قراءة في الانتخابات النيابية اللبنانية

أكثرية برلمانية عاجزة عن الحكم!

د. جوزف عبدالله

 

 

موقع الانتخابات النيابية في الصراع على المشرق العربي

نخطئ الظن عندما نعتبر الانتخابات النيابية اللبنانية مجرد شأن لبناني داخلي صرف، ولا علاقة للخارج بمصيرها وباستخدامها، عربياً كان هذا الخارج أو شرق أوسطياً أو عالمياً. ومن هنا لا بد بداية في قراءتنا للانتخابات النيابية اللبنانية من تحديد موقعها في سياق الصراع العالمي ("النظام العالمي الجديد") والصراع الإقليمي (النظام الإقليمي العربي)، كما في صراع الأفكار المفسر لمجريات الأمور في لبنان.

 

أن المستوى السياسي اللبناني يتحدد، بمجمله، على ضوء جدل العلاقات (من الصراع إلى التوافق وما بينهما) الدائرة بين النظام الإقليمي العربي (خاصة المشرق العربي، والعراق وفلسطين وسورية تحديداً)، واستطراداً النظام الإقليمي الشرق أوسطي بما فيه إيران وتركيا، من جهة، والنظام العالمي الجديد (بقيادة الولايات المتحدة وتوافقاتها مع الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا) من جهة ثانية. وإذا كان هذا الأمر يصح على الكثير من بلدان العالم الصغيرة الحجم والفعالية التي تتراوح التأثيرات الخارجية عليها وفق آليات الصراع والتوافق بين وسطها الإقليمي والوضع الدولي، فإنه في لبنان يتخذ صيغة نموذجية وبالغة التأثير نظراً لطبيعة البنية الاجتماعية والسياسية اللبنانية.

 

فلبنان يرتبط بالخارج لحد كبير، بحكم تراث وراهن التكوين الاجتماعي لطوائفه، كما بحكم تراث وتكوين بنية أحزابه السياسية ونخبه. من المعروف أن لكل طائفة من الطوائف اللبنانية (وللأحزاب السياسية بدرجات متفاوتة) ميولاً قوية نحو مرجعية خارجية (هي سياسية في نهاية المطاف) تشكل مصدر وحي وتوجيه وحماية للكثير من سياساتها. ولما كانت هذه الميول والمرجعيات السياسية موزعة بين الوضع الإقليمي العربي والشرق أوسطي والوضع الدولي كانت هناك على الدوام، عند كل مفصل أساسي في الحياة السياسية اللبنانية، تناقضات ونزاعات أو توافقات داخلية تعكس مدى التناقض والتوافق أو الصراع بين الوضع الإقليمي والوضع الدولي.

 

هذا ناهيك عن طبيعة الموقع الجغرافي للبنان بالنسبة للجغرافيا السورية والفلسطينية، ومدى التشابك التاريخي والاجتماعي والتداخل الاقتصادي والسياسي، وما سوى ذلك من علاقات جذب متبادلة (وعلاقات طرد أحياناً) بين لبنان وسورية وفلسطين. وتأثير هذه العلاقات على صياغة الوحدة والصراع في لبنان.

 

ومع أن الانتخابات النيابية هي عبارة عن استحقاق دستوري، غير أنها لم تنفصل يوماً، ولم تنفصل في الانتخابات الأخيرة خاصة، عن جدل العلاقة بين الإقليمي والدولي. من المعروف أن الانتخابات النيابية هي الآلية الدستورية لتجديد النخبة الحاكمة أو إعادة بناء هذه النخبة على مستوى التشريع والتنفيذ والإدارة العامة الداخلية والخارجية. وبالتالي فإن محصلة الانتخابات النيابية تقوم على رسم السياسات العامة للدولة اللبنانية إزاء جدل العلاقة بين الإقليمي والدولي. وإن الإقليمي والدولي يسعيان، كل من جانبه، إلى انتخابات تأتيه بسلطة لبنانية تتوافق مع استراتيجياته في جدل هذه العلاقة.

 

ويزداد هذا الأمر حدة اليوم على ضوء مجريات العولمة النيوليبرالية (الرأسمالية) حيث يسعى النظام الدولي (الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة) إلى إحكام قبضته على مختلف شعوب العالم، وخاصة ما يعرف تحت اسم بلدان العالم الثالث أو بلدان الجنوب. وعلى سبيل تبيان الدور الكبير للقوى المهيمنة على النظام العالمي الجديد في انتخابات بلدان الجنوب، نذكر بما قاله توماس فريدمان، وهو من أشد المناصرين للعولمة الرأسمالية والمدافعين عنها، في حديثه مع رئيس وزراء تايلاند: " ما هو شعورك بأن يكون توم فريدمان أحد أصوات دائرتك الانتخابية؟"[1].

 

إن زمن العولمة النيوليبرالية يعتمد مبدأ "الاحتلال بالانتخابات" وبثورة التليميديا حيث أمكن ذلك. وإذا كانت ناجحة التجارب التي خبرتها الولايات المتحدة في جورجيا وأوكرانيا، فلا شيء يمنع اللجوء إليها في لبنان. لقد استسهل قادة النظام العالمي الجديد ثورة التليميديا والانتخابات، استناداً إلى "موضة" استثمار جمعيات المجتمع الأهلي الممولة من الصندوق القومي للديمقراطية "نيد" (National Endowment Democracy NED) الذي تشرف على إدارته وتمويله المخابرات المركزية الأميركية، والاستناد إلى اللجان الدولية لمراقبة الانتخابات وهي اللجان التي اختبرنا نحن اللبنانيين "جديتها".

 

ومن المعروف اليوم أن العلاقة بين النظام الإقليمي العربي (والشرق أوسطي استطراداً) والنظام العالمي الجديد (بقيادة الولايات المتحدة) تمر بمرحلة أزمة حادة مفتوحة على كل الاحتمالات، ما يعطي لإعادة تركيب السلطة اللبنانية موقعاً بالغ الأهمية لجهة الانخراط في (أو المواجهة مع) المشروع الأميركي الأوروبي لمحاصرة سورية وإيران وكل من المقاومة الفلسطينية والعراقية. هذا فضلاً عن سعي هذا المشروع لترتيب الوضع اللبناني بالذات بحيث يتم إنهاء المقاومة الوطنية اللبنانية (حزب الله) وتوطين الفلسطينيين في لبنان، وتحويل لبنان إلى منصة تسهم في استهداف دول المشرق العربي، بالاضافة طبعاً إلى مشروع لبرلة لبنان.

 

لقد صدف موعد الانتخابات اللبنانية في لحظة تصعيد الاستراتيجية الأميركية الهجومية في المنطقة المحيطة بلبنان. وأدرجت الإدارة الأميركية هذه الانتخابات بفعالية كخطوة على طريق محاولة تنفيذ مفكرتها العملية لترتيب الوضع اللبناني، وتحويله كمنصة تسهم في ترتيب الوضع السوري والفلسطيني والإيراني.

كلام كبير: من أين لهذا البلد الصغير، لبنان، هذا التجمع من الطوائف، أن يلعب مثل هذا الدور؟! سنرى.

 

بعدما تبين للإدارة الأميركية، بفعل الظهور السريع والفعال للمقاومة العراقية، فشل استثمار غزو العراق وفق نظرية الدومينو لاسقاط الأنظمة العربية وتغيير الجغرافية السياسية ("العراق هدف تكتيكي، السعودية هدف إستراتيجي، مصر الجائزة الكبرى"، على حد قول ريتشارد بيرل، المعروف بأمير الظلام والرئيس السابق لمجلس السياسات الدفاعية في البنتاغون)... وبعدما تبين أن التحكم بمصادر الطاقة العالمية وحماية الكيان الصهيوني وبناء الامبراطورية الأميركية الأحادية بات معطوباً في العراق... انتقلت الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط إلى مبدأ "الفوضى الخلاقة" (Createve Chaos). وهي السياسة التي اعتمدها جورج بوش كبديل عن سياسة الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط التي ميزت السياسة الأميركية قبل جورج بوش[2]. وهذه السياسة تبشر بها وتدافع عنها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس[3].

 

لقد كان اللجوء إلى الفوضى الخلاقة في العام 2003، في كل من العراق ومنطقة بحر قزوين (تناقضات الولايات المتحدة مع كل من روسيا وإيران)[4]. وعليه ترى الإدارة الأميركية أنه لا بد من فوضى منظمة ومبرمجة في الشرق الأوسط الكبير، تعيد تنظيم خريطة سايكس بيكو، وتتولى الولايات المتحدة الإشراف على هذه الفوضى المنظمة من خلال ديمقراطية مخادعة لتحويل "الشرق الأوسط الكبير" إلى خدمة المصالح الأمريكية.

