المشروع الأمريكي بعد احتلال العراق

حميدي العبدالله

 

استغل المتطرفون في الولايات المتحدة هجمات 11 أيلول، وردودَ الفعل التي تركتها أمريكياً وعالمياً، لبعث برنامَجِهم الذي بدأ يتبلور مع ولاية الرئيس ريغان الأولى وتحويله من وجهة نظر يتحلق حولها بعضُ النخبة في المؤسسة الأمريكية إلى سياسة رسمية للإدارة الجديدة تحظى بتعاطف وتأييد شعبي واسع، وكان الهدف الأساسي للتحرك ليس الرد على الهجمات التي وقعت في 11 أيلول بقدر ما هو تنفيذ الخطط الموضوعة مسبقاً.

 

أهداف الخطط المسبقة

أولاً، استكمال السيطرة على منطقة الشرق الأوسط من أفغانستان مروراً بباكستان وحتى العراق، على أن تكون هذه السيطرة عسكرية ومباشرة لا تختلف عن تلك السيطرة الاستعمارية التي سادت في بداية القرن الماضي.

ثانياً، الاستيلاء على ثروة المنطقة النفطية، وخاصةً ثروة العراق، حيث النفط الرخيص، واستغلال ذلك لتركيع الدول التي بدأت تتطلع للعب دور منافس للاقتصاد الأمريكي، خصوصاً الصين واليابان والاتحاد الأوروبي.

ثالثاً، استغلال الهيمنة الأمريكية العسكرية في هذه المنطقة الشاسعة من الشرق الأوسط لإعادة صياغة الجغرافية السياسية على نحوٍ يخلق وضعاً يمكّن الولاياتِ المتحدة وقواتِها العسكرية من البقاء فترة طويلة في هذه المنطقة.

في هذا السياق جرى التخطيط لاحتلال العراق، وقد وضعت خططُ احتلالـهِ قبل خططِ احتلال أفغانستان، هذا مع العلم أن احتلال أفغانستان هو الآخر يعكس مطامع أمريكية لا تقل عن مطامِعِها في العراق، أي الاستيلاء على نفط بحر قزوين لاستخدامِهِ في دعم المصالح الإمبراطورية الأمريكية.

 

سياق غزو العراق

وجاء غزو العراق واحتلالُـه في سياق دولي يعكس أمرين على جانب كبير من الأهمية والخطورة.

الأمر الأول، عودة الصراع على الموارد بين الدول الكبرى محفوزةً بحاجة الاقتصاد العالمي لهذه الموارد، مما يذكر باستعار الصراع بين الدول الكبرى على هذه الموارد ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين.

