قرار الانسحاب الإسرائيلي الأحادي
هزيمة إسرائيلية مدوية على ارض فلسطين
تجعل حلم إسرائيل الكبرى يتلاشى
حسين عطوي كاتب من لبنان | يعتبر قرار الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، والذي سينفذ في تموز المقبل مع تفكيك كل المستوطنات الموجودة في هذه المناطق، قراراً له أبعاد سياسية وإستراتيجية كبيرة، وله مدلولاته على صعيد الصراع المحتدم على ارض فلسطين بقوة وشدة منذ أربع سنوات ونيف من عمر الانتفاضة الفلسطينية الثانية وكذلك على مستوى المشروع الصهيوني ذاته. |
يعني القرار أن حكومة شارون اتخذت قراراً نهائياً بتفكيك المستوطنات في قطاع غزة وشمال الضفة وإخلائها من المستوطنين، واعتبار هذه المناطق خارج إطار السيطرة الإسرائيلية، ومثل هذا القرار جاء بعد الفشل في القضاء على المقاومة ومحاولة إخراج إسرائيل كلها، وليس جيشها فقط، من دائرة النزف والإنهاك اللذين تعانيان منهما منذ اندلاع الانتفاضة والمقاومة المسلحة قبل أربع سنوات دون توقف.
أهمية تفكيك المستوطنات
أهمية قرار تفكيك المستوطنات في غزة وشمال الضفة كونه يأتي في سياق إكراه إسرائيل على ذلك، وليس برضى إسرائيل، بدون أي مقابل.
والاهم من ذلك أن مقاومة الشعب الفلسطيني تمكنت لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي من كسر إستراتيجية الاستيطان الإسرائيلية على ارض فلسطين بان أسقطت سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية القائمة على تشريد وتهجير الفلسطينيين وإحلال المستوطنين مكانهم وتعزيز الاستيطان الذي ظل خطاً صاعداً حتى في ظل اتفاق أوسلو، واضطرت إسرائيل وعلى رأسها أبو الاستيطان شارون على أخذ قرار تفكيك مستوطنات دون قيد أو شرط، وهذه سابقة تحصل لأول مرة على ارض فلسطين التاريخية والتي سعت إسرائيل إلى استيطانها واعتبارها أرض إسرائيل الكبرى التي يجب التمسك بها وعدم التخلي عنها.
وفي هذا الإطار يتساءل سيفر بلوتسكر في صحيفة يديعوت احرونوت الإسرائيلية 20-2-2005 "كيف حدث هذا الانقلاب ما الذي تسبب في هذا التغيير المقلق في رؤية السياسيين الذين تربوا في أحضان إيديولوجيا ارض إسرائيل الكاملة أو على الأقل ارض إسرائيل المأهولة باليهود"؟ ويجيب هو نفسه بالقول: "الجواب عن السؤال يكمن في الانتفاضة الفلسطينية، الانتفاضة، سواء اعترفنا أو رفضنا دفعت الأغلبية الإسرائيلية الصامتة ومن ضمنها أغلبية ناخبي الليكود إلى الاعتراف بان الاحتلال سيء لإسرائيل وأن أضرار الحكم الإسرائيلي للشعب الفلسطيني أكثر فداحة من منافعها".
ويختم الكاتب مقاله في تعبير بالغ الدلالة على الاعتراف بالهزيمة أمام المقاومة والانتفاضة قائلاً: "حلم ارض إسرائيل الكاملة تلاشى وشطب عن جدول الأعمال في هذا الجيل على الأقل، إسرائيل في ظل قيادة أرييل شارون انسحبت من غزة وهي تقوم بإخلاء كل مواطنيها من هناك كخطوة أولى وليس كخطوة أخيرة على طريق العودة إلى حدودها الصحيحة" التي يراها الكاتب بأنها ستكون مطابقة تقريباً لخارطة إسرائيل قبل حرب حزيران، مع بعض التعديلات المتبادلة المتفق عليها، وكل تفسير أخر لخطة الفصل هو ذر للرماد في عيون الشعب المتعب من الصفقات والخداع الذاتي الذي يمارسه السياسيون المجبرون على مواجهة صدمة تغيير الرؤية والآراء والمعتقدات التي نادوا بها في الماضي.
