ما حصل في الأشرفية بالمصادفة

كان لا بد من حصوله بعد كل الحقن الطائفي والإفقار والتهميش

هل يشكل "التعاون" بين حزب الله والتيار الوطني الحر صمام أمان؟

جوزف عبدالله

 

 

لا بد لأي عاقل من الإقرار بأن ما حصل في حي الأشرفية (التباريز) في بيروت، في الخامس من شباط 2005، هو تجاوز كبير للحدود المقبولة في التعبير عن الاعتراض والاحتجاج والرفض لما قامت بنشره صحيفة دانمركية من صور كاريكاتورية تسيء إلى النبي العربي محمد وإلى الدين الإسلامي والمسلمين.

 

ولكن، بدل أن يشكل ما حصل مناسبة لليقظة من احتمالات جدية لدخول البلد في منزلق انفجار الصراع الأهلي، وبدل البحث المتروي والمدقق في ظروف وشروط ما حصل، لمعالجة الأصول التي تنبت منها مثل هذه الظواهر، توجهت جهات سياسية شوفينية، ووسائل إعلامية في خدمتها وخدمة أسيادها في الدوائر الاستعمارية، إلى إطلاق اتهامات سخيفة تحريضية ومكشوفة لدرجة أجبرت حلفاء هذه الجهات بالذات على تكذيب ما تم ترويجه. فكيف ننظر في ما حصل في الأشرفية؟

 

إن نشر هذه الصور الكاريكاتورية يندرج في سياق الحملة الاستعمارية لتشويه الدين الإسلامي والمسلمين وتجريمهم، بغية تبرير هذه الحملة العدوانية التي تقودها الولايات المتحدة على العالم العربي والإسلامي، لإخضاعه بمشاريع "الشرق الأوسط الكبير، و"ترويج الديمقراطية" (الغلاف الإيديولوجي لحجب مخططات السيطرة والعدوان التي تستهدف هذه المنطقة من العالم).  وهذا خاصة بعد أن استمدت المقاومات العربية والإسلامية من مخزونها التراثي، لا سيما الديني الإسلامي، ما يشحذ قوتها وعزيمتها لمواجهة الغزو القائم وإنزال الخسائر الجدية به على طريق هزيمته المرتقبة.

 

إن شعور المسلمين، والعرب عامة، بالمرارة من العدوان الأميركي الأوروبي الصهيوني المستمر عليهم حوّل هذا المشرق العربي والإسلامي إلى منطقة ملتهبة بوحشية عدوانية الولايات المتحدة وحلفائها من الكواسر الاستعماريين القدماء الجدد، وبتواطؤ الطبقات والأنظمة الحاكمة المحلية.

 

وعليه ليس من المستغرب أن تثور ثائرة المسلمين على نشر الصور الكاريكاتورية، فيخرجوا عن حد الصواب في الرد على مثل هذه الإفتراءات المسيئة، متى اجتمعت بعض الشروط التي لا بد لها من أن تدفع إلى تجاوز حد الصواب. فحيث اجتمعت جملة من المصادفات في لحظة واحدة ومكان واحد هو الأشرفية، كان ما حصل في الأشرفية كأنه حتمية لا مفر منها، ولا شيء يمنع من تكراره كلما التقت تلك المصادفات معاً.

 

فكيف نستغرب حصول ما حصل في الأشرفية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه حصل:

 1، بعد كل الاضطهاد القومي والديني (قضية الحجاب، تسفيه الدين الإسلامي، التمييز العنصري الديني في الغرب)؛

 2، وبعد كل التعبئة الطائفية في لبنان، وخاصة في مناسبة الانتخابات النيابية الأخيرة، والكلام عن استهداف لطائفة محددة في السنوات القريبة السابقة؛

 3، ونظراً لواقع الفقر والإهمال المزمن الذي يصيب المناطق الطرفية في لبنان، وخاصة في الشمال، حيث الغالبية السنية، الفقيرة والمفقرة والمهمشة، تفتقد لقيادة عضوية تبدي اهتماماً بالقضايا الوطنية العامة ينال رضا الجمهور، كما هي الحال في قيادة حزب الله للطائفة الشيعية؛

 4، ومع تبين الارتباك في تنظيم الاعتصام والمسيرة، وغياب القيادة الموحدة الضابطة للتحرك المتنوع سنياً؛ 5، ومع وضوح عدم النجاح في الضبط الأمني من قبل الدولة لمواكبة التحرك، سواء لقلة العديد أو لغياب توزيعه المناسب مع خط مسير المتظاهرين...

 

لقد اعتدنا منذ مطلع الحرب الأهلية، من أكثر من أربعين سنة (من 1975)، على الطبقة السائدة والحاكمة في لبنان وهي تلقي باللوم على "الغرباء" في كل ما يصيب لبنان من سوء، بينما تكون هي في الحقيقة المسؤولة عنه بسياساتها التعبوية الطائفية والقائمة على استغفال واستغلال أبناء الطوائف. ولهذا سارعت هذه الطبقة الحاكمة، بمناسبة ما حصل في الأشرفية، إلى تلبيس "الغريب" السوري والفلسطيني مسؤولية ما قام به لبنانيون من أبناء طائفة قيادتها في سدة السلطة اليوم.

 

على ضوء ما حصل في الأشرفية، كيف نميز بين تحالف سياسي، كتحالف 14 آذار، و"تعاون سياسي" كذلك الذي أعلنه "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"؟

لقد قام الأول، "14 آذار"، انطلاقاً من الاستثمار بدماء الحريري، ليندرج في المشروع العدواني الأميركي الأوروبي والاستسلام لإسرائيل، واستغفال الناس وتعبئتها طائفياً بوجه طائفة أخرى، والمتاجرة بفقرها بالرشاوى لمزيد من تهميشها. إن هذا المنهج السياسي متفجر من داخله، لكون قاعدته العريضة معارضة في عمقها العاطفي والديني للمشروع الذي يسعى له هذا التحالف، وسينفجر بوجهه في كل لحظة مناسبة.

هذا بينما يقوم الثاني، وفق الوثيقة المعلنة، على وضوح في الحدود، لجهة القضايا الوطنية ومعالجتها، ويفتح باباً لبعض المعالجات في المسألة الاجتماعية، ومنها قضية المديونية. والأهم من كل ذلك، أنه يستجيب لحاجة وطنية كبيرة، بوسع "التيار الوطني الحر" أن يلبيها، لجهة توفير المناخ للمسيحيين بحيث يعبروا عن انخراطهم في محيطهم الفعلي ليتشكل موقف لبناني موحد من وظيفة الوطن اللبناني، وفي ذلك واحدة من أهم ضمانات الوحدة الوطنية.

 

لعل هذا التعاون بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، في ظل الظروف الراهنة، إذا ما قدر له أن يستمر، أن يشكل أهم صمام أمان للبنان بوجه ما يعصف بالمنطقة من مشاريع تفتيتية يحملها مشروع "الشرق الأوسط الكبير". إن هذا التعاون هو بوابة التعبير عن أن المسيحيين استعادوا عروبتهم وباتوا ضمانة لوظيفة لبنان اللبنانية فعلاً من خلال دورها العربي.