 

ولمعرفة موقع الانتخابات النيابية اللبنانية في إستراتيجية "الفوضى الخلاقة" لنتوقف قليلاً أمام ما كتبه روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"[5]. نشر ساتلوف، وهو المنظر لمقولة "الفوضى الخلاقة" ولكنه يفضل عبارة "عدم الاستقرار البناء" أو "زعزعة الاستقرار البناءة" (Constructive Instability)، مقالاً على حلقتين على التوالي، في 15 و16 آذار 2005[6]، في الموقع الإلكتروني التابع إلى "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، بعنوان "تقويم لسياسة "عدم الاستقرار البناء" في لبنان وسورية"، ونشرت ترجمة مكثفة لهما في جريدة السفير في 8-4-2005.

 

 

الحلقة الأولى "لبنان وسورية"، 15-3-2005:

بخصوص لبنان: "تواجه سياسة إدارة بوش المتمثلة في "عدم الاستقرار البناء" في الشرق الأوسط لحظة حرجة في لبنان. مستفيدة من اجتماع كم من الأحداث والمصالح الدولية، فقد ركز بوش جهود الولايات المتحدة على بند واحد من قرار مجلس الأمن رقم 1559، ألا وهو انسحاب القوات السورية.

يتطلب تعريف وتحديد الخطوات القادمة سياسة تجمع بين قراري التصميم والتصعيد، وتحديد ومتابعة الأولويات والأهداف القريبة، التي سيضع بلوغها الكامل الأساس للمجموعة التالية من الأهداف".

 

جاء ترتيب المفكرة الأميركية على الشكل المتدرج الآتي:

(1) الانسحاب السوري الكامل من لبنان قبل إجراء الانتخابات.

 

(2) مراقبة الحملة الانتخابية، وليس الانتخابات فقط، من قبل فريق منتدب من المؤسسات الأممية "سيكون نوعاً من الخداع إذا ذهبت مجموعات دولية مثل مركز كارتر".

 

(3) الإبقاء على قانون الانتخابات المعمول به، أي قانون 2000، وعدم تغييره، ذلك على حد عبارات ساتلوف لأن: "نتيجة التصويت ستكون ظهوراً قوياً للقوى التابعة لسورية، خاصة إذا تمت في ظل مشروع الانتخابات الجديد ذو العيوب العميقة". هل يفسر لنا ذلك لماذا الإصرار الأميركي والفرنسي على إجراء الانتخابات بأسرع وقت؟ وبالقانون المتوفر؟

 

(4) "الاختبار التالي الأهم بالنسبة للإدارة الأمريكية؛ يتعلق بالربط بين الانتخابات اللبنانية والاستحقاقات الأخرى للقرار 1559... نزع سلاح حزب الله، وبسط الجيش اللبناني سلطته على كامل البلاد بما فيها مراقبة منطقة الحدود الإسرائيلية- اللبنانية". وهنا يطرح ساتلوف خطوات جزئية: سحب الصواريخ، ومن ثم إبعاد الحزب كقوة عسكرية عن الحدود كمقدمة لحله...[7].

 

الحلقة الثانية، "الديناميكيات المحلية"، 16 آذار 2005، يرى ساتلوف أن لسياسة إدارة بوش في لبنان، "عدم الاستقرار البناء"، "تأثيراً على المنطقة من الأطلسي إلى الخليج العربي. فالديناميكيات العربية وغريزة البقاء عند الزعماء العرب تعملا سوية لمصلحة أمريكا". 

إن "جورج دبليو بوش أول رئيس أمريكي يجادل من منطلق أن الاستقرار هو بحد ذاته حجر عثره في طريق تقدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط... ومنذ أحداث 11 أيلول تابعت الإدارة الأميركية سياسة يمكن تسميتها بسياسة "عدم الاستقرار البناء"، مبنية على فكرة أن حماية المواطنين الأمريكيين وتأمين مصالح الولايات المتحدة تخّدم على أفضل وجه من خلال تغيير جذري في أنظمة الشرق الأوسط... من خلال هذا المجهود قامت الولايات المتحدة بمجموعة من الإجراءات القسرية وغير القسرية من استخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة في العراق أفغانستان، وحتى استخدام سياسة العصا والجزرة، أولاً لعزل ياسر عرفات، ومن ثم لتشجيع قيادة فلسطينية جديدة محبة للسلام، ويمكن الاعتماد عليها، إلى استخدام الليونة... إلى وعظ شديد اللهجة لدفع مصر والسعودية في طريق التغيير...

 

إن سرعة العمل على هذا الموضوع كانت خاطفة، بكل تأكيد بالمقاييس المحلية، ولكن أيضاً بالمقاييس العالمية. جزء من سبب ذلك هو طبيعة السياسات العربية البينية. في كل العواصم العربية يحك القادة رؤوسهم لتصور ماذا سيرضي البيت الأبيض، أين تقع الأولويات الأمريكية، أو كيف يمكن توجيه غريزة الإصلاحيين الأمريكيين إلى فائدتهم المثلى؟

 

لكل قطر وصفة مختلفة... في السعودية استبداد ديني يحاول لعب ورقة الديمقراطية ويجري انتخابات بلدية ومحلية للرجال فقط، إجراء مرحب به... ما هو مشترك، الخوف من الفيل الأمريكي في المخزن (الصيني) العربي كبير لدرجة تخلي القادة العرب عن إدعاء "الارتباط المشترك" وأصبحوا يميلون لأن ينجو كل بنفسه؛ إذا كان هذا يمنحهم بعض الوقت ويخفف من معاناتهم مع واشنطن، يفسر هذا قرار السعودية بالترحيب بزيارة الأسد إلى الرياض، مع ضربه من الخلف بالمطالبة علناً انسحاب سوريا من لبنان، هذا بالتأكيد لم يتوقع سماعه الأسد البائس من بلد رعى اتفاق الطائف.

جاءت المكافأة للسعوديين بعد أسبوع واحد في كلمة الرئيس بوش أمام جامعة الدفاع الوطنية (8 آذار 2005)، التي خفف فيها من المطالب حول الخطوات القادمة للإصلاح السياسي في السعودية... الرياض حصدت الثقة وجواز المرور اللاحق من واشنطن.

 

خصوصية لبنان

هناك عوامل عدة تجعل الوضع السوري- اللبناني مختلفاَ عن وضع الآخرين. 

* لبنان هو البلد الأول الذي لم تكن فيه الولايات المتحدة الأمريكية اللاعب الرئيس الذي يقرر مجرى الأحداث. اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري حرك الدورة الحالية للأحداث رغم أنها كانت على النار منذ إعادة انتخاب أميل لحود التي تمت بيد سورية وبقوة، والصدور اللاحق للقرار 1559.

*لبنان هو البلد الوحيد الذي تشارك فيه الولايات المتحدة دولاً أوروبية، خصوصاً فرنسا، كشركاء كاملين، مانحاً واشنطن تـرف السماح لعواصم ومؤسسات أخرى (الأمم المتحدة مثلاً) بأن تتولى القيادة.

* لبنان هو البلد الأول الذي مسَ قلب الجوانب الأساسية لاستقرار نظام حكم، في هذه الحالة، نظام حكم بلدين هما سورية ولبنان. ومهما كان الإزعاج الذي سببته جهود الولايات المتحدة الداعمة للديمقراطية لأنظمة أخرى في المنطقة، فإن هذه الجهود لم تصل إلى حد البدء بالتعرض لهذا النوع من التسخين الذي يشعر به نظاما الأسد ولحود من الأحداث الجارية.

* لبنان هو البلد الأول الذي "زاوج" السياسة الخارجية الصعبة (ذات الإشكالية) لبلد (سورية) مع العملية الديمقراطية لبلد آخر (لبنان)، وهذا لأنه، بعد خمس وعشرين سنة، التفاهم الدولي تغير بحيث أصبح يصنف المشكلة اللبنانية كاحتلال عسكري خارجي.

* لبنان هو البلد الأول الذي ربط الأجندة الديمقراطية باهتمامات استراتيجية تقليدية، في هذه الحالة الجهود الدولية للتفاوض حول إيجاد حل سلمي للأزمة النووية الإيرانية. بالنظر إلى الاستثمار الكبير الذي وضعته إيران في لبنان، ليس أخيراً بتقديم آلاف من الصواريخ قريبة وبعيدة المدى إلى حزب الله، والشراكة  المتقدمة بين طهران ودمشق، فإنه من الصعب التصور أن إيران لن تنظر إلى مفاوضات الثلاث دول (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) EU-3 وقرار الأمم المتحدة رقم 1559، على أنها أجزاء متكاملة من حملة دولية لتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة.

* لبنان هو البلد الأول الذي مس أمن إسرائيل، وعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، اللتين حركتا جدلاً من اليقظة العالمية حول الإرهاب المناهض للسلام...

 

بينما تشكل كل من هذه الجوانب مساهمة نوعية في الحالة اللبنانية فإنها مترابطة مع بعضها البعض بشكل وثيق، إسرائيل وإيران، أوروبا والولايات المتحدة، سورية والفلسطينيون، كل هذه الطرق تلتقي في بيروت."