انكفاء إسرائيل في ارض فلسطين
في بداية جلسة الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد الماضي 21 شباط 2005 التي صوتت على قرار الانسحاب الأحادي مقابل اعتراض خمسة وزراء من تكتل الليكود قال شارون كلاماً يعكس مدى ما تشكله خطوة الانسحاب من تراجع وانكفاء إسرائيلي لتفادي تداعيات اكبر على المشروع الصهيوني.
قال شارون: "هذا ليس باليوم السهل، وهو ليس يوم فرح، فإخلاء مستوطنات غزة وشمال السامرة هو عمل بالغ الصعوبة للمستوطنين ولمواطنين إسرائيل وهو صعب لي وأنا على يقين بأنه صعب أيضا لباقي أعضاء الحكومة ولكن هذا عمل حيوي من اجل مستقبل دولة إسرائيل".
وفي كلمة أخرى له أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية تحدث شارون عن أهمية القرار بالنسبة لمستقبل إسرائيل وقال: "إنه حتى لو لم يعد القرار شعبياً فان على الحكومة أن ترى الصورة الكاملة في الإطار الواسع وخطة الفصل تضمن مستقبل دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية تحصن أمننا وتطور فرصة السلام في منطقتنا".
إن أقوال شارون هذه تشكل إقرارا بالهزيمة والفشل في آن. الهزيمة أمام المقاومة والانتفاضة وبالفشل في تحقيق مشروعه في إقامة إسرائيل الكبرى واضطراره أخيرا إلى التراجع عن ذلك مكرها حيث جاءت المصادقة على قرار الانسحاب في الحكومة بمثابة النعي الإسرائيلي الرسمي لمشروع وإستراتيجية ارض إسرائيل الكبرى كتعبير عن الفشل الذريع لخطة شارون وإعلان سقوطها المدوي.
ومع أن شارون روج لهذا الانكفاء القسري عن ارض فلسطينية محتلة بالسعي إلى حماية دولة إسرائيل وضمان مستقبلها، إلا إنه كان يعبر عن الشعور الإسرائيلي بمرارة الهزيمة ومحاولة واضحة للتخفيف من أثارها وانعكاساتها على الكيان الإسرائيلي، فإذا كان هذا الانكفاء الإسرائيلي هو الثاني من نوعه بعد الانكفاء الأول في العام ألفين في جنوب لبنان، إلا إنه يحمل أهمية مضاعفة اليوم ليس فقط في كونه يشكل الهزيمة الثانية لإسرائيل ومشروعها، بل وفي كون هذا الانكفاء يحصل عن ارض فلسطينية طالما اعتبرتها الحركة الصهيونية ارض إسرائيلية والتراجع عنها يشكل خطا أحمر.
انتصار خيار المقاومة وسقوط منطق موازين القوى التقليدية
رغم الاعترافات الإسرائيلية الساطعة بان هذا الانسحاب الإسرائيلي إعلان لا يقبل التأويل بالهزيمة أمام المقاومة، إلا أن البعض في وطننا العربي لا يزال لم يدرك ذلك أو هو لا يريد أن يصدق، أما لأنه غير مؤمن بطريق المقاومة للشعوب، أو أنه لا يزال مأخوذاً بالاحتلال الأميركي للعراق وغير قادر على الاقتناع بان إسرائيل تنهزم في ظل هذا الاختلال الحاد في موازين القوى لصالحها.
