من يتحكم بالوطن العربي؟

من يحتل العراق؟ أميركا أم إيران؟

د. جورج حجار

 

1-    المقدمة:

 

أ‌-   عاد الرئيس كلنتون إلى فلسطين المحتلة (17/10/1994) بعد زيارته للرئيس حافظ الأسد في دمشق. وبعد يوم واحد على زيارة دمشق، قدم تبرعا إضافيا لإسرائيل بالإضافة للستة مليارات التي تقدمها أميركا لإسرائيل سنويا، منذ اتفاقية السادات-بيغن عام 1979، وأعلن أمام الكنيست:

"إنني أشعر كأني في بيتي، لقد زرت إسرائيل قبل 13 عاما بصحبة قس بروتستانتي في مهمة دينية، وقد أوصاني القس، قبل وفاته، بأن أكون سندا لإسرائيل وحذرني من أن الله لن يسامحني أبدا إذا تخليت عنها لأن إرضاءها هو إرضاء للرب" وأكد ثانية: "إن إرضاء إسرائيل إرضاء للرب!" (السلطة الخامسة، منتدى العروبة اللبناني، القرعون، العدد رقم 11، ص 10)

ب‌-    بلّغ الرئيس بوش الرئيس عباس ونبيل شعث، قادة فلسطين الأسلوية: الله كلفني خوض الحرب:

قال لنا الرئيس بوش في حزيران 2003 "إن ما يحركني هو تكليف من الله. كان الله يقول لي: جورج، إذهب وحارب أولئك الإرهابيين في أفغانستان، وقد فعلت. والآن مرة أخرى أشعر بكلمات وهي تصل إلي. إذهب واعط الفلسطينيين دولتهم واحصل للإسرائيليين على أمنهم وحقق السلام في الشرق الأوسط... وأقسم بالله بأنني سأفعل ذلك". (الحياة 7/10/2005 الصفحة الأولى)

ج- في العروبة والإسلام: "إذا ذلت العرب ذل الإسلام" (حديث شريف). "سمع الرسول أعجميا مسلما يسب العرب فقال: يا هذا... لماذا كفرت؟ فذهل الأعجمي المسلم، وقال: عجبا يا رسول الله!! أنا لم أقعل سوى أني سببت العرب من شدة حنقي من هذا الرجل الذي كنت أتنازع وإياه! فقال له النبي: أنسيت أن العروبة وعاء الإسلام ومن يسب العروبة فكأنما يسب الإسلام فهل يليق بمن يدعو إلى الإسلام، أن يسب العروبة ويحظى بغضب من الله ورسوله؟!" (مختار عزيز "مفهوم القومية"، السفير، 23/6/1987. ص11)

 

 

2-    توطئة:

 

3-  أنظمة سيكس-بيكو تحتضر، المحميات العربية ترتعد، العراق يتجزأ، العروبة تتهاوى، الوهابيون يحلقون في الفضاءات الأميركية. إنها الحقبة السعودية بامتياز إقليميا، إنها الإنجيلية-الوهابية المعولمة! أميركا في طور الرايخ الرابع، النازية الجديدة وتيوقراطيوها، "الديمقراطيون" الشعبويون، "حكماء" يحتلون مراكز الصدارة في العالم.

 

عقلاء العصر يتحدثون لغة البنك الدولي والإجماع الواشنطوني من عولمة وانفتاح وديمقراطية إلى الشفافية، إلى الحكم الرشيد إلى فردوس النيوليبرالية الموعود، بينما هم يتحكمون بالناس بالحديد والنار ويمارسون السلطوية وإذلال الشعوب وقهرها ويستمرؤون احتلال البلدان وسلب خيراتها وأدمغتها – إنه عصر قهر الإنسان واستلابه وتحويل البشر إلى قردة.

 

أصوليو "الثورة الدائمة" من إسلاميين وإنجيليين وغيرهم ينددون بالطاغوت والاستكبار، وينادون "بحاكمية الله" على الشعوب بكلمة، "الكل" في حالة النشوة الريانية بوجه البشرية بأسرها، بلغته ومفرداته ونقطة اللقاء بين الفريقين واحدة موحدة: الانقلاب على العقل واستحضار الوحي والإيمان بالماورائيات. "الواقعيون" –المهرجون على المسارح والمنابر- يعتبرون العروبة والثورة الاشتراكية سمات لمرحلة اندثرت والبقايا تذوي وتتناثر كأوراق الخريف والخلاص يتمثل في الاندراج تحت لواء الحاضنة – الأم، الحداثة الأميركية والكيانية المحلية بمكوناتها المتألقة، الخنوعة والمتماثلة بخضوعها للأخطبوط الأمبراطوري الأميركي الصهيوني. والسؤال المركزي في هذا السياق هو: أين نقف ولماذا هذا العحز والشلل في المواجهة وإلى أين نحن سائرون؟ والجواب بإيجاز هو: إننا نقف في نقطة الأوج للثورة المضادة وبداية ادحرجها من القمة إلى الحضيض، أي أننا في نهاية دورة للتاريخ وبداية عصر جديد للبشرية: الله والإنسان في المواجهة: وبلغة الرسول العربي: "إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كان عتوا وجبرية وفسادا في الأرض يستحلون الحرير والفروج والخمور ويرزقون على ذلك وينصرهم حتى يلقوا الله عزّ وجل".

