سقط الحريري فهل يسقط لبنان

 

ميخائيل عوض

كاتب من لبنان

yaragroup@hotmail.com

بيروت 21-2-2005

اختلست متفجرة هائلة الدوي والتأثير لحظة في سياق الاحتقان السياسي المشغول عليه بدفع من أميركا وفرنسا وإسرائيل، وباسقاطات لتجارب عالمية أخرى. وأدت إلى اغتيال الرئيس الحريري ومرافقيه وعدد من المواطنين الأبرياء، بينما خلفت دمارا هائلا أصاب الفنادق والمؤسسات والأمكنة. وكأن ما حدث زلزال ضرب في قلب بيروت حيث كان الرئيس يحب ويعمل من اجل بنائه "وتركيز خطة الإنماء فيها ولصالحها" وعلى بوابة السان جورج الذي له حكاية طويلة مع الاعمار ووسط بيروت والسوليدر والقضاء والحقوق والضغوط...

سقط الحريري مضرجا بدمائه، ولم تنفع مع المتفجرة اللئيمة الاحتياطات الأمنية والتكنولوجية الضخمة وغير المسبوقة وغير المعروفة في مواكب المسؤولين اللبنانيين.

 

سقط الحريري شهيدا للبنان الطائف الذي أسهم فيه وعمل على تطبيقه فقامت القيامة أو هي "قاب قوسين" كما تبين ردود أفعال المعارضات في الداخل، والتوافقات الأميركية الأوروبية في الخارج.

 

من قتل الحريري، ولماذا؟ ولماذا التوقيت الآن؟ وهذه الطريقة الجبانة والغادرة؟

الإجابات لا تخلوا من غلو، ومن كلام كثير في السياسية، وما هو أبعد بكثير، وليس  من كلام جدي أو معقول في الأمن، ولا في الوقائع والأدلة الجنائية. فقد اختارت الجهة التي خططت ونفذت توقيتا ملائما كي يختلط الحابل بالنابل. وزادت في حالة الاختلاط عجالة المعارضة في رفع السقف وتوجيه الاتهامات بإصرار منقطع النظير باتجاه سورية ولبنان، وإثارة غبار كثير، وضباب كثيف، ساعدها الموقف الفرنسي الذي استعجل تدخل مجلس الامن، وتسارع تقدم العلاقات الأمريكية الأوروبية من البوابة الفرنسية إلى مرحلة الشراكة بدل ما كان من تعارض، بل قال بوش "كلمتنا واحدة بما خص سورية ولبنان وإيران".

 

لو كانت الحالة عاقلة ومتحررة من العصاب، ومن محاولات مسمومة للاصطياد بدماء الحريري ومرافقيه، لكان الكلام مختلفا، ولكانت الجهود والإجراءات، والتحقيقات قد توصلت إلى شيء مفيد. أما وقد بات التصعيد، والتصعيد غير المنطقي لا في حجم المسألة ولا في استهدافاتها، ولا في الحالة التي تعيشها البلاد والمنطقة، ولا في قدرتها أصلا على تحمل هذا التصعيد المنسق والمنظم في جهد إعلامي غير مسبوق وانتظام في أداء المعارضة وتوزيع أدوار محلية ودولية، وعربية، ينبئ بأن العملية خططت ونفذت عن سابق تصور لخدمة اتجاهات سياسية تصعيدية بعينها أو إنها خدمت بهذا الاتجاه عن غير قصد.

 

من قتل الحريري؟ هو الأمر الأول المطلوب كشفه والتعرف اليه، بالرغم من أن المعارضات والقوى "المشعوطة" المستعجلة لتفخيخ وحدة لبنان والانقلاب على "طائفه"، وعلى مقاومته وعلى بعده وطبيعته الوطنية والقومية، وعلى دوره في الصراع العربي الصهيوني، سدت المنافذ ولم تترك مجالا لحوار أو تفعيل عقل، أو مكان لإعلان الأدلة وسوق الإدانة، وإثباتها بالوقائع والأدلة الثابتة.