ومع ذلك فان الحقيقة أصبحت ساطعة كالشمس: مشروع المقاومة، وخيار مقاومة الشعب الفلسطيني ينتصر على ارض فلسطين باعتراف العدو نفسه وفي ظل ما يحكى عن الاختلال في موازين القوى، لكنه اختلال في موازين قوى تقليدية من الناحية العسكرية. أما من زاوية مفهوم المقاومة الشعبية المسلحة فان الأمر هو على العكس تماماً، فهذا المفهوم لموازين القوى يسقط اليوم سقوط مدوياً بقرار الحكومة الإسرائيلية سحب جيش الاحتلال عن ارض محتلة على الطريقة اللبنانية، مدحوراً دون قيد أو شرط، وبعد أن عجز الاحتلال الأميركي للعراق، الذي كان من أهدافه محاولة خنق الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية وإنقاذ إسرائيل من الهزيمة، من تحقيق ذلك بل أنه هو أيضا غرق في مستنقع العراق بفعل المقاومة العراقية الشرسة التي تستنزف القوات الأميركية على نحو بات معه المشروع الأميركي في المنطقة في مهب الريح، يصارع من اجل تدارك تداعيات الفشل في العراق على المصالح الأميركية في المنطقة، ويحاول عبثاً تجاوز هذا الفشل دون جدوى.
وهذا يعني بجلاء أن المقاومة المسلحة للشعوب، إذا ما امتلكت الإرادة والتصميم والإيمان بقضيتها العادلة والقيادة الحازمة والحكيمة والتي تتمتع ببعد النظر وتحسن إدارة المعركة والمواجهة مع الاحتلال، فإنها قادرة على تحقيق النصر على أعتى الجيوش في هذا العالم، وإجبارها على التراجع لأنها لم تعد قادرة على تحمل النزف والاستمرار قابعة في احتلال الأرض وهي في حالة من الإنهاك والتعب واليأس من الانتصار في معركة طويلة النفس على مقاومة شعب قرر عدم الرضوخ والاستسلام للمحتل والمستعمر.
وأهمية انتصار خيار المقاومة في فلسطين في كونه أيضا يأتي في هذا التوقيت بالذات الذي اعتقد فيه البعض من الحكام وأنصاف المثقفين أن أميركا باتت قدراً يجب الاستسلام له وأن على الشعب الفلسطيني ومقاومته التسليم بهذا القدر والتوقف عن مقاتلة الاحتلال.
ليس سوى البداية
إن الانسحاب الإسرائيلي المقرر في تموز المقبل سوف لن يكون سوى البداية في انطلاق مسيرة تحرير فلسطين، ذلك أن هذا الانسحاب أو الانكفاء الإسرائيلي إنما يحصل تحت ضغط ضربات المقاومة وعملياتها النوعية، مما يعني تحرير بقعة من ارض فلسطين التاريخية بدون أي ثمن مقابل الأمر الذي يجعل منها قاعدة محررة تحت سلطة المقاومة التي أنجزت التحرير ونقطة انطلاق جديدة لها من اجل استكمال مشروعها التحريري وفرض عودة أبناء الشعب الفلسطيني الذين شردوا من أرضهم وديارهم سنة 1948.
فإسرائيل عندما تنسحب مهزومة أمام المقاومة، فهذا يعني ليس فقط انتصاراً مدوياً لخيار المقاومة، بل يعني أيضا تعزيزاً له وتكريسه قناعة راسخة في عقول الجماهير الفلسطينية والعربية بأن المقاومة الفلسطينية تستطيع هزيمة الاحتلال على غرار لبنان، وأن الظروف المختلفة لا تحول دون صناعة النصر. وبالتالي فان ذلك سوف يعطي المقاومة دفعاً قوياً وكبيراً على الصعيد الفلسطيني وسوف يؤدي إلى حصول زلزال قوي يجعل المقاومة أكثر قوة وإصرارا على مواصلة مسيرة التحرير.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فان المقاومة التي تمكنت إثناء الحصار والعدوان الإسرائيلي المتواصل على مدى أربع سنوات من الاستمرار وكسر طوق الحصار، بتصنيع الصواريخ والمتفجرات وتحقيق النصر الأول لها، سوف تكون الظروف، بعد الانسحاب، أكثر ملاءمة لها من أجل تطوير عملها وتطوير أساليب قتالها وتسليحها لمواصلة مسيرة تحرير الأرض وفرض عودة الشعب الفلسطيني إليها.
