الكعكة الصفراء تظلل مشرقنا العربي (الحلقة الأولى) |
د. جورج حجار
مقدمة المقدمات: جبهة لمناهضة الاستكبار والتسلط
في غياب دور مصر، "الإقليم القاعدة" الأولى لقيادة وتوحيد الأمة التي لم تنجز تحريرها القومي بعد، وسقوط بغداد البديل للقاهرة والعمق الاستراتيجي العربي تحت الاحتلال الأميركي الآيل إلى الزوال؛ وفي ظل الهجمة الإمبريالية الأميركية المسعورة على المنطقة لفرض"مشروع الشرق الأوسط الكبير" بقوة السلاح والتضليل والخداع خدمة "لمآرب الكيان الصهيوني ومحاولة حصار سوريا وخنقها في محيطها وتجريدها من دورها المحوري في جيوستراتيجيا ربوعنا، تواطأت "الآلهة والأقدار" ودفعت بإيران أحمدي نجاد العمق الاستراتيجي الإسلامي: 1، لتثبيت دور إيران كقوة إقليمية رادعة بكسر الاحتكار الإسرائيلي للسلاح النووي؛ 2، وبالتالي، إحلال "توازن الرعب" مكان الهيمنة الأحادية تمهيدا للمواجهة الفعلية للعدوان الأميركي الصهيوني ومشروع لإزالة الهوية العربية للمنطقة؛ 3، وذلك منعا لإقامة فسيفساء "عربنجي" لحماية إسرائيل وإقرار مركزيتها كمتروبول إقليمي للإمبريالية الأميركية.
ومع مجيء الرئيس أحمدي نجاد إلى دمشق، عاصمة الأمويين، 19 و20-1-2006، وإعلان العداء لأميركا وإسرائيل والدعم للمقاومات على أنواعها وأطيافها على أرضية الانتقال إلى مرحلة تخصيب اليورانيوم وبالتالي، إنتاج قنبلة نووية إيرانية الصنع والهوى، تكون إيران قد اقتحمت حصن النادي النووي وأسقطت احتكار إسرائيل للقنبلة كما أسقط الرئيس جمال عبد الناصر عام 1955 احتكار الغرب للسلاح بعقده صفقة الأسلحة الشهيرة مع تشيكوسلوفاكيا واعترافه بالصين الشعبية مدشنا بذلك عصرا جديدا لحرية الشعوب وحقها في تقرير المصير والاشتراكية والثورة.
وتأسيسا على الشراكة الاستراتيجية السورية الإيرانية افتتح الرئيس بشار الأسد في خطابه في 21-1-2006 للمؤتمر الثاني والعشرين لاتحاد المحامين العرب بتركيزه على هوية العروبة للإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة وترابط حلقاتها وتشابك مصالحها وضرورة تماسكها بدءا من عروبة العراق مرورا بالانتفاضات الفسلطينية وصولا إلى تحرير الجنوب والعلاقات اللبنانية-السورية حيث ترتسم الصورة وتكتمل معالم الاتفاق الاستراتيجي العربي الإيراني انطلاقا من حق الدفاع عن السيادة الوطنية والمصلحة القومية في الوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم أجمع، وذلك لبلورة مشروع عربي إسلامي لمناهضة الإمبريالية ودحرها وإجهاض مشاريعها، وبناء أوطان حرة، مستقلة وقابلة للحياة والتطور والازدهار في إطار العروبة النهضوية والمستنيرة من الماء إلى الماء.
استهلال
موجز الإستراتيجية الكونية الأميركية (18-20)-9-2002 وملحقاتها.
أولا: استراتيجية الأمن القومي
1-أعلنت الولايات المتحدة استراتيجية الأمن القومي ببنودها السبعة الأساسية: الحرب الاستباقية.
2-التفوق العسكري المطلق ومنع قيام أي تحدي.
3-التضاد لانتشار أسلحة الدمار الشامل.
4-تشجيع اقتصاد السوق والمجتمعات المنفتحة وتدويل القيم.
5-اعتماد الدبلوماسية الشعبية بوسائل المساعدات الخارجية وشن حرب الأفكار ومصارعة الأفكار السلفية.
6-إقفال خيار الطامحين الراغبين في تحدي الولايات المتحدة.
7-التفرد في الدفاع عن الذات وفرض المسؤولية السيادية على كافة الدول.
ولقد حاولت الولايات المتحدة تطبيق الاستراتيجية على العراق وأسقطت النظام. ولكنها واجهت حركة كفاح مسلح ذات طابع وطني تحرري.