 

من قتل الحريري؟ عمليا ومنهجيا توجه أصابع الاتهام الفعلية بعيدا عن المصالح والاستثمارات والاصطياد إلى الجهة التي لها مصلحة في تخريب السلم، وتعطيل المسيرة وافتعال حروب طائفية ومذهبية وإعادة هيكلة المجتمعات والدول في المنطقة لتسهيل عملية السيطرة عليها وإدارتها كما هو جار في العراق وكما هو معلن في المشروع الأميركي الإسرائيلي المتحول إلى ثلاثي بانضمام أوروبا الساعية إلى العودة لسيرة الانتدابات التي كانت في بداية القرن الماضي، وللذين يضغطون على سورية ولبنان ويستهدفونه بصورة مكثفة ومعلنة منذ أشهر مصلحة مباشرة في الاغتيال وفي الحالة التي خلقتها العملية. وفي هذا السياق تدلل الوقائع والممارسات والتصرفات بدءا من حركة المعارضة ورموزها إلى البيانات والتظاهرات والاجتماعات ورفع سقوف المطالب إلى ما هو غير معقول، بأن القاتل يمشي في الجنازة على قاعدة "يقتل القتيل ويمشى في جنازته" وعلى قاعدة القول المأثور، "أكثر الذين يرفعون الصوت لتضليل التحقيق هم القتلة والمجرمون مرتكبو الجرم"، وإلا لماذا كل هذا الصراخ والتصعيد والعصاب الذي وصل إلى وضع البلاد ودستورها ومؤسساتها واستقرارها على كف عفريت (شيراك – شارون- بوش)، أي أن المتهم الأول هو المعارضة والقوى الدولية والإقليمية التي لها مصلحة في تفخيخ السلم الأهلي والانقلاب على الطائف والاستقرار. أليست فرنسا هل التي طالبت بتغير الطائف؟ أليس في قتل الحريري استعجال لحظة البحث عن بديل عن الطائف ورموزه وقواه؟

 

فإصبع الاتهام وبعض الأدلة تشير إلى قوى هي على صراع مع الاستقرار، ولها "تارات" عند السعودية وأميركا والآخرين، والرئيس الشهيد "محسوب على تقاطع المصالح السعودية الأميركية الفرنسية السورية".

 

وعلى الرغم من الهجوم الإعلامي السافر على سورية والحكومة واتهامها جزافا وبلا أدلة، ووجود نسبة عالية من الناس تقول ما تقوله المعارضة قناعة أو تحت ضغط الضخ الإعلامي المكثف والمدوزن، إلا أن الحقائق ذاتها وعلاقات الحريري بالسوريين والتزامه سقف الطائف في معارضته وعدم انضمامه إلى المعارضة وإعلان خلافه معها بوضوح وعلى لسانه في آخر مقابلة له مع جريدة السفير وفي مجمل الأحاديث التي نقلتها الصحافة ووسائل الإعلام، مؤكدا مرارا وتكرارا، التزامه الطائف والعلاقات المميزة مع سورية، والتزام التصويت إلى جانب قانون الانتخابات مع تعديلات طفيفة جدا في بيروت... وما أكده السيد حسن نصرالله، من أن الرئيس الحريري شريك وحليف للمقاومة وسلاحها، وله موقف حازم من التوطين والتقسيم، بحيث يشكل كل ذلك ردا سياسيا وعمليا على اتهام سورية التي لا مصلحة لها البتة في اغتيال الحريري والأمر ذاته بازاء الحكومة والسلطات التشريعية والأمنية اللبنانية التي سجل عليها ثغرة أمنية قاتلة ليست هي الأولى في السنوات الثلاث الأخيرة (في عهد حكومات الحريري نفسه)، فقد سبق اغتيال الوزير حبيقة، وجهاد جبريل واثنين من قادة المقاومة الإسلامية ولم تنجح التحقيقات والإجراءات الأمنية في ضبط الفاعل وتفكيك الشبكات، حتى أن محاولة اغتيال الوزير حمادة جرت والحريري رئيسا للحكومة.

 

اغتيال الحريري اغتيال للطائف وماذا بعد؟

بعيدا عن الغرق في تحديد المواقف من الرئيس الحريري وتجربته الطويلة في الحكم، وبعيدا عن الأخطاء القاتلة التي تقع فيها المعارضة عندما تتهم الأجهزة الأمنية اللبنانية وتشكك بالجيش والقضاء وتطالب بلجان تحقيق دولية وبانتدابات استعمارية، فالحق يقال أن هذه الدولة وهذه الاجهزة وهذا القضاء هو دولة وقضاء وجيش بني على مدى 12 سنة منها 10 سنوات كان فيها الحريري رئيسا للحكومة حاكما وفاعلا، ولا يستطيع احد إنكار هذه الحقيقة وإن جرت وتجري عمليات إخفائها لتحميل حكومة عمرها أربعة أشهر كل ما يجري.

