأزق والأزمات. وكان ذلك بتفخيخ الأزمة المالية والاجتماعية لابتزاز سورية والعهد من أجل تقديم تنازلات مادية توفر الأسباب لسطوتها الأبدية على لبنان، ومن أجل إنهاء مقاومته (تجريد حزب الله من السلاح)، والعودة بلبنان إلى "الحياد" في الصراع العربي الصهيوني، وقطع الطريق على العلاقات المميزة والتكامل مع سورية، لإضعاف الجبهة الشمالية (استجابة لشروط شارون وبوش).
وهذا ما خلق بين الحين والآخر توترات مع المقاومة وسورية (أزمة جسر الأوزاعي) ولحود، كادت أن تطيح بالاستقرار وتنسفه، لولا الرعاية السورية التي تكللت جهودها (خطوة نوعية) بسحب أبرز قائد في مخابراتها وفريقه الذي كان يتصرف بحسب لحود والمعارضة المتحالفة معه ومع سورية، بصفته أمين سر الطبقة السائدة اللبنانية ومهندس الانتخابات النيابية التي طوبت المجلس لفريق الحريرية على حساب حلفاء لحود. وكان من جراء ذلك تغيير الحكومة عشية سقوط بغداد بمبادرة إحراجية من الحريري هدفت إلى استثمار حالة الإرهاب والارتباك التي خلفها سقوط بغداد بالسرعة والطريقة التي حصلت بها.
غير أن ميزان القوى الداخلي ونباهة القيادة السورية، وتلويحها بورقة ترك لبنان ساحة انفجار تطيح بالطبقة السياسية وتربك إسرائيل وفرنسا وأمريكا والمنطقة العربية، في ظرف عصيب دخلته المنطقة والعالم، وفر للحود وسورية تمرير حكومة "لإدارة الأزمة" لا يكون للحريرية فيها قوة التقرير النهائي، الأمر الذي سمح للحود، مدعوماً بصورة علنية وبتدخلات شخصية من الرئيس الأسد، بإدارة الأزمة وتحقيق اختراقات ومكاسب جزئية تمهيدا لتوظيفها في معركة كبرى كانت بوادرها تطل برأسها. فنجح لحود في قلب الطاولة على رأس الطبقة السياسية في معركة قانون أصول المحاكمات الجزائية، وخوض معركة طويلة ومعقدة لاستعادة قطاع الخلوي، ومعركة إفشال التخصيص وباريس2، وبعد ذلك إفشال خطة استدراج البلاد إلى وهم باريس3 أو إيقاعها تحت عجز تسديد سندات الدين التي جرى توقيت استحقاقها في مواعيد الاستحقاقات الكبرى (الانتخابات الرئاسية والانتخابات النيابية) عن سابق تصور وتصميم من قبل الحريرية لابتزاز سورية والبلاد في افتعال أزمة خطيرة، وإفشال خطة توسع تيار لحود في المناطق المسيحية (اغتيال حبيقة، خوض المعارضة معركة الانتخابات الفرعية في المتن، إقفال محطة ام تي في...). وكان من ضمن ما حققه لحود وتحالفه حسم المعركة على سلاح المقاومة ومزارع شبعا والتوطين، وإرسال الجيش إلى الجنوب، ودور الأمم المتحدة، وربط المسارات الثلاثة (اللبناني والسوري والفلسطيني) وإعلان حزب الله عن دوره في فلسطين، واستهداف كوادره من قبل إسرائيل في بيروت، وإعلان لحود تكراراً عن منع التوطين وعدم الاستجابة لأي من الإغراءات والضغوط الأمريكية الفرنسية.
2004 عام الاستحقاقات الكبرى
كشفت الأزمة مؤشرات عديدة خلال سنوات التعايش الصعبة (حكومات إدارة الأزمة، تحصين المواقع بكسب الجولات لا "بالضربة القاضية") كان أبرزها التالي:
- انتخابات المتن الفرعية، وموقف الطبقة السياسية وأدواتها وأجهزتها الإعلامية (إضعاف لحود لصالح معارضة قرنة شهوان).
- انتخابات بعبدا عالية الفرعية (إضعاف العهد وسورية، إبراز قوة المعارضة العونية وحجم الانكفاء الشعبي).
- الانتخابات البلدية التي أضعفت الطبقة السياسية والمعارضة المسيحية، وأعطت قوة دفع لسورية وحلفائها.
- حسم المعركة على الخلوي والتخصيص في صالح العهد وخياره.
