مسودة وثيقة للنقاش (6)

لبنان وضرورات التغيير

العلاقات السورية اللبنانية

 

يشكل هذا النص (المكمل للنص المنشور في الأعداد الخمسة السابقة) القسم السادس لوثيقة تعمل على بلورتها مجموعة من المهتمين بغية الوصول إلى تصور لمشروع التغيير المطلوب  في لبنان، على ضوء المستجدات العالمية والعربية وانعكاساتها اللبنانية. وعليه هذا النص مجرد مسودة للنقاش، نأمل من كل المعنيين المساهمة فيه، على صفحات مجلتنا أو خارجها.

 

العرب والعولمة

 

غالب أبو مصلح (لبنان)

خبير اقتصادي ومالي

 

 

تشكل العلاقات السورية اللبنانية محوراً أساسيا للخلافات الداخلية اللبنانية وأحد العناوين البارزة في الصراع الإقليمي والدولي، في ظل الهجمة الامبريالية الصهيونية على المشرق العربي. فقد أصبحت العلاقات السورية اللبنانية أحد عناوين الصراع في المشرق العربي، وخرجت عن كونها مسألة داخلية لبنانية.

ولهذه العلاقة أبعادها الفكرية والإيديولوجية العميقة الجذور في التاريخ، كما لها أبعادها الاقتصادية والاجتماعية التاريخية أيضاً. وللأبعاد الفكرية والتاريخية تأثيراتها الواضحة في صنع مستقبل هذه العلاقات، ورؤية شرائح وفئات لبنانية متعددة ومتمايزة لها.

 

كما أن دخول الجيش السوري إلى لبنان منذ سنة 1975، والأدوار التي لعبها الوجود السوري في لبنان على الصعد العسكرية والأمنية والسياسية، في فترات ومراحل عديدة وطويلة، ولتطور العلاقات الاقتصادية بين الدولتين منذ ذلك التاريخ أثار عميقة على رؤية فئات لبنانية مختلفة، طائفية وطبقية وسياسية وشعبية ونخبوية، لهذه العلاقات.

ولهذه العلاقات الثنائية وتطورها على جميع الصعد أهمية كبيرة في تحديد مستقبل لبنان الاقتصادي والسياسي، ولدوره في المشرق العربي.

 

 

الجذور الفكرية والعقائدية للخلافات السورية اللبنانية

ليست أشكال العلاقات السورية اللبنانية أمراً طارئاً أو مستجداً على الصعيد السياسي، بل إن لهذه المسألة جذورها التاريخية ولا بد لفهم النقاش الصاخب القائم حول هذه العلاقات من العودة إلى أسس هذه المشكلة منذ ما قبل نشوء الكيان اللبناني.

 

تعود هذه التباينات الحادة في رؤية طوائف وشرائح اجتماعية شتى لهذه العلاقة إلى نهاية الحرب العالمية الأولى.

 

فبالرغم من أحداث القرن التاسع عشر الداخلية في جبل لبنان، أو إمارة الجبل على الأصح، منذ بروز محمد علي في مصر، وتحالفه مع فرنسا، وغزو ابنه إبراهيم باشا الشام، إلى أحداث سنة 1860 وغزو الجيوش الفرنسية لجبل لبنان لمعاقبة الدروز، وما نتج عن كل ذلك من إسقاط نظام الإقطاع وإنشاء نظام المتصرفية... إن كل هذه الأحداث، أعطت منطقة جبل لبنان مركزاً مميزاً داخل النظام العثماني، ولم تفصل الجبل أو تعزله عن بقية أنحاء الدولة، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومنذ نشوب الحرب العالمية الأولى تم إسقاط نظام المتصرفية المفروض من قبل الدول الغربية.

 

وكانت بعثة كنغ-كرين، لدراسة مستقبل أجزاء الإمبراطورية العثمانية المنهارة. وتشكل وثائق البعثة ومراسلاتها مادة مهمة في كشف أهداف الدول الغربية تجاه إعادة تقسيم المشرق العربي وتفتيته. فقد اقترحت البعثة إنشاء ثلاث كيانات سياسية متميزة ودينية في المشرق العربي وتركيا، إنشاء وطن قومي لليهود، يلم معظم شتات اليهود في العالم، إلى فلسطين وعلى حساب سكانها من الطائفتين الإسلامية والمسيحية، وإنشاء وطن قومي للمسيحيين في لبنان، وكيان وطني للأرمن يمتد، كحدوة حصان، من البحر الأسود إلى لواء الإسكندرون ليلم معظم الشتات الأرمني في العالم، على حساب المسلمين الأتراك والعرب كما في فلسطين، وذلك لفصل الأتراك عن العرب.

 

أما على صعيد لبنان فقد أظهرت اتصالات البعثة إرادة الطوائف الإسلامية جميعاً، كما أظهرت رغبة أبناء الطائفة الأرثوذكسية ومعظم أبناء الطائفة الكاثوليكية، في الانضمام إلى الدولة العربية السورية، بينما طالب معظم الموارنة بالاستقلال الكامل عن الدولة العربية، وذلك حسب مراسلات البعثة. ورأت البعثة نتيجة ذلك، أن بعض المسيحيين لا يدركون مصالحهم الحقيقية المتمثلة بالانفصال عن الدولة العربية السورية ويجب أن لا يؤخذ برأيهم في هذا المضمار.

 

ومنذ تقسيم المشرق العربي، أو بر الشام، ما بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي حسب اتفاقية سايكس بيكو، وانسحاب أميركا من تقاسم المنطقة، إذ أن الدولتين الأوروبيتين أرادتا إعطاءها انتداباً على الدولة الأرمنية المنوي انتشاؤها والتي تشكل عبئا دون مكاسب لأميركا، شكلت العلاقات اللبنانية السورية محورا أساسيا للتناقضات الفكرية والسياسية والاقتصادية الفاعلة في لبنان ومجتمعاته المتعددة بشكل خاص.

 

فقد ظهرت في لبنان مدارس فكرية متعددة على الصعيدين التاريخي والعقائدي، تؤسس رؤية متفاوتة ومتناقضة للقضية القومية، بين قومية لبنانية وقومية سورية، وقومية عربية تدعو للانعزال أو الاندماج مع المحيط، ولمواقف متناقضة من الكيان اللبناني. فقد ظهرت المدرسة الفينيقية ومنظروها، بغية إعطاء الكيان اللبناني الذي أنشأته فرنسا في بداية العشرينات من القرن الماضي، جذورا تاريخية عميقة تبرر وجوده واستمراره، وتدعو لتأبيده، مع إعطاء هذا الكيان سمات نظام تجاري ملازم له منذ آلاف السنين، وبالتالي تم ربط النظام بالكيان في لبنان.

 

وظهرت كتابات تاريخية أخرى شارك فيها مؤرخون معروفون من أمثال فيليب حتي، تعطي هذا الكيان تاريخا منفصلا متمايزا ومتصادما مع تاريخ الجوار العربي، وبالاعتماد على الميثولوجيا المارونية التي أسس لها ابن القلاعي. فالمؤرخ يعترف أن المصادر البيزنطية والعربية التاريخية وهي كثيرة جداً ومتعددة، لا تذكر شيئاً عن التاريخ الخاص والمميز للموارنة ولبنان الذي تتحدث عنه هذه الميثولوجيا.

 

وعملت هذه "الهوية اللبنانية" المستعدة أن تربط نفسها تاريخياً بالعداء للإسلام والعروبة، أي التمايز والتناقض مع تاريخ وثقافة المحيط العربي الإسلامي. فهي كانت مع البيزنطيين ضد الفتوحات العربية الإسلامية، أو حسب لغتها، فقد كانت ضد "الغزو" الإسلامي. واعتبر المؤرخ فيليب حتي مثلاً أن تعاون القبائل العربية المسيحية، وسكان المدن من العرب المسيحيين مع الفتح العربي الإسلامي "خيانة" أدت إلى سقوط المدن التي كان يحكمها البيزنطيون بأيدي "الغزاة" العرب المسلمين.

 

وكانت هذه "الهوية اللبنانية" مع الحملات الصليبية وسيطرتها على أجزاء واسعة جداً من المشرق العربي، كما كانت مع حصار نابليون لعكا، ومع التمدد الاستعماري الأوروبي، وخاصة مع الإمبراطورية النمساوية وفرنسا (الكاثوليكيتين) ومع الاستعمار الفرنسي وتفتيته للمشرق العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

 

فقد رحبت هذه "الوطنية اللبنانية" أو الكيانية اللبنانية بمعاهدة سيكس بيكو ووعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. فقد رفع المطران انياس مبارك مذكرة إلى اللجنة المؤقتة للأمم المتحدة حول المسألة الفلسطينية في سنة 1947 أوضح فيها فكرة "التماهي والتحالف بين الشبيهين" أي بين لبنان كوطن قومي للمسيحيين، وبين فلسطين كوطن قومي "لليهود والمسيحيين". وحدها القوة الوحشية للغزو هي التي أخضعت البلدين وأجبرتهما على اعتناق الإسلام.... وان تعريف فلسطين ولبنان على أنهما بلدان عربيان ما هو إلا إنكار للتاريخ وتدمير للتوازن الاجتماعي في الشرق الأوسط... وطالب بإنشاء "ملجأين للأقليات في البلدين: وطن قومي مسيحي في لبنان، ووطن يهودي في فلسطين"[1].

 

فهذا التماهي مع الغرب الاستعماري غرس روح الاستعلاء والتسامي عن المحيط، وولد رؤية عنصرية قومية للعروبة والإسلام، واحتقاراً للتراث العربي والإسلامي، وتمدده المناقض للحداثة والرقي. فالصحفي ألبير نقاش، صاحب جريدة "الأوربون"، مثلاً يكتب رسالة إلى الناشط الصهيوني إلياهو ابلات يقول فيها: "إن رمال الصحراء قد لوثت مياه البحر الصافية"[2]. مشيراً إلى الفتح العربي الإسلامي لبر الشام.

 

لم تنقطع العلاقات بين هذه "الوطنية اللبنانية" والحركة الصهيونية، وبعد ذلك مع الكيان الصهيوني منذ تأسيسه. قد عملت إسرائيل على دعم وتمويل هذه "الوطنية اللبنانية" بالمال والسلاح وبالدعم السياسي عند جميع المفاصل التاريخية في المشرق العربي قبل وخلال ثورة سنة 1958 ضد كميل شمعون المتبني لسياسة الأحلاف الاستعمارية وتعاونت مع الغزو الإسرائيلي للبنان، مرتدة على الوجود العسكري السوري الذي حماها وأنقذها من هزيمة محققة ومنع سقوطها من الحكم في لبنان.

 

واستمرت هذه "الوطنية اللبنانية" في إقامة علاقات فاعلة ومؤثرة مع إسرائيل إلى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية واندحار العدو الصهيوني، وانهيار دولة انطوان لحد، التي ورثها من سعد حداد، والتابعة للعدو الصهيوني. والأدبيات المعبرة عن استمرار هذه الخلافات كثيرة جداً رغم كل الكلام عن الوحدة الوطنية اللبنانية من وراء المقاومة التي أجبرت إسرائيل على التراجع عن مزارع شبعا. هذه الوحدة الوطنية الموهومة والتي لا وجود لها على ارض الواقع، وفي عقول وعواطف اللبنانيين.

 

إن هذه "الوطنية اللبنانية" يرتفع صوتها وينخفض، نشرئب بعنقها وتختبئ بالتزامن مع اشتداد وتراجع الضغوطات والتهديدات الخارجية لدول المشرق العربي. فقد كان صوتها مرتفعاً جداً عند بدايات الحرب الأهلية وعند بدايات الاجتياح الإسرائيلي للبنان وأبان حرب الجبل. وقد عبرت هذه "الوطنية اللبنانية" الطائفية بتركيبتها عن فكرها ونهجها بسلسلة من الكتب والبرامج التلفزيونية لتمجد تاريخ الموارنة، وكتب الأب بطرس ضو (خمسة أجزاء) التي تستنبت تاريخاً للموارنة، هم فيه ورثة لبنان وتاريخه الغارق في القدم، والذي يمتد إلى أكثر من خمسة آلاف سنة حسب زعمه. كما خرجت مؤلفات عديدة من الكسليك تثير النعرات الطائفية مثل "سلسلة الأديان السرية" العجل والشيطان في العقيدة الدرزية، والنبي محمد في العقيدة الدرزية، باسم مستعار "أنور ياسين". وصدور كتب أخرى عن الجهة ذاتها مثل "بين العقل والنبي" و"قس ونبي" و"أعربي هو" وغيرها من الكتب المثيرة للأحقاد والفرقة بين الطوائف.

