الحياة السياسية وقانون الإنتخاب الأكثري في لبنان
د. غالب نور الدين
كاتب من لبنان
قال كورمينين Cormenin عام 1830: هناك في قانون الانتخاب كل الحكومة، كل الدولة، كل الميثاق (الدستور) بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول: أنه ليس في البلاد قانون سياسي سواه أو أنه يحتوي كل القوانين السياسية لأنه القانون الغالب loi matrice. فالميثاق (الدستور) هو المجتمع الساكن، وقانون الاتخاب هو المجتمع المتحرك. قل لي من هم ناخبوك أقول لك ما هي حكومتك.
في لبنان وعند كل مفترق أو إستحقاق ترتفع أصوات تنادي يتعديل قانون الإنتخاب. فتكثر الإجتهادات ليستقر الأمر أخيراً على تعديلات تتناول الشكل بتكبير الدوائر أو تصغيرها، بزيادة او خفض عدد النواب. وهكذا هذه التعديلات لم تمس جوهر وطبيعة النظام الإنتخابي فاستمر مبدأ المحصاصة الطائفية في ظل النظام الأكثري، الذي تجاوزته دول كثيرة في العالم. فمنذ الاستقلال حصلت 12 إنتخبات نيابية في لبنان كلها على أساس المحاصصة الطائفية والنظام اللامركزي.
في عامي 1943،1947 اعتمد المحافظة دائرة إنتخابية و55 عدد النواب. عام 1951 تمت زيادة عدد النواب إلى 77. عام 1953 عدل قانون الإنتخاب بتخفيض عدد النواب إلى 44 و اعتمد الدائرة الصغرة والفردية. أما في في 1957 فاعتمد القضاء دائرة إنتخابية و أصبح عدد النواب 66. عام 1960 تم رفع عدد النواب إلى 99 واستمر القضاء دائرة إنتخابية وتتابعت إنتخابات 1964، 1968 و1972 على نفس القاعدة. أما بعد الطائف فقد عدل قانون الإنتخاب مرتين وزيد عدد النواب إلى 128 نائباً، وفي إنتخابات 1992 اعتمدت المحافظات دوائر إنتخابية في ما عدا جبل لبنان الذي بقي على أساس القضاء وأصبحت بيروت دائرة واحدة بعدما كانت في السابق ثلاثة دوائر. وفي عام 2000 تم تقسيم الشمال إلى ثلاثة دوائر والبقاع إلى ثلاثة دوائر وبيروت صارت ثلاثة دوائر انتخابية أما الجنوب والنبطية فدمجا معاً في دائرة انتخابية واحدة وفي جبل لبنان تم دمج دوائر انتخابية: عاليه-بعبدا، كسروان-جبيل، وبقي الشوف دائرة وكذلك المتن الشمالي.
في كل هذه التعديلات استمرت طبقة سياسية متحكمة بالكيان منذ الإنتداب الفرنسي وإن تغيرت بعض الوجوه فلتأخذ مكانها وجوه من نفس الطبقة، وقد اعتمدت السلطة الحاكمة نظام التلاعب بحجم الدوائر بغية إقصاء الأخصام وإيصال المناصرين وهم بأكثريتهم من نفس الطبقة السياسية التقليدية.
يكفي أحباناً إضافة قرية او منطقة إلى دائرة إنتخابية لتغيير مسار الإنتخابات، مما أوصل البلاد في بعض الإستحقاقات إلى فتن وكوارث نتيجة صراع الرغبات والتلاعب الإنتخابي كما في إنتخابات 1947 و1957. كل سلطة تحاول تفصيل القانون على قياس مصالح المتنفدين فيها، واستمر الكيان يتخبط في دوامة صراعات زعماء وطوائف على استحواذ السلطة عبر التلاعب بالوسائل القانونية والدستورية وأساسها قانون الإنتخاب، وجميع المتصارعين اتفقوا على إبعاد القوى التغييرية التي تستهدف تعديل بنيوية النظام. فقانون الانتخاب الأكثري لن يسمح بوصول تغييرين حقيقين إلى المجلس التشريعي بل تبقى الدولة نادياً لمقامرة أصحاب النفوذ الطائفي والإحتكاري وميداناً لصراعاتهم على اقتسام غنائم السلطة.
