إيران وسورية إلى اليسار در ضغوط لا تنفع وحوار إلى القطيعة |
ميخائيل عوض
بيروت 30-6-2005
في سورية وإيران تطورات وأحداث مؤسسة من شأنها أن تنعكس على الوضع اللبناني بقوة بسبب حضور الدولتين وعلاقاتهما بالجاري في لبنان، وكون الحملة الأمريكية الأوروبية تستهدف الدورين معا عبر القرار 1559 والسعي لإبعاد البلدين عن الساحة بأي ثمن وبسرعة قصوى، ناهيك عن كون المعركة على لبنان في جوهرها واستهدافاتها المباشرة وغير المباشرة هي معركة على طهران ودمشق كما هي الوقائع والإعلانات المتكررة من قبل الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية.
الحرب على العراق، كانت في جانب أساسي منها حرب على دمشق وطهران وحرب لقصم ظهرهما وكسر تحالفهما وقطع الاتصال البري الذي بدأ يتأسس بمصالحات سورية عراقية وإيرانية عراقية قبيل الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله.
الضغوط الأمريكية، والحملة الإسرائيلية على التكنولوجية النووية الإيرانية تكثفت خلال الفترة الماضية بقوة، وتناسقت معها المواقف الأوروبية بعد التراجعات التي مارستها الترويكا الأوروبية، عن التزاماتها إزاء إيران وملفها النووي، وتشديد ضغطها في المفاوضات مع إيران لإرضاء الضغط الأمريكي الإسرائيلي.
تباينت طرائق التعامل السوري عن الإيراني في مختلف الملفات خلال السنوات الثلاثة الماضية، فبخصوص الموقف من غزو العراق كان التباين بين سورية وإيران واضح، وكذلك في خصوص الغزو الأمريكي الدولي لأفغانستان، والحملة الأمريكية على العرب والمسلمين، وكذلك الأمر بما يخص الهجوم على الساحة اللبنانية والفلسطينية، غير أن الدولتين والقيادتين استمرتا على تنسيق وتحالف استراتيجي في شتى الملفات والمجالات، وربما كان التباين في المواقف منسقا بصورة مسبقة ولأهداف بعينها، بما يأخذ بعين الاعتبار حاجات كل جهة، وواقعها.
غير أن الحملة والضغوط الأمريكي الأوروبية، لم تفرق بين الدولتين والموقفين ولم تأخذ بعين الاعتبار تلك التباينات، فاستمرت الهجمة الأمريكية وتضافرت معها المواقف الأوروبية، وتركزت إلى حد كبير على إيران مرة باتهامها ببذل جهود للسيطرة السياسية على العراق عبر الانتخابات ومرات باتهام إيران بإيواء منظمة القاعدة والتعامل مع الزرقاوي والمقاومين العراقيين ودائما بما يخص ملفها النووي، وأوضاعها الداخلية، وجرت مساعي كثيرة لفرض أجندة أمريكية أوروبية بما يخص آليات انتظام الحياة السياسية والدستورية والديمقراطية الإيرانية بلغت حد التدخل المباشر والسافر في الأوضاع الإيرانية بتبني تحركات الطلاب والإصلاحيين وتمويلهم وتوجيههم وتوفير الوسائل الإعلامية المساندة لهم.
لم تخفِ الإدارة الأمريكية مرارا أنها تراهن على أن تثمر الضغوط الخارجية والحصار الاقتصادي والتهديد بعرض ملف إيران النووي على مجلس الأمن تأثيرات داخلية تؤدي إلى زعزعة الاستقرار وتصعيد نخب إيرانية انفتاحية على المشروعات الغربية المندفعة لإعادة هيكلة المنطقة ومنها في القلب إيران وسورية. وكان رهان كبير لدى مختلف الدوائر على نتائج الانتخابات الرئاسية بعد أن فشلت الرهانات على تحركات الإصلاحيين الشارعية، وعلى فترة خاتمي كمرشح للإصلاحيين، ونتائج الانتخابات البرلمانية التي أزاحت فريق الإصلاحيين من دعاة الانفتاح على الغرب وتبني الديمقراطية الغربية والتعامل إيجابا مع الضغوط والإملاءات. غير أن النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات الرئاسية في إيران شكلت صفعة قاسية لتلك الرهانات، الأمر الذي دفع بقادة إسرائيل لإطلاق تصريحات نارية وكذلك في البيت الأبيض والإدارة الأمريكية، حتى أن الأوروبيون ارتبكوا وأطلقوا تصريحات متناقضة بشأن ما جرى.
