أسباب تدهور العلاقات الروسية الإسرائيلية

زيارة الأسد لموسكو تلاقي التحول في السياسة الروسية

هل انتهت مرحلة الانكفاء الروسي دولياً؟

 

حسين عطوي، كاتب من لبنان

طفت على السطح الأزمة الآخذة بالتفاقم منذ فترة بين روسيا وإسرائيل والتي بلغت في الآونة الأخيرة مرحلة بات من الصعب معها أن تبقى ناراً تحت الرماد فانفجرت عشية زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو، ليظهر حجم التدهور في العلاقات الإسرائيلية- الروسية التي شهدت، في أعقاب تسلم الرئيس الروسي بوريس يلتسين مقاليد الحكم في روسيا، مرحلة وئام وسنوات عسل لم تعرفها هذه العلاقات من قبل، وتمثلت في التسهيلات الكبيرة التي حظي بها الرأسماليون اليهود في موسكو واحتلال بعضهم مواقع مؤثرة في الكرملين وعلى صعيد امتلاك وسائل إعلامية وصولاً إلى تنظيم اكبر هجرة لمواطنين روس يهود إلى فلسطين المحتلة بعد الهجرة الأولى التي أعقبت احتلال فلسطين وإعلان دولة إسرائيل عام 48 حيث تجاوز عدد المهاجرين المليون مواطن روسي.


بدأت الأزمة مع تسلم الرئيس فلاديمير بوتين السلطة حيث عمد بوتين إلى تصفية نفوذ اللوبي الصهيوني وتطهير الكرملين من الرموز الصهيونية التي كانت قد لعبت دوراً مؤثراً في الوقوف وراء الكثير من السياسات التي انتهجها بوريس يلتسين في
خدمة السياسة الإسرائيلية واستطراداً الأميركية، وأدت إلى إضعاف مكانة روسيا كدولة عظمى وجعلها مجرد دولة تابعة للسياسات الأميركية والإسرائيلية وبالتالي تراجع دورها التاريخي في منطقة الشرق الأوسط.


وإذا كانت سياسة بوتين الجديدة التي تقوم على العمل على استعادة مكانة روسيا الدولية قد بدأت بضرب مراكز النفوذ الصهيوني في بلاده، فان تتمتها استدعت إحياء علاقاتها وصداقاتها في المنطقة وخصوصاً مع إيران وسورية .


غير أن ما يشغل إسرائيل ليس مجرد تحسن العلاقات الروسية السورية الإيرانية فقط، بل عدم قيام موسكو بتزويد دمشق وطهران بأسلحة نوعية جديدة أو التكنولوجيا العسكرية وذلك لمنع سورية وإيران من امتلاك القدرات للدفاع عن نفسها وحماية أراضيهما من التهديدات المستمرة بالاعتداء عليها من قبل إسرائيل، واستطراداً الحد من الاختلال الكبير في التوازن العسكري في المنطقة الذي يميل دائما لصالح إسرائيل بفعل الدعم الأميركي غير المحدود لها.


على أن مثل هذه السياسة الإسرائيلية التي تحاول أن تملي على روسيا نوعية علاقاتها الدولية ومنعها من بيع الأسلحة إلى من تريد من الدول بما يخدم المصلحة الإسرائيلية، لم تعد مقبولة من قبل روسيا- بوتين بعد أن جربت موسكو طوال سنوات أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي السابق خيار الابتعاد عن علاقاتها وصداقاتها لصالح التقرب من أميركا وإسرائيل والغرب عموماً، وكانت النتيجة مدمرة لها، وألحقت ضرراً كبيرا بمصالح روسيا وأمنها القومي واقتصادها الذي تدهور إلى مستويات كبيرة (تهريب مليارات الدولارات إلى الخارج، تدني مستويات المعيشة، ازدياد الديون الخارجية، اختلال حاد في الميزان التجاري...الخ).


وشعرت موسكو أن مثل هذه السياسة تدفعها باتجاه الانهيار والتفكك، وبالتالي لا بد من وضع حد لها والعمل على استعادة مكانة روسيا الدولية والكف عن المراهنة على سياسة التقرب من أميركا والغرب وإسرائيل الذين يقفون وراء ما حصل ويحصل لروسيا من أزمات وتدهور على جميع المستويات بغية القضاء على جميع عناصر قوتها التي تشكل الأساس في جعلها قادرة أن تستعيد دورها كقطب دولي في أي وقت في المستقبل.


في هذا الإطار بدأت مسيرة عودة تحسن العلاقات الروسية مع كل من سورية وإيران والتي عبرت عنها بالزيارات المتبادلة للمسؤولين وتوقيع اتفاقات التعاون في كافة المجالات الأمر الذي أثار قلق الحلف الأميركي الإسرائيلي الغربي.


لكن موسكو أدركت أن هذه السياسة هي السبيل لتحقيق هدفين أساسيين
:

الأول: عودة روسيا إلى احتلال موقعها في الحلبة الدولية كقطب دولي بين الأقطاب الكبار، ومثل هذه العودة لا تتم إلا من خلال توطيد علاقاتها مع الدول الصديقة لها والتي تقف في مواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة تمهيداً لفرض السيطرة الأحادية الأميركية على العالم كله.


الثاني: وضع حد للتدهور الحاصل في الاقتصاد الروسي عبر بيع السلاح إلى سورية أو إيران اللتين لهما مصلحة كبيرة في ذلك لمواجهة التهديدات المباشر التي تتعرضان لها من قبل أميركا وإسرائيل.


