لبنان على درب الجلجلة

غالب أبو مصلح

خبير اقتصادي ومالي

2 Mar 2006

 

 

منذ سنة ونيف تسارع انحدار لبنان نحو الهاوية التي لم يظهر قعرها بعد. وتلوح في الافق بوادر حرب أهلية، رغم نفي جميع الفرقاء اللبنانيين سعهيم اليها واستعدادهم لها. ورغم كل ما يقال فهناك انباء عن اتساع نطاق التسليح والتدريب استعدادا لهذه الحرب.

 

عاش لبنان منذ بداية التسعينيات توازنات قلقة في منطقة تشهد تحولات كبيرة وعميقة. ولبنان أكثر دول العالم انكشافا على محيطه وعلى الخارج الدولي. لا تقتصر هذه التحولات على الاجتياح الأميركي للعراق على خلفية مبادئ بوش في القراءة الاميركية وحقها في شن حروب أحادية استباقية أو وقائية على من تشاء ومتى تشاء، وما أثارته هذه الحرب الإجرامية من ردود فعل في العالم.  شكل مؤتمر الطائف الأرض غير الصلبة التي اعيد بناء النظام اللبناني السياسي عليها. عبر هذا المؤتمر عن توازنات داخلية واقليمية غير مستقرة، كما عبر عن ثقل خارجي غربي في لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي وتداعيات هذا الانهيار بعد فشل تدخل الحلف الاطلسي في لبنان ابان الاجتياح الإسرائيلي. هدف ذلك التدخل الى تثبيت نتائج الغزو واستخلاصاته، إن بالنسبة لانسحاب قوات الجيش السوري والقوات الفلسطينية المحاصرة في بيروت، أم لحمل اليمين اللبناني المتطرف الى سدة الحكم، على ظهور الدبابات الإسرائيلية، ووضع اتفاق 17 أيار.

 

لم يكن الوجود السوري في لبنان، كما يطيب للبعض ان يتوهم، تعبيرا عن إرادة أميركية، ودورا أميركيا لسورية في لبنان. كان هذا الوجود نتيجة توازنات سياسية وعسكرية، وصراعات ومعارك خاضتها القوات السورية في لبنان بجانب قوى الحركة الوطنية ومعظم فصائل الثورة الفلسطينية، ضد القوات الإسرائيلية والأطلسية، وحلفائها المحليين. في النهاية أقرت أميركا بهذه التوازنات واعترفت بها كأمر واقع ورغم إرادتها. فالدور السوري في لبنان هو نتيجة صراعات وتوازنات لبنانية وعربية ودولية. وليس نتيجة لصفقات ومساومات وتوزيع ادوار. 

 

منذ مؤتمر الطائف شهد لبنان متغيرات عميقة، كان أبرزها وأهمها انتصار المقاومة الوطنية الإسلامية، وانكفاء جيش الاحتلال الصهيوني حتى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. أعطى هذا الانتصار المقاومة خاصة وزنا إضافيا كبيرا في الحياة السياسية اللبنانية، يتخطى موازين القوى التي أنبتت اتفاق الطائف. بل إن انتصار المقاومة ولد موجات ارتدادية التقتطها المقاومة الفلسطينية في داخل الارض المحتلة، كما التقطها العديد من قوى المعارضة في العديد من الأنظمة العربية الدائرة في الفلك الأميركي، وأضاف انتصار المقاومة الكثير الى موازين القوى الإقليمية، وأصبح سلاح حزب الله وقدراته المتنامية جزءاً أساسيا من الجبهة الشرقية في وجه إسرائيل، وذلك بعد أن انهارت بقية الجبهات. كما أن هذا الانتصار ثبت جدوى وفعالية فكر المقاومة ونهجها في العالمين العربي والإسلامي، وخلق مفاهيم جديدة لموازين القوى في المشرق  العربي، وقناعة جماهيرية في جدوى المقاومة كطريق لتحرير الارض والإنسان، رغم غياب الاتحاد السوفيتي ومظلته العسكرية التي استفادت منها حركات التحرر الوطني في الماضي. إن هذه التطورات أثارت خشية وفزع العديد من الأنظمة العربية المتكئة على تحالفاتها الغربية، المتصالحة مع إسرائيل والمعادية لتطلعات شعوبها.      