كل هذا الكلام لروبرت ساتلوف، ومنه "كل هذه الطرق تلتقي في بيروت"؟!

 

ويضيف "ومع ذلك فليس كل شيء في المنطقة سيتحدد من خلال النتيجة في لبنان، وعلى المسؤولين الأمريكيين أن يحتفظوا بهذا في ذاكرتهم. الفصل الأخير في بيروت مثلاً سيكون له تأثير قليل على مصير التجربة الديمقراطية في العراق، رغم أن إزالة سورية كمصدر للدعم ومرفأ أمان لمقاتلي المعارضة العراقيين سيكون مرحباً به. وبشكل مشابه، فإن حملات الإصلاح الديمقراطية في السعودية ومصر هي فعلاً مشاريع طويلة الأمد، تظهر نتائجها بعد زمن طويل من انحسار الغبار عن ثورة الأرز"[8].

 

خلاصة: الوضع الدولي فرض إجراء الانتخابات وتحكم بها من حيث قانونها وتوقيتها، ولحد كبير من حيث التدخل بتحالفاتها وبالتالي بنتائجها، كما سنرى لاحقاً، وذلك على حساب الوضع الإقليمي دون أن يتمكن من إلغاء مفاعيل مؤثرات الوضع الإقليمي ومفاعيل الحركيات السياسية اللبنانية المناهضة للوضع الدولي.

 

 

الحركيات السياسية (و) الانتخابية:

فضلنا استعمال عبارة الحركيات السياسية (جمع حركية) على عبارة القوى والأحزاب والتجمعات لأن الأخيرة تشير إلى حالة فيها شيء من السكون أو التكون الثابت، بينما تنطوي عبارة الحركية السياسية على القوى وهي في حالة التحول مع نشاطها وهو يتحول بدوره، أي القوى وهي في سياق التكون والحصول.

 

إن الزمن الذي يمر به لبنان يتسم، منذ صدور القرار 1559 والتمديد للرئيس لحود ومحاولة اغتيال مروان حماده، بمرحلة هائلة السرعة بلغت ذروتها باغتيال الرئيس الحريري (ومن أبرز مفاعيله انسحاب الجيش السوري الذي فاجأ بسرعته الإدارة الأميركية بالذات وهي في طليعة الداعين له، وتراجع دور سورية في لبنان) ومن هنا عبارة الزلزال الذي يقلب الواقع رأساً على عقب. وهذا ما يعرف بالزمن الثوري (الثوري بمعنى الغليان والفوران والتحول) في حياة المجتمعات حيث تتضاعف سرعة الوقت ومعها سرعة التحولات. فالتحولات الاجتماعية التي تستلزم سنوات في الزمن العادي، تصبح الأيام المعدودة كفيلة بانضاجها واستيلادها في الزمن الثوري. وكذلك فإن القوى السياسية التي يستلزم بناؤها في الزمن العادي سنوات وسنوات من العمل التنظيمي والفكري والتعبوي تتكون وتنمو (وقد تتضعضع وتنهار) بسرعة البرق في الزمن الثوري، فتأتي وكأنها ولدت (أو ماتت) فجأة، أو تنمو (أو تنهار) بشكل لم يكن يتوقعه الكثيرون، بما فيه أصحابها بالذات أحياناً. وبهذا المعنى تكون القوة السياسية (الحزب أو التجمع) في الزمن الثوري "حركية سياسية"، أي جماعة سياسية في طور التحول، في طور الانبناء والتوسع أو التراجع أيضاً.

جاءت الانتخابات النيابية في لحظة متقدمة من الزمن الثوري الذي يعمل لصالح الوضع الدولي وهجومه على المشرق العربي (والشرق الأوسط). بل كانت هذه الانتخابات جزءاً عضوياً ومكملاً لزمن الغليان والفوران. ولهذا السبب أصرت الإدارة الأميركية (ومعها الاتحاد الأوروبي، فرنسا خاصة) على التعجيل في الانتخابات وبأي ثمن (مع الاستفادة من قانون 2000) كيلا يفوتها استثمار غليان وفوران الزمن الثوري، فلو هدأت النفوس لربما جاءت النتائج مختلفة على الأرجح.

 

تبلورت في هذا الزمن أربع حركيات سياسية أساسية في لبنان. استندت هذه الحركيات السياسية إلى الطوائف الدينية والمذهبية، فجاءت حركيات سياسية دينية بامتياز، بصرف النظر عن مضامينها الطبقية والوطنية والقومية، كما بصرف النظر عن (أو بتناقض أحياناً مع) خطابها السياسي والإيديولوجي. لا يعني ذلك أن القوى، كالأحزاب والتجمعات السياسية الدينية لم تكن موجودة سابقاً، ولكن المقصود أنها لم تكن على هذه الدرجة من الفعالية السياسية وعلى هذه السعة من تقبل المجتمع لها. كما لا يعني ذلك بالمقابل أن القوى والأحزاب السياسية غير الدينية (كالحزب الشيوعي اللبناني والحزب القومي السوري الاجتماعي...) كانت ضعيفة التأثير أصلاً. بل المقصود أنها لم تتمكن من تكييف نفسها في حركية سياسية تحافظ على فعاليتها السياسية السابقة كقوة سياسية أو تنميها. وما يصح على القوى السياسية غير الدينية يصح أيضاً على أحزاب سياسية دينية لم تتمكن من خلق حركية سياسية تحافظ على تأثيرها، بل نلحظ أنها تراجعت كثيراً إلى الوراء. وهذا يصح على وسطين أساسيين هما السنة والمسيحيون معاً. من مثل تراجع دور الإسلام السياسي (الجماعة الإسلامية، وبدرجة أقل جمعية المشاريع...)، أو من مثل تراجع دور حزب "القوات اللبنانية" و"لقاء قرنة شهوان".

 

أولاً، الحركية السياسية الشيعية، التي يكونها توافق حزب الله وحركة أمل. كانت موجودة سابقاً كحركية سياسية دينية فعالة، ولكنها اكتسبت هيمنة (بالمعنى الغرامشي) واسعة للغاية في الطائفة الشيعية، وفرضت نفسها الممثل المحلي والإقليمي والعالمي الوحيد للطائفة الشيعية في لبنان. خاضت هذه الحركية السياسية الشيعية الانتخابات بشعارات: التمسك "بالوحدة الوطنية" (مع رفض الاحتراب السني الشيعي وكل احتراب داخلي لبناني)؛ حماية المقاومة وسلاحها، واستكمال التحرير ودعم المقاومات العربية والإسلامية؛ ومعاداة الصهيونية والهيمنة الأميركية (والأوروبية)؛ والوقوف إلى جانب القوى الإقليمية (العربية، سورية وفلسطين؛ والشرق أوسطية، إيران) الممانعة بوجه الهجمة الأميركية الأوروبية الإسرائيلية؛ والأكثر من ذلك خاضت انتخاباتها بشعارات جوهرها رفض القرارات الدولية ومنها القرار 1559. لا يعني ذلك خلو الطائفة الشيعية خارج أمل وحزب الله من فاعليات سياسية تحمل نفس المواقف الوطنية والقومية، ولكن هذه الفاعليات كانت ضعيفة أصلاً وازدادت ضعفاً على ضعفها، لقد افتقرت إلى القدرة على المحافظة على قدرتها (إن لم نقل على نموها) في زمن الفوران والغليان الثوري.

 

ثانياً، الحركية السياسية الدرزية، ويمثلها الحزب التقدمي الاشتراكي (وليد جنبلاط)، وهي تزعم نفسها حركة سياسية علمانية وترفض الفكر الديني ولا تعتمده، بل تتبنى خليطاً من الأفكار الاشتراكية والديمقراطية. كانت موجودة سابقاً، وتمكنت من المحافظة على مواقعها بفضل قدرتها الذاتية معطوفة على تحالفاتها السنية والشيعية أساساً، مع محاولة استتباع بعض القوى المسيحية. تمتاز هذه الحركية السياسية بسرعة التقلب وبالقدرة الهائلة على اصطياد الظروف والتكيف معها. خاضت معركتها الانتخابية بمواجهة بعض قوى الوضع الإقليمي (سورية)، وبالتوافق مع يعضها الآخر (السعودية)، وبالاستناد إلى قوى الوضع الدولي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، مع التراجع التدريجي وفقاً للتحولات اللبنانية (من التبشير بالديمقراطية على الطريقة العراقية و"طموح زبال واشنطن"، إلى ضرورة سحب سلاح حزب الله، إلى نقيض ذلك تماماً اليوم. وتمكنت من فرض نفسها على الساحة الدرزية كممثل وحيد، ولكنه بمواجهة حركية سياسية درزية ضعيفة تمثلها بعض العصبيات العائلية اليزبكية، وبعض القوى السياسية اليسارية والقومية.

