انعكاسات الغزو الأمريكي للعراق على لبنان

زاهر الخطيب

 

للوهلة الأولى يبدو وكأن ليس هناك انعكاسات مباشرة للغزو الأمريكي على لبنان، لأن لبنان لا تجمعه مع العراق حدود مشتركة، وكانت علاقته الاقتصادية معه شبه مقطوعة، لم تستأنف إلاّ في السنتين الأخيرتين اللتين سبقتا الغزو الأمريكي.

 

ولكن لبنان، كدولة ممانعة، أي كدولة كانت معقلاً وحاضنةًًً للقوى المناهضة لمشروع هيمنة الغرب، وخصوصاً الأمريكي، عانى مباشرة من الاحتلال الأمريكي للعراق. فاحتلال العراق كانت لـه انعكاسات سلبية على لبنان منذ اللحظة الأولى التي كانت فيها الدبابات الأمريكية تطأ أرض العراق، لأن هذا الاحتلال أنشأ معادلات دولية وإقليمية جديدة. وقد عرف عن لبنان تاريخياً أنه شديد التأثر بأي تحولات تشهدها المنطقة والعالم.

 

ففي عام 1958، عندما سعت الولايات المتحدة لإقامة حلف بغداد لمواجهة نمو حركات التحرر الوطني في الوطن العربي، وفي منطقة الشرق الأوسط، كان لبنان البلد الوحيد في المنطقة الذي عكس صدى هذه التحركات بحرب أهلية ومواجهات مسلحة استمرت لمدة أشهر رغم أنه لم يكن طرفاً مباشراً في حلف بغداد ، ولم يكن في عداد الدول الأساسية المهيأة للعب مثل هذا الدور.

 

وعندما نهضت حركة التحرر الوطني العربي في عقد الستينيات ، تحول لبنان إلى ساحة تصارع بين هذه الحركة وبين التيارات الرجعية، وأصبح لبنان ساحة وملاذاً للقوى الرجعية لنسج الخطط والمؤامرات ضد القوى الوطنية في كل إنحاء الوطن العربي، وكان لبنان آنذاك البلد الوحيد الذي استضاف أكاديمية لتخريج الجواسيس تابعة لبريطانيا، وكان مقرها بلدة شملان في جبل لبنان.

 

وبسبب تركيبة لبنان الخاصة، الطائفية والمذهبية، وبسبب ضعف الدولة المركزية فيه، فإنه كان دائماً شديد التأثر بأي أحداث أو تطورات تشهدها المنطقة. ينجم عن ذلك أن حدثاً بمستوى احتلال العراق، فجر سجالاً وصراعاً على امتداد العالم كله،     لم يكن من الممكن أن يكون لبنان بمنأى عن تفاعلاته وتداعياته.

 

وفعلاً، ما أن ترسّخت أقدام المحتلين في العراق، بل وحتى قبل الغزو بأسابيع قليلة، تحركت بعض القوى المحلية اللبنانية التي كانت مغلوبة على أمرها، وبدأت، عبر التصريحات والمحاضرات، ووسائل الإعلام التي تهيمن عليها، تبشر بعصر جديد، وبدأ تحرك هذه القوى داخلياً من جانب الولايات المتحدة وفرنسا، بدأ يتصاعد لاستثمار الظروف الناجمة عن احتلال العراق، وشكلت هذه القوى مجموعات ضغط داخل الولايات المتحدة وداخل فرنسا. وقد أسفر تحركها المدعوم من إسرائيل أولاً بإقناع الولايات المتحدة بإصدار قانون محاسبة سورية لإرغامها على الانسحاب من لبنان، ونجحت في وقت لاحق بإقناع فرنسا والإدارة الأمريكية باستصدار قرار مجلس الأمن 1559.