 

وفي لغة الإنسانوية للدكتور نديم البيطار في كتاب "التجربة الثورية":

"الإنسان لا يولد كي يموت! لا يوجد كي يخدم الموت أو البؤس الذي يقترن بالحياة، فهذه الحياة ليست كما تبدو لنا حركة في خدمة الموت والبؤس بل لتجاوزها. الإنسان لا يولد كي يموت، ولكن كي يخلق بدايات جديدة بين الولادة والموت. الإنسان محتوم عليه بإنسانيته ذاتها أن يخلق باستمرار هذه البدايات... إنها قدرة الإنسان على اعتراض الموت وخلق شيء جديد بالمثال الثروي... وما يميز الإنسان كإنسان القدرة على التجاوز الذاتي".

 

 

3-إخراج الجزائر من دائرة العروبة

 

عشية انعقاد مؤتمر القارات الثالث في الجزائر –الآفرو-آسيوية واللاتينية- في 19 حزيران 1965، قام فريق بومدين-بوتفليقة بحركة انقلابية دعيت "حركة 19 جوان" أطاحت بمشروع المؤتمر الإممي لاذي كان قيد التشكل آنذاك وضم في صفوفه معظم دول العالم الثالث المتحررة وحركات التحرر الوطني قاطبة، وذلك بقيادة الصين الشعبية والفيات من والفيات كونغ وزعامة قومية عربية.

 

وأول قرار اتخذته "حركة 19 جوان" كان إلغاء مؤتمر القارات الثلاث وبذلك شكلت منعطفا تاريخيا في تاريخ الثورة الجزائرية وبداية الانطلاق للثورة المضادة في المغرب العربي والقارة الإفريقية بشكل عام. أما بالنسبة للجزائر، فإن "حركة 19 جوان" قد تبنت مشروع الجزأرة الكيانية على أنقاض وحدة المغرب العربي وتاليا تخلت عن مشروع الوحدة العربةي من الماء إلى الماء. وبدأت العروبة بالتلاشي التدريجي وخاصة بعد تصفية جناح بن بله العروبي والإطاحة بنظام الثورة الذي كان يهيء للتفاوض مع مصر عبدالناصر وعراق عبالسلام عارف من أجل قيام ودة عربية على قواعد سليمة وتطلعات مشتركة ومصير واحد في أمة عربية واحدة. لا على قاعدة السيادىة الكيانية والإثنين والعشرين أمة من أمة الكويت إلى أمة لبنان إلى أمة البوليساريو، إلى الأمم المجهرية الأتية. إن إسقاط نظام الثورة التحرري في الجزائر أفقد الأمة العربية الضلع الأضعف في مثلث الأمة –الدولة العربية الواحدة- بمحاوره الثالثة: الجزائر – القاهرة – بغداد. الأمر الذي أغضب القوميين العرب، ورحب فيه الجناح الجيواستراتيجي في قيادة الولايات المتحدة الأميركية، الذي اعتبر الحركة الإنقلابية خطوة مهمة على طريق انبعاث الأمة الجزائرية بعيدا عن الطموحات الناصرية – البعثية ومشاريع العروبة المعادية للغرب بالسليقة. أما الجناح الأميركي المعادي "للشيوعية والإلحأد" فقد نظر إلى "حركة 19 جوان" كحركة ماركسية تعتزم تطبيق النموذج اليوغوسلافي التيتوي في الجزائر على قاعدة "التسيير الذاتي" الذي انتهجه تيتو في يوغوسلافيا ونجح في تحقيق قفزة نوعية على طريق الاشتراكية والثورة.

 

احتدم الصراع في الوالايات المتحدة في أوساط الطبقة الحاكمة الأميركية ومثقفيها حول السؤال الأساسي: هل العروبة أو الشيوعية العربية هي الأكثر خطرا على أميركا والعالم الغربي؟ واستمر النقاش عالي الوتيرة في صيف العام 1965، حتى استقر الرأي على أن العروبة هي الخطر الداهم وبالتالي على أميركا محاربة العروبة والإطاحة بالنظم والمنظمات التي تنادي بالعروبة وتقوم بخطوات تنفيذية من أجل تجسيدها. وفي هذا الصدد، تبلور "الحلف الإسلامي" لمناهضة العروبة وأعلن وبدعم مطلق من أميركا (عام 1965) وبقيادة الملك فيصل السعودي والشاهناه الإيراني والحسن المغربي والحسين الأردني وصحبهم وبدأ الاستنزاف الحقيقي لعبد الناصر في اليمن حيث كان جند مصر يدافعون ويحمون "ثورة السلال" التي أطاحت بنظام الإمامة في 26 أيلول عام 1962. بكلمة، بدأ التخطيط العملي للإطاحة بنظام عبدالناصر من الخارج وبالتواطؤ مع إسرائيل وأميركا بعدما فشلت نهائيا سلسلة المحاولات الإنقلابية والاغتيالات من الداخل، وذلك للنيل من حكم "ثورة 23 يوليو" وإسقاطه إذا أمكن أو احتواءه كحد أدني، وللتوضيح، إن يمن عبد الناصر هي التي مهدت السبيل إلى هزيمة الناصرية في ساعتين وأربعين دقيقة في حرب 5 حزيران عام 1967، -وأزاحت الضلع المحوري للعروبة والتغيير جانبا لا بل همشته-، الهزيمة التي استكملت فصولها في التحالف العضوي الأميركي – الإسرائيلي – السعودي وترجمت في كويت صدام حسين (1991) وسقوط بغداد في 9 نيسان عام 2003، وما ترتب على ذلك من تداعيات وأهوال، وتاليا، نشوب حرب تحرير العراق من الاحتلال الأميركي بالكفاح الشعبي المسلح، الطريق الوحيد في هذه المرحلة، لجمع شمل الأمة، وإسقاط العدوان!

