زاهر الخطيب، نائب ووزير سابق، الأمين العام لرابطة الشغيلة
إقناع الناس هو الأهم، والمهم في الكتابة كي تكون أكثر إقناعاً معرفة شخص الكاتب الذي يكتب، ومدى مصداقيته في كتابته... كما المهم في الخطابة أيضاً معرفة شخص الخطيب الذي يخطب، ومدى مصداقيته في تطابق قولـه مع فعله... لقد باتت الكتابة صعبة جداً لكثرة ما كتبنا، ولكثرة ما يكتب وينشر في وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي... وباتت الخطابة أصعب وأصعب لكثرة ما خطبنا، ولكثرة الخطباء، والذين يخطبون من فوق المنابر، أو من خلال وسائل الإعلام المرئي والمسموع... والكلام في السياسة أو في الاقتصاد أو في الاجتماع، بدل أن يكون علماً وإحصاءً ورقماً، بات أشبه أن يكون صدى لكلمات ترصف، أو لألفاظ صوتية، إن لم تسمه الناس ببساطة: ثرثرة... |
الحديث والسجال، أو النقاش أو الحوار، بدل أن يكون حجاجاً أي مقارعة للحجة بالحجة، بات إن لم يكن تشاتماً، أو تصارخاً، أقرب أن يصح القول بأصحابه حين يتحاورون: إنه حوار الطرشان، أو كل يغني على ليلاه...
وإنني في زحمة ما يقال و يقرأ ويسمع، من هنا ومن هناك وهنالك، فاضلت بين فضيلة الصمت، إزاء الزوبعة التي تهب حول قانون الانتخابات، وبين فضيلة قول الحق فيما أراه حقاً، ولو على قطع الرأس كما يقال. فآثرت أن أقول الحق ولو على قطع الرأس، وأن أشهد بالحقيقة، ولو كانت جارحة، والناس على ما أقول شهيد...
وإنني أبدأ بتكرار التساؤل والأسئلة التي ما إنفككت أطرحها طيلة اثني عشر عاماً ولكن بالمصطلح الكوارثي الراهن.
الفساد: تسونامي
هل أن هذا "تسونامي" الأخير الذي اجتاح لبنان حول قانون الانتخاب تحديداً، وسواه من "تسونامات" هو صاعقة في سماء صافية؟ أم أن له جذوره التي أسست له في زلزال قوي من الزلازل التي ضربت لبنان في بداية التسعينات، يوم ركب الفساد الأمواج العملاقة العاتية لسياسات الرأسمالية المتوحشة التي خلفت، من الكوارث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإنسانية ما خلفت، وما زلنا نعاني من آثار هذا الزلزال المشؤوم حتى اللحظة وفي المجالات كافة، ولا سيما اليوم في مجال قانون الانتخاب؟
ألم يكن ما آلت إليه الأمور من "تسونامات" كوارثية نتيجة حتمية للسياسات الشرق أوسطية التي حذرنا منها مليون مرة، ووسمناها غير مرة بالمشبوهة. وكانت تلك السياسات تضرب في كل المجالات المالية والضريبية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية. وكانت دوماً وأبداً محور نقدنا اللاذع لها واعتراضنا الشديد عليها ومعارضتنا المبدئية والقوية لها، سواء من فوق منبر المجلس النيابي أو من فوق سائر المنابر الشعبية والإعلامية.
وأسارع في الاستدراك، كي لا يقال فيما أقول: إني أربط ربطاً قسرياً أو كيدياً بين ما جرى في السابق، وما يجري اليوم، سواء حول قانون الانتخابات، أو سواء من الكوارث التي حلت بنا نتيجة لما سبق من أسباب، أو إني أربط ربطاً عبثياً بين ما نشهد في ساحتنا الداخلية، وبين ما يجرى من تطورات وتحولات في العالم أجمع، ولا سيما ما يجري في العراق وفلسطين وجنوب لبنان، وما يشن من حروب أمريكية صهيونية إرهابية استعمارية على المقاومات المشروعة لشعوب الأرض حين تحتل أوطانها، وما يشهد اليوم من ضغوطات تستهدف دول وشعوب العالم المناهض لسياسات العولمة الجائرة التي تتصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما الضغوط على إيران وعلى سورية و لبنان في الشرق الأوسط.