بعيدا عما تريده أمريكا، وما تخطط له، وما تسعى إليه، وللأسباب التي دفعتها لاحتلال أفغانستان والعراق، وسعيها المحموم لاعتمادهما منصة لإحداث تغييرا في الدول المجاورة وقلب موازين القوى والتأثير على البلدان وهيكلياتها وتشكيلاتها السياسية والاقتصادية، جاءت النتائج الإيرانية مختلفة تماما وغير متوقعة لبعض الدوائر وعلى غير حسابات حقل التفاهمات الأوروبية الأمريكية.
اندفعت إيران إلى الراديكالية والصلابة في ملفاتها المختلفة، فالانتخابات النيابية والرئاسية وتصميم القيادة الإيرانية والمجتمع، كما أكدت نتائج تلك الانتخابات على المقاومة والصمود، وتجديد الفكر والنهج الثوري، وتجديد الأشخاص والإتيان بقادة من الصف الثاني لقادة الثورة وأجهزتها بمثابة تعبير حاسم عن التمسك بقيم وثوابت وشعارات الثورة على المستويات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية الاجتماعية، فمثلت هزيمة الإصلاحيين في الانتخابات النيابية خطوة كبيرة لصالح القيادات والقوى المتمسكة باستقلال إيران ودورها الداعم للمقاومات، لا سيما في فلسطين، والرافضة لأي إملاء أمريكي أوروبي، والرافضة لأي شروط تحد من قدرات إيران العملية والعسكرية والاقتصادية ودورها الإقليمي الدولي الساعية إليه.
مثل صعود نجاد بحسب كل القراءات والآراء صعودا للتيار الوطني الراديكالي في عدائه للتدخلات الخارجية ورفضه أي مساومة أو ابتزاز في موضوع الملف النووي، أو في الخيارات الداخلية لإيران، خاصة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي وشكل انتصار نجاد وبرنامجه الاجتماعي الذي خاطب الفقراء والتزم أمامهم بالعدالة الاجتماعية وبضبط الفساد والهدر، وبتحويل جزء من ناتج الثروة النفطية لصالح فقراء المدن والريف، ضربة قاصمة لمشاريع لبرلة الاقتصاد الإيراني أو لخطوات الانفتاح على الاقتصاد العالمي المعولم والملبلر، والعودة إلى شعار "ونريد أن نمنى على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"، والتمسك بالنهج والخاصيات الإيرانية والقيم الإسلامية دون أن يعني ذلك العودة إلى وضع قيود وضوابط على الحريات الشخصية، وبما يعني المسلكيات في اللباس وأنماط الحياة، ودور المرأة الإيرانية، ومسألة الحريات السياسية والإعلامية وحضور الفضائيات والرأي الأخر.
دروس ثمينة
- الضغط الخارجي يدفع إيران إلى التماسك، ويعزز خياراتها ويستعجل حسم الصراعات الداخلية لصالح رفض المشروعات والاملاءات الأمريكية الأوروبية.
- الحدث الأفغاني والعراقي وانكشاف طبيعة الدور والمصالح والممارسات الأمريكية والأممية عزز من تماسك المجتمع الإيراني واندفاعته إلى اليسار والعودة إلى ينابيع الثورة وشعاراتها.
- الإفلاس الذي تعاني منه أمريكا في العراق وأفغانستان، وتراجع دورها وحضورها وانكسار هيمنتها في أمريكا اللاتينية وتمرد الصين والهند وروسيا، وتبلور مراكز قوة عالمية جديدة اقتصادية وسياسية كمقدمة لتصبح عسكرية، يحفز الإيرانيين على المعاندة والصلابة ورفض الشروط ورفض التدخلات الخارجية مهما كانت ومن أي جهة أتت.
- الثورة الإسلامية الإيرانية وقاعدتها الاجتماعية وأهدافها ما زالت حية، والشعب الإيراني مازال حيا قادرا على تجديد ثورته وبلورة قيادات جديدة قادرة على فهمها وبعث الحياة والعصرنة فيها. ان الجهد والهم الأساس ما زال تعزيز وتطوير الاستقلال الإيراني وحمايته، وتطوير دور إيران الإقليمي والدولي، بصفتها دولة إقليمية وازنة لا تقبل التبعية والإملاء.