 

 

4-    مصر: من العروبة إلى الساداتية.

 

عوضا عن الاعتراف بالهزيمة النكراء والتنازل عن الحكم، أو المضي قدما في الصراع العربي-الصهيوني لا عبر الجيوس، بل على طريقة حرب التحرير الشعبية، اعتبرة "الأنظمة التقدمية" أنها أصيبت "بنكسة" قابلة للتصحيح، وفي نفس الوقت، رأت في الهزيمة انتصارا لأنها بقيت في سدة الحكم، فانتهجت الطريق الدبلوماسي سبيلا "لإزالة آثار العدوان" عبر المحافل الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي نظر إلى الفلسطينيين كلاجئين وليس كأهل قضية عادلة وأرض وشعب تحت الاحتلال الصهيوني.

 

ولتضليل "الشعوب العربية" تبنت الأنظمة حركة فتح تكتيكيا وأغدقت عليها المال والعتاد لتجعل منها أكبر "ثروة ثورية" في خدمة المشروع السعودي للهيمنة على المنطقة وإزالة "الأنظمة التقدمية". وعلينا أن ندلك أن "لاءات الخرطوم" في هذا الصدد لم تكن أكثر من غطاء لإطلاق تلك الثورة المضادة. وراح الرئيس عبدالناصر المحاصر والمهزوم يعيد بناء القوات المسلحة ويتعكز على السوفيات تخطيطا "لحرب الاستنزاف" وشنها (1969-1970) بينما ذهب بعيدا في قبول مشروع روجرز وزير خارجية أميركا في بداية عهد نيكسون، 20/1/1969) المشاريع التي أفضت إلى أحداث "أيلول الأسود" عام 1970 ووفاة عبد الناصر في 28 أيلول عام 1970، بعد لقاء القمة المظفرة لتصفية المقاومة المسلحة وترحيلها من الأردن إلى لبنان لاحقا، التاريخ الذي سجل بعد مرور تسع سنوات على نحر "الجمهورية العربية المتحدة" في 28 أيلول 1961، وذلك بتمويل وتخطيط سعودي – أميركي رجعي عسكري سوري، الأمر الذي حقق الانتصار للحركة الإنفصالية على حساب الوحدة العربية!

 

إن أهم ما يعنينا في عقد الستينات هزيمة ال67 وترجمتها الميدانية من القاهرة إلى بغداد وما سبقها وتبعها من تحالفات ومخططات فحسب، إنما ما ينبغي معرفته من حقائق ودقائق لأمور وأبعادها، هي اكتشاف أبرز معلومة كاشفة بدو مواربة، ألا وهي: تجنيد كمال الأدهم، صهر الملك الفيصل، ومسؤول الCIA  في السعودية السيد محمد أنور المؤمن – العمدة بالذهنية والتصرف والتوجه والتفكير، السدات، "بهلوان ورجل السلام" حسب تقدير كيسنجر في كتابه "سنوات الجيشان"

 

إن الكشف عن عمالة السادات وغيره وحتى عن رايته، (جيم هوغولاند، جريدة واشنطن بوست 25 شباط 1977) كان الهدف منه ابتزار السادات وتسريع زيارته إلى القدس، التي تمت في 19 تشرين الثاني عام 1977، ونجم عنها محادثات "كامب دافيد" (بدأت في 18 أيلول 1978) حيث تمت الصفقة بين إسرائيل الليكودية بقيادة بيغن ومصر الساداتية، الصفقة التي توجت باتفاقية الصلح المنفرد في 26 آذار 1979 برعاية أميركية وبالثمن البخس السنوي لمصر، وقدره ملياري دولار زائد بعض الأسلحة، والذي ما زالت كل الإدارات الأميركية تدفعه من كارتر إلى ريغن إلى بوش الأب إلى كلنتون إلى بوش الإبن. حتى هذه الساعة. والسؤال لماذا هذا السخاء الأميركي؟ والجواب هو الحرص على أمن إسرائيل وتفوقها والأنظمة الرجعية ونفطها، والجواب ألأكثر أهمية هو لإبعاد مصر عن قضايا أمتها العربية وحصرها في شرنقة النيل واستخدامها في مهام محددة في القارة الإفريقية لتسويق المآرب الأميركية هناك. بكلمة وجيزة، إن مصر الريادة والقيادة والسيادة قد تحولت – وخاصة بعد إعدام السادات باسم حكم الشعب (6 أكتوبر 1981) إلى مصر "سمسار السلام" (The peace Broker) في خدمة أميركا على حد توصيف عمرو موسى وزير خارجية المبارك، ولاحقا تمت ترقيته إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية التي لا جامع بين دولها سوى الخيانة القومية والسمسرة والخضوع لأميركا من أجل البقاء في السلطة وتقديم الدعم والمال بتفان لمشاريع أميركا في المنطقة. وهنا تجدر الإشارة على أن في مقدمة ذلك "الدعم المفتوح" هو إسناد أميركا وتوفير القواعد العسكرية لها في حرب احتلال العراق وإسقاط بغداد العربية والقبول بدون تردد بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، مشروع الهيمنة على مقدرات الأمة العربية وتغيير هويتها العربية وإعادة تشكيل المنطقة وهيكلتها على قاعدة محورية إسرائيل المتروبول الإقليمي، ورفع راية مجد وسؤدد النفط دفاعا عن الديمقراطية والمساءلة والشفافية والعولمة المتأمركة في محميات "عربية" تحت النير الأميركي-الصهيوني الساحق الماحق!