 

ثم كان الغزو الأميركي للعراق، وما أنتجه من خلل لكل موازين القوى في الشرق الأوسط. كما هدد هذا الغزو دول جوار العراق، وخاصة إيران وسورية، بعد وضع هذين النظامين على لائحة "دول محور الشر" الأميركية. لكن بروز المقاومة العراقية وتناميها واتساع رقعتها، حول الانتصار الأميركي الذي هدف إلى جعل العراق منطلقا لتوسيع الهيمنة الاميركية في المنطقة، فخاً لأميركا يستنزفها ويمسك بقواها العسكرية ويكبح عدوانيتها ويسقط برنامج بوش الامبريالي في المنطقة والعالم. إن تنامي المأزق الأميركي في العراق، ومفاعيله على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية، حرر إيران وسورية من التهديدات الاميركية العسكرية. ونمّا دورهما الإقليمي إلى حد بعيد. فقد استعاد النظامان المعاديان والممانعان للتوسع الاميركي الصهيوني، لدورهما الإقليمي، وانعكس ذلك  بشكل واضح على الوضع اللبناني وعلى تطورات الداخل السوري. لم يكن بامكان سورية إسقاط الحرس القديم من السلطة لولا الوقوع الاميركي في الفخ العراقي.

 

إن تطورات الوضع اللبناني، بل انفجاره كان له علاقة مباشرة بهذه التطورات الإقليمية. إن هزيمة أميركا العسكرية والسياسية المحققة في العراق، لم تضع، حتى الآن، حداً للهجمة الامبريالية الشاملة التي تشنها اميركا واعوانها الأوروبيون على منطقة الشرق الأوسط. وللهجمة الأميركية مستويات متعددة على كافة الصعد الإعلامية والدبلوماسية والاقتصادية والتجارية والمالية والمخابراتية، بجانب جوانبها العسكرية والإرهابية. وشنت أميركا وحلفاؤها في لبنان هجمة شاملة على سورية مستغلة تراكم الاخطاء السورية في لبنان، ومخاوف بعض الطبقة الحاكمة في لبنان من سقوط حلفائها التاريخيين في سورية، وهم حلفاؤها في السياسة كما في الاحتكار والفساد والنهب المنهجي للاقتصاد اللبناني والسوري.

 

وانسحبت القوات السورية سريعا من لبنان، حيث كان يسهل استنزافها على كافة الصعد. ولكن الهجوم على سورية لم يتوقف، بأدوات "الشرعية" الدولية كمجلس الأمن، وأدوات أوروبية ومحلية، محملة سورية مسؤولية اغتيال الرئيس الحريري، الذي تحول الى قميص عثمان يرفع على المنابر الدولية مطالبا بالثأر من سورية قبل معرفة القاتل، قبل بدء التحقيق الدولي. ولكن الانسحاب السوري السريع من لبنان، وضع أمام حكومته العاجزة مهمة تنفيذ الاهداف الأميركية المعلنة والمتمثلة في بنود قرار مجلس الامن 1559.

 

كل هذه المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية أطاحت بنظام الطائف، عندما قوضت كل التوازنات التي أنتجته، ووضعت لبنان مجددا في قلب العواصف الاقليمية وعلى مفترق الطرق، وربطت مصيره أو مصير معظم ابناء الطبقة الحاكمة  بمصير الهجمة الامبريالية الغربية على المشرق العربي. ولن يعود لبنان الى الاستقرار إلا على أسس توازنات جديدة في المنطقة، تنعكس وتفرز توازنات داخلية جديدة ترسي أسسا جديدة  للنظام وللكيان، يمكن على أساسها بناء خطة إنقاذ شامل للبنان، اقتصاديا وثقافيا وسياسا وعسكريا أيضا.

 

إن محاولة القوى الامبريالية وإسرائيل استعادة لبنان الى الموقع الذي كان عنده في السبعينيات من القرن الماضي، سياسيا واقتصاديا، تبدو عملية مستحيلة، وخاصة في ظل هزيمة أميركية أصبحت محققة في العراق، وفي ظل تعمق مأزق الكيان الصهيوني. إن هذا المأزق جاء نتيجة تنامي فكر ونهج المقاومة الفلسطينية، وانهيار البنية السياسية التي انتجت اتفاقات اوسلو وما تلاها على طريق التنازلات الفلسطينية المجانية وانحياز شعبي فلسطيني شبه كامل لخيار المقاومة. كما انه كان نتاج رفض الجماهير العربية لسياسات التطبيع مع إسرائيل، رغم المعاهدات التي بصمت عليها بعض الأنظمة، بطلب أو بأوامر أميركية. إن هذه الأزمة الكيانية أجبرت إسرائيل على الارتداد الى مواقع دفاعية لا هجومية توسعية رافدة للهجمة الامبريالية الشاملة.