 

ثالثاً، الحركية السياسية المسيحية، أو "التيار الوطني الحر"

من المعروف أنه قبيل الانتخابات كانت تتقاسم المسيحيين في لبنان أربع قوى سياسية أساسية. هي (1) حزب "القوات اللبنانية"؛ (2) "التيار الوطني الحر" (العماد ميشيل عون)؛ (3) "لقاء قرنة شهوان" الذي تشكل بعد هزيمة إسرائيل في الجنوب وتحرير معظم الأراضي اللبنانية المحتلة، ويضم بإشراف البطريركية المارونية مجموعة من الشخصيات المسيحية المستقلة وممثلين عن الأحزاب المسيحية بما فيها "القوات" و"التيار الوطني الحر"، ويجمعها شعار السيادة (الموقف السلبي من الوجود العسكري السوري في لبنان) والدفاع عن "حقوق" مسيحيي لبنان؛ أما القوة الرابعة فتضم علاوة على موقع رئاسة الجمهورية (الرئيس لحود) زعامات مسيحية تقليدية متفاوتة في قدراتها، يعبر عن أبرزها ميشيل المر وسليمان فرنجية الذي يمثل توجهاً مسيحياً عربياً (سورية)... تمتاز هذه القوة بكونها على تناقض مع التوجه المسيحي السياسي العام بخصوص السياسة الخارجية للبنان وموقعه في الصراع الدائر بين الوضع الإقليمي والوضع الدولي. هذا بالاضافة إلى حركية أرمنية، وإلى بعض أنوية القوى اليسارية والقومية...

 

وبينما كانت "القوات اللبنانية" (ومعها "لقاء قرنة شهوان") هي المهيمنة تاريخياً في أوساط المسيحيين، فإن مسار الأمور منذ منذ بضع سنوات، وخاصة في الأشهر الأخيرة، عدل موازين القوى، وخلق حراكاً داخل المسيحيين برز بموجبه "التيار الوطني الحر" بوصفه القوة المسيحية الأكثر نفوذاً، بل القوة الممثلة لشرعية المسيحيين باعتراف البطريركية وشتى اللبنانيين والقوى الإقليمية والدولية. وبالمقابل تراجعت "القوات" ومعها شخصيات وأحزاب "لقاء قرنة شهوان" تراجعاً ذريعاً، لدرجة أن نواب "القوات" الستة أتوا محمولين على أكتاف الطوائف الأخرى غير المسيحية، بينما سقطت شخصيات "القرنة" في الانتخابات وفي المركز المسيحي الأساسي[9].

 

ولعل السؤال الأهم هو كيف نشأت هذه الحركية السياسية المسيحية التي يمثلها "التيار الوطني الحر". من المعروف أن هذا التيار ينادي، منذ منذ لحظة إرهاصات تكونه وحتى اليوم، بفكرة العلمانية وبالدعوة إلى تجاوز الطائفية، فكيف يصبح ممثل المسيحيين الأبرز، فيما طموحه المعلن أن يكون تياراً عابراً للطوائف؟ ولعل "التيار الوطني الحر" يقترب في مساره هذا من بعض الوجوه من الحركية السياسية التي شهدها "تيار المستقبل" وهو يصبح الممثل الوحيد للسنة.

 

وبمعنى آخر، كيف تراجع حضور "القوات اللبنانية" داخل المسيحيين، وهي الجهة التي تكونت من أجل تمثيلهم والدفاع عنهم لدرجة اندفعت معها في ذروة الكلام إلى طرح شعار "أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار"، والمسيحيون مستهدفون... بينما تصاعد حضور "التيار الوطني الحر" داخل المسيحيين وهو الذي يجهر بدعوة علمانية عابرة للطوائف؟

 

نحن لا نظن أبداً أن الجمهور المسيحي انساق فجأة خلف الخطاب العلماني (ولا هو يزعم ذلك) فالتف حول "التيار الوطني الحر"، وتخلى عن "القوات" و"القرنة". إن الجمهور المسيحي مطيّف كالجماهير الأخرى في لبنان، وربما كان الأكثر تطيفاً أو السباق إلى ذلك، فلماذا يمنح تأييده لقوة سياسية علمانية؟ لاحظوا ما يقول البطريرك رداً على سؤال مجلة المسيرة القواتية له: س: "يأخذ عليك النائب جنبلاط علناً وبعض "القواتيين" سراً أنك اعترفت بالعماد عون زعيماً للمسيحيين؟

 

ج: وهل كنت أبالغ في ذلك؟ ألم ينتصر تيار عون في المناطق المسيحية ويحصل على أكثرية مقاعدها بأصوات المسيحيين؟ ثم لا بد من التساؤل لماذا انتفض المسيحيون واقترعوا في غالبيتهم الى جانب لوائح عون؟ الجواب بسيط، لأنهم في البداية كانوا مهمشين ومستبعدين ويشعرون بأنهم غير موجودين وبأنهم يحتاجون الى مرجعية مسيحية تقودهم كغيرهم من الطوائف، حيث يقود النائب جنبلاط الطائفة الدرزية، والنائب سعد الحريري الطائفة السنية، وحزب الله والرئيس بري الطائفة الشيعية" (المسيرة، العدد 1027، 27-6-2005).

 

ثمة إجابة واحدة معقولة، وهي أن هذه القوة السياسية ("التيار الوطني الحر") العلمانية بدعوتها، تحولت، في لحظة الغليان السياسي في لبنان (في هذا الزمن الثوري)، إلى قوة جعلت برنامجها الفعلي تمثيل المسيحيين والنطق باسمهم في حلبة تسعير الطائفية في لبنان، وفي معرض مواجهة استتباع الطوائف الأخرى لبعض مواقع المسيحيين، مع استمرارها بالتصريح بعلمانيتها وبخوض الانتخابات وفق "برنامج إصلاحي". إنه نموذج، عملي وتجريبي واقعي، عن الفرق بين واقع (حقيقة) القوة السياسية والصورة التي تقدمها عن نفسها. فبينما يصر "التيار الوطني الحر" على أنه قوة سياسية علمانية ويستميت في الدفاع عن صورته هذه، نجده قوة سياسية معبرة عملياً عن الطوائف المسيحية بامتياز. وفي نفس الوقت عجزت "القوات" و"القرنة"، وهي تجهر بزعم تمثيلها للمسيحيين، وبتراث صلاتها الحميمة بالمرجعية المسيحية الكبرى، عن أن تكون المعبرة عنهم، ورأيناها كيف خُذلت مسيحياً، والتحقت مستتبعة إلى الطوائف الأخرى، ففاز نوابها بأصوات "الآخرين" من غير المسيحيين.

 

هذا معنى الحركية السياسية التي قصدناها. ولتفسيرها ننطلق من قضية الاستعجال الأميركي الأوروبي لإجراء الانتخابات. طرحنا قبل قليل الاستعجال الأميركي الأوروبي بإجراء الانتخابات بأسرع وقت وبالقانون المتوفر، القانون 2000، مع رفض صيغة القانون المقترح على أساس القضاء لأن "نتيجة التصويت ستكون ظهوراً قوياً للقوى التابعة لسورية، خاصة إذا تمت في ظل مشروع الانتخابات الجديد ذو العيوب العميقة". الهم الأميركي إخراج سورية من لبنان. والمطلوب من الانتخابات أن تؤدي إلى إخراج كل المتعاطفين معها من السلطة، وأما الديمقراطية فمسألة أخرى. ألم يسبق لرامسفيلد أن طالب بخروج حزب الله والحزب القومي والبعث مع الجيش السوري؟

 

ومع أن جميع القوى عبرت (ظاهرياً على الأقل) عن رفضها لقانون 2000، فقد جرت الانتخابات على أساسه، وبضغط وإصرار دوليين، خاصة من قبل الولايات المتحدة. وأصر البطريرك على القول: "اعطانا اتفاق الطائف 64 نائبا، علينا ان ننتخب 64 نائبا" (الصحف، 13-5-2005)، وهو يطالب بقانون جديد على أساس القضاء، أو قانون 1960. ولعله شهير بيان المطارنة المعروف ببيان "أعذر من أنذر"، حيث بلغ مجلس المطارنة في حملته على قانون الالفين ذروة التصعيد حين قرع ناقوس الخطر واعتبره "مناقضا لميثاق الطائف والعيش المشترك". وتحديداً في موضوع المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. فلفت الى ان "المسيحيين يستطيعون ان يأتوا فقط بخمسة عشر نائبا من اصل أربعة وستين، أما الباقون ويقارب عددهم الخمسين فيأتي بهم المسلمون".

 

عند ذلك ردت الإدارة الأميركية بتصريح اعتبرت فيه كلام البطريرك طائفياً. وانتقدت المصادر الأميركية التي تراقب الوضع في لبنان عن كثب، بيان المطارنة الموارنة، "لانه صب الزيت على النار وساهم في تأجيج هذه المشاعر التي تعانيها الطوائف الاخرى ايضا"... "ويا للأسف الجميع وقعوا في هذا الفخ الطائفي". وأضافت المصادر قائلة ان اتفاق الطائف ابقى التمثيل الطائفي في البرلمان، ولكن الطائف لا يعني ان الناخب المسيحي فقط هو الذي يجب ان يقرر من هو النائب المسيحي، او ان الناخب المسلم هو الذي يجب ان يقرر وحده النائب المسلم. كما انتقدت المصادر بعض برامج احدى محطات التلفزيون اللبنانية ورأت انها "تعمق من مخاوف المسيحيين والموارنة تحديدا بقصد او من دون قصد" (النهار، 12-5-2005).