ثانيا: بعد الهزيمة الاستراتيجية التي منيت بها الولايات المتحدة في العراق، لجأت إلى حلفائها في الحلف الأطلسي لإنقاذها من ورطة العراق وطرحت في احتفالات النورماندي، 6 حزيران 2004، معالم "مشروع الشرق الأوسط الأوسع"، وحصلت على إقرار المشروع في سي آيلند جورجيا من مجموعة الدول الصناعية الثمانية وبحضور دولي فولكلوري، 10 حزيران، وكذلك، توصلت إلى تفاهم عام حول مشاركة وتأييد الاتحاد الأوروبي في 26 حزيران، وتوجهت جهود أميركا في مؤتمر اسطنبول، 28-29 حزيران 2004، حيث بصمت دول الحلف الأطلسي على المشروع. بعدما أعلن بوش انتصاره في الحرب على الإرهاب.
ثالثا: في خطاب التنصيب، 20-1-2005، وفي خطاب حال الاتحاد، 2-2-2005، وفي خطابه للاتحاد الأوروبي في بروكسل،20-2-2005، أعلن الحرب على الطغيان وحرب الثورة الديمقراطية العالمية من أجل الإصلاح والتغيير ونشر الحرية.
رابعا: لتحقيق "مشروع الشرق الأوسط الأوسع" اعتمد بوش على سياسة "اللا استقرار البناء" Constructive Instability، لا "الفوضى البناءة" كما ترجمت إلى العربية. وهذه السياسة تعني زعزعة الأنظمة بغية إسقاطها من الداخل لا سياسة الفوضى التي تنطلق من اللجوء إلى الحرب كطريق إلى السياسة وتغيير الأنظمة من الخارج، وفي هذا الصدد، تعتبر أميركا البحرين والأردن وتونس نماذجها للديمقراطية والحكم الصالح، وبذلك تخلت عن أعمدتها في المنطقة السعودية، مصر، لتحديد وقيادة وجهة التغيير والديمقراطية.
المشهد: القنبلة الإيرانية
"القوة الفعلية تقيد ذاتها، أما العظمة فترسم حدودها الخاصة". في آب 2003، نشرت لوس أنجلس تايمز تحقيقا معمقا مفاده أن إيران "باتت في المراحل الأخيرة لإنتاج القنبلة الذرية"، وأكدت أن إيران ستصبح "القوة النووية المقبلة في العالم"، وقد تلقت مساعدات رسمية خاصة من روسيا والصين وكوريا الشمالية وباكستان. وإن لدى إيران برنامج صاروخي متطور، منظومة صواريخ شهاب3 سيجعل من إيران في عام 2005، قوة قادرة على تهديد خصومها في دائرة يتسع قطرها باستمرار.
وفي قراءة لاستراتيجة الحرب الاستباقية وغيرها من الاحتمالات المرتقبة والخطط المعدة في أميركا وإسرائيل والمعدة لتدمير المنشآت النووية المنتشرة هنا وهناك، يستنتج جوزاف سماحة في افتتاحيته المعنونة: "بوش أمام المعضلة الإيرانية"، 6-8-2003، إن توازن القوى في الشرق الأوسط سيتبدل والنظام الأمني في الخليج سيتغير "إذا أصبحت إيران قوة نووية فإن ذلك سيضع الولايات المتحدة أمام معادلة عسكرية وسياسية صعبة للغاية. إذ يعني ذلك أنها ستصبح أول عدو لإسرائيل يملك قنبلة نووية وأول دولة تملك سلاحا نوويا في مجموعة الدول التي تعتبرها الإدارة الأميركية من البلدان التي ترعى الإرهاب الدولي. بكلام آخر، إن ذلك يهدد الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط ويطيح جذريا بعقيدة بوش ذات المدى الدولي". ويضيف متشفيا "المعضلة الإيرانية تسبب صداعا للإدارة الأميركية، إنه صداع كان يمكن العيش معه لولا أنه في المنطقة المصنفة أميركيا بأنها "مسرح العمليات لسنوات مقبلة".
أكد وزير الإعلام الباكستاني شيخ رشيد، أن العالِم النووي، عبد القادر خان، "زود إيران بقطع الطرد المركزي التي تستخدم في تخصيب اليورانيوم... لقد زودهم بها من السوق السوداء... وكان عبد القادر خان اعترف في شباط 2004 بتسريب أسرار نووية إلى إيران وكوريا الشمالية وليبيا بعد التحقيق الذي أجرته الحكومة في الانتشار النووي"، الصحافة، 11-3-2005.
أميركا على طريق الصدام مع إيران؟
منذ سقوط الشاهنشاهية وتسنم الثورة الإيرانية مقاليد السلطة في طهران (مع هروب الشاه في 16-1-1979، واستيلاء الثورة على السلطة في 11-2-1979)، اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية ثلاث استراتيجيات رئيسية بغية إسقاط الثورة واقتلاع جذورها: 1- الإطاحة. 2-الاحتواء- التعايش البارد للتطويع والتقويض تمهيدا للانقلاب.