يقول الكاتب والمحلل وثيق الصلة بوزارة الدفاع الأمريكية والمؤرخ للحروب الأمريكية المعاصرة «مايكل كلير» في كتابه «حرب الموارد» الذي صدر عام 2001 إن «الولايات المتحدة بوصفها المستهلك الرئيسي للنفط والغاز في العالم يجب أن تحتفظَ بحرية الوصول إلى الإمدادات فيما وراء البحار وإلا واجه اقتصادُها برمّته الانهيار» والازدهار في الداخل «يعتمد على الاستقرار في المناطق الرئيسية التي نتاجر معها أو نستورد منها السلع الحيوية مثل النفط والغاز الطبيعي»، كما قال الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون. وتحتل الحرب الاقتصادية المنزلـة نفسَها التي احتلتها الحرب الإيديولوجية في الحرب الباردة. فقد أعلن وزير الخارجية في عهد كلينتون في ولايته الأولى «وارن كريستوفر»: «لن نخجل من ربط دبلوماسيتِنا الرفيعة بأهدافنا الاقتصادية»، وأشار إلى أن «العالم قد دخل حقبةً تتفوق فيها المنافسة الاقتصادية على التنافس الإيديولوجي»، وأكد أن الإدارة الأمريكية «سوف تدفع الأمن الاقتصادي لأمريكا بنفس القوة وسعة الحيلة اللتين كرسناها لشن الحرب الباردة». ولكن ضدَّ مَن هذه المرة؟ بكل تأكيد ضدَّ الشركاء السابقين للولايات المتحدة في التحالف ضدَّ الاتحاد السوفييتي، أي ضدَّ فرنسا وألمانيا، والصين. ويؤكد كلير: «من الواضح أنه من غير الممكن تفسير القوى المحركة لشؤون الأمن العالمي بدون الاعتراف بالأهمية المحورية للمنافسة على الموارد بالنسبة لكل بلد تقريباً في العالم، أصبح السعي وراء الموارد الأساسية أو حمايتِها سمةً كبرى في تخطيط الأمن القومي». ويضرب كلير مثلاً لتوضيح موقفِهِ يفسر جزءاً كبيراً من الاستراتيجية الأمريكية، وخصوصاً احتلالها لأفغانستان، فيقول «قدِّرَت قيمة النفط غير المستخرَج من حوض بحر قزوين مثلاً، من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في عام 1997 بأنها تساوي حوالي 4 تريليون دولار، ولذلك يُنظَر إلى امتلاكه على نطاق واسع على أنه يستحق الاقتتال عليه». والصراع الذي سيكون السمة الجديدة للوضع الدولي الناشئ يؤكد، وفقاً لكلير، أن «المشهد الناشئ للصراع» يتكوّن من العوامل الثلاثة التالية: «الاتساع الشديد في الطلب على النطاق العالمي، ظهور عجز هام في الموارد، وتكاثر الخلافات على الملكية مما يجعل التوافق من الأمور الصعبة بين القوى الدولية الكبرى».

الأمر الثاني، تفكك النظام الدولي ثنائي القطبية الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وعودة الصراع بين الدول الرأسمالية على الأسواق والموارد، تماماً كما كانت عليه الحال في النصف الأول من القرن العشرين الذي أدى إلى اندلاع حربين كونيتين بين الدول الرأسمالية ذاتِها.

 

قطبا المواجهة

ومع الاحتلال الأمريكي للعراق، والنتائج التي أسفر عنها هذا الاحتلال، تدخل المطامع الأمريكية في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط مرحلَتَها الأخيرة. نقول مرحلتها الأخيرة لأنه حسب كل المؤشرات، فإن احتلال أفغانستان والعراق والتواجد العسكري الأمريكي في معظم دول منطقة الشرق الأوسط قد أوصل العلاقة بين شعوب المنطقة وبين الولايات المتحدة إلى مرحلة المواجهة المفتوحة، مرحلةٍ تشبه مراحل المواجهة التي حدثت في القرن العشرين بين الشعوب وبين الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية الأخرى، والتي انتهت برحيل الاستعمار، وانتصار حركات التحرر الوطني، وتحقيق السيادة.

والمواجهة اليوم بين الإمبراطورية الاستعمارية الجديدة ممثلة بالولايات المتحدة وبين شعوب منطقة الشرق الأوسط، في أفغانستان وباكستان والعراق، وفي الجزيرة العربية، وإيران، إضافةً إلى التضامن الذي تحظى به هذه الشعوب من شعوب الأقطار الأخرى في الشرق الأوسط ومن شعوب العالم، والتناقضات المستعرة من جديد بين الدول الرأسمالية على الأسواق والموارد، كلُّ هذا يؤكد أن الولايات المتحدة التي قامت بنشر إمبراطوريتِها الاستعمارية العسكرية بشكلٍ متدرّج منذ نهاية عقد السبعينيات تدخل اليوم مرحلةً جديدةً تشير إلى بدء العدِّ العكسي لهذا الوجود.

 

خلاصات

ويمكن في ضوء كل ما تقدّم استنتاج الخلاصات الآتية.