 

خير مثيل لأفكار هذه "الوطنية اللبنانية" بعد أحداث أيلول ستة 2000 هو الأب سليم عبو، رئيس الجامعة اليسوعية، في خطابه السنوي الذي يقدم فيه عصارة فكره وزبدة رؤيته السياسية. وللجامعة اليسوعية مكانتها التاريخية في إطار هذه "الوطنية اللبنانية" فهي أعطت لبنان والطبقة الحاكمة ابرز قياداتها وكفاءاتها الفكرية والإدارية... وبالتالي فان كتاباته وخطبه تعكس رؤية وفهم هذه "الوطنية اللبنانية" في مرحلة اشتداد الهجمة الامبريالية الصهيونية على المشرق العربي، هذه الهجمة التي أسقطت أفغانستان، ودمرت العراق، وتعمل على عزل سوريا، وإسقاط موقعها الممانع بوجه الاستسلام لهذه الهجمة.

 

يبدأ الأب عبو خطابه السنوي في آذار 2001، بطلب خروج الجيش السوري من لبنان بعد اندحار القوات الإسرائيلية حتى مزارع شبعا اللبنانية قائلاً إن "انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان شكل حجة قوية ضد وجود الجيش السوري في المناطق اللبنانية كلها، وهو وجود لم يعد له ما يبرره، هذا على افتراض انه كان له ما يبرره".

 

ثم ينتقل الأب عبو إلى صميم رؤيته إلى الآخر، من موقعه الفكري فيقول إن في لبنان ثلاثة أنماط من الخطابات "الغير جديرة بالاحترام". أما الأول فهو الخطاب الإيديولوجي الذي يختص بالأحزاب المسماة "وطنية" وهي التي تعتبر أن أمتها المرجعية ليست الأمة اللبنانية، بل "الأمة السورية" أو "سوريا الكبرى" أو "الأمة العربية" الطوباوية وهي أوسع نطاقاً، ولا سند لها غير الحنين إلى عهد الخلافة. وليكون أكثر إقناعا، فإنه يستشهد بكلام لوليد جنبلاط نقلاً عن جريدة "الأوربون لو جور" بتاريخ 12 أيلول 2000 يقول فيه: "الأحزاب ذات العقائد القديمة المتحجرة والطابع المنغلق والعنصرية انتهت. الاحزاب ذات العقائد التي تحرك بما يسمى "امة سورية" أو "امة عربية"، ليس هناك "امة سورية" أو "امة عربية" بل هناك ثقافة كبيرة جداً عربية هائلة، مسيحية إسلامية تعود إلى آلاف السنين".

 

ثم يقول الأب عبو: " أما الغاية المميزة للخطاب الإيديولوجي في هذا الإطار (غير جدير بالاحترام) فهي التغني بالخدمات الجلة التي قدمتها سوريا وجيشها إلى اللبنانيين. أوَ لم تهرع إلى نجدة المسيحيين عام 1976، يوم كانوا مهددين بالإبادة على يد أعدائهم المسلمين، أوَ لم تضع حدا لاقتتال الأخوة، وتعد السلم الأهلي إلى البلاد؟ أوَ لم تسكب دماء جنودها ليحيا لبنان؟ إن هذه اللائحة الطويلة والمملة من الأكاذيب التي تبناها وزير الإعلام السوري المتغطرس... رد عليها يوم ذاك غسان تويني ردا لاذعا. فبعدما ذكر بان الفلسطينيين، لا المسلمين، الذين سلحتهم سوريا هم الذين هددوا المسيحيين بالإبادة عام 1976، فضح الطابع الوقح والمرير للتدخل السوري في لبنان طوال سنوات الحرب" (جريدة النهار في 20/3/2001).

 

ثم يعو الأب عبو في خطابه السنوي لسنة 2002 إلى معالجة الموضوع ذاته من منطلق آخر، مستشهدا بأطروحات "فوكوياما" و"هنتنغتون"، للتبشير بالحضارة الغربية، وهو ناطق محلي باسمها، ومسفها الحضارة العربية الإسلامية وتجلياتها السياسية والنضالية، وخاصة مفهوم الجهاد في الإسلام، والذي يمثل في رأي الأب عبو الإرهاب في وجه الحداثة الغربية، فيقول: "إن أطروحات فوكوياما (في كتابه نهاية التاريخ) وهنتنغتون (في كتابه صدام الحضارات) تلتقيان على أمر مشترك. فالحضارة الغربية، سواء كانت المصير المحتوم لسائر الحضارات، أم دخلت معها في نزاع، هي في نظر نفسها وفي عيون الآخرين، الحيز الذي تتجسد فيه الحداثة بامتياز. وعلينا بالتالي أن نفهم الإرهاب الذي غدا اليوم معولما، كردة فعل قوية على قيم هذه الحداثة. والفكرة هذه ليست بالطبع جديدة، وقد سبق لي أن كتبت في هذا الشأن عام 1986 ما يلي "إن سياسة القتل التي يتبناها أصوليو العالم الثالث ضد الغرب في الوقت نفسه سياسة انتحارية. فالتخريب الذي يمارسونه هو في جوهره تقهقر، مهما ادعوا التجديد الجذري. فعلى سبيل المثال، سواء اكتفى أنصار التيارات الإسلامية المتطرفة جميعهم في الشرق الأوسط بتزيين خطابهم بموضوعات قرآنية أم ألبسوه مبهرجات يسار غربي ما، فهم إنما ينادون بالعودة نفسها إلى التقاليد الأكثر رثاثة، وبرفض قيم الحداثة نفسها. ويمكننا أن نراهن بثقة على أن هذه الأقلية الفاعلة والمخيفة لا تمثل داخل الإسلام خميرة فتح جديد، بقدر ما تمثل انتفاضة هذا التيار المحتضر الأخيرة في مواجهة مقتضيات حداثة لن يمكنه أن يؤخر أجلها إلى ما لا نهاية". ثم ينعي "جمود لبنان" بسبب "خضوعه لدولة الوصاية التي تمنعه من تحقيق شروط الدولة الحديثة وتضطره إلى التخلف". ودولة الوصاية المعنية هي طبعا سوريا، وليست إسرائيل التي كانت تحتل قسما كبيرا من لبنان في ذلك الحين. أما "الإرهابيون" و"المخربون" الذين يعنيهم الأب عبو، ويصب عليهم جام غضبه في سنة 1986، فلم يكونوا سوى رجال المقاومة اللبنانية، من إسلاميين وقوميين ويساريين الذين يدمجهم تحت عباءة الأصولية المعادية "للحداثة" الإسرائيلية الغربية.

 

ثم يكرر الأب عبو هجومه على الحضارة الإسلامية وعدائيتها للمسيحيين واليهود فيقول أن الإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 "يدع مجالا للاعتقاد أن غير المسلم لا يتمتع بالكرامة نفسها التي يتمتع بها المسلم... أما في نظر التيارات الإسلامية المتطرفة، فان غير المسلم لا يستحق حتى أن ينال الحماية فيتوجب قتاله. فهذا هو معنى محاولاتهم المتكررة لتعبئة البلدان الإسلامية وجرها إلى الدخول في "الجهاد" ضد الغرب باعتباره ائتلاف مصالح بين المسيحيين واليهود (جريدة السفير في 20/3/2002).

 

إن هذا الخطاب التعبوي هو حقا "غير جدير بالاحترام". فالأب عبو ليس جاهلا إلى درجة انه لا يدرك بان المسيحية الشرقية، وكذلك اليهودية ازدهرتا في حصن المجتمع الإسلامي بل وكانتا في مراكز السلطة الإسلامية، عكس ما حصل في المجتمعات المسيحية الغربية التي لا تقبل الآخر وترفض التعايش معه. كما أن هذا الخطاب التعبوي يتماهى بل ويتطابق مع الخطاب الإمبريالي الصهيوني في أبسط أشكاله العنصرية. فهو يسقط العدوانية الاستعمارية والإمبريالية والصهيونية كدوافع للجهاد. بل انه لا يعترف بهذه العدوانية على الإطلاق بل يفهمها كفعل حداثة وتحديث تتصادم مع نقائضها من المفاهيم مثل "الوطنية" أو "الإسلامية" والتعبيرات السياسية الإرهابية والتخريبية عنها. ويرى أن الاستعمار الفرنسي كان "حماية" للبنان، في سياق حديثه عن ميثاق سنة 1943، فيقول إن هذا الميثاق هو "صيغة النفي المزدوج الشهيرة "لا شرق ولا غرب" أي قبول المسيحيين بالتخلي عن حماية فرنسا، في مقابل المسلمين بالتخلي عن الوحدة مع سوريا" (جريدة النهار في 20/3/2001).

 

وليس الأب سليم عبو هو المعبر الوحيد، وصاحب الوزن السياسي والفكري عن هذه "الوطنية اللبنانية" المتماهية مع الغرب الاستعماري بكل تلاوينه، والمعادية للمحيط العربي الإسلامي بكل تعابيره الفكرية والحضارية والسياسية، إذ إننا نجد في المجامع البطريركية المتعاقبة تعبيرات مماثلة في جوهرها، ولو بصيغة أكثر لباقة وهدوءاً.

 

فالموقف الذي يتخذه المجمع البطريركي لا يعبر عن موقف الكنيسة المارونية فقط، وكما يقول المجمع نفسه، بل يعبر عن رأي الطائفة المارونية كلها، إذ يقول: "فالكنيسة مسؤولة عن رسم الخطوط العريضة للنهج الماروني في السياسة والشأن العام. وهي وحدها كفيلة في أن تدعو الموارنة، أينما وجدوا، إلى الالتزام بقيم ومبادئ ومثل الاستقامة في العمل السياسي والنزاهة والأخلاق في التكرس للشأن العام والدفاع عن الحريات العامة وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية واحترام التعددية في المجتمع الذي يعيشون فيه، والحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية" (السفير في 8/7/2004).

 

لم تعد مملكة الكنيسة المارونية "من غير هذا العالم" فقط، بل أصبحت من هذا العالم أيضا. فهي ترسم الخطوط العريضة للنهج الماروني في السياسة والشأن العام وتحدد النهج الاقتصادي والاجتماعي للنظام اللبناني عبر الالتزام بالنظام الاقتصادي الحر، المعمول به في المراكز الرأسمالية العالمية. ويذكر المجمع بالمذكرة التي قدمها البطريرك والمطارنة إلى رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري في 6 آذار 1998 والتي تقول: "المشكلة السياسية القائمة هي أساس كل المشاكل والأزمات التي نعاني منها، وان المسيحيين عامة والموارنة خاصة لا يقبلون بعد اليوم بالوضع الراهن الذي يغيب دورهم ومرجعيتهم" أي دور الكنيسة المارونية السياسي.

 

ويقسم المجمع البطريركي اللبنانيين على أسس طائفية واضحة، بين مسيحيين ومسلمين. فهموم كل فئة منهم تختلف عن هموم الفئة الأخرى. والهموم ليست اقتصادية واجتماعية، ليست معيشية وتتمثل بالإفقار المتمادي وارتفاع معدلات البطالة، وافتقاد المواطن اللبناني لأبسط حقوق الإنسان في العمل والسكن والطبابة والاستشفاء والعلم والأمن، بل إن الهموم الأساسية هي على صعيد آخر فيقول: "إلا أن للهموم المسيحية وليس فقط المارونية خصوصية معينة. فبينما الهموم الإسلامية مطلبية في مضامينها وتوجهاتها، فان الهموم المسيحية المتعلقة بالشأن السياسي وجودية، نشير إلى أهمها: الحرية وتحديدا في الممارسة السياسية، السيادة الوطنية، أسس العيش المشترك ومضامينه وطبيعة العلاقة مع سوريا صاحبة القرار الحاسم في السياسة اللبنانية الداخلية والخارجية منذ انتهاء الحرب إلى اليوم".

 

فالمجمع لا يتكلم باسم الموارنة فقط بل ينطق باسم جميع المسيحيين ويحدد همومهم الوجودية، ربما هي مسألة حياة أو موت. وواضح أن كل هذه المطالب لا تتعلق ببنية النظام اللبناني الذي يخضع له جميع أبناء الطوائف اللبنانية، بل يتعلق بالتوجهات السياسية اللبنانية نحو الخارج، بطبيعة العلاقة اللبنانية السورية. ويرفض المجمع فكرة "وحدة المسار والمصير" بين البلدين، فيقول: "فلا مسار ومصيرا واحدا بين الشعوب والدول، بل تعاون صادق وفاعل في مجالات متعددة لمصلحة الطرفين" (نفس المصدر).