ولا يخفى على أي مراقب أن هذه الاستراتيجية متداخلة ومتشابكة ومنسجمة مع بعضها البعض، وتتخذ إحداها مركز الصدارة أو تتراجع قليلا أو تتقدم كثيرا حسب الفترة الزمنية قيد الدرس أو السياسة المهيمنة في تلك الفترة. وعلى سبيل المثال، فور وصول الثورة إلى السلطة عام 1979 شرعت إدارة كارتر بتطبيق تلك الاستراتيجيات بدءا بحرب الخليج وصولا إلى زلزال الصواريخ البشرية التي أسقطت كاتدرائيات أميركا الصناعية-التجارية والعسكرية في 11 أيلول 2001، في ذروة عصر العولمة الاجتياحية-الزلزال (القيامة Apocalypse) الذي نقل أميركا داخليا من عهد الاندماج الوطني والاحتواء والتوازن والردع في السياسة الدولية إلى أميركا المهتاجة والملتهبة حنقا وكراهية والتي تبنت استراتيجية الضربة الاستباقية. التضاد لانتشار الأسلحة النووية، منع قيام أي تحالف مواز أو مضاد لأميركا إلى تحول أميركا إلى دولة عنصرية توسعية وعدوانية، إلى ما يسميه كبار كتابها: قيام العملاق المارق Rogue Colossus- العملاق الجاثم على مجتمع الاستقطاب الديني والإثني والطبقي الذي أفضى إلى بزوغ وترسيخ أميركا كدولة تيوقراطية كلبتوقراطية تسلطية أو نازية جديدة وفقا لمقولتي.
أولاً، باختصار، وكمدخل إلى صلب الموضوع: أميركا في طور النازية الجديدة وسياساتها تجاه إيران، الوطن العربي والعالم الإسلامي في إطار استراتيجيتها الكونية ومضاعفاتها، أقول إن استراتيجية الإطاحة بالنظام الإيراني لازمت كل الإدارات الأميركية منذ العام 1979 إلى العام 2005، لكن بطرق مختلفة في كل مرحلة. فمن عهد كارتر ومحاولة "تحرير" الرهائن (52) والسفارة الأميركية في طهران من الطلبة الذين احتلوها في 4-11-1979 واحتفظوا بالسفارة على مدى 444 يوما مرورا بالرئيس ريغن، 1989-1991، وإعلانه سياسة "إمبراطورية الشر" ضد السوفيات بالتزامن مع شن الحرب بالنيابة ضد إيران عبر عراق صدام، 1980-1988، وصولا إلى إدارة بوش الأب وحربه المعوربة-المعولمة، لتحرير الكويت، 1991، إبان فترة اضمحلال الاتحاد السوفياتي ومنع "تصدير الثورة الإيرانية" بعد إنهاكها وتحويل الخليج إلى بحيرة أميركية ونفطه إلى نفط أميركي عمليا، صعودا إلى اشتباكات كلنتون البهلوانية في محاولاته الانقلابية الست الفاشلة لإسقاط نظام صدام، 1993-2001، وتأسيس وتوطيد إسرائيل ثانية في شمال العراق لتهديد المنطقة برمتها وفرض سياسة "الاحتواء المزدوج" على إيران والعراق، تتويجا بحرب تدمير العراق كقوة عسكرية واحتلاله وسقوط بغداد في 9 نيسان 2003 وتحويلها إلى قاعدة أميركية معادية على حدود إيران الغربية بعد احتلال أفغانستان على الحدود الشرقية.
ثانيا، إن إستراتيجية "الاحتواء المزدوج" لإيران والعراق كانت حربا اقتصادية بالدرجة الأولى، حرمت إيران من تطوير صناعة النفط والغاز وغيرها، عبر قانون D'Amato-Gilman لعام 1995، فأضعفت العراق وجوّعته وجردته من أسلحته الثقيلة. الاستراتيجية التي دفعت الإثنين معا، إيران والعراق إلى نوع من التقارب والانفتاح المحدود وخاصة بعد مشاركة العراق في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في طهران (9-11)-12-1997. هذا التقارب أغضب أميركا ودفعها إلى تقويض مقررات المؤتمر الإسلامي مع حلفائها الإثنين والخمسين من أصل 56 آنذاك.