الخلاصة الأولى، الجهد الأمريكي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط وتحويلِهِ إلى منطقة نفوذ أمريكية، لم يتوقف منذ مطلع القرن الماضي، وشهد مدّاً وجزراً تبعاً لموازين القوى الدولية، وتبعاً لتوازن القوى بين شعوب المنطقة والقوى الاستعمارية، وخصوصاً موازين القوى التي تحكم العلاقة بين شعوب هذه المنطقة وبين الولايات المتحدة، حيث شهدت تقلباتٍ مستمرةً في العقود الماضية، تبعاً لتغير الأنظمة ونمو الحركات المعادية للاستعمار في كثير من أقطار الشرق الأوسط.

الخلاصة الثانية، كانت المعارك بين شعوب منطقة الشرق الأوسط، وبين الإمبراطورية الاستعمارية الأمريكية معاركَ كرٍّ وفرٍّ. ففي بعض الأحيان تحقق الولايات المتحدة نجاحات، وبالتالي تعزز سيطرتها على مناطق جديدة وإضافية، وأحياناً أخرى تحدث انتكاسات ويتراجعُ نفوذُها. ففي عقدي الخمسينيات والستينيات خسرت الكثير من مواقع نفوذها في المنطقة، ولكنها تمكنت من ترسيخه في كل من إيران وتركيا وباكستان وهي دولٌ محوريةٌ، في مقابل خسارتها للعراق ولمصر ولمناطق واسعة في الخليج العربي. وفي عقد السبعينيات خسرت الولايات المتحدة أهم أحد مراكز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط بعد قيام الثورة الإيرانية، ولكنها عوّضت هذه الخسارة بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، حيث انتقلت دولةٌ محوريةٌ أخرى من دول الشرق الأوسط إلى جانب الولايات المتحدة، وتحوّلت مصرُ إلى منطقة نفوذٍ أمريكيةٍ، وساعدت على تدعيم السياسة الأمريكية في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط وأجزاءٍ من إفريقيا.

الخلاصة الثالثة، جهود الولايات المتحدة الحالية لإحكام سيطرتها على الشرق الأوسط اتخذت بعداً جديداً في أعقاب انهيار نظام الحرب الباردة بعد أن أيقنت أن العقبة التي تعترض سيطرتَها على المنطقة قد زالت نهائياً، ولهذا سرّعت ووسعت نطاقَ محاولاتها للسيطرة. وفي هذا السياق المتواصل يأتي احتلال العراق وأفغانستان، وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج والأردن والعراق.

الخلاصة الرابعة، المشاريع الأمريكية للهيمنة على الشرق الأوسط تدخل مرحلةَ بروز المآزق التي تقودُ إلى بدء العدِّ العكسي للسياسة الإمبراطورية التي بدأت مع مطلع القرن الماضي، وتتجلى هذه المآزق في ثلاثة مجالات أساسية:

المجال العسكري، حيث بلغ انتشار هذه القوات ذروتَه في مناخٍ يتّسم بالعِداء الشديد للولايات المتحدة، وقد أصبحت جميع قواتها العاملة في الخدمة الميدانية، وباتت عاجزةً عن نشر المزيد من القوات في العراق وفي أفغانستان، ومن باب أولى في أي منطقة يمكن أن ينفجر فيها صراعٌ مسلحٌ ضدَّ الوجود الأمريكي.

وفي تقرير لوكالـة «رويترز» حمل عنوان «الحرب في العراق تزيد الضغط على القوات الأمريكية»، نقلت الوكالـة عن اللفتنانت جنرال «جيمس هلملي» قوله: «إن الحرب في كل من العراق وأفغانستان وضعت جميع المتطوعين من قوات الجيش الأمريكي تحت الضغط، وأثارت القلق حول القدرة على إعادة تجنيد القوات، وبصفة خاصة في الخدمة لبعض الوقت ووحدات الحرس الوطني التي يستعان بها لدعم القوات النظامية». ويضيف التقرير أنه تم حتى الآن «استدعاءُ نصف أفراد قوات الاحتياط بالجيش الأمريكي، وعددهم مئتان وستةُ آلاف منذ هجمات الحادي عشر من أيلول وهناك الآن نحو ثمانيةٍ وثلاثون ألفاً وخمسمئةٍ منهم في الخدمة».

