الليبرالية الجديدة والديمقراطية |
غالب أبو مصلح
عندما نتكلم عن الليبرالية الجديدة نعني الفكر الإقتصادي الذي أنتجته مدرسة شيكاغو الإقتصادية, و أصبح جزءا أساسيا من أيديولوجية المحافظين الجدد في أميركا و بريطانيا بشكل خاص, و بالتالي أيديولوجيا ما يسمى بإجماع واشنطن, أي فكر البيت الأبيض و صندوق النقد و البنك الدوليين. كما أن منظمة التجارة العالمية قد أقيمت على أسس هذا الفكر الإقتصادي الجديد. بكلام آخر, أصبحت الليبرالية الجديدة هي فكر الرأسمالية العالمية في مرحلتها الإمبريالية الجديدة, و خاصة بعد سقوط الإتحاد السوفياتي.
تركز الليبرالية الجديدة على أهمية و حرية آليات السوق الرأسمالية, و تدعي أن آليات السوق هي الأقدر على تحقيق التوازن في السوق, و التوازن بين عناصر الإنتاج, أي بين الرأسمال و القوى العاملة, و أنها تعطي كلاًَ ما يستحقه, و تؤمن الإستقرار الإقتصادي, أي تخفف من حدة الدورات الإقتصادية أو تلغيها كما ادعى البعض, و تعظم الإنتاج, و تقلل الهدر, و تحقق العدالة في المجتمع. أما تدخل الدولة في الإنتاج, أو في الدعم و التوجيه, فيعرقل أداء السوق و يخلق العديد من التشوهات على صعيد توجيه التوظيفات, و مستوى الأجور و كفاءة الإقتصاد. لذلك, فإن الفكر الليبرالي الجديد يدعو إلى سياسات الخصخصة و فتح الأسواق, أسواق السلع و الخدمات و رؤوس الأموال بشتى أشكالها, و لكن ليس سوق العمالة, أمام المنافسة الخارجية. كما يدعو إلى إزالة أو تقليص أنظمة الحماية للقوى العاملة, و القضاء على التنظيمات النقابية و عقود العمل الجماعي الحامية لحقوق العمال.
فقد برزت الليبرالية الجديدة كفكر و نهج رأسمالي نتيجة أزمة الرأسمالية الأميركية خاصة, حيث ظهرت منذ أواسط الستينات مشكلة عجز الميزان التجاري الأميركي, و تفاقمت هذه المشكلة في بداية السبعينات, مما دفع أميركا إلى إسقاط تعهداتها في "بريتن وودس" التي ربطت الدولار بالذهب, و عملات العالم بالدولار القابل استبداله بالذهب لدى أميركا, و اتبعت سعر صرف الدولار العائم غير القابل للتحويل إلى ذهب. كان ذلك العجز النامي و المتراكم في الميزان التجاري الأميركي, نتيجة ضعف القدرة التنافسية للإقتصاد الأميركي, مع إعادة بناء الإقتصادات الأوروبية الغربية و اليابان, مما جعل خفض أجور اليد العاملة الأميركية شرطا لاستعادة القدرة التنافسية لديها وذلك مع نمو و تراكم القدرات الرأسماية لدى تلك الدول المنافسة.
وفي إطار عودة المنافسة بين مراكز النظام الرأسمالي, أصبحت المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة و خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية, في موقع الهجوم من قبل الرأسمالية العالمية. فقد اعتبرت العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية بمثابة العصر الذهبي للرأسمالية في القرن العشرين, و بقيادة الفكر الإقتصادي الكينزي الذي أثبت قيمته الإنسانية و فعاليته التنموية. فقد أنتجت الحرب الباردة و المثال الإشتراكي و ما خص منه حقوق العمال من ناحية, و نضالات الطبقة العاملة و أحزابها الإشتراكية و تنظيماتها النقابية من ناحية ثانية ما سمي "برأسمالية دولة الرفاهية". فدولة الرفاه تضمن العديد من الحقوق السياسية و المادية للأفراد, بما فيها حدا أدنى للدخل الآخذ في التزايد بجانب اهتمام الحكومات بتوفير الضمان الإجتماعي و الخدمات الصحية و التعليمية. "فأصبحت الأسرة في تلك الدول المتقدمة تحصل على ما بين خمس و ثلث دخلها من الحكومة و ليس من الملكيات الخاصة أو العمل المأجور في القطاع الخاص أو العام." (1)
وأتت الليبرالية الجديدة كحرب طبقية شنتها الطبقة الرأسمالية على الطبقة العاملة مستهدفة معظم الحقوق التي كسبتها تلك الطبقة على الصعد السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية, و في ظل بروز أزمة الإتحاد السوفياتي ثم سقوطه, هذا السقوط الذي واكبته حملة إعلامية تستهدف اجتثاث الفكر الإشتراكي و مقوماته العلمية و الأخلاقية و الإنسانية, و التي أصبحت بعض شعاراته جزءا من شرعة حقوق الإنسان, مثل حق العمل و السكن و الطبابة و الإستشفاء و العلم و الضمان من البطالة,إلخ...