ثالثا، بعد انتخاب الرئيس خاتمي في 23 أيار 1997 وانتشار مقولة "حوار الحضارات" والتعددية والجنوح نحو اقتصاد السوق والانفتاح على الغرب وخاصة أميركا، تيقن الأميركيون من إمكانية توغل النظام الإيراني بواسطة "غورباتشوف الثورة" باسم الانفتاح والتعايش، ولكن بهدف التطويع والتدجين لاستعادة إيران إلى الحظيرة الأميركية. وفي هذا السياق برز جناحان أساسيان في السلطة الأميركية، جناح يتزعمه وزير الدفاع كاسبر واينبرغر الذي توقع وقوع حرب فاصلة وشاملة عام 1999 مع إيران في كتابه "الحرب الآتية" منعا لإقامة "إمبراطورية إسلامية في الشرق الأوسط" (أنظر كتابي: العولمة والثورة، ص، 112) وجناح آخر يدعو إلى انتفاضة داخلية للتخلص من الثورة الإيرانية بدعم خارجي، وهذا بالفعل ما حاولت إنجازه الحركات الاحتجاجية والإصلاحية بقيادة طلاب الجامعات عام 1999، "الانتفاضة التي قمعتها السلطة واعتبرتها أميركا "تيانان مان" Tiananmen إيرانية ثانية. والمراقب في هذا السياق، لا يستطيع إلا أن يربط بين تلك المحاولة الفاشلة وصعود وترسيخ الجناح المحافظ في الثورة الإيرانية.
إيران وحرب أميركا رقم 241
بعدما طرح بوش مانوية الصراع بين الخير والشر وصنف إيران والعراق وكوريا الشمالية "دول محور الشر"،19-1-2002، سئلت كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي آنذاك، ووزيرة الخارجية في ولاية بوش الثانية، ما هي المعايير التي اعتمدت للتصنيف؟ وكيف انتقلت الدول الثلاث من دائرة "الدول المارقة" إلى دائرة "محور الشر": لماذا إيران؟ لإن إيران لا تعترف بإسرائيل... لماذا العراق؟ لإن العراق تملك أسلحة دمار شامل... ولماذا كوريا الشمالية؟ لأن كوريا تبيع أسلحة لدول في حالة عداء مع إسرائيل.
رغم التعاطف الإيراني والتضامن مع أميركا بعد زلزال 11 أيلول 2001، ودعمها لوجستيا تحت عنوان "التحالف الشمالي" في حرب أميركا رقم 240 (في تاريخها منذ الاستقلال لعام 1779 ضد الطالبان والقاعدة) (7 تشرين الأول إلى 13 تشرين الثاني 2001) لإسقاط النظام واحتلال كابول، ارتقت إيران في التصنيف الأميركي في حرب بوش الإبن على الإرهاب من خانة "الدول المارقة" إلى مرتبة "دول محور الشر"، المرتبة التي ضمت العراق وكوريا الشمالية والتي انتهت مرحليا بشن الحرب رقم 241 على العراق، 20 آذار 2003، وسقوط بغداد في 9 نيسان 2003.
وفي خضم الحرب رقم 241، وجهت الولايات المتحدة لإيران العديد من الاتهامات "الجرائم" التي لا يمكن غفرانها إلا بالانخراط الكامل في المدار الأميركي والخضوع الشامل للإرادة الأميركية. ومن أهم تلك الاتهامات: 1، تهريب وبيع أسلحة للسلطة الفلسطينية؛ 2، تمويل وتسليح ميليشيا أفغانية لزعزعة حكومة حميد قرضاي في كابول وفتح الحدود لفلول طالبان؛ 3، تأييد الإرهاب إقليميا ودوليا (يعني حزب الله في لبنان والقاعدة وحماس)؛ 4، محاولة الحصول على أسلحة الدمار الشامل واختبار صاروخ شهاب3 بنجاح؛ 5، الوقوف ضد عملية السلام (أوسلو وتداعياتها) ودعم "الإرهاب" الفلسطيني والتقارب مع نظام صدام قبل سقوطه.
انتهت الحرب رقم 241 حسب بوش في الفاتح من أيار 2003 وترجم مفوضه السامي، الحاكم العسكري بريمر Bremmer الحرب سياسيا بإعلان حكومة المحكومين الفسيفسائية، في 13 تموز 2003، على منوال الحكومات اللبنانية العتيدة. وكانت أميركا قد خططت لحكم العراق و"الشرق الأوسط" لمدة خمس سنوات وإنشاء عراق يابانية كما رسمها كنعان مكية في بحثه في نيويورك تايمز (في 23/11/2001، ص 6)، وبلغة كينيث بولوك Kenneth Pollack إن هدف أميركا في الخليج من تلك الحرب كان: "بقاء الأميركيين هناك، والإيرانيين خارج الخليج والعراقيين تحت الأقدام".