 

كما أن المجمع لا يميز في العلاقة مع دول الجوار ونهجها تجاه لبنان بين دولة وأخرى، بين دولة عدوة كإسرائيل، ودولة شقيقة كسوريا، ولا يميز بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان ودخول الجيش السوري إليه، بين الدور الذي لعبته إسرائيل في لبنان، والدور الذي لعبته سوريا، فيقول إن الحرب منذ شهر نيسان 1975 "هي منذ بدايتها إلى نهايتها سلسلة حروب أهلية وإقليمية متداخلة، شارك فيها مباشرة اللبنانيون والفلسطينيون إضافة إلى سوريا وإسرائيل، وفي ما بعد إيران الإسلامية وعدد كبير من الدول العربية" (السفير 9/7/2004). ويغض المجمع البطريركي الطرف عن "التدخل" الأميركي العسكري المباشر وقصفه مناطق عديدة في الجبل بقذائف الدبابات والبوارج الأميركية، منها "نيوجرسي".

 

إن هذه الرؤية للمجتمع اللبناني، وهذا التفاوت في الهموم بين أبناء الطوائف، ربما يعود إلى فروقات حضارية أو عنصرية بين المسيحيين والمسلمين. فالمجمع يدعو الموارنة، وربما يقصد موارنة المركز (جبل لبنان) إلى الانغماس في الحياة السياسية اللبنانية، بدل المقاطعة أو اليأس والابتعاد والانزواء فيقول: "في هذه الظروف الصعبة، إذا انكفأ الموارنة عن تأدية واجبهم واستقالوا من دورهم كمواطنين، واستسلموا لليأس والشعور بالعجز والانتقاد والاتهام والتشكيك واكتفوا بالمراقبة من بعد، والمطالبة بالحلول السحرية، وانتظروا حتى تسوى وتكتمل الشروط والظروف ليدخلوا الشأن العام، يكونون كمن يعاقب نفسه، ويترك الساحة لأشخاص أقل كفاءة وأخلاقا وفضائل يستولون على قضاياهم العامة"( السفير 10/7/2004). فمن هم الأقل كفاءة وأخلاقا وفضائل من اللبنانيين؟

 

 إن رؤية الذات ورؤية الغير، والشعور بالانتماء لوطنية لبنانية متعالية ومعادية للمحيط ومتعادية مع العروبة والإسلام، ومتماهية مع فكر وتراث وتاريخ أوروبي استعماري، تتناقض مع رؤية الآخرين إلى لبنان كجزء من وطن عربي كبير، وكرؤية للذات والانتماء العضوي للمحيط العربي الإسلامي، مع ما يفرض هذا الانتماء من واجبات التضامن وأعباء المشاركة في النضال وتحمل تبعات التصدي للهجمة الامبريالية والصهيونية، ليس للأرض اللبنانية فقط، بل للمحيط بشكل عام. إن هاتين الرؤيتين المتمايزتين للذات والمحيط تؤديان إلى موافق متناقضة مبدئيا للعلاقات السورية اللبنانية، ولموقفين متناقضين من المقاومة اللبنانية، إسلامية كانت ام قومية ام يسارية، ضد العدو الإسرائيلي وتهديداته.

 

 

العلاقات الاقتصادية

يحكم العلاقات الاقتصادية بين لبنان وسوريا عاملان أساسيان: الإيديولوجيا "أو الوطنية اللبنانية" ومصالح الطبقات الحاكمة في البلدين. إن الرؤية أو المواقف الفكرية، تتعدى القضايا والعلاقات السياسية إلى العلاقات والروابط الاقتصادية، ليس مع سوريا فقط، بل مع المحيط العربي بشكل عام. وهذا الإشكال في العلاقات الخارجية ليس إشكالا جديدا، بل هو قائم منذ قيام الكيان اللبناني، وما زال فاعلا وبقوة في يومنا الحاضر. فهذه الوطنية اللبنانية تفهم بشكل جيد الترابط بين السياسية والاقتصاد. وبما أنها تغلب السياسة على الاقتصاد، فان رؤيتها للعلاقات الاقتصادية مع دول المحيط العربي الإسلامي تحكمه الرؤية الإيديولوجية "للأمة" اللبنانية، المتميزة والمتعالية على المحيط.

 

ومفهوم "الأمة" يرتبط بالطائفة وامتيازاتها وسلطتها أكثر مما يرتبط بحدود الوطن. فحدود الوطن، أو ارض "الأمة"، قابلة للتوسع أو الانكماش تبعا لقدرة "الأمة" بمحتواها الطائفي والسياسي على السيطرة والسيادة. فإبان عهد الاستعمار الفرنسي، قدم آميل اده مشروعا يقضي بإعادة مدينة طرابلس ومحيطها إلى الدولة السورية بغية تخفيض عدد المسلمين لإبقاء السيطرة المارونية المسيحية على الكيان اللبناني. وتم رفض هذا المشروع، رغم ثقل وزن ما يمثله آميل اده، من قبل سلطات الانتداب، مراعاة لمصالح شركة مرفأ بيروت، ومصالح طبقة التجار والوكلاء التجاريين، مخافة أن تستعمل سورية مرفأ طرابلس بديلا عن مرفأ بيروت[3].

 

وقد طغى هم الانفصال الكامل عن سورية، حتى إبان الاحتلال الفرنسي. في عهد الاحتلال، كانت الوحدة الاقتصادية قائمة وكاملة بين لبنان وسورية. لم يقم الاستعمار الفرنسي هذه الوحدة، بل هو أبقى عليها انسجاما مع المصالح الاقتصادية الفرنسية وتسهيلا لإدارة البلدين المحتلين. يقول طرابلسي: "عاش لبنان وسورية في ظل الانتداب في وحدة جمركية واقتصادية، يشاركان في نقد وطني مشترك، ومصرف إصدار واحد (بنك سورية ولبنان) وموازنة ذات مصدر مشترك ونظام ضريبي واحد وما إليها. وكانت المصالح المشتركة دائرة فرنسية تابعة للمفوضية الفرنسية، وتراقب الشركات ذات الامتياز التي تسيطر على قمم الاقتصاد في البلدين... كذلك كانت تشرف على الجمارك والمرافئ والأشغال العامة والمحاضر الصحية والبريد والبرق والتلفون والآثار والأرصاد الجوية الخ..."[4].

 

وبسبب اختلاف بنية الطبقتين البرجوازيتين الحاكمتين في كل من لبنان وسورية، ودورهما الاقتصادي، نشأت خلافات سورية لبنانية في ظل الاحتلال الفرنسي. فبينما كانت البرجوازية اللبنانية، برجوازية تجارية وخدماتية، تتمحور حول دور بيروت المرفأ وحركة الخدمات المالية والتجارية للداخل السوري كما للبنان، فان دور البرجوازية السورية كان دورا إنتاجيا في حقلي الزراعة أولا ومن ثم الصناعة الخفيفة. والتناقض بين الدورين يدفع إلى إتباع سياسات متفاوتة بل ومتناقضة. فعندما وضعت الحكومة السورية ضريبة على الصادرات اللبنانية لسورية، رد لبنان بالمثل. ولكن الخلاف بقي محصورا في ظل الاحتلال الفرنسي، ووحدة الإدارة الاقتصادية بين البلدين. وفي سنة 1944، سلمت فرنسا إدارة الجمارك لجنة مشتركة سورية لبنانية "ولكن عملها لم سهلا وانتهت بالخلافات سنة 1948"[5] .

 

ولن ندخل في تطور الخلافات بين البلدين التي انتهت بقطيعة اقتصادية في أوائل الخمسينيات، نتيجة رؤيتين مختلفتين على صعيدي السياسة والاقتصاد بين الطبقتين الحاكمتين. ولكن هذا التباين بين النظامين اتسع كثيرا نتيجة التحولات السياسية والطبقية في سوريا، والتي أدت إلى سقوط الطبقة البرجوازية في الحكم، وإتباع سياسة راديكالية اشتراكية في سورية، والتي جعلت من عودة التوافق والوحدة الاقتصادية أمرا مستعصيا.

ولكن الخلافات لم تكن مجرد تعارض بين سياستين اقتصاديتين، وخاصة إبان عهد الاستعمار وحتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، بل إن المشكلة المركزية في هذا الإطار كانت "عقائدية" أيضا.

 

فمنذ إنشاء دولة لبنان الكبير، كان يسود خوف لدى "الكيانيين" اللبنانيين من الوحدة الاقتصادية مع سورية، على اعتبار أن هذه الوحدة تشكل مقدمة محتومة للوحدة السياسية، وبالتالي على الكيان اللبناني بطابعه الطائفي والعقائدي في مطلع عهد الاستعمار، وتحديدا في أيلول 1921، عبر البطريرك الياس الحويك، صراحة، عن هذه الخشية، مما حدا بالجنرال غورو، بمناسبة افتتاح خط سكة الحديد الذي يربط طرابلس مع حمص، أن يهدئ من مخاوف البطريرك، والقول أن ربط المواصلات بين البلدين "لا يمكن أن تمس مشاعر الوطنيين البالغي الحماسة لاستقلال لبنان والأشد قلقا عليه". ويقول طرابلسي، في توضيح العلاقة الاقتصادية بين البلدين: "حقيقة الأمر أن الانتداب، إذا كان عمد إلى التقسيم السياسي "لسورية الكبرى"، إلا انه تعاطى معها بما هي وحدة اقتصادية، وقد حقق بذلك قدرا لا يستهان به من الوحدة والتكامل بين أجزائها في إطار تبادل كولونيالي مع المركز قائم بالدرجة الأولى على إنتاج المحصول الزراعي الأوحد للمصانع الفرنسية، القطن السوري والحرير الخام في لبنان، واستيراد المنتجات الصناعية"[6].

 

ولكن هذا السلوك الفرنسي لم يهدئ إطلاقا من خوف "الكيانيين" اللبنانيين من مخاطر الوحدة الاقتصادية بين البلدين. فقد واظب جورج نقاش، صاحب جريدة "الأوريان" خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، بالتذكير أن الوحدة الجمركية بين الدويلات الألمانية، عام 1834، "الزولفيراين"، أدت إلى الوحدة القومية الألمانية[7].

 

وبالرغم من أن هؤلاء "الكيانيين" اللبنانيين كانوا يدركون مدى الترابط الاقتصادي بين البلدين، ومدى الضرر الذي يمكن أن يلحق بالاقتصاد اللبناني نتيجة القطيعة الاقتصادية، فان الأولوية أعطيت للسياسة بدل الاقتصاد. ويقول يوسف السودا في هذا الموضوع: "لبنان الصغير موت اقتصادي، والوحدة الاقتصادية مع سورية موت سياسي"[8].

 

واستمر خوف "الوطنية اللبنانية" من الوحدة الاقتصادية مع سورية أو مع مجموعة من الدول العربية قائما حتى اليوم. وفي الماضي القريب، في سنة 1998، عندما دعا وزير النقل اللبناني عمر مسقاوي إلى وحدة جمركية مع سورية "كما كان حاصلا في عهد الانتداب الفرنسي"، رد عليه العميد ريمون اده من منفاه الفرنسي محذرا من هذه التوصية ومستحضرا معاهدة "الزولفيراين" ليؤكد أن أي وحدة جمركية "مع دولة واحدة أو عدة دول عربية" سوف تؤدي إلى الوحدة السياسية، وهذا طبعا أمر مرفوض من قبل "الكيانيين" اللبنانيين[9].

 

ومنذ شهر كانون الأول 2004، تشن الصحف اللبنانية هجوما واسعا على معاهدة التيسير العربية، الهادفة إلى إزالة الحواجز الجمركية أمام التجارة البينية العربية على صعيدي السلع والخدمات المنتجة في الدول العربية، وقد وقع لبنان هذه المعاهدة منذ اقل من خمس سنوات، والتي أعطت مهلة سماح لخمس سنوات بغية تمكين قطاعات الاقتصاد في الدول العربية المختلفة من التكيف مع هذه المعاهدة. وفجأة ودون مقدمات، علت أصوات العديد من المزارعين والأكاديميين منددة بهذه المعاهدة ومخاطرها على الزراعة اللبنانية، وداعية إلى تأجيل تطبيقها بالنسبة للواردات اللبنانية من السلع المستوردة من الدول العربية.