 

وقد جاء اغتيال رفيق الحريري في هذا السياق، محاولةً لخلق ظروف ملائمة محلياً ودولياً لتحقيق المخطط المرسوم، أي تطبيق القرار1559، وخصوصاً لجهة إرغام سورية على سحب قواتها من لبنان في أجل زمني محدد. وراهنت قوى التدخل الخارجي والقوى المحلية، وما تزال تراهن على أن يؤدي انسحاب القوات السورية إلى خلق معادلة جديدة في لبنان تتيح لهذه القوى الاستيلاء على السلطة عن طريق الانتخابات، وتحويل لبنان عن خياراته الحالية أي تحويله من أن يكون ساحة ممانعة ضد خطط الهيمنة الغربية، وحاضناً للمقاومة، إلى صديق لإسرائيل، ومتعاون مع الدول الغربية، ومعادياً لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق. فلا عجب والحالة هذه أن الرئيس جورج بوش، في كل مرة خاطب فيها الأمريكيين في العالم عن نتائج غزوه للعراق، كان يدرج لبنان بين الدول التي تشهد تحولات هي ثمرة لهذا الاحتلال فهل هناك مثل آخر، بعد هذا المثل يكشف انعكاسات احتلال العراق المباشرة على لبنان؟

 

ولكن ما جرى ويجري في لبنان حتى هذه اللحظة، لا يشكل نهاية المطاف لما ينتظر لبنان على خلفية التداعيات التي تسبب بها الغزو الأميركي للعراق. إن انسحاب سورية من لبنان، الذي جاء بتأثير الضغوط الدولية الشديدة المرتبطة بما يجري     في العراق، المتمثلة بتوجيه الولايات المتحدة الاتهامات لسورية بأنها تدعم المقاومة العراقية، وتفتح حدودها أمام تسلل المقاومين الذين يواجهون القوات الغازية هناك، إن هذا الانسحاب أدى إلى نشوب أزمة سياسية حادة في لبنان. وبمعزل عن تشكيل الحكومة الجديدة، وإقرار قانون الانتخاب وإجراء الانتخابات، وهي خطوات يمكن  أن تتحقق، فإن هذه الأزمة كرست معادلة جديدة أنتجت سلسلة من الوقائع، بينها:

 

الواقعة الأولى

إن أي فريق من الفرقاء اللبنانيين، الموالاة أو المعارضة، سيكون عاجزاً بمفرده عن حكم لبنان، لأنه لا يمثل أكثرية ساحقة في هذا البلد. كما أن التدخلات الأجنبية لن تتيح للقوى الوطنية، التي تمثل الأرجحية الآن، أن تحكم لبنان على قاعدة التقاليد الديمقراطية المعروفة، أي أن الأكثرية تحكم وتشكل الحكومات، والأقلية تعارض. وتنتظر المعارضة الانتخابات المقبلة لتتحول إلى أكثرية إذا كان ذلك ممكناً. فالتدخل الدولي يسعى إلى الاستيلاء على السلطة عبر عملية تمويل مرصودة لشراء الأصوات والتأثير على مجرى الانتخابات. وبديهي أن القوى الوطنية لن تسلم بذلك، وبهذا سوف يستمر الصراع على الدولة وعلى إدارتها حتى إشعار آخر.

 

الواقعة الثانية

إن التوازن الدقيق القائم في لبنان، وهو توازن حال دون إيجاد حلول للأزمة اللبنانية في عقدي السبعينات والثمانينات، إذ ما كان للسلم الأهلي أن يبصر النور ويستمر 14 عاماً لولا الحضور السوري، هذا التوازن المدعوم بتدخل القوى الخارجية، وقدرتها على امتلاك زمام المبادرة على المستوى الدولي والإقليمي، يحول دون إيجاد تسوية قريبة للأزمة القائمة الآن في لبنان.

 

الواقعة الثالثة

إن التوازن الدقيق، وعدم وجود أرجحية لصالح المعارضة أو الموالاة، يدفع الأزمة نحو احتمالات خطيرة، ثلاثة منها أساسية، هي:

 

الاحتمال الأول: أن تستمر الأزمة السياسية فترة طويلة نسبياً، لأن إجراء الانتخابات لن يولد أكثرية قادرة على تشكيل الحكومة من قبل قوى المعارضة، بسبب تحوّل بعض القوى في مواقفها وتنقّلها بين المعسكرين الأساسيين تبعاً لمصالحها الخاصة.

 

الاحتمال الثاني: أن يؤدي الاستعصاء وتوازن القوى القائم الآن إلى عدم التوصل إلى تشكيل حكومة، وبالتالي تداعي مؤسسات الدولة وانفراط عقدها، سواء عبر تفككها مثلما حدث في عقد السبعينات والثمانينات، أو من خلال تحييدها، وبالتالي سيطرة قوى الأمر الواقع على مناطق نفوذها، "فتزدهر" الدعوات إلى استحالة التعايش وفقاً للصيغ التي رعاها الطائف، والبحث عن تسوية جديدة تستلهم الفدرالية الطائفية والمذهبية على غرار ما يحدث الآن في العراق.