 

يضاف إلى ذلك، تململ الأنظمة العربية الدائرة في الفلك الأميركي الأوروبي من القبضة الأميركية، وبروز تمردات آخذة في الازدياد على الهيمنة الأميركية، وخاصة من قبل النظامين المصري والسعودي. ولهذين النظامين ثقلهما في الحياة السياسية اللبنانية، وتبدو زيارة الملك عبد الله الى عدة دول آسيوية على رأسها الصين، رسالة واضحة لاميركا وأوروبا. فتيار الحريري الذي شكل القاعدة اللبنانية الاساسية لمحاولة قلب المعادلات اللبنانية ولشن الهجوم على سوريا، هو نتاج سعودي أصلا. ولمصر الدولة السنية المركزية تأثير كبير على الطائفة السنية اللبنانية. وتمرد قائد هذا التيار مع حليفه وليد جنبلاط على الوساطات السعودية المصرية، وإجهاضها بأوامر أميركية واضحة، تظهر انتقال ولاء هذا التيار المباشر الى اميركا وأوروبا– وربما كان لانتقال المصالح الاقتصادية لسعد الحريري الى خارج المملكة السعودية، الأثر الكبير في القدرة على التمرد. ولكن هذا التمرد سيسحب البساط السني من تحت أقدامه. فسعد الحريري لا يستطيع عبر التهييج الطائفي جر ثقل الطائفة السنية حيث يشاء، وبعيدا عن تاريخها الوطني وعروبتها.

 

أما الخيار العسكري لإسقاط سلاح المقاومة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في لبنان، فيبدو مستحيلا. إن الهجمة الإعلامية الشرسة، واستعمال جميع منابر ما يسمى "الشرعية الدولية" وقراراتها، غير كاف لترهيب المقاومة واسقاط سلاحها. لم تنشأ المقاومة بترخيص من الشرعية الدولية التي تمثل في حقيقتها الارادة والمصالح الأميركية والأوروبية، بل ظهرت  بغياب هذه الشرعية وصمتها، أو رغما عنها. وهذه "الشرعية الدولية" بحاجة إلى أنياب قوية قادرة على انتزاع اسلحة المقاومة. والمقاومة نشأت في ظل الاجتياح الاسرائيلي وخبرت انيابه كما خبرت انياب القوات الاميركية في لبنان، وهزمت الاثنين معا في ظروف غاية في التعقيد والقسوة. فمن الذي يستطيع ارهابها ودفعها الى القاء سلاحها؟ بذلك يبدو طلب "الشرعية الدولية" من "الشرعية" في لبنان اسقاط سلاح حزب الله وسلاح المقاومة الفلسطينية مزحة سمجة ليس أكثر. بل يبدو الحكم  اللبناني الهش محشورا تحت ضغوطات "الشرعية الدولية" من ناحية، وسلاح المقاومة والالتفاف الشعبي حوله عن جهة ثانية. فهذا الحكم غير قادر على رفض طلب الشرعية الدولية بتجريد المقاومة من سلاحها، وهو الذي  يستمد قدراته وقواه منها، وهو عاجز عن تنفيذ طلباتها الملحة والضاغطة. وهذا هو أحد مآزق الحكومة التي تبدو بوجهين مختلفين ومتناقضين، وجه حريص على الشرعية الدولية، ووجه حريص على المقاومة وعروبة لبنان.

 

أما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فالمأزق أعمق. فمنذ أن وصل الرئيس الحريري الى السلطة في آواخر سنة 1992،  وهو يمسك بالقرار الاقتصادي بشكل كامل: رئاسة مجلس الوزراء، وزارة المالية، وزارة الاقتصاد، مجلس الإنماء والإعمار، المصرف المركزي، لجنة الرقابة على المصارف. وبنى الرئيس الحريري شبكة علاقات سياسية واقتصادية مع اركان النظام السوري السابق، أو ما يسمى بالحرس القديم، خدام– الشهابي– كنعان، ومع رموز الرأسمالية الغربية، ذات التوجهات الليبرالية الجديدة، وبالتنسيق الكامل مع "إجماع واشنطن" وتوجهاته، وخاصة مع الصندوق والبنك  الدوليين.

 

كان الهدف المعلن للمسار الاقتصادي للرئيس الحريري، استعادة دور لبنان– الكيان والنظام، ليعود لبنان جسرا لعبور المصالح الاقتصادية والسياسية الغربية الى المشرق العربي. أي أن يعود لبنان للعب دور الوسيط والسمسار، في خدمة النظام الشرق اوسطي الجديد ذي المركزية الإسرائيلية، والتي تبشر به أميركا، بعد إتمام صفقات الصلح العربي الصهيوني، وما كان مشروع سوليدير، وإعادة بناء البنية التحتية في بيروت وضواحيها بحجم يفوق حاجات الاقتصاد اللبناني، وبكلفة تقدر باضعاف الكلفة الحقيقية، إلا لإعادة لبنان لدور خدماتي في اطار النظام الشرق اوسطي الجديد، بعد أن أسقطت تطورات الداخل والمحيط حاجة الداخل العربي لهذه الخدمات.