كي لا يقال إني أربط ربطاً قسرياً ما يجري في لبنان مع ما يجري في العالم أجمع، علماً أن العولمة حوّلت العالم إلى قرية، وكي لا يقال في وجهي كما يقال لغيري: "إنكم توسعون البيكار كثيراً، وتربطون لنا قضية لبنان بقضية الشرق الأوسط، أو تزجّون بلبنان في تحليلاتكم مع مخططات أمريكا وإسرائيل، واستهداف سورية ولبنان وفلسطين وإيران... في حين أن القضية، كل القضية بكل بساطة، هو قانون انتخابي للبنان من صنع لبنان! وأنكم لا ترغبون بحوار لبناني لبناني حول لبنان فحسب! وحول قانون انتخاب عصري للبنان، بمعايير العدل والمساواة، وفقاً لمقتضيات صحة التمثيل الديمقراطي"!
لنحدد الديمقراطية
نقول لكم مسبقاً: حسناً، حسناً. وعلى سبيل الجدل، لكم ما تشاؤون. ولنحصر حوارنا في لبنان، وفي حوار لبناني لبناني، وحول قانون انتخاب عصري وفقاً للمعايير التي تنادون بها، وينادي بها الجميع.
نقول لكم: لنحدد منهجياً عناوين موضوعنا, ومعايير الديمقراطية, ولنسقط هذه المعايير علمياً على القانون الذي نريده عصرياً، ووفقاً للأصول الديمقراطية، فعلى ماذا نحصل؟
أولاً، ماذا تقول الأصول الديمقراطية؟ وكيف يجري في بلدان العالم الاحتكام إلى الديمقراطية، وهل ثمة معيار آخر لصياغة قانون ديمقراطي سوى الاحتكام إلى مقولة "الأكثرية والأقلية" التي يكمن فيها جوهر الديمقراطية الحقيقية؟
ثانياً، أنتم تقولون بالديمقراطية التوافقية.
ماذا تعني الديمقراطية التوافقية؟ وهل ثمة نموذج في بلد من بلدان العالم الديمقراطي يقول بديمقراطية تلغي جوهرها الذي تقوم عليه بإلغاء حق الأكثرية لصالح الأقلية على قاعدة "أن الأكثرية والأقلية ينبغي أن تتفقا وتتوافقا لتكون "الديمقراطية توافقية"، وإلاّ فيكون للأقلية وفقاً لرؤيتكم، حق الفيتو على رأي الأكثرية إن لم تنصع هذه الأكثرية لرأي الأقلية وفقاً لما تسمونه بالديمقراطية التوافقية؟
عجيب أمر هذه الديمقراطية التي تعطي للأقلية حق فرض التوافق فرضاً، وقسراً... وترفض حق الأكثرية، إذا كانت لا تلائم الأقلية، ووفقاً لماذا، وفقاً للديمقراطية التوافقية!
فكيف تفسرون لنا ذلك؟
ولنفرض جدلاً، أن الأكثرية رفضت التوافق الذي تفرضونه أنتم كأقلية... وبكلمة أوضح: ماذا لو لم يحصل التوافق، ولم تخضع الأكثرية للتوافق الذي تريد فرضه الأقلية؟ وما هي الآلية الواجب اتباعها لحسم المسألة؟ وما هو البديل؟
علينا أن نأخذ باعتبارنا أن لبنان بلد متعدد الاتجاهات، مركب الأطياف سياسياً وطائفياً ومذهبياً... وأن المعارضة ليست موحدة حول معيار واحد لتقسيم الدوائر الانتخابية... وأن الموالاة ليست موحدة حول معيار واحد لتقسيم هذه الدوائر...
وعليه فالأزمة اليوم في لبنان تجاوز أزمة قانون انتخاب لتطاول جوهر الديمقراطية الحقيقية والمعاني الأصيلة لها... الأزمة في لبنان أنه نظام طائفي مركب معقد لا تعتمد القوى السياسية فيه عقلاً سياسياً يحتكم للأصول الديمقراطية التي يكمن في جوهرها انصياع الأقلية للأكثرية... الأزمة في لبنان: أن فريقاً من الطبقة السياسية في مرحلة زمنية مشؤومة من مراحل وضع ميثاق 43 اخترع للديمقراطية رديفاً أسماه "توافقية"!
