صخب في ساحة الشهداء... واستقالة الحكومة

 

غالب أبو مصلح، لبنان

 خبير اقتصادي ومالي

بيروت 4-3-2005

  

لماذا قدم الرئيس عمر كرامي استقالة حكومته في مجلس النواب؟ وهل سقطت الحكومة نتيجة حجب ثقة مجلس النواب عنها، مع أنها كانت تتمتع بثقة في المجلس تفوق الثقة التي حصلت عليها عند تأليفها؟
هل سقطت بسبب فشل برنامجها الاقتصادي الاجتماعي؟ هل سقطت لأنها فشلت في حماية الرئيس الحريري وفي منع اغتياله؟ ما موقع هذه الاستقالة في ما تعده الدوائر الاستعمارية للمشرق العربي، من فلسطين إلى العراق وما بينهما وحولهما؟

 

قدم الرئيس عمر كرامي استقالة حكومته في مجلس النواب. لم تسقط الحكومة نتيجة حجب ثقة مجلس النواب عنها، إذ كانت تتمتع بثقة في المجلس تفوق الثقة التي حصلت عليها عند تأليفها.

 

لم تسقط بسبب فشل برنامجها الاقتصادي الاجتماعي، إذ إن أربعة أشهر غير كافية لتقويم أدائها وبرامجها، هذا إذا كان لها برنامج مغاير لبرامج حكومات الرئيس الحريري السابقة، طيلة عشر سنوات ونيف. لم تسقط الحكومة أو تفشل بسبب اغتيال الرئيس الحريري، وعدم قدرتها على حمايته أو عن كشف الفاعلين خلال ساعات، إذ أن حكومات الرئيس الحريري السابقة شهدت أكثر من اغتيال سياسي: لكوادر قيادية من المقاومتين الإسلامية والفلسطينية، وإيلي حبيقة، ومحاولة اغتيال النائب مروان حمادة... ولم تستطع حكومات الرئيس الحريري منع الاغتيالات، أو كشف الفاعلين، طيلة سنوات، وليس خلال ساعات وأيام. ولم يطلب أحد منها الاستقالة نتيجة الفشل الأمني.

 

إن المطالبة باستقالة حكومة الرئيس كرامي تعود إلى اليوم الأول من تأليفها. فالمستهدف ليس حكومة الرئيس كرامي، بل لبنان العربي بمقاومته وبموقفه الممانع والمتصدي للهجمة الإمبريالية الصهيونية. كما أن المستهدف هو سورية، لممانعتها ومواقفها العملية مما يجري في العراق وفلسطين. أما حكومة الرئيس كرامي، التي حُملت، بكثير من الصخب واللاعقلانية، وزر كل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي اتبعتها كل الحكومات السابقة منذ مؤتمر الطائف، لم تكن تختلف كثيراً عن سابقاتها من الحكومات التي تمثل الطبقة الحاكمة ذاتها من حيث الجوهر، وبخيارات سياسية ليست جديدة.

 

إن الذي تغير هو الخارج المنعكس على الداخل اللبناني. فالمأزق الذي تواجهه الإمبريالية الأميركية في العراق، كما المأزق الذي تواجهه إسرائيل نتيجة المقاومة، جعل من الحلول العسكرية في العراق وفلسطين حلولاً مستحيلة، عملياً وميدانياً. وهذا ما جعل الإمبريالية الأميركية تتجه لإحداث تغييرات في المنطقة عبر تهييج قوى كامنة، طبقية وطائفية وإتنية تابعة لها، وتجيير كل وسائل الإعلام المتاحة لإرباك القوى الثورية، والقيام بثورات مضادة باسم الديمقراطية والحرية والسيادة، وفقاً للفكر النيوليبرالي المعولم، آخذة من انجازاتها في يوغوسلافيا وجورجيا وأوكرانيا نموذجاً لسياساتها الإمبريالية. صحيح أن هذه السياسات نجحت في أوروبا الشرقية، ولكنها منيت بالفشل الذريع في فنزويلا وغيرها، وستلاقي الفشل ذاته في لبنان.