 

وتحت عنوان "اعتراضات واسعة على اتفاقية التيسير العربية في بعلبك"، كتب مراسل جريدة السفير يقول: "... بسؤال العديد من المزارعين في منطقة بعلبك عن الاتفاقية، أفاد القسم الأكبر منهم... بعدم معرفتهم أصلا بالاتفاقية ولا ببنودها ولا بمضامينها... وأكد جميع من التقتهم "السفير" أنهم لم يروا نص الاتفاقية، ولم يبلغهم احد بأي شيء عن الموضوع"( جريدة السفير بتاريخ 2-12-2004).

 

وتحت عنوان "مزارعو المتن يتخوفون من مواجهة "التيسير""، كتب مراسل السفير ما يلي: "قبل نحو أربعة أشهر، طالب مزارعو التفاح والأشجار الجبلية المثمرة في المتن الأعلى، في كتاب رفع إلى المسؤولين في الدولة "بوقف اتفاقية التيسير التجاري العربي وإعادة الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية المستوردة إلى لبنان إلى ما كانت عليه... إن المزارعين استشفوا مسبقا المخاطر الناجمة عن هذه الاتفاقية التي ستشرع أبواب الهجرة من خلال ضرب القطاع الزراعي" كما يؤكد المزارع حبيب أنطون... وأشار رئيس الجمعية التعاونية في ترشيش غابي سمعان إلى أن "وزارة الزراعة لم تبادر إلى وضع خطة لحماية المزارعين"، واعتبر عفيف مغربي أن "قطاع التفاح سيندثر إذا تم تطبيق الاتفاقية"... أما على صعيد قطاع الصنوبر، فيرى الزارع طوني صليبا أن "الواقع المأساوي سيستمر... لأن الدولة لم تتمكن من تهريب الصنوبر التركي والصيني" (السفير بتاريخ 13-12-2004).

      

واضح مما ورد أعلاه أن المزارعين لا يدركون شيئا عن الاتفاقية ومخاطرها عليهم. فلبنان هو المصدر للتفاح وأثمار "الأشجار الجبلية" ولا يستورد شيئا منها من الدول العربية، وبالتالي فهؤلاء المزارعون هم المستفيدون من اتفاقية التيسير العربية. أما تركيا والصين، فليستا دولتين عربيتين تصدران الصنوبر إلى لبنان.

 

ولم تقتصر معارضة اتفاقية التيسير العربية على مزارعي الأشجار المثمرة، بل انتقلت إلى جامعة الحكمة، التي لم تبد في أي يوم أي اهتمام بقطاع الزراعة والمزارعين؛ فقد افتتحت جامعة الحكمة مؤتمرها تحت عنوان "لبنان واتفاقية التيسير العربية، آفاق وتحديات"، الذي نظمته كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة، ومركز النزاعات وسبل حلها، بالتعاون مع جامعة باريس2، كلية جون ونيه. وألقى رئيس أساقفة بيروت ولي الحكمة، المطران بولس مطر كلمة جاء فيها: "وإذا أردنا اليوم أن تكون لنا سوق عربية مشتركة، فمن الضروري جدا أن تنفتح الدول بعضها على بعض أولا عبر الأنظمة الديمقراطية وانفتاح الناس وتبادل الأفكار وهذا ما نفتقده الآن" (السفير بتاريخ 15-12-2004).

 

ما ورد أعلاه جزء من الحملة المستمرة ضد اتفاقية التيسير العربية والتي شارك فيها من لا شأن لهم بالزراعة ومن المستفيدين من تنفيذ هذه الاتفاقية مثل مزارعي الحمضيات والأشجار المثمرة الأخرى. فهذه الحملة ليست نابعة من "خطر" الاتفاقية على الزراعة في لبنان، بل من خطرها على "الوطنية" اللبنانية أو "الكيانية" اللبنانية. إن جميع الإجراءات الجمركية التي فتحت المجال واسعا في السابق لإغراق لبنان بالمنتجات الزراعية، وقتل الزراعة اللبنانية، أمام صادرات زراعية معينة بمعدلات مرتفعة لم يثر أي اهتمام لهؤلاء. واتفاقية الشراكة اللبنانية الأوروبية، والتي تشكل خطرا قاتلا لمعظم قطاعات الإنتاج، وخاصة الإنتاج السلعي، مرت أو مررت دون ضجة ودون نقاش بالرغم من خطورتها الشديدة على الاقتصاد اللبناني.

إن اتفاقية الشراكة الأورومتوسطية مع لبنان تضع شروطا سياسية، كما تحدد النظام اللبناني وطبيعته، وتفتح السوق اللبنانية واسعة أمام تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال الأوروبية المتطورة وذات القدرات التنافسية العالية، دون قيد، مما يشكل إطارا واسعا لعلاقات التبعية الاقتصادية والوصاية السياسية على لبنان.

 

من المعلوم، كما ورد في فصول سابقة، مقدار الدعم الأوروبي لقطاعات الإنتاج الأوروبية، وخاصة لقطاع الزراعة، بحيث يصل معدل الدعم إلى أكثر من 35 في المئة من ثمن هذه السلع، ويصل بعض الدعم إلى أكثر من 50 في المئة من ثمن السلع مثل الألبان ومشتقاتها. إن ذلك مكن أوروبا من أن تصبح المصدرة الأولى للإنتاج الزراعي في العالم، والتي تغرق بلدان العالم الثالث بإنتاج زراعي مدعوم بنسب عالية.

 

وفي مقدمة الاتفاقية، تم التشديد على الأهمية التي توليها المجموعة الأوروبية ولبنان لمبادئ التجارة الحرة، المضمونة باتفاقات الغات (GATT) لسنة 1994، وبالاتفاقات المتعددة الملحقة، المؤسسة لمنظمة التجارة العالمية (WTO). كما تقول الفقرة الأولى من الاتفاقية، إنها تهدف إلى "وضع الأسس للتحرير المتدرج للتجارة في السلع والخدمات وحركة رؤوس الأموال"[10]. كما ورد في الفقرة الثالثة من الاتفاقية، وانه "سيتم إقامة حوار سياسي بين الفريقين، سيساهم في بناء روابط أبدية للتعاون بين الفرقاء والذي سوف يسهم بازدهار واستقرار وأمن منطقة المتوسط، ويحدث مناخا للتفاهم والتسامح بين الثقافات... ويسهم في الجمع بين الأمن والاستقرار في منطقة المتوسط وفي الشرق الأوسط بالخصوص"[11]، والذي يعني قبول إسرائيل والتسامح معها، وتفهم ثقافتها، وإقامة علاقات سلام دائم دون شروط أو دون أي إشارة إلى الحقوق العربية المغتصبة في فلسطين وخارجها.

وتحدد الفقرة السادسة وتيرة تخفيض الرسوم الجمركية اللبنانية أمام السلع الأوروبية المستوردة، بحيث يتم إلغاء جميع هذه الرسوم، بغض النظر عن استمرار سياسة دعم الإنتاج الزراعي الأوروبي، بحيث تختفي هذه الرسوم كليا وعلى جميع السلع خلال 12 سنة من بدء العمل بهذه الاتفاقية[12].

  

وتمنع الفقرة 18 لبنان من إدخال ضرائب جديدة على الواردات من أوروبا، أو رفع معدل تلك المعمول بها. والمعروف أن الحكومة اللبنانية قد خفضت الرسوم الجمركية على جميع الواردات، إلا عددا محدودا منها، إلى خمسة في المئة قبل توقيعها اتفاقية الشراكة.

 

ويحدد البروتوكول الأول السلع الزراعية المسموح تصديرها إلى السوق الأوروبية، وحجم استيراد كل سلعة (كوتا الاستيراد) ومعدلات الضرائب الأوروبية عليها، بينما يحدد "البروتوكول" الثاني واردات لبنان من السلع الزراعية الأوروبية، بحيث يسمح باستيراد جميع أنواع السلع الزراعية إلى لبنان دون "روزنامة" زراعية، ودون تحديد لكميات الاستيراد، وبجمارك تبدأ بخمسة في المئة وتنتهي بصفر بعد خمس سنوات، وقليل من السلع تبدأ بسبعين في المئة وتنتهي بعشرين في المئة بعد خمس سنوات أيضا.

 

بجانب كل ذلك، هنالك المقاييس والمواصفات الأوروبية الصارمة التي تحول دون دخول السوق الأوروبية للعديد من السلع اللبنانية، وقد أدت فعلا إلى منع دخول هذه السلع، مثل "الفريز" اللبناني بسبب ارتفاع نسبة البوتاس فيه، والعنب اللبناني لآثار الكبريت عليه، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

 

إن اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية بشكل عام، وقبل انضمام لبنان إليها قد فشلت، بسبب شروطها السياسية كما الاقتصادية. فقد بدأت هذه الشراكة في برشلونة سنة 1995، في ظروف عربية غير ملائمة، بسبب التداعيات السياسية في ذلك الحين، ولأنها "ليست مبنية على حوار أوروبي عربي حقيقي، يشمل مجموعة البلدان الأوروبية والعربية، على حد سواء. وثانيا لأنها كانت منذ ولادتها تملك هدفا ملازما لها هو فرض اندماج إسرائيل في المنطقة، في حين أن هذا البلد يجب أن ينفى من المجتمع الدولي بسبب سياسته العنصرية بإزاء الفلسطينيين... وان عملية الشراكة الأوروبية المتوسطية... لا تواجه عطلا طارئا فحسب بل هي أخفقت تماما، وقد كان هذا الإخفاق متوقعا" (النهار، 16-12-2000)، كما يقول سمير أمين. ويقول كذلك إن الفصل ما بين الدول العربية المتوسطية والدول العربية غير المتوسطية "هو حقا أمر كارثي وغير مقبول... وما نحتاج إليه هو اتفاق أو حوار أوروبي عربي شامل، أي بين مجموعة البلدان الأوروبية ومجموعة البلدان العربية سواء كانت متوسطية ام لا".

 

أما السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تفرضها الدول الأوروبية على الدول العربية المشاركة، فنتائجها كارثية وواضحة لغالبية الناس: "مزيد من انعدام المساواة في توزيع المداخيل، ازدياد أشكال الفقر والتهميش والبطالة الخ... وهذه النتائج ملازمة لمنطق النموذج النيوليبرالي المعولم" (نفس المصدر السابق).

 

باختصار شديد، إن اتفاقية الشراكة الأوروبية اللبنانية، تتناقض سياسيا مع توجهات السياسة اللبنانية المعلنة منذ انتهاء الحرب الأهلية واندحار الاحتلال الإسرائيلي، وان كانت تتطابق مع توجهات الطبقة الحاكمة وعلاقاتها الخارجية. وتؤدي هذه الاتفاقية إلى القضاء على قطاعات الإنتاج السلعي في لبنان، الزراعية والصناعية، وإلى طغيان قطاع الخدمات الأوروبي الأكثر حداثة وكفاءة، وتهميش قطاع الخدمات اللبناني (كما يظهر الآن في قطاع تجارة التجزئة، السوبر ماركت والمولز)، وإلى طغيان قطاع المال الأوروبي، وكشف السوق اللبنانية لتدفقات الأموال الساخنة الضاربة. أي إن هذه الاتفاقية تفرض تبعية لبنان للمركز الرأسمالي الأوروبي سياسيا واقتصاديا وثقافيا. انه استعمار جديد يتلاءم مع عصر العولمة الرأسمالية الأميركية الأوروبية.

 

إن هذه الاتفاقية تمر، رغم مخاطرها، دون معارضة أو نقد أو تشهير، وتثار الاعتراضات على اتفاقية "التيسير" مع الدول العربية، بفعل الإيديولوجيا، وليس بفعل المصالح.

 

 

الدخول السوري العسكري إلى لبنان ظروفه ونتائجه

ليست الإيديولوجيا المحدد الوحيد للمواقف السياسية بالنسبة للأفراد والجماعات، كما بالنسبة لمعظم الاحزاب السياسية. فكثيرا ما يتم تغييب الإيديولوجيا في حمأة الصراعات، وان المصالح الاقتصادية، كما العواطف والانفعالات وردود الفعل، تلعب دورا كبيرا في التوجهات النضالية والفكرية والسياسية. وبالتالي فان العلاقات السورية اللبنانية، ورؤية شرائح واسعة من الجماهير اللبنانية لها، وفهمها، يتأثر إلى حد بعيد بفهمها للأحداث وتفسيراتها للأفعال، كما بفهمها لمصالحها الحقيقية أو الموهومة، ونتيجة الاحتكاكات اليومية للجماهير اللبنانية مع الوجود السوري العسكري والأمني. ولفهم علمي للعلاقات السورية اللبنانية، ومواقف الجماهير الشعبية منها، لا بد من بحث ظروف دخول هذه القوات السورية النظامية إلى الساحة اللبنانية، ودوافع هذا الدخول، كما فهمته القيادة السورية.