"The goal is to keep the Americans in the Iranians out and the Iraqis down". (Foreign Affairs. July-aug. 2003, p7)
وعليه، أزال السيد بريمر الدولة العراقية وكلف موظف "سي أي إيه" CIA، سابقا ولاحقا، البنتاغون بمرتب شهري وقدره 340000 $ تدفع من ميزانية Defense Intelligence Agency، ثم كلفه "باجتثاث البعث" ومحاولة إلغاء الهوية القومية العراقية. وفي شهر تشرين الثاني 2003، إبان قيادة مجلس المحكومين، أقر جلال الطالباني وبريمر "قانون إدارة الدولة" أي قانون "كردنة" العراق الذي أفسح مجال الانتماء لعرب العراق بالانتماء إلى الأمة العربية فحسب واعترف "بمكونات" العراق الرئيسية: القومية الكردية والطائفة الشيعية ذات الأغلبية، والسنة الأقلية العربية. وبشحطة قلم، اختفت "الشيعة العلمانية" التي جاء على أجنحتها أحمد الجلبي كديغول العراق، على حد تعبير راعيه بول وولفويتز نائب وزير الدفاع رامسفيلد، آنذاك النائب الذي انتقل لاحتلال رئاسة البنك الدولي "لمحاربة الفقر"، ربيع 2005!
إن سياسة الإلغاء والإقصاء والتطييف، بالإضافة إلى سياسة البطش والدمار والنهب، استولدت مقاومة مسلحة من "فلول صدام" والسلفيين واللصوص والقتلة، كما صبغت المقاومة الشعبية العراقية ظلما وتشهيراً. لكن الحقيقة على الأرض هي أن المقاومة لا تقتصر على ما يسمى "المثلث السني" وإنها مقاومة وطنية تشمل كافة أطياف الشعب العراقي. والأهم من ذلك التصنيف وسياسة التشهير هي أنها هزمت أميركا استراتيجيا وعوضا أن تصبح العراق قاعدة للانطلاق إلى سوريا وإيران والإطاحة بالنظامين، أصبحت سدا منيعا في وجه المخططات الأميركية ونقطة ارتكاز لتكوين جبهة وطنية عراقية عريضة لمقاومة الاحتلال ودحره ونواة لقيام جبهة عربية للتحرير وتغيير كافة الأنظمة العربية الاستبدادية. وقبل وبعد كل شيء تحرير فلسطين السليبة.
لا شك أن كافة الأنظمة العربية بدون اسثناء هي أنظمة مهزومة منذ هزيمة عام 1967، وعوضا عن السقوط والاستبدال ترسخت واستبدت بالشعوب والأوطان وقمعت وهجرت وسجنت وقتلت وتفردت بالسلطة. لا بل، يمكن القول أن ما تبقى لديها من "وطنية" كان من صنع العدوان الإسرائيلي وحرصا على مكتسباتها ومغانم السلطة وليس حرصا على الأوطان ومقدسات الشعوب وحرماتها.
بكلمة، إن الأنظمة خرجت أو أخرجت من الدائرة العربية، النظام تلو الآخر، لا فرق، إنما الفرق بين من قاوم الانحدار والانهيار العربي بعد هزيمة عام 1967 ومن استسلم وباع واشترى ووقع اتفاقيات الذل والإذعان، وفي هذا السياق، يأتي الدور التاريخي الذي لعبه حزب الله كحركة تحرر وطني، حررت الأرض من الاحتلال الصهيوني الأميركي وحرصت على عروبتها وإسلاميتها. والسؤال يأتي الآن: هل سيتراجع حزب الله إلى الشرنقة الوطنية أم سيتجذر ويتعمق ويتسع في عروبته وإسلامه؟
العلاقات الأميركية-الإيرانية في عهد بوش الثاني
في جولته الأوروبية الأخيرة، 20-25 شباط 2005، سئل بوش الإبن عما إذا كانت أميركا ستشارك في المفاوضات الأوروبية-الإيرانية حول مستقبل المنشآت النووية الإيرانية أو ستهاجم إيران وتدمر تلك المنشآت النووية بغية منعها من تخصيب اليورانيوم، وبالتالي حرمانها من إمكانية صنع القنبلة الذرية، علما أن إيران تزعم أن لمنشآتها النووية أغراض مدنية سلمية فحسب؟ أجاب بوش: "الفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة تتجهز للهجوم على إيران هي بكل بساطة فكرة سخيفة. ولكن بما أني قلت هذا، أقول إن كل الخيارات على الطاولة". وفي مناسبة لاحقة، أضاف بمرارة: "إننا نعتمد على الآخرين" (يعني الثلاثي الأوروبي المفاوض مع إيران، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا). "لقد عاقبنا أنفسنا بانعدام قدرتنا على التأثير على إيران". وفي هذا الصدد يذكر ماترنيك أميركا، هنري كيسنجر، الأميركيين وخاصة الرئيس بوش: "تندرج إيران بين الأمم القلائل الذين لا تملك أميركا أدنى سبب لخصامها". ويؤكد "أن إيران هي من الأمم الأكثر تجانسا مع مصالحنا". ورغم ذلك إن "رجل النفط" السيد بوش يعتبر إيران مصدر البلاء في منطقة "الشرق الأوسط" وهي التي أشعلت نار الكراهية والحقد وعدم التسامح في وجه أميركا. لذلك إن إسقاط "نظام الملالي" هو شرط ضروري لنشر السلام والاستقرار والديمقراطية.
