النظام اللبناني

ديمقراطية ليبرالية ممسوخة بالطائفية

د. غالب نور الدين

 

جرت اهتمامات كثيرة لدراسة طبيعة النظام السياسي في لبنان، وعند الاطلاع على معظم الآراء يظهر الانطباع التالي: إن نظام لبنان السياسي غريب عجيب ووحيد فريد مدهش مذهل، يستعصي على كل تصنيف ويتمرّد على كل تحليل.

 

لقد حاول الأستاذ Michael Hudson في مقدمة كتابه "الجمهورية القلقة" The precarios republic، أن يصف نوع نظامنا السياسي فوجد أن هذا النظام يحتوي على عناصر متشابكة تجعل تصنيف لبنان من حيث وضعه السياسي أمراً في غاية الصعوبة، فلبنان كما قال: "بلد ديمقراطي ولكنه أيضاً بلد أولغارشي". وإذا أخذنا الأصناف الخمسة التي يحددها إدوارد شيلز Edward Shils للدول الجديدة وجدنا أن أوصاف أربعة منها تنطبق على لبنان: ديمقراطية سياسية، ديمقراطية أبوية، اوليغارشية مجددة، اوليغارشية تقليدية، اوليغارشية استبدادية. ويقول هدسون أنه يمكن تصنيف لبنان في أي صنف من هذه الأصناف ما عدا الأخيرة.

 

أما الأستاذ جان كلود دوفنس Jean Klod Dovence أحد أساتذة الحقوق في الجامعة اليسوعية عام 1971، فقد استعرض مختلف مفاهيم الديمقراطية السياسية علّه يجد وصفاً دقيقاً لنظامنا السياسي فلم يعثر على شيء، واضطر في نهاية المطاف إلى تبني النظرية التي استمد منها هدسون نظرية مراكز القوى (المتعددة والمتوازنة) وقال في محاضرته أن النظرية البوليارشية تصلح لفهم خصائص النظام اللبناني وتنطبق على كيان المجتمع السياسي فيه.

 

حسب الدكتور محمد المجدوب، في النظام البوليارشي لا يطالعنا فرد أو مجتمع. إن الجماعات أو الفئات وحدها هي التي تنتصب أمامنا. إن الفرد (المواطن) في هذا النظام لا وزن له ولا قيمة. فضباب الجماعات الضيق هو الذي يحجبه عن الأعين ويبقيه خارج المسرح السياسي بعيداً عن الأحداث الخارجية. والمجتمع الوطني المتكامل لا وجود له كذلك، لأن كل جماعة أو فئة طائفية تعتبر نفسها مجتمعاً قائماً بذاته لا تربطه بالمجتمعات الطائفية الأخرى سوى روابط واهية تفرضها فكرة الاستمرار بالتعايش وصيانة المصالح الآنية المتقلبة. وتكون النتيجة المنطقية لذلك:

 

1-أن تتحول الحياة السياسية في البلد (خصوصاً بالنسبة للمسائل المصيرية) إلى عمليات ضغط أو عنف أو تهديد باللجوء إلى القوة تمارسها بالتناوب الجماعات المتسلطة إزاء بعضها البعض دفاعاً عن مصالحها الخاصة، أو مصالح زعمائها.

2-أن يضمحل شأن المواطن الفر فلا يعود لآرائه أو مواقفه الفكرية والعلمية أي قيمة. وعندها يجد هذا المواطن الحر (الذي يرفض وضعاً كهذا) نفسه أمام خيار صعب: إما التمرد على هذه التقاليد والمفاهيم والتعرض لنقمة الجماعة ممثلة بزعمائها ومرجعياتها، فإن لم ينتصر (وقلما ينتصر) كان عليه أن يحمل عصاه ويرحل عن البلد، وإما الرضوخ والاستسلام لهؤلاء الزعماء ووضع كل ما يحمل من خبرة وشهادات وكرامة رهن إشارتهم وأحياناً تحت أقدامهم من أجل تأمين لقمة العيش أو الحفاظ عليها.