اغتيل الحريري على خط تماس إقليمي ودولي ومحلي في لحظة استحقاقات دستورية عاصفة ومؤسسة، فجاء الاغتيال ككل الاغتيالات مفاجئا وعاصفا ومؤثرا ومؤشرا على سياقات تاريخية جديدة تستحثها الحاجات نفسها وتصعدها الصراعات والانقسامات.

فقد سبق أن اغتيل الرئيس بشير الجميل على خط تماس واحتدام، ولم تكشف الجهة المنفذة والمخططة برغم وجود أدلة ومعتقلين وبرغم أن اخاه كان رئيسا للجمهورية والأجهزة والدولة ويمسك بالقضاء، وكذلك كانت نتائج اغتيال عمر كرامي وطوني فرنجية وآخرين كثر في لبنان والمثال العراقي ساطع في اغتيال محمد باقر الحكيم ولم تكشف الالتباسات والوقائع فما أصيب به لبنان ليس متفردا وليس أمرا استثنائيا، فالاغتيال لشخصية إشكالية لعبت دورا حاسما في لبنان والمنطقة والعالم، على خط التماس الدولي والإقليمي والمحلي أمر خطير وله دلالاته وله منعكساته أيضاً.

اغتيل الحريري على عتبه المطالبة بتعديل الطائف ومحاولة إلغائه، وعلى عتبة الجهود الرامية إلى إعادة لبنان إلى الحضن الأميركي الأوروبي على حساب مقاومته واستقراره ووحدته وعلاقاته مع سورية في الجهد المنظم دفاعا عن عروبة المنطقة واستقلالها، ومواجهة المشروع الأميركي الأوروبي الاستعماري، وبذلك أطلقت رصاصة الرحمة على الطائف ما طبق منه وما لم يطبق وما يجب أن يطبق لتصبح اللحظة ضاغطة باتجاه ابتداع لطائف جديد على أن يكون هذه المرة اقتصاديا اجتماعيا سياسيا دستوريا قانونيا.

 

فهل يلد لبنان الجديد كاستجابة لحاجات تاريخية واجبة لم تعد تقبل التأجيل والمماطلة؟

هذا احتمال يمكن أن تتجه إليه البلاد، ويمكن أن تتولد عناصر تفرض تغييرات جوهرية ودرامية في خط سيرها وهياكلها الدستورية والقانونية وانتظامها ووحدتها، كنا قد كتبنا فيه كثيرا في العرب والعولمة ومنذ سنة بتواصل.

والاتجاه الآخر أن تذهب البلاد بعد الحريري إلى المجهول المعلوم، المجهول هو المستقبل والمعلوم هو الحاضر، فالحاضر يشير إلى خطر اضطراب عام، يبدأ امنيا، أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو بسبب عصاب المعارضة ومنعها حصول الانتخابات النيابية وإصرارها على التدخل الخارجي المباشر كجسر عبور إلى إلزام السوريين الفرار من لبنان (إلحاق الهزيمة النكراء بهم ومعاقبتهم على ما قدموه للبنان) بحيث تترك يد الفتنة تعبث، لتحترق البلاد كي يشعل أحدهم سيكارته أو يحلم بالعودة نائبا أو وزيرا، أو إرضاء لحلم وضع لبنان تحت الوصاية الدولية تمهيدا للتوطين وسحب سلاح المقاومة فالتقسيم على قياس مخطط شارون بوش شيراك (مجتمعات ملصقة ومحتربة كي تسهل السيطرة عليها).

ما هي موازين القوى الفعلية بعيدا عن الصورة الإعلامية المدفوعة الأجر، والمنسقة مع الجهد الأميركي الفرنسي الإسرائيلي؟

 

ما هو حجم الضغوط الدولية وآليات الاستهداف؟

ما هي الحالة العامة التي يسعى لبنان فيها للملمة الجراح وتوظيف الحالة للنهوض إلى مستقبل مجهول بإمكانات وجهود منظمة هادفة عارفة لما تسعى إليه في ظل الضغوط والتهويل واحتدام الصراعات الإقليمية والدولية والمحلية؟

 

1-       لم يعد الطائف الذي جرى تطبيقه بتحريف وقصور قادر على تلبية حاجات المرحلة وضبط توازناتها والتفاعل مع القادم من التحولات والحاجات وبات المطلوب إحداث نقلة نوعية بتغيير الطائف أو بالسعي لتطبيقه مع علق منه دفعة واحدة وبرزمة تشمل القضايا الداخلية والخارجية معا وبذلك يكون إقلاع ميمون للبلاد برغم وجود قوى متضررة وعصابية واهمة.