- استنفذت في إيران مشاريع الإصلاح المتأمركة وانكشفت، وفرملت خلال العقد الأخير، فباتت في مؤخرة الحدث وفي حالة عجز عن إقناع واستقطاب الإيرانيين وكسب ودهم وقلوبهم بعد ان انكشفت حقيقتها المعاشة فيما يلمسه الإيرانيون من الجيران الأقربين في أفغانستان والعراق حيث العلاقات الاجتماعية والدينية والقربى قوية جدا.
- إيران تنهض، معتمدة على قدرات كبيرة، وعلى استقلال وتطوير نوعي في الأداء الصناعي، والنفطي، والتماسك الاجتماعي والسياسي، وعلى ما تحقق من قدرات عسكرية نوعية ودخول عالم تكنولوجيا الفضاء والصواريخ والطاقة النووية. وهي لم تعد بأي حال بحاجة إلى الغرب عموما وأمريكا خاصة سيما إذا كانت العلاقات مشروطة باملاءات داخلية وخارجية وتهدف إلى تقزيم قدرات إيران ودورها الإقليمي الذي تتحفز له.
وكذلك في سورية
ما جرى في إيران، جرى شبيه له في سورية، وان عن طرق وبآليات مختلفة، بسبب الاختلاف في الظروف وطبيعة الدولتين وتجربة الشعبين.
فسورية التي تركز عليها الضغط والهجوم عشية سقوط بغداد وبات التعاطي الأمريكي ومن ثم الأمريكي الأوروبي معها تعاطيا فوقيا إملائيا حول دورها في لبنان وفي فلسطين والعراق وبإزاء خططها للإصلاح الداخلي وفي بنيتها السياسية والاجتماعية، تمردت على تلك الضغوط بالرغم من بلوغها لحظة قصوى في لبنان أدت إلى هزيمتها وانسحابها مذلولة ورفع يدها عن أي تدخل أو دور في حديقتها الخلفية وبوابتها الأكثر خطرا "الخاصرة الرخوة"، تاركة الباب مفتوحا على مصراعيه للتدخلات السافرة الفرنسية والأمريكية التي بلغت ذروة غير مسبوقة من التدخل التفصيلي في كل شاردة وواردة، بدءا من تقرير الحكومة ورئيسها إلى الانتخابات ولوائحها ومجرياتها الميدانية إلى التدخل في خيارات النواب وكتل المجلس حول من يكون رئيس ومن لا يكون إلى أخر المعزوفة التي باتت معاشة ومعروفة.
لقد وقفت وسورية في قلب الصراع وعلى خط النار في جنباتها الثلاث، لبنان وفلسطين والعراق وليست مرتاحة في جنبتها الرابعة الأردن وامتداداتها العربية. ووضعت في عين العاصفة على جدول أولويات الأهداف الأمريكية الإسرائيلية والتحالف الأمريكي الأوروبي، وباتت حاضرة في قرارات مجلس الأمن واهتمامات كل من بوش وفريقه وشيراك وفريقه ناهيك عن بلير وانان والآخرون. وعاشت فترة حرجة في بنيتها الداخلية والتفاعلات الجارية بين الداخلي والخارجي وتنشيط المعارضات واحتوائها من قبل المشروع الأمريكي والأوروبي، وأنعطب إصلاحها وتعطل فترة طويلة. وتحملت أعباء الانسحاب الانهزامي من بيروت بما في ذلك كتلة اليد العاملة، التي زادت من ضغط الحاجات الاقتصادية والاجتماعية وأزمة العاطلين عن العمل...
إن سورية هذه المهددة في كل لحظة والمحاصرة والمضغوط عليها من كل الجنبات، كان يخطط لها أن تسقط من الداخل. وكان يجري التفكير الأوروبي والأمريكي حولها بأن مزيدا من الضغط قد يدفعها إلى التسليم أو اعتماد النهج الإصلاحي المفروض من التفاهمات الأوروبية الأمريكية. وكان الرهان، إن هي لم تفعل في السعي لتفخيخها وتفجير تناقضات داخلية مفترضة في بنية النظام والدولة والحزب، أو في المجتمع، أو بالتفاعل بين الداخلي والخارجي... وكلها أمور وخطط معلنة ومعروفة.
فماذا كان على سورية أن تفعل؟ وكيف فاجأت الجميع بدورها؟ وما هي الدروس المستفادة؟
- تسلحت القيادة السورية بالانسحاب من لبنان لتعزيز نفوذها الداخلي، ولوضع حد لحالة الارتباك والمراوحة في المكان بما يخص الإصلاح. وتيقن السوريون أن الأمر المطلوب ليس الانسحاب من لبنان بل استهداف سورية بمجتمعها ووحدتها واستقرارها وثباتها على قيمها المبدئية.