 

بإيجاز: إن مصر العربية قد تحولت في الحقبة الساداتية المباركية إلى مومس أميركي وبغي إقليمي يفتش عن زبائن لا سيادة ويبذل جهودا مشكورة لحماية عراق شرق أوسطية لا عربية، عراق الطوائف والمذاهب والعشائر لا عراق المواطنة والمواهب والعروبة.

 

 

5-    الشرق أوسطية وأحلافها.

 

في حزيران عام 2004 قررت الدول الثمانية العظمى (G8) أو الصناعية منها ما سيكون عليها مصير لبنان والمشرق العربي ومنطقة الشرق الأوسط وحددت معالم المرحلة من بيروت إلى أنقرة إلى كابول إلى إسلام أباد مرورا بسوريا والأردن والعراق ودول الخليج العربي. في النورماندي (6 حزيران) لمناسبة الذكرى الستين على الإنزال الأميركي في شمال فرنسا وبداية النهاية لتحرير أوروبا من النير النازي، تقرر مشروع قرار 1559 بين فرنسا وأميركا ضد سوريا ولبنان وفلسطين والباقي تفاصيل. وفي سي آيلند، جورجيا (8-10 حزيران) في الولايات المتحدة أقر "مشروع الشرق الأوسط الأوسع أو الكبير" الذي يشمل المشرق العربي بالإضافة إلى تركيا – إيران – أفغانستان والباكستان، أي محاولة انبعاث حلف بغداد جديد ولو كانت إيران مؤقتا خارجه، الحلف الذي سيلغي الهوية العربية ويستبدلها بهوية شرق أوسطية ويجعل من إسرائيل المتروبول الإقليمي الأميركي لإدارة المنطقة تحت الإشراف الوصاية الأميركية. وفي مؤتمر دبلن، إيرلندا (26 حزيران) في قلعة درومولند التقت أمم الاتحاد الأوروبي مع أميركا للتوكيد على التضامن والتعاون في الحرب والسلم بينهما والتعهد مجددا على أطلسية متماسكة بقيادة أميركا. وفي اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، التأم شمل دول الحلف الأطلسي (28-29 حزيران) لحماية المصالح الغربية في الشرق انطلاقا من الخليج العربي وإيران وجول وسط آسيا. وكان الهدف الاسمي من اللقاءات أو المؤتمرات الأربعة إعادة هيكلة المنطقة حسب المآرب الأميركية وتحت إمرتها وإنفاذا لمشيئتها. بدأ العمل بشكل صامت لتحقيق الهدف الأميركي الغربي حتى جاءت قنبلة باكستان الدبلوماسية بعد إحرازها على القنبلة النووية عام 1998، التي تمثلت في لقاء سيلفان شالوم وزير خارجية إسرائيل وخورشيد قاصوري وزير خارجية باكستان في اسطنبول، تركيا في 30 آب 2005، اللقاء الذي اعتبرته الإذاعة الإسرائيلية "خبرا مجلجلا". وأذاعت بنبرة احتفالية: "إن دولة إسلامية عدد سكانها 160 مليون نسمة، الدولة الإسلامية الوحيدة في العالم قررت اليوم إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ردا على الانسحاب من غزة، إنه خبر مجلجل".

 

وبين ليلة وضحاها تحولت باكستان من قوة صامتة و"معادية" لإسرائيل إلى قوة محركة من أجل قيام الشرق الأوسط الكبير، ولربما سيدرج تحت اسم حلف بغداد الجديد، إذا استطاعت أنظمة العربان مع أميركا احتواء وتصفية المقاومة المسلحة بين تسع واثنتي عشر سنة. وكان لقاء "القمة العالمية" الذي ضم نحو 170 قائدا من 192 عضوا في الأمم المتحدة والذي تزامن مع افتتاح الدورة الستين للجمعية العمومية التي تراسها لأول مرة، في تاريخ الأمم المتحدة التي تأسست عام 1945، الإسرائيلي داني غليرمان، ومنع عمليا الرئيس الأسد من حضور القمة والافتتاح لأن السيدة رايس أخرت إصدار تأشيرة دخول له وأرسلت له الإنكشاري ديتليف ميليس "المحقق الدولي" لكي يأتيها بلائحة اتهامات محققة ضد سورية. لذلك ألغى الرئيس الأسد حسب نيويورك تايمز (19/9/2005) زيارته إلى الأمم المتحدة واختارت المرأة العنقاء زعزعة الاستقرار السوري لا إرساء الاستقرار في العراق!