وهكذا باتت لدينا في لبنان "ديمقراطية توافقية"، جوفت فعلياً الديمقراطية الحقيقية بمعناها الأصيل... ذلك أن الديمقراطية مصطلح فيه من السيادة ما يجعل كلمة توافقية إلى جانبها حشواً ولغواً وتجويفاً لمعناها، وافتراء عليها وانتهاكاً لجوهرها. فالديمقراطية كما سبق التأكيد هي في الأصل احتكام للأكثرية وانصياع الأقلية لهذه الأكثرية. وليس ثمة "ديمقراطية توافقية" إلاّ على أساس ما قام عليه نظام 43 ولا أدري من أين جاء اليوم بعد الطائف، من يبعث براءة الاختراع لهذه الديمقراطية الزائفة والمزيفة...؟
نكرر التساؤل: كيف يمكن في الوقت عينه أن نقول ديمقراطية، أي احتكام لرأي الأكثرية، ثم "توافقية"، لنسف وتجويف هذه الديمقراطية، عبر جعل الأقلية قادرة على تعطيل قرار الأكثرية، وعدم الانصياع لها تحت عنوان "أن الديمقراطية ينبغي أن تكون توافقية"؟
شروط التوافق
ربّ قائل لنا: ألا تريدون توافقاً؟ فنجيب على الفور: بلى، نريد توافقاً، ولكن ما العمل إذا لم يحصل التوافق؟ لا سيما أن للتوافق شرطين لازمين:
الشرط الأول: توافق بالرضى المتبادل بين الفريقين، وهنا ينبغي أن نضمن أخلاقاً ومناقبية وترفعاً ورقيّاً وعقلاً سياسياً منفتحاً، وممارسة ديمقراطية حضارية... والمعيار في ذلك: الابتعاد عن المصلحة الذاتية في سبيل المصلحة العامة (مصلحة الوطن) وبالتالي: فإن حصل التوافق بهذه الروح وبهذا العقل فخيراً نراه. وإن لم يحصل هذا التوافق بهذه الروح وبهذا العقل فشراً نراه. والشر هنا "مجازاً" هو "الخارج"، وتدخل الخارج، سواء كان عربياً كما تقولون أو أجنبياً، كما تزعمون...
الشرط الثاني: إن لم يحصل هذا التوافق الداخلي بالرضى المتبادل، وبالروح المناقبية، وبالعقل السياسي المنفتح، فلا بد عندها من (خارج) يتدخل ليحققه، وهذا ما كان يحصل دائماً وأبداً في تاريخ لبنان، كان يحصل التدخل الخارجي في حال عدم توافر التوافق الداخلي بالرضى المتبادل، كان لا بد أن يحصل، إمّا بالإقناع و"بالمونة" كما يقال بالعامية، وإما بالفرض قسراً وبالإكراه، وهذا أساساً لم يعد وارداً.
فما العمل في مثل هذه الحالة؟ لا سيما أن الطرف المعارض الذي يرفض التدخل الخارجي، وهو يقصد بذلك سورية بالتحديد، ولا يتوانى عن تسميتها، ثم يستدرك بعد هذه التسمية السافرة لسورية بالقول: نرفض التدخل الخارجي من أي جهة كانت سواء كان التدخل عربياً (والمقصود هنا سوريا) أو كان التدخل أجنبياً (والمقصود هنا إبراء الذمة من القبول بالتدخل الأمريكي والفرنسي السافرين).
ويبقى السؤال المطروح قائماً: ما العمل في حال لم يحصل التوافق الداخلي بالرضى المتبادل؟ ما العمل إذا لم يرض الفريق الذي يشكل الأكثرية بالانصياع لرأي الأقلية، تحت شعار الديمقراطية التوافقية؟
الأزمة المستعصية
الأزمة تتبدى مستعصية... والاستعصاء يكمن هنا، ويعبّر عن نفسه كما يلي:
1- التوافق الداخلي لا يتحقق "بالرضا المتبادل" فكل فريق في متراسه واقف، وعلى موقفه ثابت...
2- التوافق المفروض قسراً من الخارج غير وارد مطلقاً...