فمنذ تطبيق مبادىء الليبرالية الجديدة في مراكز النظام الرأسمالي كما في أطراف هذا النظام, أي في دول العالم الثالث, برزت العديد من النتائج السلبية لهذا النظام و أهمها التالي:
أولا: تم تقليص دور الدولة في إطار السيطرة على قطاعات الإنتاج الإستراتيجية و الحيوية, و تركت هذه القطاعات للقطاع الخاص بمعظمها في العديد من الدول الرأسمالية المركزية و دول الأطراف, مثل التعليم, الصحة, المواصلات, الإتصالات, و الإعلام. و إذا كان الرأسمال الخاص لا ينتج إلا بهدف الربح "فإن إرضاء الحاجات هو بشكل أساسي نتاج جانبي و ليس هدفا للمجتمع الرأسمالي." (2) فإن الإعلام هو وسيلة التحكم بسلوكية الأفراد بغية استسلامهم لهيمنة الرأسمال الشاملة, و إقناعهم أن لا بديل عن هذا النظام الرأسمالي الليبرالي الجديد.
ثانيا: نمت الفروقات الطبقية بشكل كبير داخل جميع البلدان في المركز والأطراف. فقد ارتفعت مداخيل الشريحة الأكثر ثرائا بمعدلات عالية و انخفضت معدلات مداخيل الشرائح الدنيا, أو الشرائح الأسفل في السلم الإجتماعي لدى هذه الدول التي طبقت توجيهات الليبرالية الجديدة.
ثالثا: إتسع نطاق الفقر و تساقطت شرائح جديدة إلى ما دون خط الفقر في دول المراكز الرأسمالية كما في دول الأطراف, حتى في تلك التي حققت نموا إقتصاديا بنسب معقولة.
رابعا: إرتفع نصيب الرأسمال من القيمة المضافة بأكثر من ثلاثون في المئة على حساب نصيب الطبقة العاملة من هذه القيمة المضافة. فقد أصبح بإمكان الرأسمال الموظف في الإنتاج, أن ينتقل إلى حيث تتوفراليد العاملة الرخيصة و الضمانات العمالية الأقل أو الأدنى لزيادة قدرته التنافسية و ربحه, و بالتالي إضعاف القدرات الضاغطة للطبقات العاملة في بلدان المركز خاصة.
خامسا: و نتيجة انكشاف أسواق البلدان النامية أمام الإنتاج الصناعي و الخدماتي للإقتصادات الرأسمالية الناضجة, و أمام الإنتاج الزراعي المعان لتلك الدول, و خاصة أميركا و أوروبا و اليابان, و أمام حرية حركة رؤوس الأموال الساخنة و غير الساخنة, المضاربة و الإنتاجية, نمت الفروقات في معدلات الدخل الفردي بين دول الشمال و دول الجنوب و تردت شروط تجارتها الخارجية. و وعيا لهذه الحقيقة, أعلن المتحدث بإسم "مجموعة ال77" في دورة منظمة الأمم المتحدة للتجارة و التنمية الخامسة في الفيليبين "إن الحرية الوحيدة في ما يسمى باقتصاد السوق الحرة, حيث أحد الطرفين ضعيف و الآخر قوي, لا يمكنها أن تكون إلا حرية النهب غير المحدود الذي يقوم به القوي ضد الضعيف."
سادسا: تم تدمير التنظيمات النقابية أو تم إضعافها إلى حد كبير و تهميشها بحيث أصبحت غير ذات فعالية في الدفاع عن حقوق العمال المتناقصة و أجورهم الحقيقية المستمرة في التدهور.
سابعا: تم تقليص الضمانات الإجتماعية في أكثر البلدان و إضعاف مؤسساتها, و أصبح العديد منها, كما في لبنان, مهدد بالإنهيار في المستقبل.
ثامنا: تم تغيير شروط الإستخدام بحيث أنه لم تعد هناك في معظم هذه الدول "وظائف مدى الحياة", بل أصبح العامل يعيش بشكل دائم في أجواء القلق و الخوف من البطالة.
وتحاول الليبرالية الجديدة أن تربط بينها و بين الديمقراطية ببث وعي مزيف و عبر تزييف وقح للتاريخ. فالربط بين الديمقراطية و الرأسمالية ينافي الحقيقة التاريخية. فالرأسمالية لم تكن مرتبطة بأي شكل من الأشكال بالديمقراطية عبر معظم تاريخها. فقد كان حق الإنتخاب محصورا بمن يملك الثروة, و بقي معظم السكان بالتالي خارج نطاق الديمقراطية. و نتيجة النضالات العمالية و الإجتماعية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر, منحت الطبقة الحاكمة, مجبرة, حق الإقتراع للذكور بغض النظر عن إفتقادهم للملكية, ثم منحت النساء حق الإقتراع في القرن العشرين. إن سويسرا مثلا, و هي الدولة الرأسمالية الديمقراطة, لم تعط حق الإقتراع للنساء إلا بعد أواسط القرن العشرين.