 

وفي نيويورك، استكمل التقارب الباكستاني-الإسرائيلي "بلقاء حميم بين الرئيس الباكستاني برويز مشرف وقرينته مع آرييل شارون... على هامش المؤتمر العالمي... لكن ذروته كانت عند لقاء مشرف أعضاء المجلس اليهودي الأميركي، حيث تم كسر الخبز وتلاوة آيات قرآنية، في إشارة متعمدة من الرئيس الباكستاني إلى أمرين: أولهما الدعوة إلى خطوات مماثلة لإحباط ما سماه "بالعلاقات التاريخية بين الدين الإسلامي والدين اليهودي" وثانيهما انتقاده المجتمعات الإسلامية "التي فشلت في اللحاق بالحضارة العصرية". (محمد السعيد أدريس، الحياة، 8/10/2005)

 

لست بحاجة لمناقشة دوافع الباكستاني وصراعها مع الهند لاسترضاء الولايات المتحدة عبر البوابة الإسرائيلية وتبني مشاريع أميركا في الشرق الأوسط، لأني على قناعة أن كل دولة قاعدتها وركيزتها الدين، ستنتهي في نهاية المطاف، في الأحضان الأميركية سواء أكان ذلك تحت عنوان مقارعة الشيوعية، الإلحاد، القومية الثورية، أو الإرهاب وغيره. وأنا على اضطلاع كامل على المشروع الأميركي القائل بإطلاق الصراعات داخل المجتمعات الإسلامية، بين الاعتدال والتطرف ونقل الصراع من مواجهة الشعوب المضطهدة لأميركا ودحر مشاريعها إلى داخل المجتمعات الإسلامية وتحويل الصراع إلى صراع بين الجماعات الإرهابية وشعوبها التي تطالب بالأمن والاستقرار والازدهار، لا بالحروب العبثية التي تشنها الجماعات الإسلامية المتطرفة أمثال بن لادن والخرافة الزرقاوية وغيرها. وفي خضم هذا السياق، تستطيع أميركا تحجيم العروبة ودعاتها، وتهميش جامعة الدول العربية وتصفية الحركات المسلحة في العراق ولبنان ألخ... وفرض تحالفات إقليمية لخدمة مصالحها وعزل سوريا وإيران وحصارهما، وإذا لزم الأمر، الإطاحة بالنظامين اللذين ما زالا خارج السرب المغرد والمبشر بالملكوت الأميركي الصهيوني: وعليه أستطيع أن أستنتج ما يلي، من قراءتي للأحداث المتسارعة في المنطقة وأبعادها مع السيد إدريس:

"إذا كانت إسرائيل هي بوابة العبور العربي والإسلامي إلى الولايات المتحدة والحضارة العصرية، فإن تركيا هي بوابة عبور الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل إلى العالمين العربي والإسلامي وإن النموذج الإسلامي لتركيا يمكن أن يكون النموذج الحضاري الذي يهم الغرب أن يتعامل معه في العالمين العربي والإسلامي. ومن ثم يجب ضم تركيا إلى الاتحاد الاوروبي وتقوية روابطها بالولايات المتحدة كي تتمكن من أداء هذا الدور المميز الذي لا يستطيع غيرها أن يقوم به وعلى الأخص بزعامة "حزب العدالة والتنمية"، بصفته حزبا إسلاميا، دون غيرها من الأحزاب العلمانية التركية.

 

بكلمة، منذ مطلع التسعينات عندما رفضت إيران المشاركة في ما سمي "حرب تحرير الكويت" من براثن صدام وتحت قيادة شورز كامبوف الجنرال الأميركي – علما أن سوريا ومصر شاركتا تحت عنوان "التدويل" والقرابة العربية والحرص على سيادة الأمم العربية وعدم العدوان عليها – بدأت تنظر أميركا إلى طهران كعدو مطلق يجب إزاحته عن المسرح السياسي لكنها أعادت النظر بهذا الموقف عندما فاز الرئيس خاتمي في انتخابات أيار عام 1997 وأفتت قيادتها على أن خاتمي قد يكون غورباتشوف الثورة الإسلامية. لكن تجربة خاتمي على مدى ثمانية أعوام، وفوز الرئيس محمد أحمدي نجاد "24/6/2005" في الانتخابات الرئاسية استبعد الفكرة نهائيا في أوساط الطبقة الحاكمة الأميركية. وعليه، أصبحت تركيا النموذج الذي يجب الاحتذاء به من أجل طرح الاعتدال الإسلامي في مواجهة التطرف ومكافحة الإرهاب. من هنا إن الأمور على مشارف خواتمها ما لم تهزم أميركا عسكريا في العراق، بعدما هزمت استراتيجيا وتحول العراق إلى مسرح حيث أحرار ووطنيو كل أطياف العراق يشاركون في حرب التحرير ضد الاحتلال الأميركي، ويجهضون مشاريعه في الهيمنة والسلطان، ومن نفس هذا المنطق، يجب أن نفهم كيف ولماذا استفاق آل سعود بفيصلهم كي يحذروا أميركا من "التدخل الإيراني في العراق" ويحملوها مسؤولية انتشار "وباء" الحرب الشعبية لأنها ستطالها وتقضي على ميراثها الوهابي. وعليه، كلفت الجامعة العربية بأمينها العام عمرو موسى بإجراء "مصالحة" عراقية ليس حرصا على عروبة العراق وحقوق السنة الذين يشكلون 56% من الشعب العراقي وليس 20% أقلية، إنما حرصا على هيبة أميركا وعظمتها وحمايتها لأنظمة العربان وأذنابهم. وفي حال، تكريس وتوطيد وتأسس الحضور والنفوذ الإيراني في العراق، فإن حرب السنة على "الهلال الشيعي" المفردة التي ابتدعها الملك الأردني عبدالله الثاني في كانون الأول عام 2004. لذلك، إن على الشعوبيين في العراق أن يدركوا أن الفدراليات والأقاليم التي يخططون لها ستشكل منعطفا تاريخيا في حرب المائة عام التي أشرت إليها في كل من كتابي: "العولمة والثورة" و"أميركا في طور الرايخ الرابع". فهل من يقرأ أو يسمع ويفهم؟