- إضعاف الحريرية إلى الحد الأقصى، بتهميش دور الحريري ورئاسة مجلس الوزراء وإضعاف حملته الطائفية (حول دور السنة في الرئاسة الثالثة).
- المصالحة بين العهد والبطريركية (البحث عن تسوية لمسألة جعجع، قانون انتخابي يرضي البطريركية).
- التفاهم مع جمعية المصارف وحاكمية مصرف لبنان "السواب" وإدارة الدين بعيدا عن استهدافات الحريرية.
- تجميد أسعار البنزين، بعد أزمة حي السلم التي كشفت عن درجة التأزم الاجتماعي وقابلية البلاد للانفجار.
- تحول العلاقات السورية الحريرية إلى حالة الأزمة وإدارتها، وإدارة القيادة السورية الظهر للطبقة السياسية وحرمانها من أي تغطية وتجريدها من الحلفاء السوريين.
- انقلاب جنبلاط على التحالف مع سورية رهاناً على الخارج والضغوط، وتحالفه مع الحريري وقرنة شهوان واليسار المتأمرك.
- الحركة الشعبية في حالة كمون وتشظي، والاتحاد العمالي العام أسير الطبقة السياسية وتوازناتها (فشل استغلال أحداث حي السلم للانقلاب على نتائج الانتخابات البلدية).
- تواصل الاشتباك بين قوى الطبقة السياسية وتحوله إلى سياسة يومية ومادة إعلامية وتعبئة في الشارع (طائفية- مناطقية).
- تأزم المعركة إلى أقصى حد مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي، وتمحور البلاد حول خيارات التمديد (مع وضد)، وحسمه بالتدخل السوري "الفظ" والحازم بإعلان موقف سورية وانعقاد جلسة مجلس النواب للتعديل الدستوري.
- إضاعة الوقت بانتظار قرارات مجلس الأمن الدولي، واختبار خيارات الحريري وقدرته على تأمين تغطية المعارضين للتمديد في حكومة جديدة (حكومة الوحدة الوطنية).
التمديد، الأزمة ، الخيارات الصعبة
الانقلاب من فوق أو الانفجار
الأزمة التي رافقت البلاد منذ عام 1998 والتحولات التي عصفت بموازين القوى الداخلية والتطورات الدولية، وما حققته الطبقة السياسية من انقلاب في الانتخابات النيابية، واضطرار سورية لإلقاء ثقلها وتوظيف نفوذها لصالح مشروع لحود في حده الأدنى (منع الانهيار، الحؤول دون استلام الطبقة السياسية الزمام المطلق في البلاد وتنفيذ مشاريعها الاجتماعية والانقلاب على المقاومة وقواها) جعلت السنوات الأربع سنوات عراك، فحولت الحكومة والسلطات إلى أدوات سلبية مهمتها إدارة الأزمة بانتظار فرصة ومراكمة التغييرات الجزئية في موازين القوى والرهان على مجريات الصراع في المنطقة وعليها. وقد دنت ساعة الحسم مع الانتخابات الرئاسية لتتحول المناسبة إلى استحقاق، محلي إقليمي دولي، كلحظة مفصلية في تقرير مستقبل البلاد وخياراتها الإستراتيجية.
لان الأزمة، محتدمة داخليا، وقد بلغت ذروة لم يعد يفيد فيها الإدارة والتعايش، بسبب حجم ضغط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية واقتراب النار من البارود (حادث حي السلم)، واستحالة الاستمرار مع الاستحقاقات الكبرى (السندات، المديونية، نزف الموازنة، ارتفاع أسعار النفط العالمية، تعطيل باريس3، تعطيل التخصيص، إضعاف الليبرالية الاقتصادية وتعطيل مشاريعها ومخططاتها) تحول الاستحقاق في بعده الداخلي إلى لحظة حسم تاريخية، على نتائجه تتوقف آليات إدارة البلاد وخياراتها الاجتماعية والاقتصادية والوطنية.