فالانتفاضة عندما انطلقت في 28 أيلول من عام ألفين لم يكن هدفها فقط تحرير قطاع غزة وشمال الضفة الغربية فقط بل هي طرحت أهدافاً واضحة، وهي طرد الاحتلال عن كامل الضفة الغربية وقطاع غزة بما في ذلك المستوطنين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة قولاً وفعلاً وتحقيق عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الشتات.
ولهذا فإن إجبار إسرائيل على الانسحاب الأحادي اليوم ليس سوى بداية الطريق نحو استكمال باقي أهداف الانتفاضة المذكورة.
ومن نافلة القول التأكيد في هذا السياق أن شارون كما فشل في القضاء على المقاومة واضطر إلى التراجع أمامها، بعد أن يأس من ذلك، سوف يفشل في خطته الجديدة الهادفة إلى جعل هذا الانسحاب، الانسحاب الأخير، وسوف يضطر هو أو من يكون غيره في موقع القرار إلى اتخاذ قرارات أخرى بالانسحاب والتراجع ودائماً بفعل المقاومة التي وحدها القادرة على جعل ما كان بالأمس مستحيلاً في نظر البعض يصبح حقيقة وثقافة سائدة تبدد وتزيل ثقافة الضعف والهزيمة.
عمدة لندن: "شارون مجرم حرب" وتنفرد صحيفة الجارديان بنشر مقال لرئيس بلدية لندن كين ليفنجستون يقول فيه انه يجب وضع شارون خلف قضبان السجن وليس على رأس الحكومة الإسرائيلية باعتباره مجرم حرب. وهذا المقال هو مجرد جولة جديدة من المعركة الكلامية الدائرة رحاها منذ عدة أسابيع بين ليفنجستون والجالية اليهودية ببريطانيا حيث يتبادل الجانبان المقالات التي تفرد لها الصحف البريطانية مساحة كبيرة.
فقد سبق مقال عمدة لندن مقال آخر في الجارديان أيضا لأحد زعماء الجالية اليهودية ببريطانيا يهاجم فيه ليفنجستون ويطالبه بالاعتذار عن الإساءة التي يوجهها إلى اليهود في العالم. ولكن يبدو أن رد ليفنجستون هذه المرة جاء قاسيا حيث انه قال إن إسرائيل تمارس التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، موضحا أن إسرائيل تطرد الفلسطينيين من الأرض التي يعيشون فيها منذ قرون باستخدام العنف المنظم.
وقال في مقاله إن إسرائيل تستخدم صفة "معاداة السامية" كسلاح لإسكات منتقدي سياساتها. وأضاف "الحقيقة أن العنصرية في أوروبا تطول السود والآسيويين والمسلمين وليس اليهود الذين يحاولون دائما إظهار أنهم مضطهدون في أوروبا بسبب دينهم. وأوضح ليفنجستون أن لجنة تحقيق يهودية كشفت عن أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي يتحمل جزءا من مسؤولية مذبحة صبرا وشاتيلا.
وقال رئيس بلدية لندن أن شارون يواصل "تنظيم الإرهاب، وعدد القتلى الفلسطينيين في الصراع الحالي يزيد بثلاثة أمثال عن عدد القتلى الإسرائيليين. كما أن هناك سبعة آلاف فلسطيني في المعتقلات الإسرائيلية". واختتم ليفنجستون مقاله بالتأكيد على أن اليهود يشعلون الغضب والعنف في أنحاء العالم. "بصفتي عمدة للندن فإن الصمت عن مثل هذا الإجحاف لن يكون خطأ فقط ولكنه أيضا يعد تجاهلا للتهديد الذي يمثله هذا الإجحاف على الأمن لكل سكان العاصمة البريطانية".
BBC Arabic.com 4-3-2005 |
حسين عطوي
كاتب من لبنان