المجال المالي، بلغ الإنفاق على الموازنة ذروته، وخاصةً الموازنة الحربية، مما رفع كلفة تمويل الحرب إلى أضعاف ما هي عليه المكاسب التي كان يمكن أن يتم جنيها من العراق، وأصبح عجز الموازنة الأمريكية التي كانت حتى عام 2000 تتمتع بفائض كبير تجاوز المئة وخمسة وستين مليار دولار حوالي 400 مليار دولار.

وهذه التحديات التي تواجه السياسة الأمريكية في كل أنحاء العالم هي التي تجعل طموحَها للهيمنة الإمبريالية، وبسط سيطرتها الإمبراطورية، من الأمور المشكوكِ بها، وتثير جدلاً صاخباً داخل الولايات المتحدة، يؤشر إلى انحدار المشروع الإمبراطوري الذي حافظ على صعوده رغم التذبذبات منذ مطلع القرن الماضي.

 

شهادات أميركية وعالمية

ولكي لا تظلّ هذه الاستنتاجات في إطار التصور الذاتي لا بدّ من دعمها بشهادات واضحة وقاطعة من داخل الولايات المتحدة، ومن خارجها، وعلى لسان مفكرين وقادة سابقين وشخصيات بحثية. فالتساؤلات حول المقدرة العسكرية المتوفرة لدى الولايات المتحدة في إدارة «مشروع إمبراطوري» شكك فيها باحثان مرموقان هما الفرنسي إمانويل طود والأمريكي شالمرز جونسون اللذان أكدا «أن الولايات المتحدة تبالغ في تقييم قدرتها في إدارة العالم». ويؤيد هذا الرأي كلٌّ من «توماس بيكرينغ» دبلوماسي أمريكي سابق، وجيمس شليزنغر وزير دفاع أمريكي سابق، وإريك شوارتز المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الذين يؤكدون أنه طوال عقد التسعينات من القرن الماضي كان التدخلُ الأمريكيُ في جهود إعادة الإعمار بعد الحرب، قد كشف أن تناول الأمن العام والحكم الانتقالي والتنمية الاقتصادية وعملية الانتقال السياسية، كان تحدياً أعقد بصورة هائلة وتطلب موارد أنهكت بقسوة قدرات الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.

كما أن التحديات التي تواجه السياسة الأمريكية في عراق ما بعد الحرب، وبالنظر إلى المخاطر الجيواستراتيجية، وخطر الصراع الإثني والمقاومة المسلحة والتعقيدات السياسية لإدارة الاحتلال، كانت أشدّ وعورة من تلك التي واجهت المسؤولين الأمريكيين في حالات سابقة». ويؤكد «أنتوني كورديسمان» الأستاذ في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في واشنطن أنه «حان الوقت لمواجهة الواقع، إذ لم يسبق أن كان هناك أبداً وقتٌ اتسمت فيه تخيّلات المحافظين الجدد عن الشرق الأوسط بوصفها أوهام خطيرة مثل هذا الوقت، ولقد قتلت هذه الأوهام وجرحت آلافاً من الأمريكيين ومن قوات التحالف، وهي الآن تهدد الولايات المتحدة بهزيمة استراتيجية خطيرة».