النظام الأكثري وعدالة التمثيل:
ما هو معيار عدالة التمثيل؟ هل هو تمثيل الطوائف والزعامات الجامدة أم أنه تمثيل للقوى السياسية المتحركة حسب أحجامها والتأييد الشعبي لها؟
إن حزباً أو تياراً سياسياً منتشراً في مختلف المناطق اللبنانية ويحظى تأييد 100 ألف ناخب، لن يتمكن من الوصول إلى الندوة النيابية حسب برناجه أو أطروحاته، وذلك لأنه يخسر في قل المناطق أمام القوى الطائفية والعشائرية المتجمعة في غيتواتها، والتي تهزمه عبر تحجرها وقوة غرائزها وتحريض مرجعياتها. فلن يستطيع مؤيدوه ال100 ألف من فعل أي شيء كونهم منتشرين في مساحة الوطن. في المقابل تتمكن قوى طائفية متقوقعة في منطقة محددة وعندها 30 ألف ناخب من إيصال كتلة نيابية مهمة إلى المجلس النيابي. فأين عدالة التمثيل في ذلك؟
إن النظام الأكثري يمنع كل القوى الوطنية الحارصة عن التحجر والخصوصية الطائفية من إحراز أي تقدم إنتخابي، ويشجع بالمقابل الزعامات الطائفية على التحكم بالبلاد. وإن حاولت بعض الأحزاب الوطنية التحالف مع القوى الطائفية فإنها تتخلى عن مصداقيتها الوطنية وتبتلعها الخصوصية الطائفية وينتهي بها الأمر إلى مجر إنتهازية سياسية.
إن مأسات الأحزاب الوطنية تكمن في رفض القوى الطائفية لها، وفي دورة الإنتخابات ينصب لها في كل منطقة مقصلة.
النظام الأكثري وصحة التمثيل:
إذا ساهمت اللائحة التي وضعتها في صندوق اإنتخاب فأكون قد ساهمت في إيصال من يمثلني في الدورة النيابية، أما إذا خسرت اللائحة فإن ورقتي تذهب هباء ولا تصلح إلا لملئ سلة النفايات.
قد تفوز لائحة ببضعة أصوات زيادة عن الآخرين فيتققر بذلك شطب كل ما عداها ولو أن ما حصلت عليه قد لا يتجاوز ال30% من كل الأصوات. ففي دراسة نتائج إنتخابات الشمال عام 1996 ظهر أن معدل أصوات النواب الفائزين لم يتجاوزال34% من مجموع أصوات المقترعين ولم تكن إنتخابات عام 2000 أفضل حالاً. وهذا يعني أن 66% من أصوات الناخبين ذهبت أصواتهم هدراً وتمكن 34% من فرض سيطرتهم التمثيلية على كل شيء بسبب أنهم في المنافسة نالوا بضعة أصوات أكثر من الأخرين. فالنظام المعمول به عندنا يتلخص بأن الفائز بالأغلبية العادية يأخذ كل شيء. هل يمكن القول أن من نال 34% من الأصوات يمثل الناخبين؟ إنه في الواقع لا يمثل أكثرية الناخبين.
بالإضافة إلى الإختلال في صحة التمثيل هناك مسألة الإختلال في الدور الإنتخابي للمواطن. فإبن الجنوب، مثلاً، يتمتع بإمكانية المشاركة في انتخاب 28 مرشحاً في حين أن إبن منطقة كسروان جبيل يصوت ل8 مرشحين. فالدوائر الإنتخابية تتفاوت في الأحجام وكذلك تتميز حقوق الناخبين مما يحدث عدم مساوات في مسألة حق الإنتخاب لجهة فعالية الصوت ووزنه.