 

الاحتمال الثالث: احتمال سيطرة قوى المعارضة بدعم من القوى الخارجية على مقاليد السلطة في لبنان وفقاً للسيناريو الذي يشرف على تنفيذه المبعوثون الأمريكيون والفرنسيون، وبالتالي التوجه نحو انتزاع سلاح المقاومة اللبنانية، وسلاح المخيمات، وكل هذا من شأنه أن يستدرج لبنان إلى الحرب الأهلية مرة أخرى دفاعاً عن سلاح المقاومة وعن سلاح الفلسطينيين ورفضاً لخطط التوطين التي تلوح في الأفق.

 

الواقعة الرابعة

مهما كانت الاحتمالات التي ستواجهها الأزمة السياسية في لبنان، فالواضح أن لبنان بدأ يئن تحت وطأة أزمة اقتصادية لا قبل لـه بها. فبعد مرور أقل من شهرين على اغتيال الرئيس الحريري وتصاعد الأزمة، بلغت خسائر الاقتصاد اللبناني حوالي مليار دولار، وإذا ما استمرت الأزمة طيلة هذا الصيف، وهو احتمال مرجّح، فإن الأزمة سوف تتصاعد وتبلغ معدلات أكثر خطورة، وقد تؤدي إلى انهيار سعر الليرة وإفلاس المصارف اللبنانية، ومن شأن مثل هذا التطور أن يترك انعكاسات سلبية حادة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.

 

بديهي القول في الختام أن هذه التطورات المأساوية التي يشهدها لبنان الآن هي نتاج لتداعيات الغزو الأمريكي للعراق، وبهذا المعنى يمكن القول بأن لبنان، بعد العراق، هو البلد العربي الوحيد الذي ستكون آثار تداعيات احتلال العراق أكثر كارثية على أوضاعه.

      

ختاماً

إننا إذ نشير إلى أفق الصعوبات التي نواجهها في لبنان والتي تواجهها الأمة جمعاء، إنما نؤكد في الوقت عينه على أن الصعوبات التي يواجهها الاحتلال الأمريكي في العراق بفعل المقاومة (وهي واقعية، وصحيحة، وموجودة) إنما هي صعوبات جمة وجسيمة تجعل الإدارة الأمريكية تبحث عن نقاط ارتكاز إضافية لتطويق سوريا، وضرب إيران باعتبارهما الدولتين الأكثر تأثيراً على الساحة العراقية.

 

وما كان يمكن لتركيا أن تقدمه في هذا المجال لأمريكا بات متعذراً اليوم بسبب التناقضات الأمريكية–التركية حيال ما يجري على أرض العراق إضافة إلى تعاظم موجة العداء والكراهية لأمريكا في صفوف الشعب التركي، وفي الأوساط الحاكمة في أنقرة (الإسلامية منها والعلمانية) كما يشير أحد الكتاب اللبنانيين، لنخلص وإياه ومع الكثيرين إلى ما معناه:

 

أنه من المنطقي إذن أن يبدو لبنان في هذه اللحظة التاريخية حاجة "أميركية آنية" لكن ذات بعد استراتيجي.

ومن السذاجة الاعتقاد أن علاقات طبيعية بين "لبنان نصف أميركي" وسورية هي علاقات ممكنة في ظل الأوضاع الراهنة.

إن السيطرة على سورية توازي، في العرف الأميركي من حيث الأهمية الإستراتيجية السيطرة على العراق بسبب الدور السوري في الصراع العربي الإسرائيلي.

وإن استهداف دمشق، إنما هو هدف إسرائيلي في الدرجة الأولى...

ولا خيار أمام اللبنانيين اليوم سوى واحد من إثنين: إما الانجرار إلى حرب أهلية، أي الحرب ضد بعضهم البعض، وإما المقاومة ضد المشاريع الامبريالية الأمريكية الإسرائيلية.

الخيار الأول هو خيار انتحاري محض...

والخيار الثاني إنما هو خيار مقاوم دفاعي مشروع وظافر في النهاية، وقد خبرناه.

أما الحياد في هذه المرحلة المصيرية فما هو من الناحية العملية سوى ضرب من الوهم، أو التخاذل أو الانتهازية...

 

زاهر الخطيب