يعلن بوش بين الفينة والأخرى "إننا لن نسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية". ومن المرجح أن تكون إيران قد أصبحت دولة نووية عمليا لا لأنها تمتلك الخبرات التقنية ولديها أجهزة الطرد المركزي والمواد الخام لصناعة القنبلة بل لأنها ابتاعت عشر قنابل نووية من روسيا وفي الخريف القادم سيصبح بإمكانها إنتاج قنبلة نووية إيرانية بقدراتها الخاصة، ما لم تحطم أميركا منشآت إيران بضربة استباقية. السؤال إذن، إذا كان "التخصيب" قد علق رسميا منذ 15 تشرين الثاني عام 2004 وجولات المفاوضات (السبع لم تتوصل إلى تسوية ما) وتوقفت في 25-5-2005 لمدة شهرين أو أكثر، فماذا بإمكان بوش أو غيره أن يفعل سوى الإيفاء بوعود الترغيب الشحيحة التي قدمها كرفع حق النقض، (بعد استخدامه 21 مرة منذ العام 1996 عندما قدمت إيران طلبا للانضمام إلى المنظمة)، على طلب عضوية إيران إلى منظمة التجارة الدولية (وهذا ما أقدم عليه في 26-5)، (الذي قد يستغرق عدة سنوات من المفاوضات لإبرام الاتفاقية بين إيران والمنظمة)، أو بالإضافة إلى ذلك، بيع قطع غيار للأسطول الجوي المدني الإيراني؟ إن بوش رغم عقائديته المفرطة، لا يستطيع أن يشن حملة وقائية محدودة ناجحة بالاشتراك مع إسرائيل أو بدونها أو بتكليفها منفردة دون الغرق في حرب إقليمية شاملة أو على الأقل في حرب تحرير شعبية تساندها إيران في العراق والمنطقة. لذلك فإن التهديدات ستستمر والحرب النفسية ستتصاعد رغم تصدع أسطوانة قنبلة المنشآت النووية الإيرانية التي يبشر بها نائب بوش، تشيني وفريق عمله في مجلس الأمن القومي والبنتاغون بقيادة وزير الدفاع رامسفيلد. إن هذا الفريق المغامر ينادي بشن حرب وقائية ضد إيران، أولا لتدمير المنشآت النووية، وثانيا كمحفز وتمهيد لقيام ثورة من الداخل ضد النظام دونما الربط بين الحرب وتداعياتها في العراق والمنطقة وخاصة في لبنان حيث ترتبط بعلاقة عضوية لا تنفصم بينها وبين حزب الله الذي يمتلك قنبلتين تكتيكيتين من طراز Honest John.
بكلمة، إن أميركا في مأزق في العراق والنصر المبين ليس في الأفق. وحسب الجنرال مايرز، قائد القوات المسلحة الأميركية، إنه لن يتمكن من إخماد التمرد في العراق قبل ثلاث سنوات وقد تستغرق العملية نحو تسع سنوات. لذلك، فإن استنزاف أميركا في العراق هو لصالح المنطقة ككل وشرط ضروري لإبعاد شبح الحرب عن إيران. من هنا، إن الحروب اللاموازية Asymtric Warfare هي الإستراتيجية التي يجب تبنيها وأن على الضعفاء والمستضعفين ممارستها بشراسة. بينما استبعد ضربة مباشرة أو غير مباشرة لإيران في هذه المرحلة (وخاصة بعدما أعادت أميركا تصنيف المرشح رفسنجاني المتوقع انتخابه في 17 حزيان 2005، والذي نقلته من خانة الملا المتسلط والمحافظ إلى خانة Pragmatic Conservative المحافظ البراغماتي-العملي) وغفرت له مقولته، باسم "المصلحة القومية"، بأن بوش "ديناصور في عقل عصفور". لكن الشعب الإيراني تمرد على المخطط الأميركي وعوضا أن ينتخب رفسنجاني، انتخب أحمدي نجاد بأكثرية ساحقة في مواجهة ثنائية في 24-6-2005، وأطلق بذلك مرحلة جديدة من الثورة الإيرانية الإسلامية لأن التركيز سيتمحور على نور الطموحات الإيرانية القومية وعلى الكبرياء القومي الإيراني والوحدة الإسلامية لا على إسلامية إيران.