ويؤيد كل هؤلاء فيما ذهبوا إليه، الباحث الأمريكي المعروف «أندرو باسيفيتش» في كتابه الذي صدر حديثاً الذي يحمل عنوان «الإمبراطورية الأمريكية». يعرض هذا الباحث الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة عاجزةً عن الاستمرار في سياسة الإمبراطورية في حال تنفيذ هذه السياسة، ويؤكد استنتاجه هذا من خلال الاستعانة بنصٍّ لمؤرخ أمريكي معروف هو «ريتشارد بيرد» الذي يعتقد «بأنه كلما ازداد إصرار الولايات المتحدة على فتح العالم ازدادت المعارضة التي يحتمل أن تواجهَهَا». ويضيف بيرد «لم يكن تكوين المجتمع الأمريكي، ولا الثقافة السياسية الأمريكية مناسبين للاستراتيجية التوسعية الأمريكية. بوجود مجتمع مقسم إثنياً ودينياً، يقدّس الحرية الفردية والإشباع الذاتي، وبدون نظام ملكي راسخ منذ زمن طويل، أو كنيسة حكومية، أو أرستقراطية مالكة ثابتة، كان الأمريكيون يفتقرون إلى اللحمة، وعادات نكران الذات، والاحترام الطبيعي للسلطة. أي إنهم يملكون القليل من المزايا التي تدلُّ على قابليتِهم لتحمّل حملات شاقة وطويلة من أجل إعادة ترتيب النظام الدولي. فالقيم المتأصلة في أمريكا لم تكن مثل التي كانت في روما الإمبراطورية أو بريطانيا الإمبراطورية». ويصل بيرد إلى استنتاج حاسم: «فتحقيق رفاه الأمة (وهو الهدف الذي تسعى إليه الإدارة الأمريكية) عن طريق المغامرة خارج حدود إطار الأمن القومي، عبر التورط بتدخلات عسكرية في الخارج، أو بحروب لا علاقة لها بالبقاء القومي، كان يعني الإفراط في التوسع والاستنزاف والانهيار في نهاية المطاف».

الملياردير «جورج سوروس» كتب تحت عنوان «فقاعة الهيمنة الأمريكية» يقول: «السعي وراء الهيمنة الأمريكية يمكن وصفُه بالفقاعة. فالمكانة المهيمنة التي تحتلُّها الولايات المتحدة في العالم تمثل عنصر الحقيقة التي يتم تشويهُها وتحريفُها. أما الافتراض الذي يقول إن الولايات المتحدة ستكون في وضع أفضل إذا ما استخدمت مكانتَها في فرض قيمِها ومصالحِها على الناس كافةً، فهو افتراضٌ لا يمثل إلا سوء الفهم والإدراك، بل إن الأمر معكوسٌ تماماً، فالولايات المتحدة لم تستطع الوصول إلى ما هي عليه الآن، إلا من خلال عدم استغلالها لقوتها». ويتساءل سوروس: «ولكن أين نحن من هذه العملية الفقاعة؟»، ويجيب «إن الوضع المتدهور في العراق ليس إلا لحظةً متجلّيةً للحقيقة أو لحظة متجلية للامتحان». ويشرح سوروس ما يقصد بذلك فيقول: «عملية عسكرية منيت بهذا الفشل الذريع، كما منيت عمليتَنا العسكرية في العراق، رتبّت نتائج، فها هم جنودُنا، وقد أجبروا على القيام بمهام الشرطة، وهم في ملابس المقاتلين، لتحصدَ رؤوسُهم يوماً بعد يوم. نحن لم نعرض فقط حياتَهم للخطر، بل عرضنا أيضاً فعاليتهم القتالية، ومعنوياتِهم التي أتلفت ودمّرت بفعل الحرب في وقتٍ لم نعُد فيه قادرين على التخطيط لقوتنا المستقبلية، خاصةً وأن مصادر التهديد باتت متواجدة، ليس في مكان واحد، بل في أكثر من مكان. فها هي كوريا الشمالية تدشن مشاريعها النووية في العلن، وها هي إيران تفعل نفسَ الأمر، ولكن في الخفاء، وها هي طالبان تعيد جمع نفسِها في أفغانستان، وها هو ثمن احتلال العراق يحلّ علينا ومعه ظلال الحرب الدائرة التي أثقلت كاهِلَنا الاقتصادي، وفي غمار كل ذلك يظهر فشلُنا في مواجهة مشاكل كثيرة قد تقيّحت وتعفنت، إننا إذا أردنا دليلاً دامغاً على أكذوبة الحلم الأمريكي للهيمنة، فلن نجد أدلَّ من واقعة احتلالِنا للعراق... فلا مفرّ من مواجهة مستقبل أكثر مرارة مما نواجهه الآن، لندفع الثمن غالياً، ولكن هذه المرة أغلى من أي مرة سابقة». ولعل هذا هو الذي سيضع حداً للأحلام الأمريكية إزاء مشاريعها الإمبراطورية، وخاصةً في الشرق الأوسط.