 

ولفهم السلوك السوري في لبنان، لا بد من فهم كيفية اتخاذ القرارات الاستراتيجية في سورية، والعوامل الذاتية والمحيطة بمراكز اتخاذ القرار، وفهم الأحداث وترابطها في كل مرحلة من المراحل.

 

في سورية، كما في جميع أو معظم بلدان العالم الثالث، إن القرارات الاستراتيجية غير منوطة بالمؤسسات المختصة في السلطة، بل يتم اتخاذها من قبل الرؤساء أو القادة، بغض النظر عن شكلية السلطة وطبيعة النظام، ديمقراطيا كان ام أوتوقراطيا ام عسكريا، تعبيرا عن حكم الحزب أو الجيش أو القبيلة أو الطائفة. لذلك فان فهم القائد والعوامل التي شكلت شخصيته ضروري لفهم لاتخاذ القرارات.

 

فالمرور، ولو سريعا، على المراحل التاريخية والسياسات المتبعة من قبل دول المحيط، كما الدول المؤثرة والفاعلة في منطقة المشرق العربي، من صراعات وتحالفات، ضروري لفهم مسيرة وتطور الأحداث اللبنانية منذ انفجار الصراع فوق أرضه في سنة 1975. فالأحداث اللبنانية كانت نتيجة هزيمة 5 حزيران 1967، والقوى التي أطلقتها هذه الهزيمة، ثم حرب تشرين، ثم المساومات السياسية وسياسة الخداع التي اتبعتها الولايات المتحدة الأميركية بشخص وزير خارجيتها، هنري كيسنجر، لتحقيق أهداف سياستها الامبريالية في المنطقة. فهذه الحرب الأهلية كانت لها عواملها الداخلية الفاعلة، كما عواملها الاقليمية والدولية. إن تشابك هذه العوامل، وتشابك التحالفات ومتغيراتها شكل جوهر هذه الحرب، التي جاء الاجتياح الإسرائيلي، سنة 1982، في سياقها، وكجزء من الهجمة الامبريالية الصهيونية الشاملة على الوطن العربي.

 

وبما أن العامل الأهم، ومركز هذا البحث هو العلاقات السورية اللبنانية والدور الأساسي الفاعل والمقرر لسورية في لبنان، فمن الضروري فهم السياسة السورية ودوافعها في لبنان، وخاصة الرؤية السورية الاستراتيجية لدورها في المحيط منذ بداية السبعينيات، وهي في حقيقتها رؤية الرئيس حافظ الأسد.

 

إن هزيمة 5 حزيران وتداعياتها الاقليمية والسورية ترك أثرا كبيرا على فكر ورؤية الأسد  للداخل السوري كما للمحيط. فقد تحمّل وحُمّل جزءاً كبيرا من مسؤولية سقوط الجولان بأيدي العدو الإسرائيلي، ونتيجة التزامه بالفكر القومي العربي، ولشعوره بجسامة الهزيمة، أصبح الهم الطاغي لديه انتشال سورية من هذه الهزيمة الكبيرة، واستعادة الجولان كما باقي الحقوق العربية، وخاصة الحق الفلسطيني. وكان لديه معركة يخوضها في الداخل ضد حكم صلاح جديد وتوجهاته الإيديولوجية والإستراتيجية، والتي حملها الأسد جزء من مسؤولية الهزيمة، والتصدي للعدو الإسرائيلي، لاستعادة الأرض والحقوق.

 

إن هزيمة 5 حزيران، وفقدان الحكم شعبيته في الداخل نتيجة سياساته الراديكالية الطفولية جعل الأسد "يفترق عن زملائه الأكثر تطرفا، والواقع انه كان يتحرك نحو اليمين"[13]. لم يكن يؤمن بجدوى شن حرب طبقية في داخل سورية وخارجها، بل كان يعتقد أن رص الصفوف في الداخل لمواجهة العدو الخارجي، والتعاون السياسي والعسكري مع الدول العربية الأخرى، بغض النظر عن الإيديولوجيات، هو الطريق الصحيح لخوض المعركة مع العدو الإسرائيلي. وقد عبر الأسد عن هذا الموضوع في سنة 1976، عند دخول القوات السورية إلى لبنان، في حديث مع سفير أميركا في سوريا، مورفي، بتاريخ 7 آب، حين قال، حسب مورفي: "إن لبنان أصبح هدفا لقوى في العالم العربي، والتي تستطيع اقتلاع كل بنيته وتأتي بثورة شاملة.

 

والشيوعيون اللبنانيون يستغلون التيار الشعبي المحلي الذي يطالب بتغيير لبنان القديم. وحكومة الولايات المتحدة وبلدان أخرى، والمهتمة بإجراء تحولات سلمية في المنطقة، يجب أن تدرك هذه المخاطر في الأزمة اللبنانية. وهي ليست مسألة منع لبنان من أن يكون الشرارة التي تشعل مواجهة على صعيد المنطقة (بين العرب وإسرائيل)، وليست أيضا حربا أهلية بسيطة والتي يتطلب عدم إيقافها جهودا سلمية مستقبلية. المشكلة أعمق من هذا. إنها تؤثر على مستقبل التطورات في العالم العربي. فالسعودية ودول الخليج، لذكر اثنين فقط، لها مصالح بان لا تنتصر القوى الثورية[14]، كان هذا القول في أوج مرحلة الخداع الذي مارسه كيسنجر على الأسد، كما سنرى فيما بعد.

 

وكان للأسد رؤية مغايرة عن رؤية رفاقه للفدائيين الفلسطينيين. فبينما شدد رفاقه، بعد هزيمة 5 حزيران، على التزامهم ب"حرب التحرير الشعبية" كطريق لاستعادة الحقوق والأرض المغتصبة، رأى الأسد أن أهمية العمل الفدائي محدودة جداً، وان الجيوش النظامية وحدها قادرة على خوض صراع جدي مع إسرائيل. وان العمل الفدائي غير المنضبط يمكن أن يشكل عبئاً على الجيوش النظامية. يقول الأسد: "لم أكون في حياتي كلها مؤيداً للفوضى على الإطلاق ولن أكون. فالفوضى لا تؤدي إلاّ إلى الآلام... ولكن بينما أعارض الفوضى الفلسطينية في الأردن ولبنان أو أي بلدٍ عربي، فإنني أؤمن أن للفلسطينيين حقاً في إيجاد أرضية ينطلق منها نضالهم، في سورية والأردن ولبنان ومصر وأي مكانٍ آخر"[15].

 

ولقد سبق للأسد أن سجن عرفات في صيف 1966 عندما حاول عرفات انتهاج إستراتيجية مستقلة، تدعو في حقيقتها إلى "توريط" الأنظمة العربية في الحرب مع إسرائيل، وان يعمل خارج الرقابة السورية. "وشكّلت هذه الحادثة بوابة النفور الشديد والمتبادل بين عرفات والأسد"[16].

 

إن رؤية الأسد للعمل الفدائي لم تمنعه من التدخل لنجدة الفدائيين الفلسطينيين في الأردن، عندما عمد الملك حسين إلى تصفية وجودهم. ففي18-9-1970 عبرت الدروع السورية الحدود مع الأردن، وسيطرت على مدينة "أربد" في اليوم التالي. وكان الأسد يدير العمليات شخصياً من مقرِّ قيادةٍ متقدمٍ قي "درعا" على الحدود الأردنية السورية.

 

ولكن اللعبة كانت أكبر من كونها صراعاً بين الملك حسين والفدائيين. إذ كانت لها أبعاد إقليمية ودولية، فإسرائيل وأميركا كانا طرفين أساسيين في هذه المواجهة. "فقد كان نيكسون وكيسنجر مقتنعين بأن موسكو استعملت زبونها السوري والفدائيين الثوريين لإسقاط الحكومة الأردنية الموالية للغرب من أجل توسيع النفوذ السوفييتي... وهكذا... طلب "كيسنجر" من إسرائيل باحتواء ما تراه تهديداً"[17]، وخاصةً بعدما طلب حسين تدخلاً أميركياً أو إسرائيليا لمجابهة الدروع السورية.

 

وفي 21 أيلول اتفق كيسنجر مع السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، اسحق رابين، على خطة للتدخل الإسرائيلي، ووافق عليها الملك حسين، "تقضي بأن تشنّ إسرائيل هجمات بالطيران وبالدروع على القوات السورية" من أجل ذلك حشدت إسرائيل قواتها علنياً وبصخب إعلامي، لتنفيذ هذه الخطة. كما تمّ استنفار الأسطول الأميركي في شرقي المتوسط، لردع أي تدخلٍ سوفييتي. في هذه الأجواء، شنّ الملك حسين هجوماً بالدروع، مدعوماً بالطيران ضدّ القوات السورية في 22 أيلول. "تأكدّ الأسد من جدية الموقف... وقبل أن تهجم إسرائيل قام في 22 أيلول بالانسحاب إلى الجانب السوري من الحدود[18]. وحول هذا التدخل الأميركي الإسرائيلي يقول كيسنجر في كتابه "سنوات البيت الأبيض": "لو فشلنا في التحرك فإن أزمة الشرق الأوسط كانت ستزداد تعمقاً وتعقيداً عند استيلاء المتشددين والسوفييت المشرفين عليهم على زمام المبادرة."

 

إن هذا الدرس الأردني سيكون له أثره العميق والكبير على فكر الأسد عند انفجار الأزمة اللبنانية في سنة 1975.

 

ثم كان أن قفز الأسد إلى السلطة وأزاح رفاقه المتشددين، وأحدث تغييرات عميقة في بنية أجهزة السلطة وعلاقاتها بالجماهير الشعبية، بغية تمكين الجماهير من التعبير عن آرائها ومصالحها وفك عزلة النظام عنها. فأعاد تنظيم الحزب ليصبح حزب السلطة والممسك بها. يقول باتريك سيل: "لم يعد الحزب حزب عفلق المعارض المليء بالمثاليين ذوي الأفكار الكبيرة السامية، بل أصبح هو الحزب الحاكم الّذي يعطي المؤسسات عمودها الفقري. وأصبح في الحقيقة سلماً للتسلق لسلالة جديدة من المحترفين".

 

بكلامٍ آخر أصبح مفتوحاً للانتهازيين والجياع للسلطة، وليس حزب حاملي مبادئ البعث القومية واليسارية. فقد مضت أيام النقاشات والحوارات الفكرية الساخنة والمفعمة بالأمل والأحلام، ومضى زمن صراع الآراء في المؤسسة الحزبية القادر على رفع قيادات جديدة وإزاحة قيادات أخرى. فقد أصبح الحزب أداة تنفيذية، أصبحت السلطات الفعلية في يد الرئيس الأسد دون منازع. "فالقول بأنه أوتوقراطي بالرغم منه ينصفه كثيراُ جداً... لأنه كان لديه شعورٌ قويٌ بأنه يعرف ما هو أفضل"[19]. وأصبحت العلاقات المطلوبة مع مساعديه علاقات ولاء لا علاقات رفاق. "كان من طبعه تقدير الولاء تقديراً عالياً"[20]. و"منذ البداية كانت القضايا الخارجية شغل الأسد الشاغل، فأصبحت ميداناً أساسياً محجوزاً للرئيس وكان الموظف التنفيذي الذي اختاره في هذا الميدان هو عبد الحليم خدام صديقه من أيام نضالهما في الحركة الطلابية"[21].

 

وكان لسياسة الخداع الأميركية الساداتية أثناء وبعد حرب تشرين آثارها العميقة والكبيرة على شخصية الأسد وفكره. فقد استطاع كيسنجر أن يخدع جميع القادة العرب وليس فقط القيادة السورية. وقد جارى في هذا الخادع إلى أبعد الحدود الرئيس السادات. فقد عمل السادات قبل حرب تشرين على إرضاء الولايات المتحدة والرضوخ لمطالبها وشروطها، بغية "تحريك" عملية السلام الموهومة. وبذلك أقدم على طرد الخبراء السوفييت ليظهر لأميركا استقلاله عن الإتحاد السوفييتي واستعداده للعمل معها. وصرح أن 99 في المئة من الأوراق في الشرق الأوسط هي في يد أميركا، وشنّ الحرب في تشرين، بغية التحريك السياسي، وليس بهدف استعادة التراب المصري، وقدم للقيادة السورية خطة قتال وهمية غير قابلة للتنفيذ على الجبهة المصرية، وهي غير الخطة التي أعدّ الجيش المصري لتنفيذها. وأوقف القتال على الجبهة المصرية في الوقت الّذي كانت الحرب على أشدها على الجبهة السورية. وسار على طريق المفاوضات مع إسرائيل وبرعاية أميركية منفرداً ومتخلياً عن رفاق السلاح الذين خدعهم في الحرب، وخدع القيادة الفلسطينية بمساعدة ومشاركة الأميركيين.