ولان المرحلة حبلى بالتطورات الاقليمية والدولية، وحافلة بتغييرات في البيئة الإستراتيجية، تتشكل عناصرها كمرحلة انتقالية، تفصل بين مرحلتين كبيرتين (نظام القطبية الواحدة أو المتعدد القطبية وصعود استقلالي في المنطقة وبيئتها الاقليمية)، تقاطعت الأزمة الداخلية مع الأزمات والتحولات الاقليمية والدولية. وتشكلت من جراء ذلك بيئة نموذجيه للانفجار أو لتغيير دراماتيكي باتجاه من اثنين. إما تحقيق سلطة تامة للطبقة السائدة بقيادة الحريرية، غرضها تصفية مشروع الإصلاح والتحالف مع سورية وحزب الله. وإما إسقاط الحريرية وخياراتها وتحالفاتها الخارجية والداخلية بضربة واحدة أو بعدة ضربات متتالية تؤهل البلاد لعبور مرحلة تاريخية جديدة تتغير فيها قواعد النظام العام والياته وتوازن القوى الاجتماعية والطبقية والسياسية، وبنية الدولة والنظام الاجتماعي الاقتصادي، ليتكيف تطابقا مع التغييرات التي نشأت بفعل الحرب الأهلية وتسوية الطائف على المستويات السياسية، وبفعل دور المقاومة والنصر الجنوبي على مستوى التغيير في وظيفة ودور لبنان في بيئته وفي الصراع العربي الصهيوني.
وهذا ما جعل المرحلة لحظة حسم في خيارات لبنان وسورية، وحجم قدرتهما على التأثير في مجريات البيئة الاقليمية والدولية. وهذا ما استولد تدخلاً دولياً سافراً، قادته هذه المرة فرنسا التي تتربع مع ألمانيا على قيادة القطب الأوروبي الباحث عن دور متنافس مع القطب الأمريكي بعد أن كسر ذراع أمريكا في مجلس الأمن وباتت تخسر قوتها وموقعها في العراق وفي فلسطين وبالتالي في البيئة الاقليمية. فتقدمت فرنسا (النخبة الحاكمة والمالكة الاستعمارية) تبحث عن شراكة من خلال تحمل عبء بعض المعركة في لبنان وفلسطين، لتستفيد في العراق والمنطقة برمتها، وتعود شريكاً "مضارباً" للمشروع الأمريكي المأزوم ولقطع الطريق على مؤشرات صعود حركة تحرر وطنية عربية وإقليمية ترتكز إلى سورية ولبنان والتفاهمات مع إيران وتركيا.
بهذه المعطيات نفهم الأزمة
عبثاً المحاولة لفهم الجاري خارج دائرة هذه المعطيات، وكل ما يقال ويساس على أساس غيره إنما هو كلام هراء، ومضيعة للوقت. والدلائل كلها تشير إلى صحة ما ذهبنا إليه من أن اللحظة لحظة انفجار، وانكسار حلقة التعايش (لا إمكانية على إدارة الأزمة والتوازنات) داخل الطبقة السائدة وبين تياراتها، ومع المجتمع، ومع خيارات لبنان ودوره ووظيفته.
بفهم الأزمة وتجلياتها ومراحلها على هذا النحو يمكن تفسير المعركة القاسية حول التمديد للحود (بينما لم تكن كذلك للهراوي)، ويمكن فهم أسباب التدخل الخارجي السافر على هذا النحو غير المسبوق في تاريخ المنظمة الدولية، ويمكن فهم الحزم السوري والفظاظة في إخراج الاستحقاق. وبذلك أيضاً يمكن التثبت من أن كلام الأسد في خطابه الأخير بمثابة إعلان تحذير صارخ، وتأكيد لاستعداد سورية على المواجهة دفاعاً عما تحقق ومن اجل تكريسه (التحذير من البركان). وبه أيضاً ندرك حجم التفاهمات السورية الإيرانية في الملف اللبناني والفلسطيني والعراقي، والتفاهمات السورية التركية الإيرانية في الملف العراقي. وفيه يمكن تفسير "النقزة" السورية من وليد جنبلاط التي رفعت في خطاب الأسد إلى حد الاتهام (برش الرز على الإسرائيليين، وبالسعي لتصفية وتهجير المسيحيين أثناء الحرب الأهلية).
ويمكن إدراك أن محاولة اغتيال الوزير حمادة وقبلها اغتيال غالب عوالي، كادر حزب الله، واشتباك حي السلم على أنها نذر لمرحلة عاصفة تستولد مراحل جديدة قد لا تخلوا من عنف منخفض التوتر (عمليات أمنية)، أو عالي التوتر في اشتباكات مضبوطة مع الإسرائيليين أو اشتباكات داخلية متفرقة تشترك فيها عناصر من حالات بعض المسيحيين "المشعوطين"، والتطرف الإسلامي، ومليشيا الحزب التقدمي، أو بين أمل وحزب الله، وربما في المخيمات أو معها... وقد أكد هذا الاستنتاج مرات عديدة وليد جنبلاط الذي لا "ينطق عن هواء"، وآخر التأكيدات قوله تعليقا على انسحاب الحريري أن التمديد سيعني "توترات أمنية وسياسية".
