العرب والعولمة
لم يبق صاحب لسان ذرب في لبنان إلا وتغزل بالوحدة الوطنية وبشر بها ودعى إليها. ومن شدة حماسة هؤلاء، عمد بعضهم إلى اختلاق تاريخ لها غارق في القدم، من العهود الفينيقية إلى أيام حملات الفرنجة، إلى أحداث 1860، فإلى الاجتياح الإسرائيلي، ثم عهد الرئيس إميل لحود. فكل الحروب الأهلية والمواقف المتضاربة من الغزوات الأجنبية والإحتلالات المتعاقبة، لم تستطع أن تهتك عذرية الوحدة الوطنية اللبنانية.
يعتقد معظم اللبنانيين أن الوحدة الوطنية ضرورية ويمكن تحقيقها. فإن لم تكن موجودة، وجب اختراعها. فهي الترياق الموعود لعلاج جميع المآسي والأمراض. لذلك، فكل طائفة أو حزب أو حركة أو تيار أو جمعية عائلية، كل هؤلاء، يدعون إلى الوحدة الوطنية. وبما أن لكل واحد أرضا فكرية وسياسية يقف عليها، يؤمن بها، يذود عنها بكل ما أوتي من قوة، فإنه يدعو الآخرين، جميع الآخرين، لمغادرة مواقعهم الخاطئة والإنضمام إليه، تمثلا بوليد جنبلاط حين قفز من أرض أبيه وجده، الأمير شكيب أرسلان، إلى أرض سمير جعجع بغية تحقيق الوحدة الوطنية المنشودة.
البعض يريد الوحدة الوطنية على قاعدة العداء لسوريا، والبعض الآخر يريدها ضد أميركا وإسرائيل بشكل خاص. البعض يريد الوحدة حول شعار "أزلية الكيان والنظام والدستور"، في الوقت الذي يذوب فيه كيان الأم الحنون التي فبركت الكيان اللبناني، وبعد أن أكل الدهر وشرب على النظام والدستور. والبعض الآخر يريد الوحدة الوطنية حول عروبة لبنان وتقدميته وديمقراطيته. البعض يريد الوحدة الوطنية حول فكر ونهج الليبرالية الجديدة، كما طبقها الرئيس الحريري ومن سار على هديه وتحت إشراف "إجماع واشنطن". والبعض الآخر يريد الوحدة الوطنية على قاعدة التنمية الشاملة المستقلة عن مراكز النظام الرأسمالي العالمي، وباستهدافات إنسانية مغايرة. البعض يريد الوحدة الوطنية لإسقاط المقاومة وسلاحها واستظلال القوتين الفرنسية والأميركية والإستسلام لإسرائيل. والبعض الآخر يريد الوحدة الوطنية حول فكر ونهج المقاومة لتحرير الأرض والإنسان.
البعض يعتقد أن طريق الوحدة الوطنية تمر بتقوية وتعزيز الكيانات الطائفية والمذهبية واستقلاليتها لتشكل عنقود لبنان الواحد. والبعض الآخر يدعو إلى تفكيك الكيانات الطائفية والمذهبية لتوحيد المواطنين وبناء الوطن. البعض يدعو إلى التمسك بالامتيازات الطائفية، أو امتيازات زعماء الطوائف. والبعض الآخر يدعو إلى إسقاط الإمتيازات بغية قيام ديمقراطية حقيقية مبنية على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، لبناء الوحدة الوطنية. البعض يرى في "فلتان" السفراء والقناصل الغربيين، وخاصة السفيرين الأميركي والفرنسي، حالة "عشق" للبنان أو لبعض أبنائه. والبعض الآخر يرى في "هيجان" السفراء ومندوبي مجلس الأمن والإتحاد الأوروبي عودة لعهود الإستعمار والوصاية.
بين كل هذه المواقف المتناقضة، تتوزع القبائل اللبنانية. وعندما يلتقي بعضها حول شعار ما، مثل شعار "العداء لسوريا" على أسس استعلائية شوفينية، فإنها تختلف وتفترق عند طرح أي شعار آخر، فيكون لقاؤها جزئياً وشكلياً وعابراً، مثل لقاء 14 آذار الذي انتهى في 14 آذار. فأي إرادة إلهية تستطيع أن تجعل من برج بابل اللبناني وطنا موحدا حقا، وعلى أي أرض فكرية وسياسية؟
إن الوحدة الوطنية الحقيقية، وبعيدا عن اللياقات والمجاملات، أو المهاترات والمزايدات، لا يمكن أن تبنى إلا على قواعد ثابتة أهمها ثلاث:
أولا: عروبة لبنان، وما تعنيه هذه العروبة من إلتزام نضالي لبناء وطن حر موحد ديمقراطي، يقبل بالتعدد، بعيداً عن الاستبداد والعنصرية، وينفتح على الخارج ويتفاعل معه، وبالاقتناع بأن لبنان جزء أساسي من الوطن العربي وليس جسرا للعبور إليه.
ثانيا: الموقف المناهض للهجمة الإمبريالية الجديدة، في عصر العولمة والشركات المتعددة الجنسيات، المتسلطة على النظام الرأسمالي العالمي ومؤسساته، والتي تعمل حسب مبادىء الليبرالية الجديدة التي أطلقت وحشية الأسواق الحرة، المنفلتة من رقابة المجتمع.
ثالثا: طبيعة النظام الإقتصادي الإجتماعي المطلوب والقادر على وضع الوطن على سكة التنمية الشاملة والدائمة، وتأمين حقوق الإنسان كما حددتها الشرعة العالمية لحقوق الإنسان.
فالوحدة الوطنية هي قضية نسبية وليست مطلقة. والمطلوب فعلا هو وحدة القوى التغييرية القادرة على انتشال لبنان من مأزقه التاريخي الذي أوصلته إليه الطبقة الحاكمة بعجزها الكامل واستقوائها بالخارج الأميركي الأوروبي.
العرب والعولمة