 

لم يعترض أحد من القوى السياسية على الرد الأميركي، ما خلا العماد ميشيل عون الذي قال: "الأداء الأميركي في الانتخابات سيئٌ". وكان عون قد حمل بعنف على قانون 2000 من منطلق تأييده المطلق لبيان المطارنة وأكد ان هذا القانون "يهمش الشعب اللبناني ويفرض عليه الهامشيين بدل الاصليين". وقال: "بعدما حاربنا رستم غزالة أصبح لدينا اليوم عدد من رستم غزالة في كل منطقة". ودعا "الشعب اللبناني الى البقاء متيقظا لمحاولة التهميش وتثبيت وجوده باي وسيلة سنطلبها منه بعد التشاور مع الذين يرفضون استمرار هذا الواقع"، معلنا: "اننا لن نقبل باجتماعات فولكلورية لاخراج هذه الحيل وهذا الغدر بالاتفاقات والتحالفات". واستمر عون في التصعيد إلى أن قال في العاشر من حزيران (الصحف اللبنانية): "الطبقة السياسية ورثت النظام السوري ونسخته، وانتقلت بتأليف اللوائح من عنجر إلى قريطم. لقد تغير القرار اللبناني بصيغة البترودولار".

 

وهكذا كان "التيار الوطني الحر" يخوض معركته الانتخابية بهجوم علني على المرحلة السورية ورموزها كافة بدون استثناء أحد، أي على الطبقة السياسية، وكان يقف في الطليعة العملية للدفاع عن موقف بكركي، بما في ذلك حماية موقع رئاسة الجمهورية (المسيحي)، ولم يتهيب الكلام على المرحوم الرئيس الحريري: "الدولة الأمنية لا يجسدها شخص. جسدها حكم استمر 15 عاماً لولايتين، 9 سنوات للياس الهراوي والذين عملوا معه والبقية للرئيس لحود. فالرئيس بري منها والرئيس الحريري كذلك. وإذا استشهد فهذا موضوع آخر، ووليد جنبلاط منها (الصحف اللبنانية، 4-6-2005). ولأنه حمل مسؤولية تراجع موقع المسيحيين في السلطة إلى الوصاية السورية وحلفائها اللبنانيين، بمن فيهم حلفاء "القوات" و"القرنة" الذين يستمرون، وفق عون، بتهميش واستتباع المسيحيين، ولأنه شن الهجوم على المرجعية العربية للسنة (السعودية، بديل عنجر قريطم والبترودولار)، ولإنه عاند بوجه الأميركي والأوروبي... لكل ذلك، ولأسباب أخرى بالطبع، برز عون بطلاً مسيحياً، يستأنف مشروع بشير الجميل بصيغة أخر تحديث لها وفق المعطيات الراهنة، مصلحة المسيحيين.

 

هذا بينما لم يحصل خضوع مطلق للرغبة الأميركية في تحديد موعد الانتخابات والإبقاء على قانون 2000، من قبل تيار المستقبل (الحريري) والحزب التقدمي الاشتراكي، فحسب، بل أيضاً من قبل "القوات اللبنانية" و"لقاء قرنة شهوان"، خاصة عناصره الشمالية (وهي تدرك ضعفها على مستوى القضاء)، على رغم التظاهر برفضها لهذا القانون. ولعل المخابرة الهاتفية الشهيرة بين الوزيرة معوض ودولة الرئيس بري غنية بكشف المستور.

 

ولهذا تراجع نفوذ القوى المسيحية التي فرّطت بمنطق الندية مع الطوائف الأخرى. في لعبة الطوائف يربح من يكون أكثر صلابة وجذرية. من المعروف أنه بذلت جهود كبيرة للحفاظ على تحالف 14 آذار و"انتفاضة الاستقلال". ولكنه كان واضحاً على أبواب الجولة الأولى من الانتخابات الخلاف الواسع بين تحالف (الحريري، جنبلاط، "القرنة"، "القوات") والتيار الوطني الحر. و"لم ينجح السفيران الأميركي جيفري فيلتمان والفرنسي برنار إيمييه في اتصالاتهما بقوى فاعلة في المعارضة في وقف مسلسل انهيار التحالفات الذي سيقود حتماً إلى إعادة خلط الأوراق السياسية، بدءاً من الجبل على قاعدة اشتداد الصراع على الزعامة المسيحية في المتنين الجنوبي والشمالي وكسروان" (الحياة، 28-5-2005). لقد كان الخلاف في جوهره يتمحور في صيغة: بما أن لبنان طوائف، دعوا كل طائفة تنتخب ممثليها. هذا هو منطق بكركي الممثل الروحي الشرعي للمسيحيين. ومن يلتزم بهذا المنطق يكسب. التزم "التيار الوطني الحر" فصار ممثل المسيحيين، على الرغم من دعوته العلمانية. ولم يلتزم الآخرون ("القوات")، فما عادوا ممثلين للمسيحيين مع أنهم في الأصل قوة سياسية دينية.

 

لقد كان الاستعجال الأميركي يهدف إلى استثمار الموجة العاطفية الجامحة التي اجتاحت السنة في لبنان إثر اغتيال الحريري، فكلما طالت الفترة الفاصلة عن الانتخابات كلما تراجعت هذه الشحنة العاطفية التي تم استثمارها أيما استثمار. ولهذا تم التشديد على السرعة باجراء الانتخابات. كما أن الإدارة الأميركية كانت تخشى من أن قانون القضاء يحرمها فرصة لإيصال أنصارها المسيحيين في الشمال نظراً لضعفهم في طوائفهم وأقضيتهم، وبالتالي لا يتأمن الفوز لهم، كما حصل لاحقاً، بغير أصوات السنة، وهم على العموم مضموني الولاء لتيار الحريري.

 

رابعاً، الحركية السياسية السنية، يمثلها "تيار المستقبل"، وتتمحور حول نشاط آل الحريري. إنها حركية سياسية مستحدثة في لبنان، وداخل السنة بالتحديد. لا تعتمد الخطاب الديني، فخطابها هو الليبرالية، بل النيوليبرالية (منذ فترة قريبة قال دولة الرئيس السنيورة "أنا ليبرالي"). وهي صاحبة برنامج جدي للبرلة لبنان، وفق المعايير المعتمدة لنشر النيوليبرالية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وباختصار، إنها تعبر (كما تمثل)، بشخص مرجعيتها آل الحريري عن الرأسمال المالي اللبناني والعربي (الخليجي والسعودي خاصة) المعولم، أي المندرج في حراك الرأسمالية العالمية للهيمنة على اقتصاديات بلدان الجنوب واستتباع شعوبه.

 

ومع أن هذه الحركية السياسية السنية، "تيار المستقبل"، ليست دينية في منطلقاتها وفي نشاطها التعبوي والفكري إلاّ أنها انتهت بوصفها الممثل الحصري تقريباً للطائفة السنية في السلطة للبنانية. ثمة آليات بسيطة تتحول بها القوى السياسية غير الدينية إلى قوى سياسية ممثلة للطوائف. من هذه الآليات ما يعود لخيار القوى السياسية بالذات. وليس أسهل على القوة السياسية لدى اصطدامها بمعارضة من قبل النظام السياسي (أو بعض مواقعه الأساسية) من الاحتماء بالطائفة، واستجرار عطفها تدريجياً، حتى تجنيدها بالكامل في مشروعها السياسي، ولو لم يكن لهذا المشروع السياسي أي علاقة بالمصطلح الوهمي "مصلحة الطائفة"، وهذا ما حصل مع "التيار الوطني الحر". فما مصلحة أو علاقة السنة مثلاً، كمواطنين عاديين يشكلون غالبية السنة (شأن المواطنين العاديين الذين يشكلون الغالبية في الطوائف الأخرى) بمشروع سياسي يسعى إلى نقل لبنان إلى الحالة النيوليبرالية؟ بالطبع ليس هناك سوى علاقة اختلاف أو على الأقل عدم توافق، وفي كل الحالات لا يكون الجمهور في صورة حقيقة المشروع. فكيف حصل واصطف السنة بقسم كبير جداً منهم إلى جانب مشروع سياسي لا علاقة لهم به ولا يعبر عن مصالحهم بالتحديد، ووقفوا إلى جانبه في الانتخابات الأخيرة؟

 

إن موقع آل الحريري الذي يشكل نقطة التقاطع الأساسية في لبنان بين الرأسمال الخليجي والرأسمالية العالمية جعل تياره يندرج إقليمياً في السياق السعودي (واستطراداً الأميركي الأوروبي، وهذا ما لاحظناه في كلام ساتلوف)، وفي تناقض مع السياق الإقليمي السوري، خاصة بعد اغتيال الحريري الذي نسبته الموجة الإعلامية الهائلة فوراً إلى نظام الوصاية السورية على لبنان. بالطبع جاء هذا الاصطفاف بعد مسار سابق على قضية الاغتيال. لقد بدأ "تيار المستقبل" يبلور بوضوح متزايد حركيته السياسية السنية (بمعنى تمثيل السنة والتعبير عنهم، لا بمعنى الدعوة الدينية السنية) مع الاصطدام بين الرئيس لحود (يدعمه النظام السوري) من جهة والرئيس المرحوم الحريري، من جهة أخرى. بالاضافة إلى بروز التعارض (من وقت لآخر) مع الحركية السياسية الشيعية الممثلة خصوصاً بحزب الله (وتأثير الوضع العراقي: الجسم الأساسي للمقاومة العراقية بوجه الغزو الأميركي من السنة، بينما واجهة السلطة الشريكة للاحتلال شيعية وكردية).