3-أن تتلاشى الدولة بمفهومها الحديث وأجهزتها العصرية وتنقلب إلى آلة تعمل لحساب زعماء الجماعات، فيغيب بذلك مفهوم تلك المؤسسة السياسية الكبرى التي من المفترض أنها قامت لخدمة المواطنين والسهر على راحتهم وكراماتهم وحياتهم.

4-أن يطفو على وجه هذا الخليط المتنافر من الجماعات المتعايشة بالاكراه صوت هذه الجماعات فقط فيضطر الأفراد والمؤسسات والقوى الأجنبية إلى الاتصال بها والتعامل معها واعتبار الدولة هيئة لا وجود لها. وبادراكنا لهذه الفكرة يسهل فهم النظام السياسي الطائفي. إنه نظام يعتمد على توازن دقيق بين قوى مختلفة وفآت متمايزة ومراكز قرارات متشعبة. وجميعها مكرهة بشكل دائم على انتهاج أسلوب الاتفاق والتفاهم، وفي معظم الأحيان برعاية أجنبية، لئلا يختل التوازن فتنتشر الفوضى وتصاب مصالحها بالضرر. وفي كل مرة تتعرض فيها مصلحة من المصالح الفئوية للخطر يهتز المجتمع كله وتضطرب الخواطر، ويخيم على البلاد جو متوتر مشحون، فيسارع المصلحون وأصحاب الرعاية إلى تهدئة النفوس والتحدث عن الوحدة الوطنية وضرورة التمسك بمبدأ التوازن الطائفي، فيتم بذلك إعادة التجديد لنفس الطبقة الحاكمة.

 

وفي غمرة الحرص على تأمين التوازن يتلاشى الوطن وتتبخر فكرة الدولة وتضيع فكرة المصلحة العامة ويتحول البلد إلى ميدان سباق للمصالح الخاصة يديره ويسيره زعماء المال والإقطاع والجاه. فينظمون حفلاته ويتقاسمون ريعها ويتركون للشعب حرية الصراخ والقفز للتعبير عن فرصة عابرة هزته أو نقمة طارئة أثارته.

 

إن هذا النظام يسد الآفاق أمام المواطن الفرد، فالمواطن ليس في الحقيقة عضواً في دولته بل هو عضو في الطائفة التي وحدها معبرة عن الدولة عبر مرجعيات وزعامات ومراكز نفوذ. لقد احتكرت قلة من القلائل التمثيل السياسي فمنذ بداية القرن الماضي جرى تداول التمثيل السياسي ضمن 270 عائلة وتعاظم دور الإقطاع السياسي ونفوذ المرجعيات الدينية بالاضافة إلى دخول عنصر المال الذي ركب الموجة الطائفية وأفرز زعامات جديدة لاتقلّ سؤاّ عن تلك التقليدية، وقد استطاع المال أن يوظف مرجعيات دينية وطائفية ويسخرها لمصالحه كما حدث في الانتخابات. وفي سياق العملية السياسية منذ نشؤ الكيان لم تتمكن الأحزاب الحقيقية ذات البرامج والمبادئ الشعبية والقومية الشاملة من الوصول إلى المراكز المؤثرة في بنية الدولة. فالأحزاب التي سرحت ومرحت هي تلك الحالات الطائفية التي دهنت نفسها بشعارات ومبادئ برّاقة لامعة تخبئ في جوهرها أهداف ومصالح فئوية ذات خلفيات تعصبية ومصالح شخصية.

 

وعند الاستحقاقات الأساسية تلجأ إلى إثارة النعرات والحساسيات الفئوية مبتعدة عن تلك الشعارات البرّاقة من تقدمية ديمقراطية وتحررية كون رصيدها الانتخابي هو رصيد طائفي بحت، أما الشعارات والمبادئ فما هي إلا أقنعة تختبئ خلفها. وهذا ما يفسّر تماماً قدرة شعارات التحريض على حسم معارك الانتخابات مثل: توظيف دم الشهيد الحريري عند السنة بغية الثأر لزعيمهم، والشيعة بتصويرهم مستهدفين من الآخرين، والدروز دفاعاً عن كيانهم، والمسيحيون لرفض املاءات قريطم عليهم، والأرمن ثأراً لتهميشهم إلى غير ذلك من تحريض أسهم في انتاج مجلس نيابي لم تختاره العقول بقدر ما أنتجته الغرائز ضمن طوابير الجماعات المستنفرة.