 

 

6-    العراق تحت الاحتلال الأميركي.

 

خرجت العراق من الحرب العراقية-الإيرانية (23 أيلول 1980- 20 أب 1988) منتصرة – مهزومة وحولت أميركا ذلك الانتصار إلى هزيمة في حرب احتلال العراق التي امتدت من كانون الثاني 1990 إلى 9 نيسان 2003 عندما سقطت بغداد في ايدي الغزاة الأميركيين.

 

بدأت الحرب كحرب نفسية إعلامية أولا، ثم تحولت إلى حرب عسكرية نتيجة لكويت صدام (على منوال يمن عبد الناصر التي أفضت إلى هزيمة الناصرية) التي اعتبرتها أنظمة العربان اعتداء عليها وجعلتها أميركا حربا دولية لتحرير الكويت "من براثن الطغيان والاحتلال الصدامي وتاليا اعتمدت سياسة الاحتلال المزدوج" ضد العراق وإيران لترسيخ احتلال منابع النفط وتوطيد استراتيجية أميركا في الهيمنة على الخليج العربي مجددا ثم الانتقال إلى احتلال العراق وإلغائه كوحدة سياسية متماسكة وتقسيمه إلى وحدات فدرالية على قواعد فسيفساء "مكوناته" الإثنية والدينية-المذهبية والقومية المتنابذة.

 

لكن أميركا لم تتوقع أن يتحول حرب احتلالها للعراق إلى حرب تحرير شعبية ضدها. وهذا هو الآن مأزقها التاريخي حيث هزمت استراتيجيا من لدن المقاومة المسلحة، مما يعني أنها قد تتجه لاستكمال مشروعها التقسيمي مع حلفائها من كرد و"شيعة صفوية" و"شيعة علمانية" تهدف إلى قيام "أقاليم شيعية" في الجنوب والفرات الأوسط. ورغم احتلال وفرض مجالس محكومين وحكومات ودساتير من صنع أميركا، فإن أميركا وحلفاءها لن يستطيعوا شرعنة الاحتلال ولا الحصول على "الشرعية الأخلاقية" ما لم "تتحول القدرة إلى حق والطاعة إلى واجب" كما علم روسو منذ القرن الثامن عشر. والحصول على هكذا شرعية من المستحيلات المؤكدة. وفي ظل هذه الأوضاع المتوترة، دخل بعض القادة العرب لإخراج أميركا من محنتها أو للتخفيف من وطأة تلك الفاجعة-الهزيمة. ومن أول المتطوعين لمحاولة الإنقاذ الأميركي كان الملك عبدالله الثاني الأردني الذي تفتق عن عبقريته حملة التهويل بالمشروع –"الهلال الخصيب"- الذي يتبلور حسب تحليله من طهران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا، مما يعني أن السيد الملك يريد أو يخطط لإعلان حرب سنية-شيعية حرصا على مجد أميركا وحفاظا على ماء وجهها. وقد أظهر هذا البعبع إلى العلن في 10-12 كانون الأول عام 2004. وبدأ الترويج لهكذا مقولات في أوساط مختلفة للتجييش المذهبي والانخراط العملي في مشاريع بن لادن-الزرقاوي لتكفير الشيعة وبالتالي شرعنة قتل أهل الشيعة. وبعد مرور نحو تسع أشهر على طروحات السيد الملك، جخل الأمير سعود الفيصل وزير خارجية السعودية على الخط باتهام إيران بالتدخل في العراق وتحذير أميركا من عواقب التدخل الإيراني وتحميلها مسؤولية احتمال زوال العراق إلى الأبد. فماذا في هذا السياق عن التدخل الإيراني؟ وهنا سأعرض فحسب ما طرح بالعلن من الجهات ذات العلاقة وبدون تأويل لأني سأعوج إلى هذا الموضوع لاحقا:

1-  اعتبر وزير الخارجية السعدي الأمير سعود الفيصل، أمس أن السياسة الأميركية في العراق توسع الخلافات المذهبية إلى حد تسليم البلد إلى إيران.

وقال الفيصل في لقاء مع "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك "الشعب (العراقي) ينفصل عن بعضه البعض، أنتم تتحدثون عن السنة وكأنهم منفصلون تماما عن الشيعة"، داعيا الولايات المتحدة التي تقاتل المقاومين السنة وتدعم الأكراد والشيعة الذين يقودون الحكومة العراقية، إلى العمل "على جمع هؤلاء الناس معا".