من المفترض أن يكون مجلس الشعب ممثلاً للشعب وليس للفائزين في عملية تنافسية تثبت اختلال توازنها وهذا الأمر يتطلب الخروج من هكذا نظام واعتماد مبدأ الإنتخاب النسبي الذي يكفل إيصال الممثلين الحقيقيين للشعب وبذلك لا يخسر أحد صوته بل تعبر الإنتخابات عن الأحجام الحقيقية للإرادة الشعبية.
النظام الأكثري والتخلف الاجتماعي
لقد ثبت أن تجربة الانتخاب الأكثري في الدول المتخلفة، أو تلك غير المتجانسة من الناحيتين الإثنية والطائفية، لم يساهم في إحداث تطور اجتماعي عبر تشجيع قيام أحزاب إصلاحية بل على العكس من ذلك فقد كرس الزعامات والفئويات والتناحر، وعمق الهوة بين مختلف الطوائف والإتنيات. فهذا النوع من الانتخاب يساهم في طغيان الجماعات مما يسبب ظلماً وبالتالي تمرداً، فتضعف اللحمة الاجتماعية الوطنية وتتحول اللعبة السياسية إلى صراع جماعات تحكمها أحقاد ومصالح فئوية متخلفة. وتجربة مصر خير دليل على ذلك إذ تضطر الدولة إلى فرض مقاعد للأقباط لأن نتائج الانتخابات تسحقهم دائماً لصالح المسلمين الأكثر عدداً وتحرمهم من التمثيل.
لقد اعتمدت دول كثيرة تعاني من مشكلة التناحر العرقي والطائفي إلى هجر المبدأ الأكثري واعتماد التمثيل النسبي، وقد أعطى هذا الإجراء نتائج باهرة في القضاء على النزاعات العنصرية والطائفية لمصلحة الوحدة. وتجربة اسبانيا وجنوب إفريقيا وبلجيكا خير دليل على ذلك.
إن الثر المهم للتمثيل النسبي الذي يجمع عليه معرضوه ومؤيدوه هو أنه يؤدي إلى التعجيل في إقامة التنظيمات الحزبية وتعزيز انضباطها الداخلي وضبط الحياة السياسية في إطار المنافسة الحزبية ويجابه التنافس على أساس مبدئي لا شخصي، وعلى الصعيد الوطني لا المناطقي. وهذا ما يجعله أفضل أداة لتوطيد الوحدة الوطنية لا سيما حيث تتهددها منازعات دينية أو عرقية. وخير مثال على ذلك بلجيكا حيث يجمع الرأي أن الانتخاب النسبي أنقذ البلد من الانقسام العرقي. وكان لا بد لنظام الانتخاب الأكثري من تكريس الصفة الفلامنكية للحزب المسيحي والنزعة الوالانية للحزب الاشتراكي وجعلهما حزبين انفصاليين. إن نظام الانتخاب النسبي منذ 1970 استوعب الطفرة العرقية التي أخذت تتقلص منذ انتخابات 1978، فبعد أن كانت الأحزاب الإتنية (اتحاد الوالون والفولسكوني) قد وصل تمثيلهما عام 1971 إلى 25 بالمئة أخذت بالتراجع حتى بلغت نسبة 11.7 بالمئة عام 1978، وعادت الأحزاب الوطنية الثلاثة الكبرى لتحتل 85 بالمئة من المقاعد. وفي هذا المثال دلالة كافية على ما يمكن أن يكون للانتخاب النسبي من أثر إيجابي في ترسيخ الوحدة الوطنية في ما لو طبق في لبنان.
النظام الأكثري والفساد
رغم كل التعديلات التي حصلت في تكبير وتصغير الدوائر الانتخابية فإن سمة النظام الانتخابي اللبناني لم تتغير، والفساد المستشري منذ بداية الكيان يزداد تفاقماً والطبقة السياسية المتحكمة صارت أكثر قوة وتسلطاً وإفساداً مما يستدعي إحداث تغيير أساسي في جوهر وطبيعة النظام الانتخابي.