لا أستطيع إلا الأخذ بعين الاعتبار بما كتبه الدكتور حسن نافعة في مقالة "كوندي والفوضى الخلاقة" (الحياة، 6-4-2005) ونقل عن سكوت ريتر، قوله: "إن البيت الأبيض طلب من وزارة الدفاع الأميركية أن تكون جاهزة لتوجيه ضربة قاضية للمنشآت النووية خلال حزيران المقبل. ويشكل هذا التاريخ، وفقا لتقديرات المخابرات الإسرائيلية نقطة اللاعودة في مسار البرنامج النووي الإيراني، والتي لن يكون في وسع أحد بعدها عرقلة تقدمه نحو صنع القنبلة النووية". ومن المعروف أن هناك إجماعا أميركيا-إسرائيليا على عدم السماح لإيران باستكمال برنامجها النووي، مهما كان الثمن، وإصراراً على الوقف الكامل والفعلي لكل أنشطة التخصيب النووي. وهو أمر من المستبعد أن تقبل به إيران. واستكمالا لتوضيح السناريو الأميركي-الإسرائيلي والمخطط المطروح للمنطقة يؤكد نافعة: "إن من الواضح أن الولايات المتحدة وفرنسا، وبعد أن ضمنتا انسحاب الجيش السوري والقوات الأمنية كليا من لبنان، سيلقيان بكل ثقلهما وراء المعارضة في الانتخابات البرلمانية اللبنانية المقبلة على أمل مساعدتها للفوز بغالبية كافية لتشكل حكومة قادرة على نزع سلاح حزب الله أو، على الأقل، بغالبية تحييد ردود فعله في حال توجيه ضربة جوية أميركية أو إسرائيلية لإيران وتأمل الولايات المتحدة أن تؤدي التفاعلات الناجمة عن هذه الضربة إلى خلق أزمة يمكن إدارتها وتوجيه مسارها على نحو يفضي في النهاية إلى تحقيق الأهداف الأميركية كاملة: إسقاط النظامين الإيراني والسوري ونزع سلاح المقاومة في فلسطين ولبنان وتفكيك بنيتها".
وفي سياق هذه المشاريع والحرب النفسية المسعورة لا بد من الإشارة إلى بعض التحركات الأميركية على الأرض ترهيبا وتخويفا أو تهديدا حقيقيا ومنها على سبيل المثال، 1- نقل نحو 90 قنبلة نووية من طراز B-91 إلى قاعدة أنجرليك المحاذية للحدود مع إيران، مما سيرفع عدد الرؤوس النووية في القاعدة إلى 390 (الصحافة 13-12-2004). 2- أجرت الولايات المتحدة مناورات مع إسرائيل على مدى شهري آذار، نيسان 2005، وأطلق عليها اسم "كوبرا العرعر". اختبر فيها نظام صواريخ آرور2 الإسرائيلي المضاد للصواريخ بالعمل بطاريات باتريوت Patriot الأميركية التي باستطاعتها إسقاط الصواريخ القادمة على ارتفاعات منخفضة. وفي هذا الصدد، إن تلك الصواريخ لم تظهر الكثير من الفاعلية، رغم إطلاق 39 صاروخا عراقيا على إسرائيل في حرب الخليج الثانية. ولربما تستطيع إسقاط صواريخ شهاب3 التي يستغرق وصولها 45 دقيقة من إيران إلى إسرائيل، ولكن يجب أن ندرك أن لا سلاح ولا وقت لدى إسرائيل لمقاومة صواريخ حزب الله التي تستغرق 15 ثانية لكي تتفجر فوق المدن الإسرائيلية في حال إطلاقها إدا ما وقعت الحرب! 3- ترافق الإعداد لجولة المفاوضات السابعة بين الثلاثي الأوروبي وإيران حول "تعليق" التخصيب مع تصعيد ملحوظ في مياه الخليج، إذ استقدمت أميركا حاملتي طائرات عملاقتين في شهر أيار هما "تيودور روزفلت وكارل فنسن لتعزيز الأسطول الخامس المقيم في البحرين وسربت سناريو تلقفه الدكتور الياس حنا واستعرضه في جريدة الحياة (19-5-2005) "يقوم على قصف الطائرات الأميركية التعزيزات الصاروخية الإيرانية على مدخل مضيق هرمز (صواريخ سيلكورم) والدفاعات الجوية لضمان استمرار تدفق النفط من منطقة الخليج مع غارات متوازية على كل الأهداف النووية الأمر الذي يمنع إيران من تركيز قواتها للدفاع عن نقطة واحدة، على أن تزرع هذه الغارات المتوازية الفوضى على صعيد القرارات السياسية كما العسكرية والتركير خصوصا على مفاعلي ناتانز– حيث تجري عمليات تخصيب اليورانيوم- وعلى مفاعل أراك".