 

وحذر الفيصل من أنه "إذا سمحت (واشنطن) باندلاع الحرب الأهلية، فإن العراق يكون قد انتهى إلى الأبد"، موضحا أن مثل هذا الصراع قد يجعل إيران تدخل إلى العراق بسبب اهتمامها بالمناطق الجنوبية ذات الغالبية الشيعية، والأتراك يدخلون أيضا بسبب قلقهم من ظهور الحكم الذاتي الكردي في الشمال.

 

وقال الفيصل: "لقد قاتلنا في الحرب معا لإبقاء إيران خارج العراق، وبعد إخراج العراق من الكويت"، في إشارة إلى حرب تحرير الكويت في العام 1991، مضيفا "الآن نحن نسلم كل البلد إلى إيران من دون أي سبب".

 

وأشار الفيصل إلى أن الإيرانيين يذهبون إلى المناطق التي قامت القوات الأميركية يجعلها آمنة، و"يدفعون المال ويعينون رجالهم، وحتى يقومون بتأسيس قوات الشرطة وتسليح الميليشيات الموجودة هناك وهم محميون في كل ما يقومون به من قبل القوات الأميركية والبريطانية". (السفير 21-9-2005).

 

2-  "إن الكلام السعوجي مجانب للحقيقة ونحن نعرف منطلقاته وحقيقة دوافعه غير المعلنة... لا نريد فتح المجال أكثر، لكن هناك بلادا بأكملها سميت باسم عائلة، لا نقبل أن يعلمنا يدوي يركب الجمل الديمقراطية وحقوق الإنسان التي أقرها حمورابي للمرة الأولى في التاريخ. ونفخر بما لدينا من حضارات متعددة منذ القدم... إن هناك مشاكل كثيرة في السعودية، يعيش أربعة ملايين شيعي كمواطنين من الدرجة الثالثة، وكذلك حوالي مليون اسماعيلي، لكننا لا نريد أن نتدخل في شؤونها فليدعوا النساء تقود السيارة أولا قبل المطالبة بحقوقها كاملة كما هو الأمر عندنا في العراق" (بيان جبر صولاغ، وزير الداخلية العراقي، في عمان، البلد، 3/10/2005.

 

3-  يؤكد صاحب كتال "الأحجية الفارسية" الباحث الأميركي كينيت بولوك في بحث عن المواجهة بين طهران وواشينطن في فورين أفيرز (Foreign Affairs) لآذار-نيسان، 2005 صفحة 23، على "أن الاتجاه السائد في قيادة طهران تشجع، في المقام الأول، الشيعة على المشاركة في إعادة البناء، وأن لا تعرقل المساعي الأميركية وأن تفعل كل ما هو ممكن لتفادي الحرب الأهلية في العراق".

 

4-  "إن الشيعة يشكلون غالبية في العراق ويتحركون بشكل موحد بسبب القمع الذي مارسه صدام حسين في حقهم، وبطبيعة الحال، فإن أي انتخابات أو استفتاء ينظم في حرية سيستفيد منه الشيعة العراقيون الحلفاء الإيديولوجيون لإيران من دون أن يضطر الإيرانيون إلى التدخل أو يذل أي جهد كان". (محمد على أبطحي، النائب السابق للرئيس الإيراني والخبير في الشؤون العربية)

 

يعتبر قادة إيران أن الجمهورية الإسلامية هي "المنتصر الأكبر من التدخل الأجنبي ضد صدام حسين". وينفي كاظم جلالي، الناطق باسم لجنة الشؤون الخارجية، في مجلس الشورى الإيران، "دعم المسلحين العراقيين، قائلا: لحسن الحظ إن كل المسؤولين العراقيين ولا سيما الرئيس جلال طالباني ورئيس الوزراء الجعفري" نفوا هذه الاتهامات وأكدوا أن جمهورية إيران الإسلامية تريد أن يكون العراق موحدا (الحياة، 13/10/2004).

 

5-  في حديث خاص للحياة، (1/10/2005)، أعلن دافيد ولش مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط "أن الوضع في العراق قلق ومتوتر"، وأضاف أنه "يتفهم قلق المملكة العربية السعوجية إزاء الاختراق الإيراني للعراق"، معتبرا أن انتقادات وزير الخارجية سعوج الفيصل الأخيرة لواشنطن بتسهيل التدخل الإيراني "لها ما يبررها" لكنه استرك قائلا "لكننا غير متحالفين أو متواطئين مع الحكومة الإيرانية ولا نعمل لتسليم العراق إلى الإيرانيين" معتبرا أن الاختراق الإيراني، وبخاصة في جنوب العراق، سببه ضعف البنية الشياسية العراقية التي تسمح بتغلغل خفي للنفوذ الإيراني"... ورفض ولش التأويلات بأن "صعود الأغلبية إلى الحكم في العراف سيجعل منه امتدادا لإيران"، مشددا على قناعته بأن "الشيعة العراقيين هم عرب، وشيعة إيران هم فرس... وقلب الشيعة موجود في النجف وليس في قم، وسيقاوم الشيعة العرب هذا الاختراق الفارسي".

 

6-     العراق: مسرح للتحرير والعروبة لا للفسيفساء.