 

وكان لكيسنجر خطته الهادفة إلى تمكين إسرائيل من تحقيق جميع أهدافها... "ونسف أهداف العرب كلها. فأولاً أمّن لنفسه يداً مطلقة التصرف استعملها في إبعاد كل من السوفييت والأوروبيين ودول عدم الانحياز والأمم المتحدة، الذين كان يشتبه في كونهم جميعاً منحازين للعرب. ثم "سوق" الولايات المتحدة للعرب على أنها القوة الوحيدة القادرة على جعل إسرائيل تنسحب "من الأراضي العربية المحتلة في حزيران 1976". قال لمحمد حسنين هيكل في مقابلة صحفية بتاريخ تشرين الثاني 1973: "يستطيع الإتحاد السوفييتي أن يعطيكم الأسلحة، ولكن الولايات المتحدة تستطيع أن تعطيكم سلاماً عادلاً تعود إليكم  بموجبه أراضيكم"[22]. كما قلب نظرية الخارجية الأميركية التي كانت تقول بأن العم الأميركي لإسرائيل ينفر العرب من أميركا، إلى القول بأن "قيام تحلف أميركي-إسرائيلي قوي سيجعل العرب يأتون خاضعين مستجدين، قد يكرهنا العرب... لكنهم سيضطرون إلى المجيء إلينا"[23].

 

وكانت خدعة كيسنجر الكبرى لسوريا خلال سنتي 1975–1976، قبل وإبان تدخلها العسكري في لبنان، وذلك بالرغم من أن الرئيس الأسد قد أدرك أن كيسنجر قد خدعه في السنوات السابقة، وتمكن من عزل سورية إلى حدٍ بعيدٍ جداً. فالعلاقات السورية السوفييتية كانت واهنة وباردة، ولكنه عمل في ذلك الحين لإعادة الحرارة إليها. فالإتحاد السوفييتي كان شبه مطرود من الشرق العربي، نتيجة سياسات كيسنجر وخداعه. وكان موقف السعودية من سوريا مقلقاً وغير مؤكد بعد اغتيال الملك فيصل.

 

وكان العراق معادياً ومشغولاً بالتمرد الكردي الذي أذكاه كيسنجر عبر الدعم الإسرائيلي لهذا التمرد بالاتفاق مع شاه إيران، بغية منع العراق من تقديم أيِّ عونٍ عسكريٍ لسورية في حال نشوب حرب إسرائيلية سورية جديدة. وكان الأردن معادياً نتيجة معارك أيلول 1970 وإقحام الدروع السورية لمساعدة الفلسطينيين. باختصار، كانت سورية معزولة وضعيفة كما أرادها كيسنجر أن تكون. وعمل الأسد على استعادة علاقاته وتحالفاته الهشة وغير الموثوقة مع الملك حسين، الذي كان يشعر بالمرارة نتيجة عدم اشتراكه في مباحثات السلام الإسرائيلية. وعمل الأسد على استعادة التحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت تغازل أنور السادات وأميركا عبره، لاشتراكها في مباحثات السلام. وكان ذلك مجرد خداع أميركي مصري لمنظمة التحرير بغية إبعادها عن سوريا. قال كيسنجر في اجتماع مع سفراء أميركا في الدول العربية، عقد في باريس بتاريخ 22/6/1976: "إن السادات يستعمل عرفات لإنهاء عزلته... وبعد سنة من الآن، عندما نكون في وسط عملية السلام، وعندما تصيح منظمة التحرير: "وماذا عن الفلسطينيين؟" سيغلق السادات مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية ويلقي بهم إلى الخارج"[24].

 

إذن كان المحيط الإستراتيجي لسوريا في غير مصلحتها، وسعت إلى ترميمه بكل جهدٍ ممكن. وكان لبنان، وعلى رأس السلطة فيه، الرئيس سليمان فرنجية، يبدو صديقاً لسوريا، وتربطه بعائلة الأسد علاقات صداقة شخصية. وكان خوف الأسد من انكشاف خاصرته اللبنانية. في هذه الظروف انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية. وعندما استعرت نيرانها بين القوى الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية من ناحية، وقوى الانعزال وميليشياته من ناحية ثانية، وانقسم الجيش على أسسٍ طائفية، رأى الأسد في هذه الحرب مؤامرة لتقسيم لبنان. وخال أن ذلك هو "الهدف الصهيوني القديم"، وذلك في خطابٍ له أمام أعضاء المجالس البلدية السورية بتاريخ 20-7-1976، "كان كابوس الأردن سيتكرر في لبنان، فيمكن إسرائيل من مدِّ مجساتها إلى جناح سورية الغربي"[25]، كما يقول باتريك سيل، وان تقدير الأسد لهذا الوضع هو التالي: "إن كان للمؤامرة الأميركية ضده أن تحبط وتفشل فيجب إيقاف القتال في لبنان، لأنه كلما طال استمراره تزايدت فرص إسرائيل. كان ذلك واضحاً في ذهنه وكأنه صيغة معادلة رياضية... فأما أن يقيم الموارنة دولة مسيحية منفصلة تقوم بإدخال إسرائيل كحامية لها، وأما أن تتغلب القوى الوطنية المتشددة على الموارنة بدعم الفلسطينيين مما يؤدي إلى دخول إسرائيل لمعاقبتهم. فإذا تدخلت سوريا فأنها تواجه الاندحار، وإذا بقيت متنحية، سقط لبنان في أيدي العدو"[26].

 

فنتيجة هذه الرؤية الإستراتيجية، المحكومة إلى حدٍ بعيدٍ بتجربة الأسد في الأردن سنة 1970، توجهت القيادة السورية إلى إطفاء نار الحرب في لبنان مستخدمةً في البداية جيش التحرير الفلسطيني التابع فعلياً للقيادة العسكرية السورية، كما يقول كيسنجر. وعندما ظهر أن هذا الجيش غير قادرٍ على تنفيذ المهمة المطلوبة "بدأت سورية في البحث بإرسال وحدات نظامية من جيشها، المسألة التي شغلتنا منذ بدء الأزمة. وفي 14 آذار أخبر قائد الجيش السوري الشهابي، سفيرنا في سورية، ريتشارد مورفي، بأنه قد يئس من حل المشكلة اللبنانية دون إدخال وحدات نظامية من الجيش السوري، وبهدف الحفاظ على هدوء الحدود اللبنانية. وحذر سفيرنا بأن الإسرائيليين لن يقبلوا بذلك. فرد الشهابي، ربما لا يقبلون. ولكن الإسرائيليين ربما يفهمون، باتفاقٍ رسمي أو بدونه، بأنها ببساطة قوة لحفظ السلام. بكلامٍ آخر، إنها لن تكون قوة تشكل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل"[27].

 

وفي 18 آذار، أخبر الرئيس الأسد السفير مورفي بأن الرئيس سليمان فرنجية طالب بالتدخل السوري وانه "لن نكون عرباً إذا لم نمد يد المساعدة إلى إخوتنا"... وفي اليوم ذاته (يقول كيسنجر) وفي واشنطن أخبرني Atherton "أثرتون" أن عرفات كان يجري مباحثات مع مصر لدعمه ودعم قواته المسلحة ضد السوريين، وان مصر تتجه إلى التجاوب مع هذا الطلب". ويقول كيسنجر أن رابين اخبره في 23 آذار (بعد طلب أميركي بعدم التدخل الإسرائيلي لمنع دخول القوات النظامية السورية إلى لبنان" أن إسرائيل "لن تتحمل حركة القوات السورية إلى عمقٍ يتجاوز العشرة كيلومترات جنوب طريق دمشق بيروت. وهذا هو الخط الأحمر الشهير الذي حدد مناطق النفوذ الإسرائيلية والسورية"[28].

 

أما سبب اقتراح دخول القوات السورية من قبل الأسد، حسب تقدير كيسنجر فلأنها: "ستجنب تقسيم لبنان بين دولة مسيحية ودولة إسلامية، والتي لها مخاطر ثلاث للأسد: إنها ستخلق دولة جديدة في المنطقة والتي ستكون مجبرة على الاعتماد على الغرب، ستكون مقدمة ومثالاً يحتذى به للأقليات الإتنية للانفصال عن الدول القائمة في المنطقة، والقسم الإسلامي ستتم السيطرة عليه في الأرجح من قبل قوىً موالية للدول الراديكالية العربية. أما بالنسبة لنا، فلم نكن مرتاحين لتقسيم لبنان لأن ذلك سيوحد الدول العربية ضدنا، ولا يمكن الحفاظ عليه دون تدخلٍ عسكري كثيف"[29].

 

في هذه المرحلة، كان الهدف الإستراتيجي لكيسنجر، تمرير توقيع الصلح المصري الإسرائيلي، وإسقاط مصر بالتالي من النظام العربي، أو بالأحرى إسقاط النظام العربي برمته نتيجة انتزاع مصر منه، وتعطيل الدور السوري الذي يمكن أن يكون مُعطِلا لتوقيع الصلح العربي الإسرائيلي. ولذلك كان لا بد من إشغال سوريا في لبنان لعزلها عربياً، لتصبح عاجزة عن لعب هذا الدور المعطل. فكان أي تدخل إسرائيلي في لبنان يتناقض مع مشروع الصلح المصري الإسرائيلي ويفشله. وبالتالي، وفي ظروف العمل للصلح المصري الإسرائيلي، كانت أيدي إسرائيل مكبلة تماماً. لذلك نجد أنها لم تندمل بشكلٍ جديٍ في لبنان إلا بعد توقيع اتفاقية كامب دايفيد.

 

أما أميركا فكانت أيضاً عاجزة عن التدخل، كما يقول كيسنجر: "لا توجد فرصة لتدخل عسكري أميركي، بعد أقل من سنة من انسحابنا من سابغون، وبعد ثلاثة أشهر من تصويت الكونغرس لخروجنا من أنغولا، فأن الرأي العام الأميركي لن يقبل بالتدخل الكبير والطويل الأجل هناك"[30].

 

وبالتالي تفتقت عبقرية كيسنجر عن خدعة ضخمة، بل عن مؤامرة ضخمة، قلب كيسنجر مقولة: "إذا تدخلتم فإن سوريا ستتدخل" إلى عكسها قائلا: "إذا لم نتدخل فإن إسرائيل ستتدخل بالتأكيد" ولكن طبعاً بالشروط والخطوط الحمراء التي تضعها أميركا.

 

وتولى مبعوث كيسنجر، دين براون، الجانب اللبناني من المؤامرة. "زار جنبلاط في المختارة، وعبر عن تشاؤمه من مستقبل التعايش بين الدروز والمسيحيين الموارنة. وفهم جنبلاط من ذلك موافقة على التقسيم واستمرار الحرب"[31]، كما يقول باتريك سيل. ولكن كمال جنبلاط لم يكن يهدف إلى تقسيم لبنان، كما يخمن باتريك سيل، بل إلى تطبيق البرنامج المرحلي للحركة الوطنية، للحفاظ على وحدة لبنان وإصلاح نظامه السياسي والاقتصادي، حسب البرنامج المرحلي المعروف للحركة الوطنية.

 

"أما الزعماء المسيحيون الرئيسيون الثلاثة، فرنجية، الجميل، وشمعون، فقد أوضح لهم انه لا يمكن أن يتوقعوا الإنقاذ على يد البحارة والجنود الأميركيين كما حصل سنة 1958. ولكن خلاصهم يكمن في تقوية أنفسهم من خلال علاقات أوثق مع إسرائيل" كما يقول جوناثان راندل في كتابه "مأساة لبنان".

 

وأقنع كيسنجر إسرائيل بعدم التدخل إذا تدخلت سورية. وصرح كل من رئيس الأركان الإسرائيلي "مردخاي غور" ورئيس المخابرات العسكرية "شلومو غازيت"، بأن دخول الجيش السوري إلى لبنان، سيضعف الجيش السوري"[32].