المال يلعب دوراً أساسيا في تقرير النتائج، فعبر شراء أصوات الناخبين وابتزازهم بالخدمات يتم حسم النتائج الانتخابية ولو عبر بضعة أصوات. ونتائج الفرز تتوقف على استمالة عدد من المتذبذبين والانتهازيين أحياناً ليصبوا أصواتهم ويقرروا هزيمة الآخرين. أما في الانتخاب النسبي فإن فعالية المال السياسي ستكون حتماً أقل فعالية لأن النتائج لا تتوقف على بضعة أصوات.
في الانتخاب الأكثري المناطقي يتكاثر نواب الخدمات الذين يمارسون عبر تهافتهم على خدمة الأزلام والمحاسيب واسترضاء الناخبين إلى سوء استعمال مواقعهم فيسلكون طرقاً ملتوية بغية تنفيع جماعتهم في حين أن الهم الوطني العام يحتل مركزاً ثانوياً. فرصيدهم السياسي يتوقف على ناخبيهم في دائرتهم وليس على التأثير الوطني العام مما يجعلهم أسرى خصوصيات المناطق ومحكومين بمنافع وعصبيات.
لوائح الفسيفساء
شبه الرئيس عبدالله اليافي أعضاء اللائحة الانتخابية بركاب القطار، عندما يصلون إلى المحطة ينزلون ويذهب كل واحد في اتجاه.
لم تشكل التحالفات في اللوائح برامج مشتركة أو مشاريع بقدر ما كانت بوسطات تمتلئ بقيادة متنفذ سياسي أو تحالف متنفذين ومعهم ممولون وأتباع، فتصبح اللائحة مجموعة مصالح ضيقة تجتمع حولها وليس حول مسألة وطنية عامة.
إن الانتخابات المعمول بها حالياً تشوه العمل السياسي فتتحكم به المصالح الفئوية والشخصية لطبقة سياسية مسيطرة. وعندما تسلك بعض الأحزاب مسالك اللعبة السياسية الانتخابية إلى جانب الزعماء التقليديين فإنها تصبح مرتهنة للمصالح الانتخابية وتضطر للسكوت عن بعض المفاسد خوفاً من استعداء المتنفذين أصحاب الأصوات الوازنة. وهكذا تطغى الانتهازية السياسية على المصداقية في العمل الوطني التغييري. وليس إنجازاً أن يصل عضو من حزب علماني إلى المجلس النيابي بواسطة بوسطة من مجموعة طائفيين ورأسماليين وإقطاع بل ذلك خيانة لقضية مقابل حفنة من الامتيازات.
الخروج من الطائفية عبر قانون الانتخاب
نسمع الكثير من الأصوات القائلة بوجوب إلغاء الطائفية السياسية دون وضع برنامج لذلك. فإلغاء المحاصة في الانتخابات والإبقاء على القانون الأكثري سوف يزيد من تفاقم المشكلة الطائفية. وبذلك تسيطر الطوائف ذات الأكثريات المناطقية وتحرم الآخرين مما يسبب طغيان الأكثرية ويزيد من شحن النفوس. إن تجربة الانتخابات البلدية الأخيرة هي خير دليل على ذلك. إذ تم في مدن كثيرة استبعاد مرشحي الطوائف الأقل عدداً من المجالس البلدية ولوترك الأمر في بيروت بدون تسويات فوقية لانتهى الأمر بحرمان المسيحيين من حق التمثيل في المجلس البلدي.
من الجدير أن ندرك أن نظام الانتخاب الأكثري لا يصلح لمجتمع غير متجانس كلبنان، بل المطلوب نظام جديد يشجع قيام الأحزاب الوطنية غير الطائفية، ويحقق العدل والمساواة في العملية الانتخابية، ويؤسس لمسيرة استبدال النظام الطائفي بنظام وطني عادل لا يحدث فيه طغيان أكثري.
إن التمثيل النسبي يبقى الأفضل نحو حياة سياسية متطورة تؤسس لصراع البرامج والأفكار بدل فتن الطوائف والجماعات.
د. غالب نور الدين