والتحذير ذاتُه أطلقه «زبيغنيو بريجنسكي» مستشار الأمن القومي السابق في كتابه الصادر حديثاً «الاختيار» حيث كتب تحت عنوان «الرمال المتحركة للهيمنة» يقول: «في العقود القليلة المقبلة، ستكون البلقان العالمية الجديدة (أي منطقة الشرق الأوسط الكبير) أكثر المناطق تقلباً وخطورة في العالم، مع احتمال أن يؤدي انفجارُها إلى إغراق العالم في الفوضى. وهي المنطقة التي يمكن أن تنزلق فيها الولايات المتحدة إلى التصادم مع العالم الإسلامي، في حين يمكن أن تؤدي الاختلافات في السياسة بين أمريكا وأوروبا إلى إحداث اضطراب في الحلف الأطلسي. ويمكن للاحتمالين معاً أن يعرضا الهيمنة العالمية الأمريكية السائدة للخطر». وهذا التحذير لا يأتي من فراغ، بل إن هناك الكثير من الشواهد على انزلاق الولايات المتحدة إلى هذا المحذور بفعل الرغبة في الهيمنة والسيطرة والاحتلال التي تجلّت بقوّة وسفور إثر احتلال أفغانستان والعراق.

وعن أثر احتلال العراق على مجمل السياسة الإمبراطورية للولايات المتحدة تقول صحيفة «واشنطن بوست» نقلاً عن مؤرخين واختصاصيين عسكريين: «إن الحرب في العراق من الأهمية بمكان بحيث أنها لا تقلّ شأناً عن غيرها من الصراعات التي خاضتها الولايات المتحدة، من حيث تأثيراتُها على السياسة الوطنية والرأي العام الأمريكي». وتنقل عن «كاليف سيب» ضابط القوات الخاصة السابق الذي يقوم بتدريس التحليلات العسكرية في إحدى مدارس البحرية الأمريكية قولَـه: «لقد بدأت الحرب في العراق كمجرّد تدخّل، ولكنها اتسعت لتصبحَ حرباً صغيرةً، ولكنها تقفُ على أبواب التحوّل إلى حرب متوسطة، بالمقاييس التقنية لحروب الولايات المتحدة». وترى الصحيفة أنه في حين «يرى محللون آخرون أن هذه المقاييس قد لا تكون كافية لتقدير أهمية هذه الحرب، إلا أن عواقبَها وتأثيراتهِا السياسية ليست أقلّ تأثيراً من أية حروب رئيسية، إذا ما أخذ بعين الاعتبار الأثر الذي تركته على مكانة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط برمّتها وليس مدى استمرار نفوذها في العراق وحده».