 

كان هدف كيسنجر استمرار الحرب في لبنان، لدفع سورية إلى التدخل العسكري لكسر ودحر هجوم الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين، دون حدوث حرب إسرائيلية سورية. يقول باتريك سيل معلقاً على هذه المفارقة: "ولا بد أنه (أي كيسنجر) قد استطاب المفارقة الهائلة لموقف يضطر فيه الأسد إلى سحق الفلسطينيين بدلاً من حمايتهم، وذلك لمنعهم من التسبب فيما كان يخشاه أكثر من أي شيء، أي الغزو الإسرائيلي... فالفلسطينيون سيتم احتوائهم وضبطهم، واليسار سوف يتم احتواؤه، وموسكو ستصاب بخيبة أمل، والأسد سيتلوث وتنسف مكانته بسبب فعلة شنعاء في نظر العرب[33]".

 

فقد أطبق الفخ الذي نصبه كيسنجر لسورية. وأصبحت غارقة في الأوحال اللبنانية بعد ضرب الحركة الوطنية ومنعها من تطبيق برنامجها الإصلاحي، وأصبحت منهكة ومعزولة على الصعيد العربي، ومعزولة عن حليفها السوفييتي. وبالتالي فهي غير قادرة على إعاقة الصلح المصري الإسرائيلي، والذي كان الهدف الاستراتيجي لحكومة نيكسون ولوزير خارجية كيسنجر الذي قال: "... ولكن ما دام الأسد متناطحاً مع الاتحاد السوفييتي، ومشغولا في لبنان، فان قدرته على معارضة مشاريعنا ستكون منخفضة جداً[34]".

 

وبعد ذلك تحققت كل مخاوف الرئيس الأسد في لبنان، عبر التدخل الإسرائيلي لدعم القوى المسيحية اليمينية في قتالها للوجود السوري العسكري، ثم في الاجتياح الإسرائيلي للبنان، واشتباكها مع القوات السورية واحتلالها لنصف الأراضي اللبنانية، وفي تنصيب حكومة موالية لها كلياً في لبنان، وفرض اتفاق 17 أيار.

 

إن هذا الخطأ الاستراتيجي الكبير، ما زال فاعلاً في ذاكرة القوى الوطنية اللبنانية والقوى الفلسطينية أيضا. فقد أصبحت جزءاً من الذاكرة الشعبية، والتي يسهل استدعاؤها من قبل بعض القيادات والقوى السياسية والفئات الشعبية لإثارة العداء لسورية والعروبة عندما يكون ذلك في مصلحتهم، وفي مصلحة الهجمة الامبريالية الإسرائيلية على لبنان وعروبته، كما هي الحال في الوقت الراهن. إن نضالات سورية وتضحياتها في لبنان، لإيقاف الاجتياح الإسرائيلي، ودعم النضال الوطني اللبناني لدحره، ومنعها من تقسيم لبنان وشرذمته، إن كل هذه الانجازات والتضحيات لم تَمح من ذاكرة الجماهير، الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت به في سنتي 1975 و 1976.

 

 

الممارسات السورية في لبنان

أصبح الوجود السوري في لبنان فاعلاً في الحياة السياسية والأمنية اللبنانية، وبقي هامشياً جداً وعلى تأثير محدود على الصعيد الاقتصادي.

فقد ساعد هذا الوجود السوري في تغيير التوجهات في الحياة الخارجية للبنان، وغير موقع لبنان من الصراع العربي الصهيوني. أي انه ساعد في إعادة غرس لبنان في محيطه العربي بعد أن كان "جسراً" أو "ممراً" بين الغرب والشرق العربي على كل الصعد التجارية والثقافية والسياسية. فبعد أن كانت قوة لبنان بضعفه وبعلاقاته التابعة للمركز الأوروبي، أصبحت قوة لبنان بمقاومته، وبانتمائه العضوي والفاعل في محيطه. وكان تلازم المسارين السوري واللبناني في السياسة الخارجية بشكل عام، وتجاه إسرائيل خاصة ومشاريع الصلح معها. نتيجة هذا التغيير العميق على صعيد التوجيهات السياسية، فقد وقف "تلازم المسارين" حائلاً دون استفراد أميركا وإسرائيل لكل دولة عربية بغية فرض شروطهما عليها. بكلامٍ آخر، شكل الوجود السوري في لبنان على الصعيد السياسي رافعة لعروبة لبنان ومسيرته الوطنية المقاومة.

 

أما الدور الأمني الذي لعبه الوجود السوري في لبنان، فكان ضرورياً قبل إعادة بناء القوى الأمنية اللبنانية، وإعادة بناء الجيش اللبناني، المبني أساسا لحماية الأمن الداخلي وليس الخارجي، وذلك حسب عقيدته العسكرية وتسليحه وتاريخه الطويل، وغير الفاعل في ردع العدوان الخارجي، كما جرى سنة 1982.

 

ولكن هذا الوجود استمر بعد أن انتفت الحاجة إليه. وهذا الوجود الأمني، وليس الاستراتيجي، النابع من طبيعة تكوين الجيش السوري، وطبيعة النظام السوري، كان استفزازياً في كثير من الأحيان للجماهير اللبنانية. فعلاقة هذه القوى المسلحة والأمنية، لم يتم إعدادها للقيام بأعمال أمنية محكومة بالقوانين والأنظمة، وبإشراف قضاءٍ مدنيٍ مستقل، لم يحكمها قانون يضع حدوداً لحرية البندقية في مواجهة المواطن، بل كان المواطن في لبنان يقف عارياً أمام هذه البندقية الأمنية عند كل حاجزٍ عسكري، دون حقوق ودون حماية، معرضاً لكل أنواع القمع والاستلاب.

 

إن هذه العلاقة غير المتوازنة، خلقت تذمراً ونقمة لدى الجماهير اللبنانية أعمت بعضهم عن رؤية الدور الاستراتيجي للوجود السوري العسكري في لبنان وأسقطت من ذاكرتهم الفاعلة التضحيات والانجازات السورية الداخلية التي استعادت لبنان من الحرب الأهلية بعد أن أصبحت حروباً عبثية بين الطوائف وداخلها، ووحدت الوطن بعد شرذمته، وجردت الميليشيات المتقاتلة من أسلحتها، ناهيك عن دورها في جبه العدوان الامبريالي الصهيوني، ومساعدتها ومشاركتها في دحر الاجتياح الإسرائيلي.

 

ولكن هذا الوجود السوري لم يكن له أي اثر في تغيير بنية النظام وسياساته الاقتصادية والاجتماعية، فهذا الوجود لم يهدد الطبقة الحاكمة في لبنان ولم يهدد البنية الاحتكارية للنظام، بل تعاون مع الطبقة الحاكمة، ومع أسوأ رموزها السياسية والميليشياوية. أكثر من ذلك تم التنسيق (  (syncronizationبين الطبقة الحاكمة في لبنان من ناحية، وبين الرموز البرجوازية السورية الموجودة في صلب النظام الحاكم وخارجه، بشكلٍ مباشر أو عبر بعض القيادات العسكرية والأمنية السورية العاملة في لبنان. وتم منح المجال للعديد من أبناء الرموز السورية الحاكمة ولبعض الشركات السورية للمشاركة في الفساد والإفساد والإثراء غير المشروع، على حساب المال العام اللبناني، وفي بعض الأحيان الأموال الخاصة أيضا. فقد أصبح للفساد شبكة واحدة في البلدين.

 

وشكلت العلاقات بين القوى البرجوازية الموحدة، رافعة للبرجوازية السورية بغية صعودها في سورية، وتوجيه الاقتصاد السوري إلى منحى يميني ليبرالي، ليلتحق بالنظام اللبناني كهدف في آخر المطاف. إن نظرة سريعة للتوجهات الاقتصادية السورية منذ أواسط التسعينيات توضح الفكر الاقتصادي الفاعل، على صعيد السياسات المالية بشكلٍ خاص، والتي كانت تدعو إلى كبح الإنفاق العام، وتحقيق فوائض كبيرة في الموازنة العامة، والى مراكمة احتياطي نقدي كبير لدى المصرف المركزي بلغ أكثر من عشرين مليار دولار، كما يقال، في الوقت الذي كان الاقتصاد يتباطأ، والبطالة تنتشر، ومعدل الدخل الفردي يتراجع. جرى كل ذلك بقيادة وإرشاد صندوق النقد الدولي، أو من عملوا طويلاً في الصندوق والبنك الدوليين، ويلتزمون بأفكار الليبرالية الجديدة.

 

كما أن الطبقة الحاكمة في لبنان استعملت واستغلت واستخدمت الوجود السوري السياسي والعسكري والأمني لحماية مصالحها وتنمية احتكاراتها، والتهويل بها لقمع تذمر الطبقات العاملة، وتهميش القوى الديمقراطية الشعبية، ذات المصالح المتناقضة مع مصالح الطبقة الحاكمة. فقد شهد لبنان خلال التسعينيات، وبداية القرن الحالي، مزيداً من التحولات نحو اليمين المتطرف، عبر سياسات التخصيص غير العقلانية، والسلطات المالية الجائرة بحق الطبقات الشعبية، والسياسات الاقتصادية المعادية لقطاعات الإنتاج السلعي، كما رأينا سابقاً، وسياسات تخريب وإضعاف العمل النقابي والمؤسسات الحامية للحقوق الاجتماعية للطبقات العاملة. جرى كل ذلك في ظل الوجود السوري، وتحمّل المعارضة اللبنانية الآن الوجود السوري مسؤولية التردي الاقتصادي والاجتماعي للطبقات العاملة اللبنانية.

 

كان ذلك الخطأ الاستراتيجي الكبير للوجود السوري في لبنان، منذ انتهاء الحرب الأهلية. إن هذا الخطأ يعرض المكاسب السياسية التي تحققت للخطر. إن مصالح الطبقة الحاكمة منذ القدم ترتبط بدول الاستعمار الغربي، وبمراكز النظام الرأسمالي العالمي. وبنية هذه الطبقة حددت التوجهات السابقة للنظام اللبناني في علاقاته الخارجية منذ الاستقلال وحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي. أما التوجهات التي أحدثها انتصار المقاومة اللبنانية والوجود السوري، فكانت متناقضة مع طبيعة ومصالح الطبقة الحاكمة. هذا ما يفسر انقضاض عدد كبير من الرموز السياسية للنظام اللبناني على الوجود السوري في لبنان. لنتذكر الرئيس الياس سركيس مثلا، والذي تم انتخابه رئيسا للجمهورية في بلدة شتورا وبحماية الحراب السورية، كيف تحالف مع القوات اللبنانية المتحالفة مع إسرائيل، وكيف حيد الجيش اللبناني إبان الاجتياح الإسرائيلي، وساعد بشير الجميل في الوصول إلى سدة الرئاسة. ولنتذكر الرئيس الهراوي وغيره العديد من القيادات اللبنانية التي تم دعمها وتقويتها من قبل سوريا، وكيف تنقض هذه الرموز على سوريا والمقاومة، وعلى عروبة لبنان، حين اعتقدت أن الرياح المتغيرة يمكن أن تعيد لبنان إلى ما كان عليه في بداية السبعينيات.

 

أما على صعيد العلاقات السورية اللبنانية، فان هذا الوجود لم يغير شيئا من طبيعة العلاقات. صحيح أن اتفاقات عديدة تم توقيعها بين البلدين وأهمها "معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية"، وذلك في دمشق بتاريخ 22 أيار سنة 1991. ولكن القليل القليل تم تنفيذه من بنود هذه المعاهدة. تقول المادة الأولى: "تعمل الدولتان على تحقيق التعاون والتنسيق بين البلدين في المجالات الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية والنقل والمواصلات والجمارك وإقامة المشاريع المشتركة وتنسيق خطط التنمية...".

 

ثم تم عقد اتفاقية ثانية تفصيلية أخرى تحت عنوان "اتفاق التعاون والتنسيق الاقتصادي الاجتماعي بين الجمهورية اللبنانية والجمهورية العربية السورية" وذلك بتاريخ 16/9/1993. كانت نصوص هذه الاتفاقية أقرب إلى الواقع من نصوص معاهدة الأخوة والتعاون، إذ اعتمدت سياسات "التدرج"، في إجراء عمليات التكامل والتنسيق، دون وضع برنامج زمني لتطبيق الاتفاقات. وبالتالي فتح ذلك المجال واسعا لعدم التطبيق. تقول المادة الثانية من اتفاقية التعاون: "... السير تدريجيا في إطلاق حرية تبادل السلع والمنتجات الوطنية بين البلدين، وتحريرها من جميع القيود، وإعفائها من الرسوم الجمركية ومتمماتها، وذلك وفقا لقوائم السلع والمنتجات التي تتساوى أعباؤها الداخلية وتقرها اللجنة الاقتصادية المنصوص عنها في هذه الاتفاقية".

