سراب الديمقراطية في لبنان

غالب أبو مصلح

 

 

هناك شائعة اقتنع بها الكثيرون في لبنان والخارج. تقول هذه الشائعة بأن لبنان بلد ديمقراطي، وأن نظامه ديمقراطي. ويزداد حماس اللبنانيين للديمقراطية يوماً بعد يوم، خاصة خلال سنوات الهدنة بين الحروب الأهلية المتكررة عند كل هبة ريح استعمارية أو إمبريالية صهيونية، تضرب منطقة المشرق العربي.

 

فكل مولود سياسي جديد يتألف من خمسة أشخاص فما فوق، حزباً كان أم تجمعاً نخبوياً، لا بد من أن يلصق باسمه كلمة "ديمقراطية" أو واحد من مشتقاتها، ربما للتبرك في زمن الديمقراطية الأميركية التي فاضت عن حدود القارة الأميركية، وتكاد تبتلع العالم أجمع، خاصة في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج، أي من موريتانيا والمملكة المغربية إلى مملكة البحرين ودول آبار النفط والعراق.

 

فالرأسماليون عندنا ديمقراطيون، والإقطاعيون السياسيون ديمقراطيون جداً، خاصة متى كانوا في المعارضة، والميليشيات التي أتقنت الذبح على الهوية هي أيضاً ديمقراطية، وزعماء الطوائف وأعوانهم من الوكلاء ديمقراطيون، وسارقو الأموال العامة والخاصة من السماسرة والسياسيين ديمقراطيون. فالجميع في لبنان ديمقراطيون جداً. ولكثرة الديمقراطية والديمقراطيين غصّ لبنان بالديمقراطية حتى كاد يختنق.

 

وبما أن شعب لبنان مبدع وخلاق و"حربوق" أيضاً، منذ عصر "أليسار" التي خلفت "هنيبعل"، إلى عصر سمير فرنجية، فقد ابتدع نوعاً جديداً من الديمقراطية، أو "موديلاً" جديداً منها سمّاه "الديمقراطية التوافقية". ولهذه الديمقراطية الجديدة جداً فلسفتها وقوانينها الخاصة.

 

فالديمقراطية التوافقية لا تعني قطعاً حكم الأكثرية، ولا تعني بالضرورة حكم الأقلية. بل هي بين بين، تتلون كالحرباء، وحسب الحاجة والمصالح.

الديمقراطية التوافقية لا تعني المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين المواطنين. وهذه ليست ديمقراطية. صحيح أن جميع اللبنانيين متساوون، و"لكن بعضهم أكثر مساواة من الآخرين"، كما يقول جورج أورويل. فثقل أصواتهم في الانتخابات مثلاً متفاوت كثيراً. لماذا؟ لأن هناك تفاوت في النوعية، كما صرّح وأبدع أحد النواب الديمقراطيين الجدد، دون أن ينيرنا عن طبيعة هذا التفاوت. فهل هو حسب الطائفة أم المذهب أم العرق، أم حسب إتقان اللغة الفرنسية أو الإنكليزية؟

 

وهناك تفاوت في الحقوق السياسية بين المواطنين حسب الديمقراطية التوافقية. فقد خلق الله لبنان مجموعات، أو عناقيد، من الطوائف والمذاهب والثقافات. فلكل مذهب ثقافته، ولكل مذهب "جيناته" المميزة والمتلائمة مع مهمات وأدوار معينة. فبعض أصحاب الجينات مهيأون لرئاسة الجمهورية دون غيرهم، والبعض الآخر مهيأ لرئاسة الوزراء، والبعض الثالث لنيابة رئاسة الوزراء، والبعض الرابع لرئاسة المجلس النيابي، والبعض الخامس لرئاسة مجلس الشيوخ المتعثرة ولادته...

 

لماذا هذا التمييز في نظام الديمقراطية التوافقية؟ ربما "لحكمة عند ربك تخفى عن الناس".

 

وإحدى ميزات الديمقراطية التوافقية أنها على مراحل. صحيح أن الشعب "ينتخب" ممثليه وحكامه، ولكن على مراحل. فرئيس الجمهورية ينتخبه النواب الذين ينتخبهم أو يعين معظمهم رؤساء الطوائف والمذاهب، أو رؤساء القبائل والعشائر ورجال الدين الذين نصبهم الله والقدر أولياء على عامة الشعب.

صحيح أن جميع اللبنانيين ينتمون إلى الوطن، ولكن على مراحل أيضاً. فهذا الانتماء يمر عبر الزعامات المحلية من رتبة بوليس بلدية ومختار إلى رتبة نائب، إلى زعيم طائفة، ومن ثم إلى الوطن. والذي يخرج من "الطابور" يقف عارياً أمام "الوطن"، فاقداً معظم حقوقه السياسية وغير السياسية.

والديمقراطية التوافقية تضمن حرية المواطن، حرية العبادة لله أو الزعيم أو الدولار، وحرية التجارة بحدود، وحرية الاحتكار، وحرية الموت جوعاً أو قهراً بالنسبة لأكثرية اللبنانيين.

 

والديمقراطية التوافقية تطرح كل أربع سنوات قانوناً جديداً للانتخابات، تستنفر المواطنين والأحزاب لتقديم المقترحات حول القانون العتيد، ثم تطلع عليهم بالقانون الذي يلائمها، يلائم مصالح الطبقة الحاكمة، فيلغي الديمقراطية باسم الديمقراطية.

 

غالب أبو مصلح