المؤرخ الأمريكي الشهير «آرثر شيلزينغر» يعقد مقارنة بين ما يجري لأمريكا في العراق وما جرى لها في فيتنام، ويستنتج «أن العراق وفيتنام يمثلان حالتين متباينتين من حيث العناصر الحيوية. ففي فيتنام أدخلنا أنفُسَنا نحن الأمريكيين في حرب أهلية أزلية، وفي العراق فرضنا حرباً على بلد لأسباب اتضح أنها زائفة، مع ذلك فإن العراق وفيتنام يمثلان أيضاً حالتين متماثلتين في واقع الأمر من حيث مفعول المستنقع، ومن حيث نقص الخبرة التاريخية والمعرفة الثقافية، مع كل ما يتبع ذلك من جهل وعجرفة لا يؤديان بنا إلا إلى المستنقع». والمستنقع كما برهنت التجربة الفيتنامية هو الطريق الحتمي إلى الهزيمة والانسحاب الأمريكي.

وهكذا نجد أن هناك ما يشبه التيار الجارف في وسط الذين ينظرون بعين ثاقبة إلى المستقبل، ويحللون الظواهر بعيداً قليلاً عن الرؤية القاصرة والمخادعة، ما يؤكد بأن ما قامت به الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول، يقرب المشروع الأمريكي من نهايته، عكس كل التصورات السائدة والمهيمنة لدى فئات في مجتمعنا، صدّقت ما تضخه الدعاية الأمريكية.

 

ملامح إستراتيجية جديدة

لكن هذه الاستنتاجات والتوقعات تشمل الآفاق الاستراتيجية للمشروع الأمريكي بعد تعثره في العراق وحتى في أفغانستان، وبعد ازدياد العداء للولايات المتحدة، ولهذا سارعت مراكز الأبحاث والقوى المؤثرة في صنع القرار في الولايات المتحدة إلى وضع استراتيجية بديلة عن الاستراتيجية السابقة التي جرى التحضير لها طيلة عقد التسعينيات والتي تم تنفيذها بعد أحداث 11 أيلول. وتتجسد الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي تحدد ملامح السياسة الأمريكية في ولاية بوش الثانية في المحاور الآتية.

المحور الأول، سقوط، أو على الأقلّ تراجع، مبدأ الضربات العسكرية الاستباقية. وإذا كانت الإدارة الأمريكية لم تسحب نهائياً تصوّرها لهذا البعد في استراتيجيتها السابقة، إلا أنها لا تمتلك الموارد والإمكانات لتنفيذها إذا ما واجهتها أي تحدّيات جديدة.

المحور الثاني، التخلي عن مبدأ السياسة الأحادية التي جرى التركيز كثيراً عليها من قبل إدارة بوش قبل غزوه العراق لصالح التعاون الدولي، وخصوصاً مع أوروبا، حيث زالت التصريحات العنجهية التي كان يطلقها رموز إدارة بوش في ولايته الأولى. وفي هذا السياق أوصت «مجموعة الدراسات الرئاسية» في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، وهي مجموعة تضم مسؤولين سابقين كبار في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولها تأثير واسع على صانع القرار في الولايات المتحدة، أنه «يتوجب على الرئيس بوش أن يتولى دبلوماسية قادرة على تقوية دور الحلفاء ودعم المؤسسات الدولية، وتوسيع حلقة هذا التحالف قدر المستطاع، والإصغاء لوجهات نظر الحلفاء والتعاطف مع آرائهم والترحيب بكل الفرص المتاحة لكل الحلفاء والأصدقاء والمنافسين وشرح موقف أمريكا العقلاني إذا ما تصرفت بشكل منفرد».

المحور الثالث، التخلي عن سياسة احتقار وازدراء وتجاوز الأمم المتحدة واعتمادها كأساس في مواجهة تحدّيات السياسة الخارجية ومواجهة بؤر التوتر المنتشرة في أنحاء مختلفة من العالم.