 

إن الفخ الذي يمنع التطبيق هو "السلع والمنتجات التي تتساوى أعباؤها". إن الاختلافات الحادة في النظامين الاقتصاديين، يجعل تساوي الأعباء أمرا مستحيلا عمليا، من حيث مستوى الضرائب المباشرة وغير المباشرة، فالرسوم على اختلاف أنواعها، وثمن المدخلات الزراعية المعانة في سوريا، والمبذولة في لبنان، ثمن الطاقة الكهربائية والمشتقات النفطية، كلفة الاتصالات، كلفة الأموال، كلفة الضمان الاجتماعي وغيرها كثير، كلها يمكن أن تدخل في عدم تساوي الأعباء في جميع قطاعات الإنتاج. وهذه الشروط، والتي ليس لها وجود في أي اتفاقية للوحدة الاقتصادية في التجارب الناجحة للتوحيد أو غير الناجحة، مثل اتفاقية الشراكة الأوروبية اللبنانية على سبيل المثال، والتي تدعو إلى تحرير التجارة بالسلع والخدمات، دون المساواة في أعباء الإنتاج. إذا هذه الاتفاقية غير قابلة أصلا للتطبيق، حتى "تدريجيا".

 

ودون الخوض في تفاصيل بنود الاتفاقية، تنتهي إلى الفقرة (2) من المادة الخامسة التي تقول: إلى أن يتم تنظيم العلاقات التجارية بين البلدين وفقا للأسس المنصوص عيها في المادة الثانية من اتفاقية التعاون والتنسيق الاقتصادي الموقعة بين البلدين بتاريخ 16/9/1993، يستمر العمل بأحكام الاتفاق الاقتصادي لعام 1953 وتعديلاته. أي يستمر العمل بالاتفاقات التي أحدثت القطيعة بين اقتصاد البلدين الشقيقين. وهذا ما جرى تطبيقه فعلا حتى الآن.

 

أما الاتفاق الصحي الموقع من قبل وزيري الصحة في البلدين بتاريخ سنة 1993 فينص مثلا في المادة الرابعة على التالي: "تعتمد في البلدين أسس موحدة لأصول تسجيل الدواء، ويعتبر الدواء في أي من البلدين بعد اعتماد هذا النظام مسجلا حكما في البلد الآخر".

 

ولكن وبعد مرور حوالي 12 سنة على توقيع هذا الاتفاق، فما زال استيراد الأدوية من السوق السورية ممنوعا. وتطالب نقابة مستوردي الأدوية في لبنان بمكافحة "تهريب" الأدوية السورية إلى لبنان، إذ أن أثمانها جد منخفضة، ولا تزيد في معظم الأحيان عن 20 بالمئة من ثمنها في لبنان. فالعديد من الأطباء، يرشدون أصحاب الأمراض المزمنة إلى شراء الأدوية من سورية، وخاصة الأدوية المصنعة في سورية بمواصفات أوروبية.

 

لذلك، فان جميع المعاهدات الاقتصادية بين البلدين لم تطبق، ولم يكن هناك نية لتطبيقها أصلا. وكان معظمها غير قابل للتطبيق، حسب الشروط المنصوص عنها في الاتفاقيات. كل ذلك بسبب بنية النظام اللبناني، واختلافه عن النظام الاقتصادي المعمول به قي سوريا. ولم تتم محاولة تقريب النظامين وإزالة التباين أو التناقض بينهما خلال السنوات الماضية. وبالرغم من أن النظام السوري اتجه إلى الانفتاح على الخارج على أكثر من صعيد، غير أن النظام اللبناني أوغل في الليبرالية الاقتصادية ليتماهى مع أنظمة البلدان الأكثر التحاقا وخضوعا لأنظمة المراكز الرأسمالية العالمية، وعمق سيطرة الطبقة التجارية الكولونيالية، مما يتناقض مع بنية الاقتصاد السوري الذي يعتمد على قطاعات الإنتاج السلعي في الأساس. لذلك فان الفوارق بين النظامين لم تتقلص، بل زادت اتساعا، مما منع الاتجاه نحو وحدة السوقين.

 

ويقول البعض في لبنان، من دعاة الانعزالية والعداء لعروبته، أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين هي علاقة "استعمارية"، وان مشاكل لبنان الاقتصادية، ليست مشاكل بنيوية، بل هي ناتجة عن الوجود السوري في لبنان، وعن "استغلال" سوريا للبنان اقتصاديا، وتسخير الاقتصاد اللبناني لحاجات ومتطلبات الاقتصاد السوري، وذلك طبعا قول لا علاقة له بواقع الأمر.

 

إن نوعية العلاقات الاقتصادية بين البلدين تظهر أن الواردات اللبنانية من السوق السورية هي في أكثريتها من المواد الخام، والصادرات اللبنانية إلى السوق السورية هي في معظمها مواد مصنعة، كما تظهر البيانات الجمركية مثلا لسنة 2003. أما نسبة الصادرات اللبنانية إلى السوق السورية من الواردات من تلك السوق، فتبلغ 35 في المئة، بينما نسبة الصادرات إلى الواردات اللبنانية كلها تبلغ 21.3 في المئة وذلك لسنة 2003 (جريدة السفير، 16-12-2004).

 

ومن المعلوم أن نسبة التهريب عبر الحدود بين السوقين مرتفعة جدا وتميل لمصلحة لبنان، منذ القطيعة الاقتصادية في بداية الخمسينيات. وترتفع وتيرة التهريب مع ارتفاع الفروقات في أسعار السلع بين البلدين. وبما أن الضرائب الجمركية على مستوردات السلع الكمالية إجمالا أكثر ارتفاعا في سوريا، فان نسبة عالية من واردات لبنان من السلع الأجنبية المصنعة، تتسرب إلى سوريا عبر الطرق الجبلية، كما عبر الطرق العسكرية وغير العسكرية. وكذلك العديد من السلع المصنعة ذات المصدر اللبناني.

 

أما على صعيد الخدمات، فان السوق المالية اللبنانية تبيع خدمات كثيرة للسوق السورية، وتستقطب حوالي عشرة مليارات دولار من المدخرات السورية، كما يقدر رئيس اتحاد غرف التجارة السورية (جريدة الحياة، 23-2-2005). وتصل بعض التقديرات لهذه الأموال السورية إلى 17 مليار دولار. وتعمد بعض المصارف اللبنانية إلى فتح فروع لها في السوق المالية السورية، إذ أنها أكثر خبرة وأعلى كفاءة من المصارف السورية.

أما على صعيد اليد العاملة وحركتها بين البلدين، فان القوانين السورية، تفتح المجال واسعا للبنانيين للعمل في سورية على قدم المساواة مع السوريين في كافة القطاعات الخاصة والعامة، وقد تبوأ عدد من اللبنانيين مراكز قيادية مؤثرة في سورية، بينما القوانين اللبنانية تميز ضد السوريين في العمل في لبنان.

 

كما أن بعض القطاعات الاقتصادية اللبنانية مثل قطاع الزراعة، وقطاع البناء والمقاولات عموما وتاريخيا، يعتمد على اليد العاملة السورية الموسمية وغير الماهرة في أغلبيتها الساحقة. بينما يصدر لبنان للسوق السورية خبرات ذات كفاءة مرتفعة، خاصة في قطاعات الخدمات من قطاع السياحة، فنادق ومطاعم والقطاع المالي، حيث الأجور مرتفعة.

 

إذن إذا كانت هناك علاقات "استعمارية" بين البلدين، فان لبنان هو البلد المستعمِر لا المستعمَر، كما يدعي البعض، وفي ظل الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان. فهذا الوجود لم يكن له أي تأثير على طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين.

 

فالوجود السوري إذن، لم يولد علاقة تبعية اقتصادية كما تفعل الدول الاستعمارية جميعها، أو كما فعلت إسرائيل باقتصاديات الضفة وغزة في ظل الاحتلال، حيث تحولت هذه المناطق إلى سوق للصادرات الإسرائيلية ومصدرا لليد العاملة الرخيصة. بل إن سوريا لم تستطع أن تبني علاقات متوازنة وعادلة بين الاقتصادين، لم تستطع أن تفتح السوق اللبنانية أمام العديد من صادراتها رغم الاتفاقات الرسمية المعقودة بين البلدين، وذلك "لحصانة" الطبقة الحاكمة اللبنانية وقدرتها الهائلة على الدفاع عن احتكاراتها وارتباطاتها الخارجية، ومصالحها الاقتصادية والسياسية.

 

إن تصحيح العلاقات السورية اللبنانية، والوصول إلى سوق اقتصادية واحدة بين البلدين، كخطوة على طريق بناء السوق العربية المشتركة، وإعادة بناء النظام المصرفي على أسس جديدة ومتينة، كطريق نحو الوحدة العربية الشاملة، يوجب الآتي: الخروج السوري من الدور الأمني الداخلي اللبناني، وإذا ما كان من دور أمني على الوجود السوري أن يلعبه، فيجب أن يكون في ظل القوانين اللبنانية المرعية، وبإشراف القضاء اللبناني، وعلى أرض لبنان.

 

أما الحواجز العسكرية على الطرقات العامة، ذات الأثر السلبي على الصعيد الجماهيري وليس لها أي دور إيجابي، فيجب رفعها. وإذا كانت هناك حاجة أمنية لهذه الحواجز فليشغلها الجيش اللبناني أو قوات الأمن اللبنانية، لا الجيش السوري، حتى لا تثار الحساسيات، وتفتح المجال للتحريض الشوفيني ضد سوريا.

 

أما الوجود الاستراتيجي السوري في لبنان فيبقى حاجة ثابتة على صعيد الأمن القومي والوطني، طالما هناك إسرائيل، وطالما بقي التهديد الإمبريالي الصهيوني للمشرق العربي.

 

أما استقرار العلاقات السياسية والاقتصادية وتطويرها بين البلدين في اتجاه التكامل والتوحد، فيوجب تحالف النظام السوري مع القوى الوطنية اللبنانية ذات العقائد والتوجهات التقدمية المعادية لإسرائيل والإمبريالية، الممثلة الحقيقية لمصالح أوسع الجماهير، والعاملة على إسقاط الطبقة الحاكمة وتغيير النظام اللبناني الذي دخل في أزمة تاريخية بنيوية كما ورد سابقا.

 

ملاحظة: لقد تم وضع هذا البحث قبل انفجار الأزمة الكبيرة التي سببها إغتيال الحريري.


[1]   فواز طرابلسي، المرجع السابق ص 263-264

[2]  نفس المصدر ص 262

[3]  طرابلسي، فواز، المرجع السابق ص 95.

[4]  نفس المصدر، ص 98.

 [5] Patrick Seal, Struggle for Syria, p94

[6]   طرابلسي، فواز، المرجع السابق، ص 97 – 98.

[7]   نفس المصدر، ص 103

[8]   نفس المصدر، ص 120

[9]   نفس المصدر، ص 133

[10]  اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية بين الدول الأوروبية ولبنان، ص 4.

[11]   نفس المصدر، ص 5

[12]   نفس المصدر، ص 8

[13]   سيل، باتريك؛ الأسد ، الصراع على الشرق الأوسط، ترجمته المؤسسة العامة للدراسات والنشر والتوزيع، غير مؤرخ، ومكان الإصدار غير محدد.  ص. 240

[14] Kissinger ; Henry ; Years of Renewal ; Simon & Schuster ، New york ; year 1999. P.1050

[15]   سيل، باترك، المرجع السابق. ص. 257 – 258

[16]   نفس المصدر، ص 206-207

[17]   نفس المصدر، ص 260-262

[18]   نفس المصدر، ص 261-262

[19]  نفس المصدر، ص 286

[20]  نفس المصدر، ص 288

[21]  نفس المصدر، ص 292

[22]  نفس المصدر، ص 279، عن جريدة الأهرام، 16-11-1973

[23]  نفس المصدر، ص 397-398

[24]  كيسنجر، هنري، المصدر السابق (بالإنكليزية) ص 1029

[25]  سيل، باتريك، المرجع السابق، ص 447

[26]  نفس المصدر، ص 448-449

[27]  كيسنجر، المرجع السابق، ص 1039

[28]  نفس المصدر، ص 1045

[29]  نفس المصدر، ص 1040

[30]  نفس المصدر، ص 1040-1041

[31]  سيل، باتريك، مرجع سابق، ص 454

[32]  نفس المصدر، ص  453

[33]  نفس المصدر، ص 453

[34]  كيسنجر، المرجع السابق، ص 1050