3- التوافق من خلال سورية بالإقناع أو بالمونة لم يعد وارداً مطلقاً لا عند سورية التي تعلن بشكل حاسم عدم التدخل بهذا الشأن الداخلي اللبناني، وهي غير مستعدة مطلقاً أن تتدخل، والاعتبارات هنا باتت معروفة، عدم التدخل لا مع هذا الفريق، ولا مع ذاك، فما يهم سورية وما يعنيها هو أن تحظى بلبنان في موقع الصديق الوطني والقومي ولا شأن لها لا من قريب، ولا من بعيد بعد اليوم أن تفصل أثواباً على قياسات زعامات، سواء كانت هذه الزعامات من حلفائها الذين لم تتوقع حجم ردتهم عليها، أو من سواها من الحلفاء ممن يضمرون لسورية خيراً، أو من غيرهم الذين يدعمون سورية في موقعها الوطني والقومي.
وخلاصة القول إن سورية لن تتدخل، لا بالإقناع، ولا بالمونة بعد اليوم لتمرير قانون انتخابي وفقاً لمعايير كانت تستنسبها لهذا الحليف أو ذاك ما دام ما يهمها، وما يعنيها أن يكون الجميع صديقاً لها، لا معادياً، وهي في خضم صراعها الوطني والقومي مع العدو الصهيوني.
فما حصل سابقاً قد حصل، وبات من الماضي... والحاضر يطرح تحديات كبيرة والخيارات في مواجهتها صعبة جداً، فالذين لا يريدون لسورية أن تتدخل نقول لهم أن سورية قد اتخذت قرارها الحاسم بعدم التدخل حتى لإعانة حلفائها على التوحّد... وهي بالتالي لن تتدخل لتيسير التوافق فيما بين فريق الموالاة، والفريق المعارض الذي يعلن أنه غير معاد، ولكن لا ينفك يردد أنه لا يريد تدخلاً سورياً...
إن الحاضر يواجه أساساً أزمة بنيوية شاملة تتفاقم مفاعيلها وآثارها، وآفاقها مصيرية... وهي مقلقة جداً...
ولو سلمنا جدلاً أن فريق المعارضة موحّد حول معيار واحد في تقسيم الدوائر الانتخابية (علماً أن الواقع لا يقول بذلك) كما سبق القول؛ ولو سلمنا جدلاً بأن فريق الموالاة موحّد حول معيار واحد في تقسيم هذه الدوائر(علماً أن الواقع لا يقول بذلك) لأن مواقف الأركان الأساسية لهذا الفريق متباينة بين اعتماد المحافظة دائرة انتخابية على قاعدة النسبية، أو اعتماد الدائرة الوسطى، أو الدائرة الصغرى؛
وحتى هذا الواقع لا ينفي أيضاً أنه بين فريق المعارضة وفريق الموالاة من تجده في صف الآخر من حيث تبني القضاء، أو من حيث تبني المحافظة، أو تبني الوسطى، أومن حيث اعتماد النظام النسبي أو النظام الأكثري.
الاستعصاء يعبر عن نفسه بعدم وجود ميزان قوى حاسم لأن توازن القوى مشتت، ولأن المواقع كلها متباينة ومشتتة ويصعب على ضوء ذلك حسم الأمور؛
وسورية حاسمة في قرارها بعدم التدخل، والوقت يضيق، والاستحقاق يقترب والأزمة تشتد تعقيداً يوماً بعد يوم، ولبنان فعلاً أمام أزمة مصيرية، فهل يعي اللبنانيون فعلاً أن الوطن في خطر.
قال الدكتور سليم الحص: "إن في لبنان الكثير من الحرية، والقليل من الديمقراطية" ألا يصح القول بنسبة أكبر: إن الحرية في لبنان فوضى وعبثية، والديمقراطية مشّوهة ومجوفة... والعقل السياسي غائب ومتحلل... وهل ثمة إمكانية لحل في مثل هذا الواقع المتأزم والمستعصي والمشتت "لديمقراطية توافقية" لبنانية لبنانية، بحت بلا أي إعانة من الخارج؟ وأي إعانة نريد؟
وهل ثمة إمكانية لإجماع لبناني يطلب إعانة عربية سورية شقيقة لتيسير توافق لبناني لبناني، أم نفسح في المجال لتدخل أجنبي أمريكي أو فرنسي سافر يسعى بالعودة بلبنان إلى لبنان "القوي بضعفه"؟ وينقلب على لبنان السيد الحر المستقل، ولكن القوي بشعبه وجيشه ومقاومته، وبعلاقته الصحيحة والمميزة مع سورية؟
زاهر الخطيب
نائب ووزير سابق، الأمين العام لرابطة الشغيلة