 

كان المغفور له الرئيس الحريري يعد لهذه الثورة المضادة منذ خروجه من السلطة. ففي حديث منسوب له في باريس قال: "إن سورية تواجه خلال معركة الانتخابات حركة احتجاج شعبي غير مسبوقة، يفترض أن تزعج المسؤولين مثلما أزعجت "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا الرئيس الروسي بوتين". كما طلب الحريري "آلاف الشالات من مصنع فرنسي، كانت ستتوزع على ناخبي كتلته في بيروت وأماكن أخرى" (مقال لسليم نصار، جريدة الحياة، 26-2-2005). كما قال الحريري: "إن أوكرانيا ليست أهم من لبنان، والرئيس بشار ليس أقوى من الرئيس الروسي بوتين بالنسبة للأسرة الدولية... وإن الهدف الإستراتيجي هو مغادرة القوات السورية لإعادة استقلال لبنان" (جريدة الحياة، 21-2-2005).

 

لكن اغتيال الحريري أعطى هذه الثورة المضادة زخماً جديداً وقوياً. لقد استقالت الحكومة على وقع حملة إعلامية صاخبة، خارجية قبل أن تكون داخلية، قادها ساترفيلد شخصياً من بيروت طيلة أربعة أيام. فمراكز القرار الأوروبية والأميركية كانت، وما زالت، تقصف سورية ولبنان يومياً، متسلحة بالقرار 1559، وبسلسلة من التصريحات والتهديدات تتناول سورية والمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية ومنظماتها المسماة "إرهابية"، وداعمة لمجموعات من أتباع الميليشيات السابقة، الطائفية والفاشية، الكثيرة الصخب، والتي اقتحمت ساحة الشهداء في وسط بيروت.

 

فعلى صراخ بضعة آلاف من الفتيات والصبية قرب مثوى الرئيس الحريري الأخير، وفي ساحة الشهداء، المدعومين "لوجستياً" بخيام ممولة أوروبياً وأميركياً، فيها كل مقومات "النضال" من مأكل ومشرب واستراحات، وبأكثرية وسائل الإعلام المرئي والمسموع، والعديد العديد من الأقلام المحلية والعربية التي تم شراؤها، وعلى وقع صخب هؤلاء الداعمين لحفنة من النواب المتشنجين الذين "شربوا حليب السباع" من مصادر معروفة، وشنوا حملاتهم المسعورة ضد سورية وعروبة لبنان ومقاومته... على وقع كل ذلك قدم الرئيس كرامي استقالة حكومته دافعاً الأزمة اللبنانية إلى مستوى جديد.

 

لكن هذه الاستقالة لم تضع حداً لصخب المعارضات المتحالفة والمحتشدة وراء القرار 1559.

 

إن مطالب المعارضات التي يقودها في هذه المرحلة وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أسسه وبناه كمال جنبلاط، القادم إلى صفوف المعارضة المسيحية أصلاً، والتي تشكل "قرنة شهوان" قاعدتها الصلبة... إن هذه المطالب لا تكتفي بالانسحاب السوري "الكامل" من لبنان، بل تطالب بتجريد المقاومة من أسلحتها الموجهة ضد العدو الصهيوني. إنها ترى في المقاومة نقيضاً لها ولتوجهاتها. فالمقاومة هي المستهدفة أولاً وبشكل واضح من خلال القرار 1559 الذي أصبح مقدساً عند المعارضات اللبنانية.

 

لا ريب أن قائد المعارضات له العديد من التصريحات المتناقضة والتي تتخطى بل تتناقض مع ثوابت يذكرها بين الحين والآخر. فقد صرح إلى الصحيفة الفرنسية "ليبراسيون" مندداً بقائد المقاومة، واتهم "حزب الله" بأنه "صار أداة ضغط سوري على كل الرأي العام الذي سانده آنذاك... إنهم مجموعة مسلحة مخيفة يمكن استخدامها ضدنا، واشتراك نصرالله في الاجتماع الأخير الذي عقده الموالون في "عين التينة" علامة سيئة" (جريدة السفير، 24-2-2005).