 

في بروز التناقض بين الرئيس لحود والمرحوم الحريري (تعطيل مجلس الوزراء بدعم سوري)، انتشرت نغمة ترى استمرار قمع السنة من خلال تقييد حركة أقوى المواقع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيهم. وباغتيال الحريري بلغت هذه النغمة ذروتها، لا سيما بعد اتهام نظام الوصاية السورية بجريمة الاغتيال، في استذكار الجميع للأخطاء القاتلة التي تسبب بها الوجود السوري الطويل والثقيل في لبنان، لجهة اتساع الانتشار الأمني والعسكري غير الضروري، والتدخلات المباشرة والسافرة لهذا الحضور السوري حتى في التفاصيل البسيطة للحياة العامة والاقتصادية والسياسية، واشكال القمع المتنوعة. ومن هذا الاستذكار تحميل الإدارة السورية كل السلبيات التي يعيشها اللبنانيون، خاصة السنة، في لحظة اشتداد الهجوم الأميركي على المنطقة والانسحاب السوري الانهياري. وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى إحساس السنة بضرورة الإلتفاف حول مرجعية مجروحة (آل الحريري، وفي جرحها جرح لكل السنة) أحسنت استثمار اللحظة التاريخية بإدارة عملية الانتخابات، تنظيماً وتعبئة وإعلاماً وتمويلاً، وجاءت النتيجة ذروة في الحركية السياسية السنية التي حجبت شتى المكونات السياسية السنية أو استوعبتها واستتبعتها.

 

تركزت حملة التعبئة في "تيار المستقبل" على الاستثمار في دم الريس الحريري، واتهام السوريين، ومن ثم تصوير الخصوم المرشحين، مباشرة أو مداورة، كقتلة وفاسدين سيلاحقهم القضاء. ففي انتخابات بيروت، كان السعي بعد أن تبين حسم المعركة لصالح التحالف بقيادة "تيار المستقبل" (فوز 9 من 19 بالتزكية) نحو تحويل الانتخابات إلى استفتاء: "هناك من يراهن على أن نسبة الاقتراع الأحد المقبل متدنية... التصويت واجب وطني وأمانة في أعناقكم... إن تصويتكم هو استفتاء لمدى وفائكم للرئيس الشهيد... إن سياسيين معينين يلهثون وراء المقعد النيابي طمعاً بالحصانة التي يظنون أنها ستحميهم من الملاحقة بتهم عدة أقلها الفساد" (الصحف، 28-5-2005). وفي البقاع يقول سعد الدين الحريري: "إننا اليوم أمام استحقاق كبير وهو أننا نقف أمام مجموعة حاربتنا وحاربتكم، وحاولت أن تضطهدنا وتحط من عزيمتنا، هذه المجموعة سلبت أموال الناس وأكلت حقوقها وحاربت رفيق الحريري كما حاربتكم، سجنت البعض وعندما عجزت عن سجن رفيق الحريري قتلته" (الصحف، 7-6-2005)[10].

 

استنتاجات

1- في بنية المجلس النيابي وكتله: يتألف مجلس النواب اللبناني المنتخب من 128 نائبا. يمثل تحالف قوى المعارضة 72 مقعدا نيابياً، توزعت كالآتي: تيار المستقبل 36؛ اللقاء النيابي الديمقراطي 15؛ "القوات اللبنانية" 6؛ "لقاء قرنة شهوان" 4؛ الكتائب الإصلاحية 2؛ اليسار الديمقراطي 1؛ التجدد الديمقراطي 1؛ معارضون مستقلون 4؛ التكتل الطرابلسي 3. أما بقية المقاعد، وهي 56، فتوزعت كالآتي: حركة أمل 15؛ حزب الله 14؛ "التيار الوطني الحر" 14؛ الكتلة الشعبية (إيلي سكاف) 5؛ ميشال المر وحزب الطاشناق 3؛ الحزب القومي السوري 2؛ حزب البعث 1؛ مستقلون 2.

2- الثلث المعطل عددياً: إن الأغلبية التي حصل عليها تحالف المعارضة محدودة الفعالية في المسائل الأساسية، فدونها الثلث المعطل 43 نائباً، بمجرد التوافق بين أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر.

الثلث المعطل طائفياً: كما أن هذه الأغلبية دونها قدرة تعطيل متمثلة في شدة الاستقطاب الطائفي للنواب. فتحالف أمل وحزب الله يستطيع تعطيل تنفيذ القرارات الأساسية لأنه يستطيع أن يستجر بمجرد معارضته معارضة للطائفة الثانية في لبنان عدديا (الفارق العددي عن الأولى، السنة، محدود)، فضلاً عن طبيعة انتشارها الجغرافي على كامل الحدود اللبنانية الفلسطينية ومعظم الحدود اللبنانية السورية، ولهذا الانتشار الجغرافي قيمة كبيرة. وبالطبع هي الطائفة الأكثر احتضاناً للمقاومة والأكثر انتشاراً في الجنوب، وهي التي انتخبت استفتاءاً على المقاومة وعلى معارضة القرار1559.

3- وعلينا أن لا نهمل الثلث المعطل، إن لم يكن طائفياً، فشعبياً على الأقل والذي يمثله "التيار الوطني الحر" الذي لم يكف عن التلويح باللجوء إلى الشارع، لا سيما وأن هذا التيار يمتاز بحيوية كبيرة في شبابه، وتتمتع بعض شعاراته، من مثل محاربة الفساد، بنفوذ واسع لدى فئات واسعة تخترق الطوائف.

 

4- "حسابات الحقل الدولي ونتائج البيدر اللبناني"

لقد تبين لنا من مجريات الأمور حتى الآن أن المجلس النيابي بأغلبية 72 مقعداً لتحالف المعارضة السابق، أي للموالاة الراهنة، هو مجلس عاجز عن الحكم ببرنامج الأغلبية، وعاجز عن تطبيق بنود الأجندة الأميركية الأوروبية.

حصلت الانتخابات النيابية في لبنان على وقع الأجندة الأميركية الأوروبية المعدة للمشرق العربي والأوسط الأوسط، وهي في فصلها اللبناني كالآتي: الانسحاب العسكري السوري، إجراء الانتخابات (والحصول على الأغلبية)، تشكيل حكومة، الشروع بتطبيق بنود القرار 1559. فكيف جاءت حسابات الحقل الدولي في نتائج البيدر اللبناني؟ ثمة جملة معارك موحية تشير إلى هذا العجز، وإلى فشل الضغوط الأمريكية الفرنسية الإسرائيلية في تطويب السلطة لممثلي تحالف الأغلبية في المجلس النيابي (تيار المستقبل، الحزب الاشتراكي، القوات اللبنانية...) المتعاونين مع الضغوط الدولية فهزم التحالف الدولي المحلي في الأمور الآتية.

-        رئاسة المجلس النيابي: فشل محاولة فرض رئيس للمجلس النيابي لا تقبل به كتلة أمل حزب الله كممثلي الشيعية؛

-        أسهم هذا الأمر، مع موقف بكركي و"التيار الوطني الحر" بالطبع، في حسم موقع رئاسة الجمهورية لآميل لحود حتى نهاية الولاية، بينما كان يشدد عليه وليد جنبلاط على عكسه: "نصف انقلاب" مفهوم شهير؛

-        أدت التراجعات في هذين الملفين إلى انكسار هجمة السيطرة على الحكومة عبر تهميش القوى والكتل الأخرى فجاءت مفاوضات تشكيل الحكومة ونتائجها على نحو ينتج حالة متوازنة قلقة ومتوترة في المؤسسات وبينها ويعجز الفريق الدولي المحلي عن الإمساك بالسلطة التشريعية وتاليا بالتنفيذية مرورا بالرئاسات؛

-        فشل استكمال بقية بنود القرار 1559، من مثل سحب سلاح المقاومة اللبنانية، أو السلاح الفلسطيني؛

 

5- يفيد كل ذلك بأن مرحلة من إدارة الأزمة المتفاقمة، مشوبة بتوترات داخل وخارج السلطة، قد بدأت في البلاد على أرضية توترات اجتماعية وأزمات بالجملة، وفي لحظة انتقالية تعيشها المنطقة العربية والإسلامية تشهد على اقتراب موعد
الهزيمة للمشروعين الأمريكي الإسرائيلي وللتحالف مع الغرب. وسينعكس ذلك حكما في تغييرات حادة في التحالفات والتوجهات على الساحة اللبنانية تنبئ باحتمال تصاعد التوترات والأزمات وصولا إلى تغييرات في الواقع القائم حاليا كواقع انتقالي. يساعد في تحقيق هذا الاحتمال خروج سورية وإيران من المرحلة أكثر تماسكا وأكثر فعلا في مواجهة الهجمة الامبريالية (معنى الزيارة التي قام بها السيد حسن نصرالله ومن بعده مباشرة الرئيس بشار الأسد إلى طهران) وباعتبار لبنان هو احد ساحات النزال فمن المؤكد أن التوازنات الاقليمية والدولية المرتقبة ستجد لها انعكاساتها الفورية في الساحة.