أما ادعاء المحافظين الجدد من أمثال بوش و بلير أصحابهما المدعين بأنهم أكثر المدافعين عن الديمقراطية غيرة و حماسة, فهو ادعاء مضلل و فيه الكثير من الخداع. إن ما يمكنهم من الإدعاء بالدفاع عن الديمقراطية هو تعريفهم القاصر و الضيق للديمقراطية, مثل القول أن الديمقراطية هي "التنافس بين النخب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة عن طريق الحصول على التأييد الشعبي في الإنتخابات القائمة على التنافس." (3) و هذا التقريف قريب جدا من تعريف جوزيف شومبيتر في كتابه "الرأسمالية و الإشتراكية و الديمقراطية" على أنها "ترتيبات مؤسساتية للتوصل إلى قرارات سياسية يحصل الأفراد من خلالها على سلطة اتخاذ القرار عن طريق المشاركة في انتخابات قائمة على التنافس." أي أن الديمقراطية هي قضية شكلانية معزولة عن الظروف الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية السائدة في المجتمع. مثال على ذلك مثال "المراقبين الدوليين" الغربيين الذين "واكبوا" الإنتخابات النيابية الأخيرة في لبنان, و وجدوها ديمقراطية لا شائبة عليها.
وقديما, استعملت "الديمقراطية" لخداع الجماهير و تمكين الطبقة الرأسمالية الحاكمة من الهيمنة على المجتمع. و الهيمنة عند غرامشي تعني "قدرة الطبقات الحاكمة على غرس قيمها في الطبقات المحكومة, و تحويل هذه القيم إلى "بديهيات" تميز العصر." و قد اكتسبت كلمة "هيمنة" معنى إضافيا كما يقول ميليباند, و هي:"قدرة الطبقة الحاكمة على إقناع الطبقات المحكومة بعدم وجود بديل لها, مهما كان رأيها بالنظام الإجتماعي السائد, و ذلك مهما كانت درجة تغريبها عنه, فالهيمنة لا تعتمد على الموافقة بقدر ما تعتمد على الإذعان." (4)
كما استعملت الديمقراطية في أميركا قبل الإستقلال لخداع الجماهيركما يقول إدمند مورغان الذي يصف الديمقراطية على أنها "صمام أمان. فهي فسحة تتيح للمستضعفين الشعور, بعض الوقت, بأن لديهم سلطة و هم عادة محرومون منها, سلطة نصفها سراب. و كانت كذلك بمثابة طقس لإعطاء الشرعية, أي حق قيام العامة بتجديد موافقتهم على بنية حكم الأقلية." (5)
إن الليبرالية الجديدة كنقيض للإشتراكية أو حتى للكينزية من حيث مثلها و إنسانيتها, تهمش الدولة, و تعطي السلطة الحقيقية لعوامل السوق, أو بالأحرى للرأسمالية, و بالتحديد, لطبقة ضيقة من الرأسماليين الذين يأخذون في غرف مجالس الإدارة المغلقة أو في مكاتبهم, و "حيث لا تدخل الديمقراطية", القرارات الإقتصادية والإجتماعية و السياسية التي تمس حياة الإنسان العادي, فرص عمله, مستوى أجره الحقيقي, قيمتة عملته الحقيقية, ثمن السلع و الخدمات التي سيستهلكها, نشرة الأخبار التي سيسمعها, المعلومات التي ستصله و التي ستحجب عنه, الأكاذيب التي سيصدقها و الآراء التي سيقتنع بها, و ذلك عبر السيطرة الكاملة على قطاعات الإنتاج, و حركة رؤوس الأموال المضاربة التوظيفية, و وسائل الإعلام المقروئة و المسموعة والمرئية, و المسخرة جميعها لتعزيز سلطتهم المادية و السياسية و تعميق هيمنتهم على المجتمع.
إن الديمقراطية بمعناها الواسع لا يمكن ممارستها في ظل الليبرالية الجديدة و أيديولوجية الأسواق الحرة, التي تسلب الإنسان معظم حقوقه الإقتصادية والاجتماعية و تبقيه على الدوام في قلق خائف غير واثق من غده, تهدده البطالة و العوز, يعيش قرب خط الفقر أو دونه, مسلوب الحقوق الأساسية والضمانات الحياتية التي حققتها الأجيال السابقة عبر نضالات مصبوغة بالدم, محروما من مؤسسات التغطية الاجتماعية, كما من التنظيمات النقابية الفاعلة. كما تعيق الليبرالية الجديدة قيام أحزاب سياسية ذات برامج اقتصادية واجتماعية و سياسية تمثل المصالح الحقيقية لأوسع الجماهير. أي قيام السياسية التي تمثل طبقة أو تحالف طبقات و لا تمثل عصبيات طائفية و مذهبية يقودها أبناء الطبقة الرأسمالية الحاكمة لمصلحتهم و ضد مصالح الجماهير التي تهزج لهم و "تفديهم بالروح و الدم."
1. ميليباند, رالف, الإشتراكية لعصر شكاك. ص 20
2 Fray, John, Marcuse, Dilemma and Liberation
3. ميليباند, المصدر السابق ص 39
4. نفس المصدر ص 23
5. نفس المصدر ص 40
غالب أبو مصلح
عين كسور في 29/6/2005