 

وفي كل مراحله أوصل هذا النظام البلاد وما يزال إلى نتائج مؤلمة، فهو:

1-يسلب غالبية الشعب حريته وقوته عبر محاصرته ضمن قوالب الجمعات الطائفية ويصبح هذا الشعب بالتالي عاجزاً حيال هذه اللتركيبة، إذ يزداد تمركز القوة المادية في أيدي عدد قليل من المحتكرين والمتزعمين اللذين لا حدّ لجشعهم. وتتحول أدوات العمل السياسي الديمقراطي ووسائل التعبير إلى الحتكارات تتحكم فيها الطوائف وأصحاب الرساميل الكبرى كما يحدث في وسائل الاعلام، فالجرائد اليومية السياسية صارت امتيازات لا يستطيع أن يحصل عليها سوى أصحاب المليارات، وكذلك محاطات التلفزيون تحولت إلى منابر احتكارية لأصحاب النفوذ السياسي والمالي توظفها في مشاريعها السياسية. ووجد العلمانيون والتغييريون والاصلاحيون أنفسهم عاجزين عن إيصال رؤيتهم ومخاطبة الجماهير. بالاضافة إلى العديد من المؤسسات والمنابر الدينية التي صارت جزءاً من أدوات التوجيه السياسي بيد الطغمة المتحكمة.

2-إن هذا النظام يؤسس للفتن والويلات، وقد سبب في سياق تاريخه العديد من المآسي كان آخرها الحرب الأهلية على مدى 17 عاماً.

3-إنه نظام يرتبط بالاحتكارات التجارية والوكالات والمصالح الغربية ويعتمد اقتسام الدولة بين جماعة المال والاقطاع السياسي، وهو بكونه مرتكزاً على مصالح الاحتكارات والتجارة يتآمر على محاولات إحداث نهضة
إقتصادية إنتاجية صناعية زراعية، ويعمد إلى تعطيل التوجهات الوحدوية التعاونية مع المحيط العربي.

4-إنه نظام يجعل البلد مكشوفاً دائماً أمام الارادات الأجنبية، وهو دائماً عاجز عن تحقيق إنجازات أو تحولات بذاته. فتشكيل حكوماته يخضع في كثير من الأحيان لارادات أجنبية. وانتخابات النيابة ورئاسة الجمهورية كانت في مختلف الاستحقاقات مسرحاً لتدخلات سفراء ورعايات ونفوذ خارجي. وفي المفاصل المصيرية لم تكن الارادة اللبنانية فاعلة، ففي عام 1943 كانت الارادة الانكليزية ودببات الجنرال سبرز هي الحاسمة في تسوية الاستقلال، وانهت فتنة 1958 بتسوية بين الأمريكان والرئيس عبد الناصر، وعام 1989 كان اتفاق الطائف تسوية تحت رعاية أمريكية سعودية سورية وغطاء عربي. أما الانسحاب السوري فترافق مع قرار أمريكي فرنسي المنشأ القرار 1559 وتدخل سفراء أميركا وفرنسا والسعودية مباشرة في تفاصيل لبنان بعد الانسحاب السوري وفي جوهر تفاصيل عملية الانتخابات.

5-إنه نظام عاجز أمام الفساد الذي يستشري في أحشاء الدولة والمجتمع. وحيال كل الفضائح والسرقات لم يحاسب أي مسؤول. فعند طرح مسألة المحاسبة وفتح الملفات من قبل البعض يصار إلى افتعال أزمة سياسية خطيرة يصار بعدها إلى تسوية تعيد الملفات إلى أدراجها وكأن شيئاً لم يكن. ونتيجة ذلك يتفاقم انهيار الاقتصاد الوطني وتتراكم مديونية الدولة مقابل تزايد ثروات أصحاب الاحتكارات والزعماء أسياد النظام اللبناني.