 

ويرى قائد المعارضات أن مستقبل الوطن العربي يصنعه الاجتياح الأميركي للمشرق العربي، وأن العدوان الأميركي هو الثورة المقبلة، كما صرح لصحيفة ال"واشنطن بوست"، حيث يقول: "إن شرارة التغيير في المنطقة بدأت بسبب الاجتياح الأميركي للعراق. إن شرارة هذه الثورة الديمقراطية تنتشر... الشعب السوري، الشعب المصري، جميعهم يقولون أن شيئاً ما تغير. وحائط برلين انهار، ونحن يمكننا رؤية ذلك" (المصدر السابق).

 

ويكثر وليد جنبلاط في هذه الآونة من التذكير بعدد الذين انتخبوا في العراق في ظل الاحتلال الأميركي، كدليل على الثورة الديمقراطية، وكذلك الانتخابات في الضفة وغزة في ظل الاحتلال الإسرائيلي كدليل على الديمقراطية أيضاً، ويرفض الانتخابات في ظل أي وجود سوري في لبنان لأنه يلغي الديمقراطية، وربما لأن الجيش السوري ليس "ديمقراطياً" مثل الجيشين الأميركي والإسرائيلي.

 

عندما ننظر إلى العراق لا نرى غير الخراب والدمار والجرائم التي ترتكب يومياً ضد الإنسانية. نرى أكثر من خمسة ملايين عراقي لقوا حتفهم على يد الديمقراطية الأميركية. نرى مليون ونصفاً من الأطفال لقوا حتفهم قصفاً أو جوعاً أو مرضاً بفعل القذائف الأميركية المحرمة دولياً، وغير المحرمة، المشعة وغير المشعة، ونتيجة الحصار الاقتصادي الطويل الذي منع عنهم الغذاء والدواء... وكل ذلك باسم الديمقراطية. نرى آلاف العلماء يتم تشريدهم، ومئات منهم تسقط قتلى على يد المخابرات الأميركية والإسرائيلية. ونرى في الوقت نفسه سواعد المقاتلين ترفع السلاح لتطهر أرض العراق وتعيد توحيده وبناءه، وهي تهزم الإمبريالية الأميركية و"الديمقراطية" الأميركية المحمولة على ظهر الدبابات والطائرات والصواريخ الذكية. وكل ذلك لتبني ديمقراطية حقيقية، بسواعد المناضلين، لا بانبطاح العملاء التابعين.

 

إننا نرى في العراق، كما في فلسطين ولبنان، الثورة على الإمبريالية الأميركية وحلفائها من الصهاينة وبعض الدول الأوروبية التي تعاني من الحنين المرضي إلى عهود الاستعمار الأوروبي. هذه الثورة التي تحلم بها وتعمل لها الجماهير العربية من المغرب إلى البحرين. وما الديمقراطية الأميركية المحمولة على ظهر البوارج والدبابات سوى أكذوبة كبيرة ومجرد خداع للجماهير. فالديمقراطية الحقيقية تصنعها بنادق الثوار في وجه المستعمرين الجدد وعملائهم.

 

إن استقالة وزارة الرئيس كرامي لا تعني أن الثورة المضادة، التي تقودها الإدارة الأميركية بأدوات محلية، قد انتصرت، وإن سموها "ثورة الأرز"، كما دعتها وزارة الخارجية الأميركية، أم ثورة "الفجل" نسبة للوني الأحمر والبيض في شالات الحريري.

إن الذين قاتلوا في لبنان لتحريره من المارينز ومن أتباعهم الأطلسيين ومن الميليشيات الفاشية المتحالفة مع إسرائيل ومن الجيوش الإسرائيلية، في بيروت والجبل والبقاع الغربي والجنوب، لن ترهبهم صرخات بعض الحاقدين أو المخدوعين المضللين، أو بعض الصبية المتنقلين بين شارع مونو ليلاً وساحة الشهداء نهاراً. فلبنان غير جورجيا وأوكرانيا، كما خبرته أميركا وفرنسا وإسرائيل.

 

غالب أبو مصلح، لبنان

 خبير اقتصادي ومالي

بيروت 4-3-2005