 

في خطاب 6 تشرين الأول 2005، أمام "مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية"، اتهم بوش الوهابيين بالطبعة البن لادينية بالتخطيط إرهابيا لقيام امبراطورية إسلامية من إسبانيا إلى أندونيسيا، ودعا العالم إلى الوقوف إلى جانبه لمكافحة الإرهاب الدولي وتحطيمه وذلك لتسويغ هزيمته في العراق وتجييش العالم المسيحي والإسلامي "المعتدل" والشعب الأميركي لخدمة المصالح والطموحات الأميركية المتمثلة بالرايخ الرابع الأميركي. وسواء استجاب العالم لأحاييله أو نبذها، فإن أميركا لن تخرج من العراق قبل نضوب البترول إلا بقوة السلاح، ومن يتصور أن أميركا في العراق لنشر الديمقراطية فإنه يعيش في عالم الأوهام والهذيان الإنجيلي المنبعث من أميركا دفاعا عن المجمع الصناعي العسكري الذي يحكم أميركا ونسبيا العالم قاطبة.

 

أما بعد، لا تبكوا العراق لأن لا جدوى من البكاء. والمطلوب عربيا هو تحرير العراق من الاحتلال الأميركي وتحرير البلدان العربية من جند الاحتلال الداخلي. وعندما ندرك هاتين المسألتين يبدأ التحرير، لأن الشعور بالذل هو شعور ثوري والشعور الثوري والتثقيف الديمقراطي الثوري يولد الثورة والنظرية الثورية ومحن كشعب، لسنا "خير أمة" بالفطرة والحقيقة، إنما سنتحول إلى أمة جديرة بالحياة والاحترام، عندما نتحول إلى "إرهابيين حقيقيين"؟ فتعلموا أيها العرب فن الإرهاب!

 

 

7-     الخاتمة: قراءة نقد ودعوة.

 

إن بعض القوميين العرب الذين آمنوا بمثلث الجزائر –القاهرة- بغداد كقاعدة ارتكاز ومحور أساسي للعروبة والتغيير قد اعتبروا الرئيس صدام حسين كآخر أنبياء العروبة البسماركية، بعدما كانت قد أدخلتها أميركا في طور القومجية وعولمتها في العقدين الماضيين، الظاهرة التي أطلقت عليها عنوان النازية الجديدة وكتبت عنها كتاب: "أميركا في طور الرايخ الرابع وقد شكل سقوط صدام منعطفا تاريخيا وأوصد أبواب الرؤيوية الرومانسية للعروبة اللفظية وللمد العربي القومي الذي جسدته وامتد على مدى عقدين من الزمن في الخمسينات والستينات. والسؤال، لماذا وصلنا إلى مرحلة السقوط والاحتلال والهيمنة الأجنبية على مقدرات هذه الأمة وعلى عقولها وشعوبها؟ والجواب البسيط هو غياب التنظيم، رغم بطولات بن بله وعبد الناصر وصدام. هذا أولا، أما ثانيا والأهم هو أن مجتمعاتنا وقياداتها ما زالت في المرحلة الانتقالية من التطور وأن السياسات التي اعتمدت قد اتسمت بالتبرغماتية الانتهازية لا بالديمقراطية الثورية أو حتى الديمقراطية الوطنية أو البرجوازية؛ وثالثا، إن عربنا بقي في إطار البداوة البدائية، ورغم الكلام العنتري والادعاءات والتمظهر بالبداوة الثورية؛ ورابعا، لا يجوز أن ننسى أن القادة والشعوب التي أنتجوها على أنقاض الشعب الواحد، تفرنجت دون قاعدة مادية للتفرنج وتبنت ذهنية وسلوك حثالة المجتمعات الصناعية؛ وخامسا وأخيرا، كنا وما زلنا نئن تحت الاستعمار الداخلي والخارجي، وأن الحكومات "والقطريات الوطنية" –وكانت الأكثرية من القطريات رجعية- لم تدرك ولن تدرك أنها أصبحت خارج التاريخ، وأن لا مستقبل لها. لذلك إن سقوط النظام في بغداد يفتح آفاقا غير مسبوقة لإعادة النظر بعمق بما سبق وبما سيأتي. وفي هذا السياق، أدعو إلى اعتماد الطوباوية المتجذرة في العلم والعصرنة والعقلانية، وإلى نبذ ومحاربة "الواقعية السياسية" السائدة والتي إلى حد كبير، هي ما أوصلنا إلى مرحلة الانحطاط العربي الجارف.

 

وقبل وبعد، نحن بحاجة إلى عصر جديد من التنوير والتثوير والتغيير لاستعادة إنسانية الإنسان العربي وتماسكه وإدخاله في طور النهضة أو الانبعاث الجديد. وذلك كما أرى، لا يستقيم إلا بالكفاح المسلح من ناحية والتنظيم الشعبي المسلح الواعي من ناحية أخرى. الوعي لا التزييف هو الطريق إلى التحرير. وعليه، على كل من يبتغي التحرير أن يقدم ما يمتلك من مواهب وقدرات وإمكانات، وإلا لا عودة لنا كأمة إلى المسرح التاريخي والتأثير في تقرير مصيرنا. وإذا استمر الوضع هكذا فإننا سنتحول إلى أقنان وعبيد على أرضنا في قداس الذبيحة الإلهية على مذابح القداسة الإنجيلية-الصهيونية لا إلى قرابين مقدسة في خبزها ونبيذها يتناوله المناضلون على مسرح النصر والبطولة للتأسيس لوطن عربي نبراس للرقي والتقدم كي يشمل الوطن من الماء إلى الماء.

د. جورج حجار