الافتتاحية |
الديمقراطية و"عبقرية" الطوائف اللبنانية
العرب والعولمة
لم تكن للرأسمالية عند نشوئها أي علاقة بالديمقراطية، بل مارست أبشع أنواع القهر والإستغلال للإنسان. وقد رسم شارلز ديكنز صورة عن المجتمع الذي خلقته الرأسمالية البريطانية في رواياته. ومع الأيام، ومع تقدم الرأسمالية وسيطرتها الكاملة، وتبلور الطبقات العاملة وارتفاع وعيها، خاضت هذه الطبقات صراعات مريرة ودامية في كثير من الأحيان حتى استطاعت نيل العديد من حقوقها السياسة والاقتصادية والاجتماعية. فالديمقراطية لم تكن تاريخيا عطاءً للرأسمالية، ولم تتلازم معها، بل كانت ثمرة لنضالات الطبقات المهمشة والمستغَلة في المجتمع.
وتعززت الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، مع بروز الإتحاد السوفياتي كقوة عالمية يطرح بديلا جديا للنظام الرأسمالي، ومع انتصار الثورة الماوية في الصين، وانتشار حركات التحرر الوطني المنجذبة نحو المعسكر الإشتراكية ومثله الإجتماعية.
في هذا المناخ العالمي، وبقيادة الفكر الإقتصادي الكينزي الذي يشدد على ضرورة تدخل السلطة لضبط وكبح وتصويب قوى السوق وتحقيق عمالة شبه كاملة، وعدالة في توزيع الدخل، وطمأنة الطبقات العاملة، بنت الرأسمالية نظاما "إنسانيا" إلى حد بعيد.
لكن عودة المنافسة بين مراكز النظام الرأسمالي بعد إعادة بناء أوروبا واليابان، ثم انهيار الإتحاد السوفياتي، وظهور أزمة الرأسمالية الأميركية، إستردت الطبقة الرأسمالية في ظل العولمة قدرتها الهجومية في إطار الصراع مع الطبقة العاملة، فأفرزت قيادتها الجديدة المتمثلة بالمحافظين الجدد، وفكرها الاقتصادي الهجومي المتمثل بالليبرالية الجديدة، المناقض للكينزية، كما أفرزت رؤيتها الفلسفية التاريخية التي مثلها كل من فوكوياما وهنتنجتون بشكل أساسي.
وغطت الرأسمالية هجومها الشامل على حقوق الطبقات العاملة ومكاسبها المتراكمة بمقولة الديمقراطية وحرية الأسواق. واستطاعت أن تقنع الجماهير العاملة أو ترهبها لقبول نظامها الوحشي، وخفض مداخيلها الحقيقية، وانهيار منظمات الأمان الإجتماعي، وتدمير النقابات، كل ذلك تحت ضغوط العولمة والملكية الحصرية لوسائل الإتصال بجميع أشكالها، تلك الوسائل التي أصبحت قادرة على صناعة الرأي العام في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.
كانت الطبقة الحاكمة في لبنان أمينة في تطبيق جميع مبادىء الليبرالية الجديدة بحذافيرها. وعبر الديمقراطية المزعومة، خصصت العديد من القطاعات، بقانون وبغير قانون، وضاعفت الأسعار والضرائب غير المباشرة، ودعمت الإحتكارات، وعممت البطالة والإفقار، وضاعفت أرباح رؤوس الأموال، وحملت لبنان دينا عاما تشكل خدمته أداة فعالة جدا لضخ الثروة من أصحاب الدخل المحدود والفقراء إلى البنوك والأثرياء في لبنان وخارجه.
كيف استطاعت الطبقة الحاكمة قيادة الجماهير اللبنانية ضد مصالحها الحقيقية؟ كان "غوبلز"، الداعية النازي، يقول أنه إذا استطعت تخويف الناس، فبإمكانك قيادتهم حيث تشاء. وقد اتبعت القيادات الأميركية هذه النصيحة، فقادت الشعب الأميركي عن طريق الديمقراطية الشكلية، إلى مغامرات امبريالية وحروب إجرامية ومدمرة، بحجة "الغول" الشيوعي ثم "الغول" الإسلامي.
أما في لبنان، فإن الطبقة الحاكمة تملك خبرة طويلة في إخافة الطوائف بالطوائف. فكل الطوائف أعداء متربصون بطائفتك، تريد الفتك بها، أي بك أنت. لا مكانة لأحد ولا أمن له خارج طائفته، وخاصة في مواسم الإنتخابات، أو بالأحرى مواسم تجديد البيعة لزعماء الطوائف وظلالهم في كافة المناطق. ومن الذي يحتاج إلى برنامج سياسي وإقتصادي وإجتماعي ليجدد البيعة للزعيم وظلاله؟ ولتذهب إلى الجحيم كل المصالح المادية والاجتماعية، ومن يهتم بالمستقبل، بمستقبل الوطن والأجيال الطالعة؟ من يهتم بنظام الوصاية الجديد، بحكم القناصل، بالتبعية المطلقة لأميركا وفرنسا؟ من يهتم بفرص العمل، بالمدرسة، بفاتورة الدواء وفاتورة الكهرباء، بإيجار المنزل، الخ...؟
وبعد كل ذلك نقول أن نظامنا ديمقراطي، والبشر في لبنان إنتخبوا ممثليهم الحقيقيين.
العرب والعولمة