- أدى اشتداد الضغط على سورية من الجهات الأربع إلى دفع المجتمع السوري للتحلق أكثر حول الدولة والقيادة، وعزل القوى المرتبطة بالخارج في المجتمع أو في البنية العامة، وتشديد الضغط عليها ورفع صوت الرأي العام في مواجهتها على أنها اختراقات خارجية وأدوات تساعد في إضعاف منعة ووحدة وقدرات سورية على المواجهة، فتوفرت فرصة ذهبية للقيادة سرعت من قدرتها على حسم الحالة والاستقرار على الخيارات الوطنية والاجتماعية بإضعاف الفريق الليبرالي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
- اندفعت سورية إلى إقامة علاقات قوية وتقويتها مع الشرق، الصين وروسيا وماليزيا، وباتجاه أمريكا اللاتينية، على حساب رهانات كانت معقودة على أوروبا التي غدرت بسورية وانقلبت لصالح أمريكا وإسرائيل.
- أعادت تنظيم علاقاتها مع موسكو بما في ذلك تصفية الديون، وصفقات سلاح متطورة، وتعاقدات اقتصادية وسياسية إستراتيجية فتحقق لكل من سورية وروسيا مكاسب جمة تسهم في تحصينهما في مواجهة الاستهداف الأمريكي الأوروبي الذي عبر عن نفسه في الملف اللبناني، وفي ملفات آسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق من مثل أوكرانيا وجورجيا...
- حسمت خياراتها الاقتصادية، باتجاه اقتصاد التنمية الوطنية الشاملة القائم على قواعد اقتصاد السوق الاجتماعي بدل نظريات اقتصاد السوق والانفتاح والتكيف الهيكلي مع شروط البنك الدولي و"تفاهمات واشنطن"، وجرت عملية إضعاف واحتواء القوى والكتل التي كانت تنادي وتسعى من اجل تكيف سوري مع الهجمة الليبرالية.
- جاء المؤتمر القطري العاشر بمثابة لحظة إعادة تأسيس للحزب، ولسورية، أكدت أعماله وقراراته وخطابات الرئيس فيه عن قدرة سورية على تجديد نفسها وخطابها وتمسكها بثوابتها وخياراتها واستعدادها للمواجهة إذا ما فرضت عليها. وكانت تجربة صواريخ سكود، وشراء الأسلحة الروسية بمثابة أدلة قاطعة على هذا التوجه وعلى تمسك سورية بخياراتها وعدم ارتهابها لسقوط أفغانستان وسقوط بغداد ووجود أمريكا كجار لسوري.
- تمسكت وتشددت بتمسكها بالحق بالمقاومة في الساحات العربية كلها، خاصة في العراق وفلسطين ولبنان، ولم تساوم عليها ولا ظهرت عليها استعدادات للمساومة.
في النتيجة العملية، تبدو سورية وإيران لهما قابلية تجديد نفسيهما، والتكيف مع الضغوط ليس في صالح الاستجابة لها بل في اتجاه تعميق خيارات الممانعة والمواجهة والصلابة والثبات على الخيارات.
أي أن سورية وإيران تكشفان عن خاصيات مختلفة فالمزيد من الضغط والتهديد يدفع إلى الراديكالية وليس باتجاه الانهزام والتسليم وقبول الاملاءات والشروط. وما يحفز البلدين والقيادتين والمجتمعين ما هو جار من انكشاف طبيعة أهداف الاحتلال الأمريكي للعراق والمأزق الذي تعاني منه قوات الاحتلال مضافا عليها تراجع الهيمنة والقدرات الأمريكية الأوروبية على حكم العالم بأحادية أو بثنائية.
هكذا تبدو سورية وإيران تتجهان على اليسار، إلى المزيد من الصلابة والاستعداد للمواجهة وتحصين الذات والتشدد؟
هل تندفع أمريكا وأوروبا وإسرائيل إلى اختبار القوة قبل أن تكتمل عملية التحول إلى الصلابة والراديكالية؟
هذا ما يجب اكتشافه ومعرفة حدود القوة الأمريكية الإسرائيلية المتوفرة للقيام بمغامرات جديدة.
ميخائيل عوض
بيروت 30-6-2005