 

2-       التطاول على العلاقات السورية اللبنانية وعلى الوجود السوري، وتاليا على النظام السياسي والدستوري اللبناني ورفع الشعارات القصوى تعني أنه لم يعد مقبولا سير الأمور كما كانت، وبالتالي فليس بغير انتخابات أو بعقد وطني جديد ومرحلة انتقالية يمكن عبرها إعادة ضبط عقارب الساعة المحلية مع الإقليمية مع الدولية كتجسيد لموازين القوى وللحاجات الملحة. فهل تكون عاصفة ام تكون هادئة يسيرة؟

 

3-       يمكن تلمس معطيات جديدة ليس في ميزان القوى الداخلية التي لم تتغير كثيرا بكسب وليد إلى صفوف المعارضة وخسارة الرئيس الحريري الوطنية بامتياز وانعكاساتها على الجميع بما في ذلك ضوابط انتظام الحياة السياسية وموازين القوى الداخلية، بل في التغيير الحاد في الموقف الفرنسي والأوروبي من متعارض مع المشروع الأميركي الإسرائيلي إلى متشارك على قواعد جديدة عناصرها تقديم تنازلات أميركية للاتحاد الأوروبي بقصد إعادة التفاهم على إدارة المنطقة والعالم على اثر تراجع وانكسار الموجة العسكرية الأميركية في العراق والقدرات الإسرائيلية في فلسطين. والسؤال الكبير هل تتغير موازين القوى في المنطقة لصالح التحالف الجديد أم أن السيف قد سبق العذل؟ هنا يكمن أحد مفاتيح فهم المرحلة القادمة لبنانيا وسوريا وعربيا، وإلى حد بعيد عالميا.

 

4-       بعكس ما تحاوله أطراف تبدو الحالة السورية متماسكة وقوية، ومنفتحة على تحالفات دولية وإقليمية جديدة وعميقة من شأنها أن تعوض نقص انقلاب فرنسا وأوروبا، والشاهد العلاقات السورية الروسية والإعلانات الروسية عن صفقة السلاح، والإعلانات السورية الإيرانية عن جبهة أو تعاون ودعم إيراني لسورية والمقاومة والحكومة اللبنانية. والشواهد كثيرة على تحولات عالمية تجعل من التحالف الأميركي الأوروبي غير ذي شأن نوعي في انعكاساته على المنطقة وأقربها الموقف الصيني الروسي من أزمة دارفور في مجلس الأمن ومن الطلب الفرنسي الأميركي لإرسال لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري، إلى الإعلان المفاجئ لكوريا بامتلاك السلاح النووي تضامنا مع حق إيران بامتلاك التقنية والتكنولوجية النووية والعسكرية.

 

5-       في احتمالات تصعيد العدوان الفرنسي الأميركي كضغوط أو كعمليات عسكرية ينشر حولها الكثير (في سياق حملة ترهيب وحرب نفسية إعلامية) لا يبدو الأمر سهلا بعد الورطة الأميركية في العراق والغرق في ملف الانتخابات والعجز عن جبه المقاومة وليس الأمر يسيرا على إسرائيل المأزومة والتي تستجدي وقفا للنار هشاً لتمرير خطة "تبريد الساحة الفلسطينية" للانعطاف باتجاه الساحة السورية اللبنانية وسلاح حزب الله، والعدوان على سورية ولبنان يبدو مؤجلا غير ممكن ولن يكون قبل سحب سلاح حزب الله وفك التحالف السوري اللبناني والسوري الإيراني وتفكيك دور سورية في فلسطين والعراق، (وهذه أمور تحتاج إلى وقت طويل، وتبدو مستحيلة التحقيق في المدى المنظور) بينما سورية أيضاً تملك أوراقاً قوية يمكن تنشيطها بحيث تعيد أميركا وفرنسا إلى الطاولة كما في ملف فلسطين ولبنان كذلك في ملف العراق.

 

بكل الاحتمالات وبحسب جميع النظريات والواقع... شكل اغتيال الحريري لحظة مفصلية، ما قبلها غير ما بعدها، وفيها تأكيدات قاطعة على أن لبنان جديد يجب أن يولد، وبأن علاقات سورية لبنانية بقالب وباستراتيجيات وأدوات جديدة لابد أن تتحقق.

 

ميخائيل عوض

كاتب من لبنان

yaragroup@hotmail.com

بيروت 21-2-2005