بإيجاز، إن هذا السناريو يفترض شل القدرات الإيرانية بالكامل وبالتالي وقوف إيران، عاجزة وفي حالة هلع وغير قادرة على رد فعل مؤثر، وعلى العكس، لأن إيران وحزب الله هما في حالة استنفار دائم. وفي هذا السياق من السيناريوهات والسيناريوهات المضادة، أعلن جون ولفستال خبير نزع الأسلحة في مؤسسة كارينغي للسلام أن الولايات المتحدة لا تحب السلطة الإيرانية وتود بالتأكيد تغييرها لكنها لا تمتلك استراتيجية لذلك... وأردف قائلا "أن الولايات المتحدة متورطة في العراق، وإيران تملك القدرة على التأثير في هذه الدولة المجاورة إلى درجة أنه يخشى أن يكون هامش المناورة الذي تملكه واشنطن حيال إيران ضيقا جدا". وأكد أن الملف النووي الإيراني "قد خرج عن سكة إدارة بوش". لكن ما يرهب أميركا هو "الإرهاب النووي الانتحاري" حسب واشنطن تايمز اليمينية التي تحذر من نزعتين تنتشران في طهران هما: 1- توسيع طهران للجهاد والشهادة وتقتبس خامنئي مشيدا بثقافة الشهادة وداعيا الشباب للانضمام إلى "ركب الشهداء لأنها القيمة الإنسانية الأجمل"، 2- "اعتماد طهران سياسة تطوير نووي ناشط في بنية تحتية نووية مؤلفة من ستة مواقع سياسية وتقول أن لا شيء يضبط هذا التطوير سوى ضمانات موضوعية". ورغم كراهية واشنطن تايمز للنظام الإيراني تستنتج من الحقائق القائمة "أن الحل العسكري غير مجد وتقترح: "أ- السماح لإيران الحفاظ على منشآتها النووية شرط توقف تخصيب اليورانيوم مقابل موارد خارجية للوقود النووي. ب- ضمانة ادعاءات إيران وقف دعم الإرهاب في مقابل التزام خارجي باستثمارات بقيمة 18 مليار دولار ضرورية لتنمية اقتصادية قصوى" (26-4-2005).
وفي الصراع الدائر حول التخصيب وأين ولماذا التخصيب (منذ خريف 2005 وصولا إلى عام 2006)، سقط القناع الأوروبي ولعبة دور الوكيل الأميركي في المفاوضات حول امتلاك إيران للتقنية السلمية، وتم الإنضواء مجددا تحت لواء أميركا والمطالبة المشتركة بإحالة إيران إلى مجلس الأمن، فاستجاب أحمدي نجاد للتحدي الغربي وتصدى لمقولة الغطرسة مستجوبا: "من أنتم لكي تحرموننا من تحقيق أهدافنا؟ وتظنون إنكم أسياد العالم وعلى الجميع أن يسيروا وراءكم – لا لن نخضع!"
وبناء عليه، شرعت إيران باتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة التصعيد الغربي من سحب أرصدتها (8 مليار دولار) من المؤسسات المالية الغربية والتلويح الفعلي باستخدام سلاح النفط والغاز في المعركة وأوفدت دبلوماسييها إلى كافة المنظمات الإقليمية والدولية لتفسير وتبرير موقفها الذي يختصر: باقتناء الطاقة النووية السلمية والتمسك بالبحوث العلمية في مجال إنتاج الوقود النووي وإبقاء النشاطات النووية على الأراضي الإيرانية تحت إشراف دولي مع الإبقاء مرحليا على تجميد إنتاج الوقود النووي وتخصيب اليورانيوم، وقد تلجأ إيران إلى الموافقة على اقتراح موسكو إلى نقل عمليات التخصيب إلى الأراضي الروسية بمشاركة علماء إيرانيين لتقويض المشروع الغربي الذي يبتغي فرض "عقوبات" على إيران في حال عدم الامتثال إلى الأوامر الغربية. وفي حال التصعيد غير المتوقع، فستوقف إيران العمل بكل قرارات التعاون الطوعي مع الوكالة الدولية للطاقة النووية وتمنع المفتشين من زيارة المواقع النووية والعودة إلى عمليات التخصيب وإنتاج الوقود النووي وفي حال لجوء الغرب إلى السلاح، وهذا أمر مستبعد في المستقبل المنظور، فإن إيران في موقع متفوق إقليميا وبالتالي، لا أظن أن الغرب يفتش عن بغداد ثانية في طهران!