6-إن التركيبة الانتخابية التي تنبعث دائماً عن سوء النظام اللبناني الذي يسمونه ديمقراطية توافقية دأبت على حماية الاحتكارات التجارية والمالية إلى جانب قيامها برعاية الامتيازات الطائفيةعلى حساب الدولة ومصالح الشعب. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة تزايد أموال الجامعات والمؤسسات الطائفية مقابل إضعاف دور الجامعة اللبنانية ومؤسسات الدولة والرعاية، ويزيد الطين بلّة ظهور المئات من الجمعيات الخيرية والمؤسسات الهائلة ذات الطابع الطائفي والتي توظف سياسياً لتجييش الناس خلف مرجعياتهم وزعاماتهم.

 

ورغم أن الدستور اللبناني قد ثبت مبدأ المساواة بين جميع المواطنين فإنه نقض هذا المبدأ في التوزيع الطائفي. فقد جرى تكريس الطائفية في نصوص بعد أن كانت عرفاً كما جرى تكريس للمذهبية في تركيبة الانتخابات. وهنا لا يستقيم مبدأ المساواة السياسية والمدنية بين المواطنين ومسألة التوزيع الطائفي في المجلس النيابي والرئاسات والوزارات والوظائف. فإن هذه الاعتبارات تنسف مبدأ المساواة، ولكي يستقيم الدستور يجب إزالة التناقض بين فقرتيه، وإذا كانت الديمقراطية ضمن مفهومها الليبرالي ترتكز على الحرية والمساواة السياسية فإن المحاصصات تنسف المساواة، فالمواطنون غير متساويين في حقوقهم السياسية بسبب الاعتبارات الطائفية التي تجعلهم متفاوتين في هذه الحقوق.

 

إن النظام اللبناني لا يمكن تسميته ديمقراطي ليبرالي بل هو تشوه فظيع لا يوجد مثله في العالم. فهو وإن اعتمد مبدأ حرية الرأي فقد كرس عدم المساواة، ما يشوه فعل الحرية ويجهضها في قوالب الاعتبارات الطائفية المقسمة والمفرّقة والمسببة للطغيان. وحده النظام يحاول أن يزين ذلك المخلوق العجيب الذي يزاوج بين ما يسمونه ديمقراطية ليبرالية وطائفية سياسية، ووحدهم ساسته التقليديون يتغنون بهذا الانجاز العظيم الذي جلب ويجلب الويل على البلاد والعباد.

 

إن كل عمل إصلاحي لا يستقيم بدون إلغاء مفاعيل الطائفية السياسية التي تفرخ دائماً طائفيين سياسيين. فالعلاقة بين الطائفية السياسية والطائفيين السياسيين علاقة جدلية، كالعلاقة بين الطائفية والطائفية السياسية. كما أن الطائفية السياسية تتغذى من الطائفية وتساهم في تجذرها في الواقع الاجتماعي، تنتج الطائفية السياسية نموذجاً من السياسيين يعمقون بطروحاتهم وسلوكهم وممارساتهم الطائفية السياسية، فيؤدي ذلك بدوره إلى تقوية نفوذهم وتحصين مواقعهم، فيتمسكون أكثر بالطائفية لكونها أساس الطائفية السياسية، علّة وجودهم.

 

إن القوى الوطنية والعقول النيرة في لبنان مدعوة للعمل باتجاه إنقاذ البلاد من دولة الجماعات الحامية للاحتكار والراعية لامتيازات الطوائف، وذلك عبر اطلاق مشروع دولة الشعب الحامية لمصالحه والراعية لتطوره وحاجاته، وذلك عبر جبهة واسعة من شرائح وطنية غير طائفية وقوى شعبية صاحبة مصلحة في التغيير والتحرر. وبهذا يمكن نقل الصراع من صراع امتيازات بين طوائف وجماعات إلى صراع قوى الشعب الحي ضد المحتكرين والفاسدين والرجعيين.

 

د. غالب نور الدين