 

6- إن التدخل الدولي في لبنان دخل مرحلة الإحباط والعجز، والمشروع الأميركي الأوروبي تم إعطابه في لبنان على الرغم من الاختراق الذي حققه في لحظة الفوران الثوري، والقوى التي استندت له بدأت تعيش مأزق إدارة البلاد وفرض مشيئتها، وإدارة الأزمة أمر غير ممكن في ظل تفاقمها على نحو متفجر، في واقع متغير ومتفجر دوليا وإقليميا، ما يفتح البلاد على مرحلة من التناقضات والتعارضات قد تطيح بالاستقرار وبالتوازن القلق الرجراج القائم حاليا.

 

7- إن التحالف الرباعي (أمل وحزب الله، المستقبل، جنبلاط، القوات وقرنة شهوان) تحالف هش تبدو قابليته للسقوط قائمة وسريعة. وعناصر التعارض بين هذه الأطراف كثيرة تبدأ من آليات إدارة الدولة، إلى المشروع الاقتصادي الاجتماعي، وتمتد إلى السياسات الحكومية، والموقف من التدخلات الخارجية ومن القرار 1559 وسلاح المقاومة وحزب الله إلى تطبيق الطائف ومستقبل العلاقات مع سورية وإيران. وهنا يجب لفت الانتباه إلى أن السنة شكلوا على الدوام في لبنان البيئة الحاضنة للقضايا والكفاحية العربية والإسلامية، وبالتالي ليس من السهل عليهم الاستدارة 180 درجة لهمومهم الوطنية والقومية، فضلاً عن أن الأزمة الاجتماعية، في حال الشروع باللبرلة، ستنعكس عليهم بسلبيات كبيرة تحفزهم بالضرورة على رفضها وإسقاطها.

 

8- إن محاولة التفويض الدولية لممثلي تحالف الأغلبية في المجلس النيابي (تيار المستقبل، الحزب الاشتراكي، القوات اللبنانية...، هذا إذا صمد) المتعاونين مع الضغوط الدولية بتمرير المشروع الغربي، على حساب وبتجاهل ثقل ودور الطوائف الأخرى، بل استعدائها، يفتح أفقا لتحالف بين الشيعية والمسيحيين (لا سيما مع صعود التيار الوطني الحر بكتلة نيابية وازنة وبقدرة حراك شعبية طموحة) مع قوة صلبة من الطائفتين السنية والدرزية التي لا تقبل وظيفة وكيل أجنبي يعمل بحسب أجندة أمريكية فرنسية إسرائيلية متعارضة مع تاريخها ومع مصالحها الوطنية والقومية والاجتماعية، مما يؤسس لتوفر شروط موضوعية مواتية لطرح عملية إصلاح بنيوية للسلطة والدستور، وقواعد الحياة السياسية في البلاد، تقارب برنامجاً يدعو لإلغاء الطائفية السياسية، وقانون انتخابات نيابية على أساس النسبية بدون القيد الطائفي، مع إقرار قانون مجلس الشيوخ بتمثيله الطائفي والمذهبي.

 

9- إن صعود الطوائف واختصارها للشعب اللبناني، وتفرد ممثليها في الحصص الحكومية والنيابية، أمر يثقل الحياة السياسية وبرامج الخروج من الأزمة، وتطوير الحياة السياسية اللبنانية، ومن شأنه أن يكون عنصرا تعطيلياً للمؤسسات وتفجيريا للازمة. وهذا ما يستدعي التحرك السريع من كل الفعاليات لتشكيل جبهة وطنية على أساس برنامج التزامات وطنية وقومية واجتماعية واضحة. وذلك خاصة من أجل مواجهة خطر الفتنة المذهبية، ومواجهة التدخلات الخارجية وأدواتها، عبر برنامج وطني وقاعدة وطنية متنوعة، في طليعتها قانون الانتخاب على أساس النسبية.



[1]  يقول فريدمان في الفصل الثامن من كتابه المشهور "السيارة ليكساس وشجرة الزيتون" (ص 231-232): "في شتاء 1998 أجريت مقابلة صحفية مع رئيس وزراء تايلاند تشوان ليكباى. بدأت المقابلة بخليط من المداعبة والجدية، حيث نظرت إليه عبر المنضدة قائلاً: "سيدي رئيس الوزراء، لدي اعتراف أقوله لك. لقد ساعدتُ على الإطاحة بسلفك- ولم أكن أعرف حتى ما اسمه. أتعلم. لقد كنت جالساً في بدروم منزلي... اتصلت بسمساري وطلبت منه أن يخرجني من الأسواق الناهضة في جنوب شرقي آسيا. وكان باستطاعتي بيعكم بنفسي، عن طريق الإنترنت، ولكنني قررت بدلاً من ذلك، استشارة السمسار الذي أتعامل معه. لقد أصبح الأمر بمثابة صوت واحد لكل دولار واحد. سيدي رئيس الوزراء، ما هو شعورك بأن يكون توم فريدمان أحد أصوات دائرتك الانتخابية؟"

ويضيف: "ضحك رئيس الوزراء، ولكنه كان يدرك ما أعنيه: إن الانضمام إلى الاقتصاد العالمي والالتحام بالقطيع الإلكتروني يعادل تماماً طرح دولتك للاكتتاب العام. إنه شيئ يعادل تحويل بلدك إلى شركة عامة، مع اختلاف واحد أن حملة الأسهم لم يعودوا مواطني بلدك وحدهم. إنهم أعضاء القطيع الإلكتروني، أينما وجدوا. وكما ذكرت سابقاً، إنهم لن يدلوا بأصواتهم مرة واحدة كل أربع سنوات. إنهم يدلون بأصواتهم كل ساعة، وكل يوم من خلال صناديقهم المشتركة، وصناديق المعاشات، وسماسرتهم، وأكثر فأكثر، وذلك عبر الإنترنت وهم قابعون في بدرومات منازلهم".

هل من حاجة إلى تعليق؟ الرأسمالية العالمية تسقط أنظمة وتقرر مصير الانتخابات في الكثير من بلدان العالم.

 

[2]  مع العلم أن دولة الرئيس سليم الحص أشار، في جريدة السفير،24-6-2005، إلى إرهاصات هذه السياسة بقوله: في عام 1996 وضعت في اميركا ورقة سياسية بعنوان "الاختراق النظيف"، صاغتها لجنة برئاسة ديك تشيني الذي عاد فيما بعد ليشغل منصب نائب الرئيس الاميركي في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وقد رسمت الورقة مخططاً (سيناريو) لإثارة الاضطراب والقلاقل في المنطقة بتسلسل محدّد يبدأ بالعراق ويمر بسوريا ولبنان وينتهي بإيران، ويتناول في طريقه "حزب الله" تحديداً. ويبدو وكأنما هذا المخطط موضوع حالياً موضع التنفيذ كما تنبئ التطورات والأحداث التي تشهدها المنطقة.

إنها إرهاصات "الفوضى الخلاقة" بأسطع تجلياتها. وكل المؤشرات توحي ان لبنان ربما أضحى هدفاً مباشراً من أهداف هذه اللعبة الجهنمية، فأخذت تدبّ في اوصاله معالم "الفوضى الخلاقة". ولعل مسلسل جرائم الاغتيال المنكرة التي وقعت فيه خلال الآونة الاخيرة هو من إفرازات هذا الواقع. ومن حقنا ان نتساءل ما اذا كان اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري ومعه الدكتور باسل فليحان يأتي في هذا السياق؟ وكذلك اغتيال الصحافي والمفكّر سمير قصير وأخيراً امين عام الحزب الشيوعي السابق المناضل جورج حاوي، وكذلك مسلسل التفجيرات الليلية التي استهدفت في مرحلة من المراحل منشآت تجارية وسياحية الى الشرق والشمال من العاصمة بيروت.