المحور الرابع، التركيز على التدخّل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة في دول الشرق الأوسط الكبير عن طريق ما بات يُعرَف بدبلوماسية الأموال، أي التوظيف في شراء القوى السياسية والحزبية والأهلية والعمل على توظيفها في إطار الاستراتيجية الأمريكية التي تستلهم نظرية نتان شيرانسكي الوزير الإسرائيلي اليميني المتشدد عن الحرية والديمقراطية حيث تحلّ هذه الاستراتيجية محلّ استراتيجية الفتوحات العسكرية التي تعثرت في العراق وأفغانستان، وبات من المستحيل تكرارها في بلدان أخرى في وقت قريب. وجعل المدخل لتنفيذ هذه الاستراتيجية ما بات يُعرَف باسم "الفوضى البنّاءة" وهذا ما يفسر تشجيع الولايات المتحدة للاضطرابات والتحركات السياسية في دول حليفة للولايات المتحدة.

 

شروط تغيير الاستراتيجية

ومن أجل توفير شروط اعتماد الاستراتيجية الجديدة تم إبعاد فريق المحافظين الجدد عن المفاصل الحساسة في الإدارة لصالح المحافظين التقليديين في الحزب الجمهوري، وتأتي في هذا السياق استقالة دوغلاس فيث وكيل وزارة الدفاع من منصبه، وانتقال نائب وزير الدفاع بول وولفويتز إلى البنك الدولي.

تلخيصاً لهذه التحولات التي شهدتها الاستراتيجية الأمريكية بعد تسلّم بوش لولايته الثانية كتب «ديفيد جاي روثكوف» العالم الزائر في "مؤسسة كارينغي للسلام الدولي" الأمريكية، ومؤلف كتاب «إدارة العالم: بواطن مجلس الأمن القومي ومحرك القوة الأمريكية» في مجلة «فورين بوليسي» يقول تحت عنوان «داخل اللجنة التي تحكم العالم»، إن اللجنة التي تحكم العالم نتيجة سيطرة الحزب الجمهوري على البيت الأبيض ومجلس الشيوخ ومجلس النوّاب في دورتين انتخابيتين عامتين رغم احتكارها السياسي «فإن النخبة التي تمارس النفوذ الأكبر على هذه اللجنة الغامضة تهزّها قوى من الداخل وتفرّقها»، وبدأ صراع قوة بين الذين يسميهم «التغييريين» أي المحافظين الجدد، وبين البراغماتيين المناهضين للمحافظين الجدد ودعاة التعاون بين الدول ضدَّ «الانفراديين». وحول نتائج هذا الصراع يقول «روثكوف»: «إن وزارة الخارجية ستغير رايس أكثر مما ستتمكن رايس من تغيير وزارة الخارجية». ويضيف أنها «شكلت فريقاً من كبار المستشارين الذين يميلون إلى التيار التقليدي. وللكثيرين منهم خلفيات متينة في العلاقات عبر الأطلسي، ما يوحي برغبة في جعل إصلاح التحالفات التقليدية يتصدر سلّم الأولويات». ويؤكد روثكوف أن «الطابع العسكري للسياسة الخارجية الأمريكية سينحسر مؤدّياً إلى تقلص نفوذ وزارة الدفاع التي تعاني تبعات خطواتها المتعثرة». ويضيف «مع بروز رغبة واضحة في إعادة تحويل الانتباه إلى المسائل الداخلية مثل الضمان الاجتماعي، من المرجح أن يتلاشى مفهوم حكومة الحرب المترسخ في الأوساط الداخلية لإدارة بوش، ما سيعيد ربما المزيد من التوازن إلى التنافس بين وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الذي كان مركز اهتمام مجلس الأمن القومي الأمريكي منذ بداية تشكيله».

وهكذا فإن المشروع الأمريكي ما بعد احتلال العراق يعاني من تعثر وتراجع على المستوى الاستراتيجي، ويتغير على المستوى الراهن والتكتيكي نحو سياسة أقرب إلى السياسة التقليدية السابقة لوصول بوش الابن إلى البيت الأبيض.

 

حميدي العبدالله