وعليه أيضا يمكن تفسير حدة مواقف قرنة شهوان، وجهود الرئيس السابق أمين الجميل لاستمالة بعض الطبقة السياسية التي لم تتساوق مع خط الحريري جنبلاط القرنة (زياراته للحص والحسيني...)، ومقاطعة وليد جنبلاط للحكومة، واعتذار الحريري عن قيادة حكومة غير حريرية بدون حلفائه تكون مهمتها وضع الأسس لتصفية نفوذ الطبقة السائدة في الدولة والمجالس والمحاصات، واستعادة الحقوق المهدورة ووقف الهدر، والتلزيمات، وإصلاح الشأن الإداري والاجتماعي والاقتصادي تمهيداً لإصلاح الحياة السياسية وقلب توازناتها عبر قانون انتخابي وعملية انتخابية هدفها الأساس إضعاف الطبقة السائدة حارسة النظام والمدافع عنه باستقتال.
التمديد القشة التي قسمت ظهر البعير
شكل التمديد والإصرار عليه، وشل تذبذب بعض القوى والفعاليات المحسوبة على "الخط"، والتي غردت كثيراً خارج السرب، خطوة كبيرة باتجاه حسم الصراع وإخراج البلاد من دائرة المراوحة وإدارة الأزمة. وتشكل القطيعة بين جنبلاط وسورية واعتذار الحريري عن قيادة الحكومة العتيدة خطوة كبيرة إضافية. أما الخطوة الحاسمة فهي شكل الحكومة وإدارتها وبرنامجها ونهجها وجديتها، كما في جدية العهد، في التعامل مع الظرف وضروراته.
تلك خطوات حاسمة، لكنها ليست نهائية. فالطبقة السائدة، وقوى دعمها الإقليمية والدولية، لن تستسلم وترفع الراية البيضاء، ولن ترمي أسلحتها بسهولة، بل ستستخدم كل ما لديها لتدخل البلاد في دائرة صراع من نوع مختلف وفي مواقع مختلفة.
الكلام الحسم، هو كيف سيتصرف الحريري بعد خروجه من جنة الحكم؟ وكيف سيتصرف العهد بدون أعباء الحريري في مرحلة انتقالية عاصفة؟ وكيف ستكون عليه العلاقات بين أركان الحكم وحلفاء سورية؟ وما هي الأولويات؟ وهل سيكون قانون انتخابي يؤسس لإنتاج بلد جديد غير الذي تشكل منذ الانتداب وفي عرف ودستور 1943، وما صادق عليه الطائف من استمرار لأسس النظام القديم، وقواعده؟
لقد دقت ساعة الإصلاح والتغيير من فوق، وتتكرر الفرصة مرة ثانية بعد فرصة 1998. فهل يُستفاد منها وتستغل على النحو المطلوب والممكن؟ أم تنجح الطبقة السائدة في اغتصاب اللحظة بسبب أخطاء في إدارة المرحلة كما حصل عام 2000؟
البلاد ولجت مرحلة جديدة سماتها: إما الانفجار وضياع الكيان وإنهاك المجتمع، أو السير في خطة إصلاحية راديكالية تنهي عقوداً من تحكم الطائفية ومراكزها والطبقة السائدة وواجهاتها السياسية، وإبطاء قيامة دولة مركزية تؤسس للبنان الوطن لمواطنين متساوين أحرار.
فمناسبة التمديد ليست سوى القشة التي قصمت ظهر البعير.
والموجبات التاريخية الملحة هي إعادة هيكلة لبنان ووظيفته وبنيته بما يتساوق مع المنجز على الأرض بفعل المقاومة وما حققته، وبفعل التطورات الإقليمية والعربية التي أضعفت المشروع الأمريكي الإسرائيلي. واللحظة الراهنة تجعل التسابق معقوداً بين الخيار الإصلاحي، من جهة، والخيار الانقلابي، من جهة أخرى، لتكريس العودة إلى الوراء. ولعل العودة مستحيلة، وهي لن تنتج سوى أزمة انهيار النظام وتشظي لبنان.
ميخائيل عوض
بيروت، 21-10-2004