[3]   في أوائل نيسان 2005، في حديثها إلى "واشنطن بوست" (نشرت ترجمته جريدة الحياة اللندنية، في 6-4-2005)، وجهت رايس انتقادات قاسية لسياسة القبول بالأمر الواقع بدعوى الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط... واعتبرت أن الوضع الحالي "ليس مستقراً" وأن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي (كالحرب على العراق وإسقاط صدام حسين، وما يُحاك للبنان وسوربة) هي من نوع "الفوضى الخلاقة".

[4]   أول من استشعر فداحة المأزق الذي وقعت فيه الولايات المتحدة في العراق هو بريمر. وبعد الدراسة والتقصي والتحليل، أذن له البيت الأبيض بحل الجيش العراقي، هذا القرار الخطير الذي أجبر الولايات المتحدة لتعديل سياستها، من إسقاط نظام صدام وتحويل العراق قاعدة للولايات المتحدة وفتح المنطقة سياسياً، إلى طرح نظرية "الفوضى الخلاقة" التي أعلنتها كونداليزا رايس يوم كانت مستشارة الرئيس بوش الابن للأمن القومي. لعل هذه السياسة الجديدة تستطيع أن تنقذ الولايات المتحدة من المستنقع الذي وقعت فيه، عن طريق توسيع المستنقع بالذات وإغراق العراق في فوضى الحرب الأهلية بالاحتراب الطائفي. وهي تسعى لتكون هذه الفوضى منظمة برضاها وتجيرها لصالحها.‏ إن الذي جعل نظرية الفوضى الخلاقة و"مبادرة الشرق الأوسط الكبير" الديمقراطي الحل الوحيد أمام الولايات المتحدة، هو التربص الدولي العالمي للصعود على ظهر الفشل الأمريكي في الشرق الأوسط أو مشاركة الولايات المتحدة الند للند مع المجتمع الدولي.

[5]  إن "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" هو مجموعة تفكير ليكودية، أميركية يهودية، في خدمة الكيان الصهيوني. قام مارتن أنديك، وهو من أبرز الباحثين اليهود في اللوبي الأميركي اليهودي في الولايات المتحدة والمعروف باسم إيباك American Israel Public Affairs Committee AIPAC، بتشكيل "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في العام 1985. فهذا المعهد يدين بولادته لوصاية هذا اللوبي الأميركي اليهودي عليه. وسرعان ما أصبح "معهد واشنطن..." أهم مجموعة من مجموعات التفكير العاملة في الولايات المتحدة والمتخصصة في سياسة الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط. فكان هذا المعهد الأكثر تأثيراً في وسائل الإعلام والإدارة الأميركية. يركز "معهد واشنطن..." على الإدارة الأميركية مباشرة، الرئيس وفريق إدارته التنفيذي، وعلى وسائل الإعلام.

يدعو "معهد واشنطن..." وسائل الإعلام إلى جلسات غداء عمل أسبوعية. وينشر التحاليل والدراسات، ويقدم الخبراء في لقاءات إذاعية ومتلفزة. وكبار مسؤولي "مجموعة التفكير" هذه، من أمثال روبرت ساتلوف وباتريك كلاوسن وسواهما، يحتلون بانتظام شاشات التلفزة. وهذا ما يجعل وجهة نظر "معهد واشنطن..." تتعمم من خلال شتى وسائل الإعلام الأميركية.

ويقيم "معهد واشنطن..." علاقات وثيقة مع الحزبين الأساسيين في الولايات المتحدة، الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. وينظم لقاءات شبه دورية، أكثر من أربعين مرة في السنة، مع صانعي السياسة في الولايات المتحدة لبحث قضايا الشرق الأوسط. ويعقد مؤتمرين أساسيين كل سنة، أحدهما في الربيع والثاني في الخريف، حول الشرق الأوسط.

وفي المعهد فريق خاص هو "مجموعة الدراسة الرئاسية" يتألف من كبار الأعضاء والقادة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومجموعة من الخبراء ورجال الاختصاص والمخابرات المركزية الأميركية. ومهمة هذا الفريق وضع برامج الإدارة الأميركية حول الشرق الأوسط. وهذه البرامج هي التي تعتمدها الإدارة الأميركية، الرئيس وفريق عمله، سواء كان الرئيس جمهورياً أو ديمقراطياً. وتعرف هذه البرامج باسم "تقرير مجموعة الدراسة الرئاسية" وهي التي ترسم ملامح سياسة كل رئيس جديد بخصوص الوضع في الشرق الأوسط.

[6]   أي مباشرة بعد 14 آذار، حين بلغت التحركات الشعبية الناشئة إثر اغتيال الحرير ذروتها في بيروت.

[7]   بخصوص سورية، يقول ساتلوف تحت عنوان "الطريق إلى دمشق": بينما تعمل الإدارة من خلال الدبلوماسية اليومية على موضوع لبنان، فإن عليها ألا تفقد الرؤية إلى الأحداث في دمشق. نظام الأسد هو على الأرجح الأكثر هشاشة في الشرق الأوسط... ليس للولايات المتحدة الأمريكية= =مصلحة في بقاء نظام الأسد حياً... يمكن للأمور أن تأخذ أي عدد من المسارات: خرج كبار السن العلويين عن طورهم... يمكن أن يقرروا استبداله بواحد ورث فعلاً  فطنة حافظ الأسد السياسية. بسبب من الخروج المحرج للقوات السورية من لبنان، قد يتحرك جنرال ثائر ضد رؤسائه الفاسدين. من الممكن أن يتعرض النظام في حمص وحماه وحلب، لاضطرابات موجهة ضده من قبل آلاف العمال المحبطين والعاطلين عن العمل وبغياب حماية اجتماعية بعد طردهم من قبل وطنيين متطرفين لبنانيين.

على واشنطن التركيز على ثلاث نقاط:

1- التركيز الاستخباراتي على ديناميكية الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعرقية في سورية... عدم المعرفة الاستخباراتية المعمقة حالياً عن كبار المسنين العلويين والأكراد السوريين والقوة الفعلية للإخوان المسلمين، تعتبر فكرة مرعبة بشكل خاص. 

2- فور خروج السوريين من لبنان يجب البدء بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون داخل سورية... تنتهي الولاية الأولى لبشار الأسد التي مدتها سبع سنوات عام 2007، وليس من المبكر البدء بحملة فتح العيون على ذلك النظام السياسي.

3- ... فقط مبادرتان سوريتان مهمتان (غير محتملتان) يستحقان بعض الاهتمام من واشنطن- زيارة الأسد إلى إسرائيل يتوجه فيها إلى الشعب الإسرائيلي مباشرة حول موضوع السلام، أو طرد، يمكن متابعته، لكل الجماعات الإرهابية المعادية للسلام وأعضائها من الأراضي السورية، بالتلازم مع تخلٍ معلن للعنف- "الكفاح المسلح" أو "المقاومة الوطنية" ونبذه من القاموس المحلي كوسيلة لحل الخلاف العربي الإسرائيلي...

[8]   لنتذكر أن عبارة "ثورة الأرز" ليست "صنع في لبنان". ففي 28 شباط 2005، اطلقت باولا دوبريانسكي، نائبة وزيرة الخارجية الأميركية رايس، عبارة "ثورة الأرز" في المؤتمر الصحفي الذي قدمت فيه الخارجية الأميركية تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان. في هذا المؤتمر أشادت دوبريانسكي بالدور الأميركي لتعزيز ونشر الحريات في العالم، ومن ذلك عددت الثورات الديمقراطية التي اعتبرت الفضل فيها للولايات المتحدة: ثورة الورود في جورجيا، والثورة البرتقالية في أوكرانيا، والثورة الأرجوانية في العراق (يا لها من ثورة مفخرة للإدارة الأميركية!) و"ثورة الأرز" في لبنان.

ميز د. سماح إدريس بنجاح بين "انتفاضة الاستقلال" (Independence 05) و"ثورة الاستقلال" في عدد 6-7، 2005، من مجلة الآداب، في مقال له بعنوان: "محررو لبنان الجدد..." ص 49-58.

[9]   شهدت "القوات اللبنانية" حراكاً داخلياً فيه ملامح اتجاه نحو المزيد من التقارب مع "التيار الوطني الحر"، ويتكون من النواة الصلبة في القوات "مجموعة الضباط"، وعبر عنه توفيق الهندي وجان عزيز. ولكن هذا الاتجاه فشل في تسويق وجهة نظره داخل القوات، وانتهى بفصل ممثلي القوات (الهندي وعزيز) من "القرنة".

[10]   الأمثلة كثيرة من مثل: "اطردوا شهود الزور من البقاع، اطردوا حراس الظلام والفساد من صفوفكم... قتلوا رفيق الحريري لكي يقتلوا لبنان... نحن معكم على موعد في 12 حزيران. لتكن أصواتكم رداً صارخاً على قتلة رفيق الحريري، وثأراً ساطعاً من قتلة الوطن" (الصحف، 11-6-2005).

 

د. جوزف عبدالله