 

وبالتالي تم اهمال قطاعات الانتاج السلعي، بل تم إجهاضها، عبر إتباع سياسات اقتصادية ومالية ونقدية معادية للتنمية المستدامة والمستقلة. فقد فتحت السياسات الاقتصادية الاسواق اللبنانية أمام إغراق خارجي بسلع صناعية وزراعية معانة، وأمام الاحتكارات المحلية والخارجية المحمية بالقانون. ورفعت السياسات المالية كلفة كافة مدخلات الإنتاج. كما رفعت السياسات النقدية ومعدلات الفوائد الحقيقية الى مستويات تفوق معدلات المردود المتوقع من التوظيفات في قطاعات الإنتاج السلعي. ورفعت سعر الصرف الحقيقي لليرة بمعدلات كبيرة، مقلصة القدرة التنافسية للانتاج اللبناني. وأدى مجمل هذه السياسات النيوليبرالية المتطرفة الى زيادة معدلات البطالة، ونمو الفروقات الطبقية، وتوسيع نطاق الفقر، كما أدى الى وقوع لبنان في فخ المديونية، وأضعف كل مقوماته الاقتصادية. فقد أصبح لبنان تحت وصاية ورحمة الصندوق والبنك الدوليين، أي تحت رحمة واشنطن وسيطرتها الكاملة، تفرض عليه سياسات اقتصادية ومالية ونقدية، تعبر عن مصالح دول المركز الرأسمالي ومصالح الشركات المتعددة الجنسيات. وأصبح لبنان ينتظر المؤتمرات الدولية، باريس واحد وباريس2 وبيروت واحد، لتمديد أزماته لا  لحلها.

 

إن السياسة الاقتصادية الاجتماعية التي اتبعها الحريري وحلفاؤه اخذت تزداد تناقضا مع التوجهات السياسة الخارجية للبنان، في ظل انتصار فكر ونهج المقاومة للهجمة الامبريالية الصهيونية، وفي ظل وحدة المسارين بين لبنان وسوريا، بعد التحولات السياسية والاقتصادية السورية، بعيدا عن الليبرالية الجديدة التي كان يعمل لترويجها الحرس القديم.

 

إن هذه التطورات وضعت حلف الحريري– جنبلاط، بشكل خاص، أمام خيارين: إما أن يتخلى عن ارتباطاته المصلحية الاقتصادية بالغرب وشركاته العملاقة، وينحاز إلى سياسات التنمية الاقتصادية الشاملة والدائمة، على صعيد الداخل اللبناني، وتطوير وحدة المسارين على الصعيد السياسي، فيلتزم بدعم نهج وفكر المقاومة، وإما أن يرتد سياسيا الى حيث تتركز مصالحه وارتباطاته الاقتصادية، فيقطع علاقته مع النظام السوري ويصطف وراء الهجمة الامبريالية الشاملة، فيتنكر للمقاومة وللعروبة التقدمية، ويحرض على سوريا باسم "الحرية والسيادة والاستقلال"، محملا النظام السوري كل اوزار فشله وفساده وسؤ أعماله.

 

لكن الخروج السوري السريع من لبنان، وتقليص العلاقات الاقتصادية مع سورية، حتى بطرد العمال الموسميين السوريين من لبنان باسلوب فاشي شوفيني، ووقوع لبنان تحت الوصاية الغربية الكاملة، لم ينقذ كل ذلك لبنان من مآزقه الاقتصادية والأمنية، بل عمق هذه المآزق ودفع لبنان إلى حالة من العجز والشلل، والى حافة الحرب الأهلية، وزاد الانغلاق الطائفي والمذهبي، ودفع ببعض القيادات والجماهير الطائفية الى مواقع جد خطرة، تتناقض مع تاريخها العربي والنضالي. فرهان الطبقة الحاكمة في لبنان، أو بعض رموزها الأكثر تشنجا، على انتصار اميركي وديمقراطية زاحفة من العراق، هو رهان خاسر حتما.

 

إن من يستطيع انقاذ لبنان من مأزقه البنيوي الشامل، هو قوة وطنية ملتزمة وطنيا وقوميا، وذات رؤية اقتصادية واجتماعية مختلفة، تضع لبنان على طريق التنمية الحقيقية الشاملة المتوازنة والمستقلة، وتنتشله من فخ المديونية والتبعية.