لذلك فأن موسكو التي توقفت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عن بيع سورية أسلحة حديثة، تمكنها من مواجهة الاختلال الكبير والمتزايد في التوازن العسكري في المنطقة لصالح إسرائيل، باتت اليوم متحمسة لذلك بقوة ليس فقط من الناحية الاقتصادية، حيث يحتاج المجمع الصناعي الروسي إلى الأموال الضرورية للإنفاق على برامج صناعة وتطوير الأسلحة حسبما ما ذكرت مصادر روسية، وأكدت أن موسكو أبلغت سورية بانتهاء مرحلة التجارب على الأنظمة الصاروخية التي كانت قد أبدت اهتماماً قبل عامين لشرائها، والتي ستدخل في تسليح الجيش الروسي اعتباراً من هذه السنة، بل وأيضا للرد على السياسات الأميركية الإسرائيلية الهادفة إلى تطويق روسيا وتهديد أمنها القومي عبر تغذية ودعم القوى المعارضة لها في جمهوريات آسيا الوسطى والذي بلغ حداً استفزازياً عندما اكتشفت موسكو وجود دعم صهيوني للمعارضة الأوكرانية مما دفع بوتين إلى التحذير علنا من الدور الصهيوني المعادي لروسيا في أوكرانيا التي تشكل بالنسبة لها مجالاً حيوياً لأمنها القومي، خاصة وأن أوكرانيا تمثل أخطر بوابة جيوسياسية يمكن أن تفقدها روسيا في الشرق الأوروبي بعد أن خسرت النافذة الحيوية على بحر البلطيق بانضمام استونيا ولاتفيا وليتوانيا لحلف شمال الأطلسي، بل أن الخسائر ستصل إلى تهديد الأسطول الروسي في مياه البحر السود الأوكرانية، وهذا ما دفع روسيا إلى اعتبار أن الغرب يحول أوكرانيا إلى (ساحة معركة تستحضر الحرب الباردة).


لا شك في أن سورية كانت تدرك دائماً أن روسيا سوف لن تقبل بالتخلي عن مكانتها كدولة عظمى، وهو ما لا تريده لها أميركا وإسرائيل. وكانت تراهن أن ذلك سوف يشكل الأساس لعودة العلاقات لتكون أقوى مما كانت عليه في السابق، ذلك أن سورية تشكل قوة هامة في منطقة الشرق الأوسط التي كانت ولم تزل البوابة الأساسية، بسبب أهميتها الإستراتيجية، التي تحتاج إليها موسكو لاستعادة مكانتها الدولية ومواجهة محاولات تقويض استقرارها وأمنها القومي، فخير وسيلة للدفاع هي الهجوم.


في هذا السياق يمكن القول أن توقيت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو، وهي الأولى له، إنما يأتي في سياق هذه التطورات والمعطيات، ولهذا فهي اكتسبت أهمية كبيرة قبل أن تبدأ وشكلت عنوانا للحملة الإسرائيلية بهدف إفشالها ومحاولة الحيلولة دون حصول تحسن في العلاقات الروسية السورية للاعتبارات التي ذكرناها آنفاً.


هل تنجح إسرائيل في حملتها هذه؟

إذا كانت تل أبيب قد نجحت في حقبة التسعينيات في استمالة الكرملين بسبب الاختلال في التوازن الذي أصاب السياسة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلا أن الأمور قد تبدلت اليوم، حيث تظهر جميع المؤشرات والمعطيات إن مرحلة عدم الاستقرار في السياسة الروسية قد انتهت، وان موسكو- بوتين تسير في خطى ثابتة باتجاه استعادة دور روسيا على الصعيد الدولي الذي لا يمكن أن يتم إلا على قاعدة الاصطدام مع الدور الأميركي الإسرائيلي في المنطقة والعالم.


ولهذا فان التحسن في العلاقات الروسية السورية إنما يندرج في هذا السياق تعبيراً عن مصالح مشتركة بين البلدين، مما يجعل محاولات تل أبيب أو واشنطن للحيلولة دون تطور هذه العلاقات غير ممكنة. وهو ما المح إليه مصدر روسي لصحيفة الحياة عندما أعرب عن اعتقاده: "أن القلق الإسرائيلي مبعثه توافر معلومات عن مفاوضات جادة بين دمشق وموسكو لإتمام صفقة بيع روسيا أنظمة صاروخية حديثة لسورية، وإنه على رغم تفهم دوافع القلق الإسرائيلي غير أن حرص موسكو على تعزيز تعاونها العسكري مع دمشق وإعادة فتح أسواق الشرق الأوسط أمام صادراتها العسكرية ينطلق من مراعاة مصالحها الوطنية، وأن التعاون العسكري بين روسيا وسورية لا يشكل مخالفة للقوانين الدولية".


ويبدو أن إسرائيل باتت تدرك هذه الحقيقة ومدى تراجع قدراتها في التأثير على القرار الروسي، ولذلك تحدثت مصادرها العسكرية عن أن الضغط يرمي إلى منع الصفقة من أساسها، ولكن إذا لم تفلح مساعي إفشال الصفقة، فان الجهد سيتجه نحو تحديد مكوناتها.


انطلاقاً مما تقدم يمكن القول أن الحملة الإستباقية التي أثارتها إسرائيل حول زيارة الأسد إلى موسكو إنما كشفت مدى التدهور الحاصل في العلاقات الروسية الإسرائيلية من جهة، والتحول الحاصل في سياسة موسكو من جهة ثانية، والتي تشكل عودتها إلى أخذ مكانها في الحلبة الدولية أمراً هاماً في إطار خلق عالم متعدد الأقطاب يضع حداً للتفرد الأميركي واختلال التوازن في العلاقات الدولية الذي ساد اثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.


ولهذا يمكن القول أن توقيت زيارة الرئيس الأسد لموسكو إنما جاء ليلاقي هذا التحول الهام في السياسة الروسية الذي كانت سورية ترقب حصوله المؤكد.

 

حسين عطوي

كاتب من لبنان